مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: النفاق المعرفي عند أدعياء الثقافة العرب ...

النفاق المعرفي عند أدعياء الثقافة العرب ...



أما بعد :


فإن من مظاهر الثقافة عند المستثقفين العرب النظر إلى كل ما هو قديم بنظرة فيها شيء من الإزراء ، ودائماً كلمة تراث مقرونة عندهم بما يفهمه العامي عند الكلام على ثوب قديم رث ، علماً أن معرفتهم بالتراث سطحية يفضح سطحيتها كلامهم عليه إذا تجرأوا على ذلك وإعطاء نتائج كلية عن تراث عمره ثلاثة عشر قرناً بنظرة سطحية من قراءة كتابات بعض المستشرقين أو المنصرين أمر يفتقد لمباديء البحث العلمي النزيه الذي يدعونه حيث عليك ألا تقرأ عن الشخص من خصومه وأعدائه التقليديين ولا تقرأ له من غير أهل لغته مع توفر كتبه بلغته عندك فالموضوعية الخيالية التي يتكلمون عنها هم أول من يخالفها

ولكن ليس هذا هو محل حديثنا محل حديثنا أن هذه النظرة الحانقة على القديم تتلاشى عند الكلام على الفلاسفة كأرسطو وأفلاطون وغيرهم

فهؤلاء قدماء جداً فهم قبل المسيح ولكن المستثقف لا يرى نفسه متحجراً إذا احتج بأقوالهم وأكثر من ذلك كما هي ( الموضة اليوم )

وإذا ذكرنا للحسن البصري أو سعيد بن المسيب الذين هم أقرب من هؤلاء بكثير إلينا رأيت القوم ينظرون إليك شزراً

علماً أن علم الفلاسفة متعلق بالإلهيات والطبيعيات والأخلاقيات

فأما عقائدهم في الإلهيات فلم يعد يقول بها أحد ، وأما كلامهم في الطبيعيات فإن أوروبا تمردت على أرسطو منذ زمن طويل

وأما الأخلاقيات والسياسات وهذا مربط الفرس فقد أغنانا الله بالنبوة ومعلوم كثرة اختلاف الفلاسفة في كل شيء لعدم وجود مرجعية موحدة بينهم بخلاف علماء المسلمين خصوصاً فيما يتعلق بالأخلاقيات

ومعلوم أن الفلاسفة عجزوا عن بناء دولة أو ما يقاربها وعجزوا عن إيصال فكرهم للعامة بخلاف الأنبياء المؤيدين من الله عز وجل وأتباعهم

ولهذا كان من أعظم دلائل النبوة أن ينجح رجل أمي بفعل ما عجزت عنه عقول الفلاسفة وسطوة الملوك على مدى قرون

فهل علي أن أصف من يحتج بكلام أرسطو وأفلاطون بالرجعي والمتخلف والظلامي

خصوصاً أن الفلاسفة عن بكرة أبيهم كانوا يقفون موقف الاحتقار من المرأة وكل من يصور لك خلاف هذا فهو يكذب عليك ويغالط وما كتبه أفلاطون في الجمهورية تكريس لهذا لا عكسه فهو كان يريد للمرأة أن تخرج لكي تكون متاعاً مشاعاً ودعا لشيوعية النساء والأطفال باعتبارهم شيء أقل من الرجال

وأيضاً أرسطو كان مع الرق ومع تفوق الجنس اليوناني

وهم أنفسهم كانوا يعترضون على النظام الديمقراطي وذكر سقراط أن المجتمع الذي يكون فيه تجار سيسعى التجار لكسب مكانة سياسية باعتبارهم الأغنياء وغيرهم الفقراء ( وهذا ما يحصل اليوم خصوصاً وأنهم يحركون الإعلام ) وبذلك يستبدون وقد تقع ثورة للفقراء ولكنها لن تكون رحيمة وسيضعون رئيساً منهم بطريقة ديمقراطية ولكنه لن يكون متخصصاً وهذه معضلة أخرى وذكر سقراط هذه المعضلات ووقف أمامها دون أن يحرك ساكناً ويبدو أنه محتار

من يذكر هذا الكلام ينبغي عليه أن يتنبه للعلاج الشرعي لهذه المعضلات بوجود نظام الزكاة الذي ينقل ملكية شيء من مال الأغنياء إلى يد الفقراء بشكل كامل ( بخلاف الضرائب التي تأتي بخدمات يتمتع بها الكل ) وبالتالي استبداد الغني بالفقير يضعف ثم يأتي تعزيز وازع ديني يبين أن كل حاكم مهما قوي فلا تجوز طاعته في معصية الله عز وجل وإضعاف كل صور التضخم غير المشروع الذي يعزز الفجوة بين الفقير والغني من ربا واحتكار وغش وغيرها

ثم إن الحاكم يختار بناء على مواصفات يذكرها الفقهاء في كتبهم ثم إنه مع ثبوت إمامته لا يطاع في معصية الله ولأهل الحل والعقد عزله في ظروف يذكرها العلماء

قال ابن الهادي في إيضاح طرق الاستقامة :" فالعمل الصحيحُ: أن تقع المبايعةُ للخليفة -الذي هو الإمام الأعظم- من أهل الحل والعقد؛ من العلماء، والأكابر، والأعيان في كل بلد، مع الاجتهاد في جمعه شروطَ الإمامة في نفسه كلَّها، فإذا صار خليفةً بذلك، فبعدَ ذلك يولِّي هو السلطانَ الذي يقوم بسياسةِ الناس، والذَّبِّ عنهم، وَردِّ الأعداء عنهم، وأخذِ الناس بجميع أحكام السياسة، وعليه أن يجتهد في أصلحِ مَنْ يجده لذلك، ومَنْ ولّاه، تولّى، ومن عزله، ينعزل، وعليه أن يَسمعَ ويُطيعَ، وعلى كل أحد أن يسمعَ لذلك ويطيع، دمّ إن جعلَ له الأمورَ عامةً، قام مقامَه فيها، وإن لم يجعلها له عامة، فليس له أن يتعدَّى ما جعله إليه، وهذا التحقيق في هذا الباب"

وقال في الإقناع :" ويلزم الإمام عشرة أشياء
حفظ الدين - وتنفيذ الأحكام - وحماية البيضة - وقامة الحدود - وتحصين الثغور - وجهاد من عاند - وجباية الخراج والصدقات - وتقدير العطاء - واستكفاء الأمناء - وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور"

فهنا صغرت سلطة الأغنياء وبينت صفة الوالي وما يلزمه ثم بعد هذا كله لا يطاع إلا في طاعة الله عز وجل ولا يقاتل تحت رايته إلا قتال عدل

والواقع أنني حين أنظر للمستثقفين المنافقين معرفياً المهزومين فكرياً أجد أن عامتهم لا يقرأ في واقع الأمر قراءة وافية وليس عنده فكرة عن الشعوب ولا التاريخ ولا الشخصيات الكبرى إلا أفكار أسطورية في عقله مع بعض الحقائق

فمن منهم يعرف أن غاليليو كان مؤمنا بالكتاب المقدس وكان يعتبر نفسه قارئاً لكتاب الله المنظور وأن خلافه مع الكنيسة الكاثلوكية كان بسبب تمسكهم بنظرة أرسطو للكون فالأمر خلاف نصراني نصراني وأنهم لم يحرقوه وهذه أسطورة بلهاء بل نفي إلى جزيرة عاش فيها في بيت فخم ومات هناك وأن القصة المشهورة أسطورية كما يقول جون لينكس وبإمكان أي شخص أن يقرأ سيرة غاليليو ليتأكد من تلك الكذبة المشهورة

وهل يعلمون أن فريد هويل الفيزيائي الكبير قال بأنه لا يمكن إثبات صواب أو خطأ كل من النموذجين الكوبرنكسي ( الذي يفترض مركزية الشمس ) والنموذج ( البطليموسي ) الذي يفترض مركزية الأرض وثباتها ( وهذا اعتقاد عامة الفلاسفة ومنهم سقراط الذي يلمح بعضهم لنبوته مع مناهضته لهذه العقيدة بقوة عقيدة ثبات الأرض )

وهل يعلمون أن مارتن لوثر كنج مؤسس الكنيسة البروتستانتية التي يتبعها معظم نصارى أمريكا كان مع تعدد الزوجات ويقول لا يمكنني إدانة من يفعله لأنه موافق للأسفار المقدسة ؟

وهل يعلمون أن جان لوك أبو الليبرالية الحديثة كان ضد إنكار وجود الله وأنه أمر لا يمكن التسامح معه لأنه القسم والعهد أمور ضرورية في الحياة وهذه لا يفعلها الملحد ولذا لا يمكن الوثوق به وهذه صياغة لفكرة أرسطو بوجوب قتل من لا يتدين بشيء ؟

وهل يعلمون أن مانديلا كان مصنفاً الإرهابي الأول في العالم ثم أخذ جائزة نوبل للسلام ؟

وهل يعلمون أن غاندي يرى أن أمه البقرة أفضل من أمه الحقيقية لأن البقرة إذا ماتت نأكل لحمها بخلاف الأمم الحقيقية فإنها تحتاج لجنازة مكلفة والبقرة تعطينا الحليب طوال عمرها والأم أشهر معدودة فقط ؟

وهل يعلمون أن جيفارا كان يحتقر النساء لضعفهن في الحروب حتى قال لابنته وكانت حاملاً إذا أنجبت فتاةً فألقها من الشباك ؟!

وهل يعلمون أن أينشتاين كان يرفض تلقيبه بالملحد وينكر ذلك بقوة وأن ماكس بلانك أبو ميكانيكا الكم كان يؤمن بوجود إله ومثله نيوتن الذي آمن بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم للعرب خاصة ومع ذلك كان عنده أعمال شعوذة معروفة وقد أصدر بعض النصارى كتاباً أسماه ( نيوتن مهرطق ) وثق فيه هذا ؟

وهل يعلمون أن عبد الرحمن بدوي الذي قضى عمره في محاربة التراث الإسلامي أسلم في آخر عمره بعد التسعين وتمنى لو فسح في مدته ليدافع عن الدين كما حاربه ؟

وأن المستشرق جولدتسيهر بعد صولات وجولات من التشويه للإسلام اعترف في مذكراته أن الإسلام دين توحيدي خالص

((جولدتسيهر)) ((Goldziher)) الذي يعدّ أحد أهم الطاعنين في الإسلام على مدى تاريخ الغرب الطويل في انتقاد الإسلام، قائلًا في مذكّراته إن الإسلام ((هو الدين الوحيد الذي منع الشعوذة والعناصر الوثنية، لا عن طريق التدليل العقلي  وإنّما من خلال التعليم المستقيم (الأرثودكسي))) ((The only religion in which superstitution and heathen elements were forbidden not by rationalism but by orthodox teaching)). ((لقد اتجه أسلوب تفكيري نحو الإسلام، وكذلك تعاطفي معه... ولم أكذب حين قلت إنني أومن ببعثة محمد النبوية... إن ديني كان الدين العالمي للأنبياء)) ((my way of thought was thoroughly turned towards islam and so was my sympathy … I was not lying when I said that I believed in the prophetic missions of Muhammad … My religion was henceforth the universal religion of the prophets.))

ويعلق ((ألبرت حوراني)) على قول ((جولدتسيهر)) هذا قائلًا: ((بدا الإسلام لجولدتسهير وكأنه الدين الذي يجب أن تسعى إليه كل الأديان: توحيد خالص، واستجابة نقية -غير مكدّرة- لنداء الله للفؤاد الإنساني... لقد منحه الإسلام معيارًا يحكم من خلاله على الأديان التوحيدية الأخرى)) .( مستفاد من سامي عامري )

بل كثير منهم يرفض أن يشرح للعامة أن نظرية التطور إنما تشرح تعدد الأنواع لا أصل الحياة وأن أصل الحياة اقترح فيها إلحادياً التولد الذاتي الذي تم دحضه وإلى اليوم هو علامة عجز عندهم وأن التطور يقول بأن الدودة الشريطية تطورت عن طريق طفرات عبر ملايين السنين حتى صارت الإنسان ! 

وأن الحوت أصلة دب وأن الطيور أصلها ديناصورات وكل دعوى من هذه الدعاوى بحاجة إلى براهين كثيرة وأن السجل الأحفوري مليء بالفراغات في هذا السياق باعترافهم مع أنهم أخذوا وقتهم وأن الآلية المقترحة في هذه التحولات هي الطفرة ومجرد قراءة يسيرة طبياً في الطفرة واحتمال كونها نافعة تعلم أن ظهور ثمانية ملايين كائن حي من خلية أولية من طفرات عشوائية شيء منتهى في الخيال والبعد عن التصور وتصور أن يتطور الذكر والأنثى معاً في كل مرة هكذا بالصدفة طفرة توجد ذكراً وصدفة أخرى توجد أثنى في الوقت نفسه ليتزواجا ويحصل هذا آلاف المرات ! حتى جئنا في هذه السلسلة من الصدف الإعجازية !  


وأنا أصلاً طالب علم شرعي وهذه الأمور اجتمعت عندي باطلاع يسير وقارن هذا بجهلهم الفظيع بالشرع عندما يتكلمون عنه

فمثلاً هم لا يدرون أنه لا يوجد حديث في صحيح البخاري إلا وهو موجود في مصادر أخرى أعلى من البخاري ومقارنة له وبعده بنفس السند والمتن

وأن المذاهب الفقهية في الشام ومصر والعراق والمدينة ومكة والكوفة وخراسان استقرت قبل أن يولد البخاري وأن معظم أحاديث البخاري في مسائل إجماعية بين هؤلاء !

وأن ما من حديث في البخاري إلا وسبقه فقهاء إلى الافتاء به فمالك والأوزاعي وسفيان والليث والشافعي كلهم ماتوا قبل أن يولد البخاري !

ولا يعلمون أن حرق كتب ابن رشد لا يوجد في معظم المصادر التاريخية التي تحدثت عن سيرته وأن عامة موجودة وأن حرق إحياء علوم الدين للغزالي أثبت تاريخياً بكثير من حرق كتب ابن رشد بل حرق كتب ابن تيمية في عدد من البلدان أثبت بكثير من دعوى حرق كتب ابن رشد وكذلك حرق التتر للكتب الدينية

ولا يعلمون أن معظم مسائل الفقه الظاهرة إجماعية بين الفقهاء ولولا ذلك لما استطاع المسلمون أن يصلوا في مكان واحد مع اختلاف مذاهبهم الفقهية ولا أن يحجوا معاً ويصوموا معاً وأن الاختلاف في دقيق الفقه لا جليله ودائماً الاختلاف فرع عن الوفاق فنحن متفقون على وجود أذان وعلى التكبير في أوله والشهادتين ولكن نختلف في الترجيع متفقون على صلاة الجنازة وعلى وجود التكبيرات العدة ولكن نختلف في عددها وكثير من ذلك تنوع أحاله المتعصبون تضاداً ؟

ويا إلهي فهمهم للجهاد في الإسلام والعقيدة فهم مخبط عجيب بل يتعمدون إظهار صورة عجيبة من التوقير لكل ما هو أجنبي ثم الإزراء على كل ما هو إسلامي

وفي النهاية إذا قال لك رجل قال أفلاطون قال أرسطو فقل له ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصحابة قال التابعون ) فأولئك ليسوا معصومين ولا مزكين من الله والنبي معصوم والصحابة مزكون من الله عز وجل

فإن قال لك : هذا فكر سلفي ؟

فقل له : الديمقراطية وجدت عند اليونان قبل ميلاد المسيح وهؤلاء الفلاسقة قبل المسيح ولا أدري كيف تثق أن كتبهم وصلتنا بدون تحريف مع أنه لا يوجد إسناد ولا أي توثيقات؟

فمن منا يتبع ( تراثاً ) الآن ؟

ومن منا الرجعي ؟

فإن قال لك : الحكمة ضالة المؤمن ؟

فقل له : لأنها ضالة المؤمن فهو يبتغيها في المكان الذي سماه الله حكمة ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من الكتاب والحكمة ) فلا أذهب إلى مصدر كدر وعندي مصدر صاف ما يقوله الفلاسفة ليس قطعاً حكمة بل قد يكون خطأ ولكن السنة حكمة يقيناً وكذا ما قاله السلف خصوصاً ما تواردوا

( أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم ) ( فبأي حديث بعده يؤمنون )
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي