مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: الرد على عبد الرحمن الحجي في كلامه على شيخ الإسلام ابن تيمية

الرد على عبد الرحمن الحجي في كلامه على شيخ الإسلام ابن تيمية



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


قال عبد الرحمن الحجي في مقطع صوتي ( منشور في الشابكة ) :
أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله , واتبعوا أهوائهممن لم يكن عنده بينه من الله بالقرآن أو بالحديث فهو قطعاً ممن زين له سوء عمله واتبعوا أهوائهم.
عباد الله؛ البينات بأيديكم، كلام الله جل وعلا، وهذه سورة البينة فيها عجب من العجب، تحضنا على هذه البينات، أن نتدبرها، وأن نستغني بها عن غيرها فإنها تدمغ الباطل من أصله، وتهدم بنيانه من أسه، البينات، سبحان الله، كيف يرد الباطل بباطل، كيف يرد الكلام بكلام ؟
كيف ترد الحجج بحجج، وعندنا البينات ما من أحد رد الحجج بحجج أو بالكلام إلا ندم! إلا ندم أن لا يكون استغنى بالقرآن عن غيره وأولهم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى !! فإنه رحمة الله عليه كان قد تعلم الفلسفة والعقليات حتى يرد الباطل، قال ابن رجب : وكان طوائف من العلماء الراسخين الذين يحبون أبا العباس ويعظمونه ينهونه عن ذلك , ويقولون الكلام لا يرد بالكلام , ولا بالعقليات , ولابالفلسفة، يرد بالبينات.

يقول ابن القيم : لما سجن في آخر حياته ندم ندماً عظيماً، ولم يخلط بالقرآن غيره وقال : آه على عمرٍ ذهب ليس مع هذا الكتاب، كل ما عندنا من الحجج وجدناها في القرآن أوضح ما تكون وأقوى ما تكون ولاخلط معها ولا مطعن وختم القرآن ثلاثاً وثمانين ختمة حتى مات في سجنه رحمة الله عليه .اهــ

أقول : والتعليق على هذا الكلام من وجوه:
الأول : أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد بلغ مبلغاً من معرفة العلوم النقلية ، لم يقارنه فيه أحدٌ من أهل عصره ، ولا من بعدهم.
فأما التفسير فقال ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص19): وسمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير وعني بالحديث وقرأ ونسخ وتعلم الخط والحساب في المكتب وحفظ القرآن وأقبل على الفقه وقرأ العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو وأقبل على التفسير إقبالاً كليا حتى حاز فيه قصب السبق وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وسرعة إدراكه . اهـ

وقال أيضاً (ص26): وقال الشيخ الحافظ فتح الدين أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري المصري بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ جمال الدين أبي الحجاج المزي وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن الحليم بن عبد السلام بن تيمية .
فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته برز في كل فن على أبناء جنسه .اهـ

وقال أيضاً في ( ص28): وقال الشيخ علم الدين البرزالي في معجم شيوخه : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الشيخ تقي الدين أبو العباس الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه قرأ الفقه وبرع فيه والعربية والأصول ومهر في علمي التفسير والحديث وكان إماما لا يلحق غباره في كل شيء وبلغ رتبة الاجتهاد واجتمعت فيه شروط المجتهدين وكان إذا ذكر التفسير بهت الناس من كثرة محفوظه وحسن إيراده وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل علم كان الحاضرون يقضون منه العجب هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة والاشتغال بالله تعالى . اهـ

أقول : وكان لشيخ الإسلام مجلسٌ في تفسير القرآن كل جمعة ، ومن قرأ كتبه رأى أنه عظيم العناية جداً بكتاب الله عز وجل حتى أنه يذكر لك من فقه الآية ، ما يجعلك تشعر أنك تقرأها لأول مرة .
وقد صنف تفسير آيات أشكلت ، ومقدمة نفيسة في التفسير ، وكتاب في أمثال القرآن ، ورد شبه جميع الفرق وأهل الملل بأدلة القرآن والسنة ، فكيف يزعم أنه كان مشغولاً بالفلسفة عن القرآن ؟!
وهذا كتابه درء التعارض يعقد فيه فصلاً في ذكر الأدلة العقلية على إثبات البعث والوحدانية بما لا يستطيعه أحد من علماء هذا العصر لو اجتمعوا فضلاً عن شخص مثل الحجي.

قال شيخ الإسلام في درءالتعارض (1/53): ومعلوم أن السمعيات مملوءة من إثبات الصانع وقدرته وتصديق رسوله ليس فيها ما يناقض هذه الأصول العقلية التي بها يعلم السمع بل الذي في السمع يوافق هذه الأصول بل السمع فيه من بيان الأدلة العقلية على إثبات الصانع ودلائل ربوبيته وقدرته وبيان آيات الرسول ودلائل صدقه أضعاف ما يوجد في كلام النظار فليس فيه ولله الحمد ما يناقض الأدلة العقلية التي بها يعلم صدق الرسول .اهــ

وقال أيضاً ( 1/21): فبين سبحانه هذا كله بمثل قوله: ﴿أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لاريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا﴾، وقوله : ﴿أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم﴾، وقوله: ﴿أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير﴾، وقوله : ﴿لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس﴾، فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك، وكذلك استدلاله على ذلك بالنشأة الأولى في مثل قوله: ﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه﴾، ولهذا قال بعد ذلك : ﴿وله المثل الأعلى في السماوات والأرض﴾، وقال : ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم﴾، وكذلك ما ذكر في قوله: ﴿وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة﴾، فإن قول الله تعالى: ﴿من يحيي العظام وهي رميم﴾، قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها وهو المثل المضروب الذي ذكره بقوله: ﴿وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم﴾، وهذا استفهام إنكار متضمن للنفي أي لا أحد يحيي العظام وهي رميم فإن كونها رميما يمنع عنده إحياءها لمصيرها إلى حال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها على الحرارة والرطوبة ولتفرق أجزائها واختلاطها بغيرها ولنحو ذلك من الشبهات.

والتقدير : هذه العظام رميم ولا أحد يحيي العظام وهي رميم فلا أحد يحييها ولكن هذه السالبة كاذبة ومضمونها امتناع الإحياء فبين سبحانه إمكانه من وجوه بيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال: ﴿يحييها الذي أنشأها أول مرة﴾، وقد أنشأها من التراب ثم قال: ﴿وهو بكل خلق عليم﴾ ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال ثم قال: ﴿الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا﴾، فبين أنه أخرج النار الحارة اليابسة من البارد الرطب وذلك أبلغ في المنافاة لأن اجتماع الحرارة والرطوبة أيسر من اجتماع الحرارة واليبوسة إذ الرطوبة تقبل من ما لا تقبله اليبوسة ولهذا كان تسخين الهواء والماء أيسر من تسخين التراب وإن كانت النار نفسها حارة يابسة فإنها جسم بسيط واليبس ضد الرطوبة يعني بها البلة كرطوبة الماء ويعني بها سرعة الانفعال، فيدخل في ذلك الهواء فكذلك يعني باليبس عدم البلة فتكون النار يابسة .
ويراد باليبس بطء الشكل والانفعال فيكون التراب يابسا دون النار فالتراب فيه اليبس بالمعنيين بخلاف النار، لكن الحيوان الذي فيه حرارة ورطوبة يكون من العناصر الثلاثة : التراب والماء والهواء.

وأما الجزء الناري فللناس فيه قولان قيل : فيه حرارة نارية وإن يكن فيه جزء من النار وقيل : بل فيه جزء من النار، وعلى كل تقدير فتكون الحيوان من العناصر أولى بالإمكان من تكون النار من الشجر الأخضر فالقادر على أن يخلق من الشجر الأخضر نارا أولى بالقدرة أن يخلق من التراب حيوانا فإن هذا معتاد وإن كان ذلك بما يضم إليه من الأجزاءالهوائية والمائية والمقصود الجمع في المولدات ثم قال: ﴿أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم﴾، وهذه مقدمة معلومة بالبداهة ولهذا جاء فيها باستفهام التقرير الدال على أن ذلك مستقر معلوم عن المخاطب كما قال سبحانه: ﴿ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا﴾، ثم بين قدرته العامة بقوله: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾، وفي هذا الموضع وغيره من القرآن من الأسرار وبيان الأدلة القطعية علي المطالب الدينية ما ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه.

وكذلك ما استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة سواء سموها حسية أو عقلية كما تزعمه النصارى من تولد الكلمة التي جعلوها جوهر الابن منه كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها : هل هي جواهر أو أعراض؟

وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوس بمنزلة الإناث ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة وعملهم بالنفوس أظهر لوجود الحركة الدورية الدالة على الحركة الإرادية الدالة علي النفس المحركة، لكن أكثرهم يجعلون النفوس الفلكية عرضا لاجوهراً قائماً بنفسه وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات قال تعالى: ﴿وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون﴾، وقال تعالى : ﴿ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون﴾، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله كما يزعم هؤلاء أن العقول أو العقول والنفوس هي الملائكة وهي متولدة عن الله.

قال تعالى: ﴿ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون,وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم,يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم﴾، وقال سبحانه: ﴿أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون﴾، وقال تعالى : ﴿أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى﴾، أي : جائرة وغير ذلك في القرآن.

فبين سبحانه: أن الرب الخالق أولي بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم ؟

وكذلك قوله في التوحيد: ﴿ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم﴾ أي : كخيفة بعضكم بعضا كما في قوله: ﴿ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم﴾، وفي قوله: ﴿لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا﴾، وفي قوله: ﴿ولا تلمزوا أنفسكم﴾، وفي قوله: ﴿فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم﴾، وفي قوله: ﴿ولا تخرجون أنفسكم من دياركم﴾، إلى قوله: ﴿ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم﴾، فإن المراد في هذا كله من نوع واحد.

فبين سبحانه أن المخلوق لا يكون مملوكه شريكه في ماله حتى يخاف مملوكه كما يخاف نظيره بل تمتنعون أن يكون المملوك لكم نظيرا فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوقي ومملوكي شريكا لي يدعى كما أدعى وأعبد؟
كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك إلاشريكا هو لك تملكه وما ملك، وهذا باب واسع عظيم جدا ليس هذا موضعه، وإنما الغرض التنبيه على أن في القرآن والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل التي تستحق أن تكون أصول الدين.اهــ

أقول : هذا كله وهو يريد أن يشير إشارة فيكف لو استقصى أفيقال في هذا أنه ابتعد عن القرآن وأقبل على علم الكلام ؟!
وفي (2/116) من درء التعارض نقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد الآيات التي احتج بها على الجهمية ، وقد استغرق هذا النقل خمس صفحات .

وقد أبطل-رحمه الله-دين النصرانية في الجواب الصحيح وأقام على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة .
وكذا فعل مع الروافض في المنهاج وفعل مع كل فرقة ، وكل من يتكلم في الأصول اليوم إنما يغرف من معين شيخ الإسلام ابن تيمية ، وليس معنى هذا أنه لا يأخذ من غيره ، ولكن عامتهم لا بد لهم من الاستفادة إما مباشرةً من كتبه ، وإما بسندٍ متصل عمن أخذ عنه .

وقد عقد ابن القيم فصلاً في الصواعق المرسلة في بيان الأدلة العقلية المستفادة من القرآن استفاد عامتها من كتب شيخه رحمه الله .

وأما معرفته بالسنة فيكفينا قول الذهبي : الحديث الذي لايعرفه ابن تيمية فليس بحديث . اهـ

وأما الفقه فقد كان مجتهداً، وله تحريرات في عامة مسائل الفقه ، وصنفت الكتب الكبار في اختياراته ، فكيف يوصف من هذا حاله بالإعراض عن الكتاب والسنة ؟!

الوجه الثاني : أن شيخ الإسلام لما نظر في الكلام ، كان متمكناً من علوم القرآن والسنة ، ولم يكن يرد بعلم الكلام مجرداً بل كان يذكر الأدلة من الكتاب والسنة .
وقد تقدم معك من درء التعارض ما يدل على ذلك.
وقد وقع لبعض علماء السلف التنزل مع أهل الأهواء بعد إقامة الأدلة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة.
قال الإمام أحمد في الرد الجهمية والزنادقة ( ص171) : وقلنا للجهمي : فالله نور؟ فقال : هو نور كله .
فقلنا : فالله قال : ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ فقد أخبر الله -جل ثناؤه- أن له نورًا.

فقلنا: أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور ، فلِمَ لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إن زعمتم أن الله في كل مكان ؟
وما بال السراج إن أدخل البيت يضيء؟. اهـ

وقال ابن بطة في كتاب الإبانة (140/3) : وقال الله تعالى ﴿وأشرقت الأرض بنور ربها﴾ فيقال للجهمي : هل الله نور؟ فيقول : هو نور كله , قيل له : فالله في كل مكان ؟
قال : نعم.
قلنا: فما بال البيت المظلم لا يضيء من النور الذي هو فيه ، ونحن نرى سراجًا فيه فتيلة يدخل البيت المظلم فيضيء، فما بال الموضع المظلم يحل الله تعالى فيه بزعمكم فلا يضيء.
فعندها يتبين لك كذب الجهمي وعظيم فريته على ربه.اهـ

الوجه الثالث : أن شيخ الإسلام ذكر من ذم المتكلمين وعلم الكلام الشيء الكثير في ردوده عليهم ، وبين فساد هذا العلم وفساد مقدماته ، وأنه ينقض بعضه بعضاً ، هذا مع الاحتفاء بالنصوص الشرعية في عامة مصنفاته.

قال شيخ الإسلام (1/156) من درء التعارض : فالمعتزلة ومن اتبعهم من الشيعة يقولون إن أصلهم المتضمن نفي الصفات والتكذيب بالقدر الذي يسمونه التوحيد والعدل معلوم بالأدلة العقلية القطعية، ومخالفوهم من أهل الإثبات يقولون إن نقيض ذلك معلوم بالأدلة القطعية العقلية.
بل الطائفتان ومن ضاهاهما يقولون إن علم الكلام المحض هو ما أمكن علمه بالعقل المجرد بدون السمع كمسألة الرؤية والكلام وخلق الأفعال وهذا هو الذي يجعلونه قطعيا ويؤثمون المخالف فيه، وكل من طائفتي النفي والإثبات فيهم من الذكاء والعقل والمعرفة ما هم متميزون به على كثير من الناس وهذا يقول إن العقل الصريح دل على النفي والآخر يقول العقل الصريح دل على الإثبات . اهـ

قلت : المقصود بالطائفة الثانية الأشاعرة والكرامية فهم متكلمي أهل الإثبات.
وشيخ الإسلام هنا يظهر تناقض المتكلمين فهم يزعمون أن علمهم عقليٌ محض ثم هم على لايتفقون على الأدلة العقلية بل كلٌ منهم يزعم أن أدلته العقلية هي القطعية.

قال شيخ الإسلام ( 1/342) أيضاً : ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام إن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات عندهم وهذه طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإرشاد وأمثالهم.

فيقال لهم : هذا الكلام تضمن شيئين :

أحدهما : أن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع .
والثاني : أن المخالف لها كافر وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة فالجمع بينهما متناقض.


وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لايعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم.اهـ

قلت: صاحب الإرشاد هو الجويني وهو من أئمة الأشاعرة فتأمل .

قال ابن الجوزي في صيد الخاطر(603) وهو يصف حال المتكلمين : وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم , فالله الله من مخالطة المبتدعة . اهـ

وقد أصاب ابن الجوزي ما أصابه من مخالطة المبتدعة فليته انتفع بنصيحته.
 وقال شيخ الإسلام متكلماً على دليل المتكلمين في إثبات الصانع (1/309) : ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا .
وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم.
 ثم القائلون بأن هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون إنها في نفسها صحيحة بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار كما يذكر ذلك طائفة منهم الأشعري والخطابي وغيرهما.
وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل ولهذا تكلموا في ذم مثل هذا الكلام لأنه باطل في نفسه لا يوصل إلى حق بل إلى باطل.
كقول من قال الكلام الباطل لايدل إلا على باطل وقول من قال لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام وقول من قال من طلب الدين بالكلام تزندق ونحو ذلك.

ونحن الآن في هذا المقام نذكر مالا يمكن مسلما أن ينازع فيه وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولا جعل إيمان المتبعين لهم وقوفا عليها، فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين بل كان ذلك أصل أصول الدين لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان إثبات الصانع وتنزيهه.اهـ.

قلت : هذه الطريقة لا يكاد يخلو منها متن من متون متأخري الأشاعرة في العقيدة (انظر السنوسية و النورية على سبيل المثال ) .
 فاستدل شيخ الإسلام على بطلان هذه الطريقة بعدم وجودها في الكتاب والسنة , مما يدل على أنه لما كان يرد على المتكلمين لم يكن ينسلخ من علوم الشريعة وإنما كان عمدته في الرد عليهم أدلة الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة وهذا برهان ماثل أمامك.

وقال شيخ الإسلام (8/48) أيضاً : وسأل رجل ابن عقيل فقال له : هل ترى لي أن أقرأ الكلام فإني أحس من نفسي بذكاء ؟
فقال له : إن الدين النصيحة فأنت الآن على ما بك مسلم سليم وإن لم تنظر في الجزء يعني الجوهر الفرد وتعرف الطفرة يعني طفرة النظام ولم تخطر ببالك الأحوال ولاعرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض، وهل يبقى العرض زمانين وهل القدرة مع الفعل أو قبله وهل الصفات زوائد على الذات وهل الاسم المسمى أو غيره وهل الروح جسم أو عرض، فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه، فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا فكن وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبي بكر وعمر والجماعة فبئس الاعتقاد والرأي، قال ثم هذا علم الكلام قد أفضى بأربابه إلى الشكوك وأخرج كثيرا منهم إلى الإلحاد . اهـ

قلت : في هذا رد على من قاس علم الكلام على علم الحديث وأصول الفقه فإن هذين العلمين لا يستغنى عنهما في فهم الشريعة بخلاف علم الكلام كما أن أصل هذين العلمين كان موجوداً في عصر السلف بخلاف علم الكلام.
وهنا يقر شيخ الإسلام ابن عقيل في إبطاله لعلم الكلام بحجة أنه لم يكن موجوداً في عصر الصحابة .
 أفيقال بعد هذا أن شيخ الإسلام أقبل على علم الكلام وترك علوم السلف؟!

وقال رحمه الله ( 7/140) أيضاً: بل نجيبكم وأولئك جميعا ببيان أنه ليس معكم فيما تخالفون به النصوص لا عقل صريح ولا نقل صحيح.
بل ليس معكم في ذلك إلا الأكاذيب المموهة المزخرفة بالألفاظ المجملة الموهمة التي تلقاها بعضكم عن بعض تقليدا لأسلافكم،فإذا فسر معناها وكشف عن مغزاها ظهر فسادها بصريح المعقول كما علم فسادها بصحيح المنقول وتبين أيضا أن حجة الرسول قائمة على من بلغه ما جاء به.

ليس لأحد أن يعارض شيئا من كلامه برأيه وهواه بل على كل أحد أن يكون معه كما قال تعالى : ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مماقضيت ويسلموا تسليما﴾، ونحن لا نسلم ما سلمتموه أنتم من المقدمات الفاسدة كما سلمتموه لمن عارض الكتاب من القرامطة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم بل نسد عليهم الطريق التي منها دخلوا على الإسلام ونمنعهم المقدمات التي جعلوها أصل علم الكلام الذي خالفوا به الكتاب والسنة وإجماع الأنام .اهـ

أقول : هنا يدعو شيخ الإسلام المتكلمين جميعاً إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما.
 فكيف يقال أنه لما ناظر المتكلمين أعرض عن الكتاب والسنة؟!

وقال رحمه الله (7/165) أيضاً : فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام.

ويذكر خلاف من نازعهم ويبين أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول لأمته.
 وإذا لم يكن فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضاً لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول مناقضا للكتاب والسنة .
وما كان من ذلك مناقضا للكتاب والسنة وجب أن يكون من الكلام الباطل المردود الذي لا ينازع في ذمه أحد من المسلمين لا من السلف والأئمة ولا أحد من الخلف المؤمنين أهل المعرفة بعلم الكلام والفلسفة وما يقبل من ذلك وما يرد وما يحمد وما يذم وإن من قبل ذلك وحمده كان من أهل الكلام الباطل المذموم باتفاق هؤلاء.

هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من الكلام والعقليات والجدل باطلا وإن قصدبه نصر الكتاب والسنة فيذمون من قابل بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد فكيفمن قابل السنة بالبدعة وعارض الحق بالباطل وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق.اهـ

أقول : وهذا الذي يذمه شيخ الإسلام وهو رد البدعة ببدعة يحاول الحجي أن ينسبه لابن تيمية زوراً وبهتاناً.
 وقال رحمه الله (7/186) أيضاً : فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه.
 وما خرج عنه فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لايتعلق بالدين ولم يكن شيء منها مألوفا في العصر الأول فكان الخوض فيه بالكلية من البدع. اهـ

أقول : هذا منهج شيخ الإسلام يبطل أدلتهم بالكتاب والسنة وما كان منها صحيحاً ، بين أنه موجود في الكتاب والسنة بأظهر مما في كلام المتكلمين.
 وتأمل هذا الكلام وما فيه من الرد على محمد الحسن الددو الذي يقيس اشتغال شيخ الإسلام بعلم الكلام على اشتغال الأشاعرة به.

وقال رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية ( 1/101) : قالوا : وكذلك فالعقل ينفي ذلك بما دل على حدوث الجسم والعرض القائم به .
قالوا : لأنه لم يدل العقل على حدوث كل موصوف قائم بنفسه وهو الجسم وكل صفة قائمة به وهو العرض والدليل المذكور على ذلك دليل فاسد وهو أصل علم الكلام الذي اتفق السلف والأئمة على ذمه وبطلانه .اهـ

أقول : فكيف يقال أن شيخ الإسلام يعتمد علم الكلام للرد على علم الكلام بعد هذا كله .
 وإنما نظر في مصنفاتهم لدفع ما فيها بالكتاب والسنة ، وقد فعل هذا ، ولكنه لفرط ذكائه تنبه لتناقضهم حتى على أصولهم ، فأبان ذلك وأوضحه.
 كما تنظر أنت في أي كتاب لشخص أو تنظر في كلامه فتجده ينقض بعضه بعضاً فتنبه على تناقضه وهذا جائزٌ بل مستحب بإجماع المسلمين.
 فإذا نظرت في كتاب معتزلي فوجدته يستدل بخبر آحادي ، فذكرت أن هذا يناقض أصله، فهل علي من تثريب ؟ وقد نظر عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب محمد بن شجاع الثلجي ليرد عليه ، ولا يتم هذا إلا لمتأهل وشيخ الإسلام من رؤوس المتأهلين  .

الوجه الرابع : ما نقله عن  ابن رجب لم أجده بهذا اللفظ ، ويا ليت شعري من هم الراسخون ؟!
ابن الهادي وابن القيم وعامة تلاميذ شيخ الإسلام احتفوا بكتبه ، وأما بقية أهل عصره ، فإما مبتدع ، وإما دون هؤلاء في العلم بمراحل ، وقد تقدم أن شيخ الإسلام لم يعتمد علم الكلام في الرد على أهل الكلام ، بل اعتمد الكتاب والسنة ، وبين تناقضهم على أصولهم بعد ذلك .
ولم يوجد في عصر ابن تيمية أو من أتى بعده من بلغ نصف علمه في العلوم النقلية ، إلا أن يعكف على كتبه وينهل وساعتئذٍ قد يتم له بعض ذلك .

وقد قال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة وهو يتحدث عن الشيخ رحمه الله (4/501) : وَكَانَ رحمه اللَّه فريد دهره فِي فَهُم الْقُرْآن. ومعرفة حقائق الإيمان. وَلَهُ يد طولى فِي الْكَلام عَلَى المعارف والأحوال. والتمييز بَيْنَ صحيح ذَلِكَ و سقيمه. ومعوجه و قويمه .اهـ

وكلمة ابن رجب التي أراد الحجي هي قوله : وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم : كَانُوا يحبون الشيخ ويعظمونه ، وَلَمْ يكونوا يحبون لَهُ التوغل مَعَ أهل الْكَلام و لا الفلاسفة ، كَمَا هُوَ طريق أئمة أهل الْحَدِيث المتقدمين ، كالشَّافِعِي وَأَحْمَد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم ، وكذلك كثير من الْعُلَمَاء من الْفُقَهَاء والمحدثين والصالحين كرهوا لَهُ التفرد ببعض شذوذ المسائل الَّتِي أنكرها السلف عَلَى من شذ بِهَا، حَتَّى إِن بَعْض قضاة العدل من أَصْحَابنا منعه من الإفتاء ببعض ذَلِكَ . اهـ

أقول : وهؤلاء لو سماهم لما بلغوا رتبة الشيخ ولا تلامذته الذين احتفوا بمصنفاته في معرفة العلوم النقلية ولا حرروا تحريرهم.
والشيخ أعلم بطريق السلف منهم ، وأنصر لطريقتهم منهم ، لهذا وقع عليه الابتلاء العظيم في ذلك من دون هؤلاء المبهمين ! .
فهذا الشافعي رحمه الله قد رد على البراهمة ، وتوسع في مناظرة أهل الرأي في كتاب الرسالة وغيره في كتبه .
 والإمام أحمد ناظر الجهمية لما اضطره الأمر إلى ذلك وبين تناقضهم ، وردالدارمي على المريسي وتتبع كلامه ونقضه نقضاً مبرماً 

ومقام الاضطرار غير مقام الاختيار والضرورة تقدر بقدرها 

الوجه الخامس : أما الكلمة نقلها عن ابن القيم فإليك سياقها كاملاً وهي من نقل ابن رشيق عن شيخ الإسلام، قال ابن عبد الهادي في العقود الدرية (1/44) : قال الشيخ أبو عبد الله بن رشيق وكان من أخص أصحاب شيخنا وأكثرهم كتابة لكلامه وحرصا على جمعه، كتب الشيخ رحمه الله نقول السلف مجردة عن الاستدلال على جميع القرآن وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال ورأيت له سورا وآيات يفسرها ويقول في بعضها كتبته للتذكر ونحو ذلك.

ثم لما حبس في آخر عمره كتبت له أن يكتب على جميع القرآن تفسيرا مرتبا على السور
 فكتب يقول : إن القرآن فيه ماهو بين بنفسه وفيه ما قد بينه المفسرون في غير كتاب، ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعة من العلماء فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها.
 وربما كتب المصنف الواحد في آية تفسيرا ويفسر غيرها بنظيره فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل لأنه أهم من غيره وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظائرها.
 وقال : قد فتح الله علي في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن أو نحو هذا، وأرسل إلينا شيئا يسيرا مما كتبه في هذا الحبس وبقي شيء كثير في مسألة الحكم عند الحكام لما أخرجوا كتبه من عنده وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت نحو أربع عشرة رزمة ثم ذكر الشيخ أبو عبد الله ما رآه ووقف عليه من تفسير الشيخ . اهـ

أقول : فهذا الذي قاله الشيخ تواضعاً ، ليس فيه أنه ندم على ردوده على المتكلمين ، وإلا لأمر بإحراقها وإعدامها بل في كتبه كلها من بيان معاني القرآن الشيء العظيم لمن قرأ وتدبر، وإلا فشيخ الإسلام لم يزل بارعاً في علوم القرآن مكباً عليها منذ صغره كما تقدم في ترجمته.

وقد قال ابن عبد الهادي في العقود الدرية ( ص42) : فمن ذلك ما جمعه في تفسير القرآن العظيم وما جمعه من أقوال مفسري السلف الذين يذكرون الأسانيد في كتبهم وذلك في أكثر من ثلاثين مجلدا وقد بيض أصحابه بعض ذلك وكثيرا منه لم يكتبوه بعد، وكان رحمه الله يقول ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير ثم أسأل الله الفهم . اهـ

أقول : فهذا الكتاب الضخم لا يعقل أنه صنفه في سجنته الأخيرة ، بل ظاهر هذا الكلام أنه لم يصنف في سجنته الأخيرة إلا القليل ، وعامة مصنفاته الزاخرة بأدلة الكتاب والسنة كانت قبل هذه السجنة، فمعنى هذا أن عامة مصنفاته في التفسير والحديث والفقه كانت قبل هذه الكلمة.

بل إن شيخ الإسلام قد صنف في رحلته إلى مصر ، وكتبه غير حاضرةٍ عنده : منهاج السنة وجواب الاعتراضات المصرية على العقيدة الحموية والتسعينية ، والرد على البكري وفتاويه المصرية بلغت ست مجلدات كبار وغيرها وكلها زاخرة بعلوم الكتاب والسنة نفعنا الله بها.
 ويا ليت شعري من يطالع مائة من التفاسير في الآية الواحدة كيف يقال عنه أنه كان مشغولاً عن علوم القرآن ؟!
 ولو نظرت في كتابه العظيم ((تفسير آيات أشكلت)) لعلمت أن الرجل اختلط فهم القرآن بلحمه ودمه

 وقد سبك الحجي لفظاً للقصة من عند نفسه وزاد فيها ألفاظاً مثل (ندماً عظيماً).
 ثم هو لا يحسن التعبير بشكلٍ جيد فيقول: (كيف نرد الحجج بحجج)، ويغفل أو يجهل أن أدلة الكتاب والسنة تسمى حججاً باتفاق أهل اللسان!

قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾، فأين إقباله على القرآن أما علمه حسن التعبير؟

وأختم هنا بشهادة من غير واحد نفعهم بكتب شيخ الإسلام في الرد على المتكلمين قال البزار في الأعلام العلية ( ص32): حَدثنِي غير وَاحِد من الْعلمَاء الْفُضَلَاء النبلاء الممعنين بالخوض فِي أقاويل الْمُتَكَلِّمين لإصابة الثَّوَاب وتمييز القشر من اللّبَاب أن كلا مِنْهُم لم يزل حائرا فِي تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم وانه لم يسْتَقرّ فِي قلبه مِنْهَا قَول وَلم يبن لَهُ من مضمونها حق بل رَآهَا كلهَا موقعة فِي الْحيرَة والتضليل وجلها ممعن بتكلف الأدلة وَالتَّعْلِيل.

وانه كَانَ خَائفًا على نَفسه من الْوُقُوع بِسَبَبِهَا فِي التشكيك والتعطيل حَتَّى من الله تَعَالَى عَلَيْهِ بمطالعته مؤلفات هَذَا الإمام أحْمَد ابْن تَيْمِية شيخ الإسلام، وَمَا أورده من النقليات والعقليات فِي هَذَا النظام فَمَاهُوَ إلا أن وقف عَلَيْهَا وفهمها فرآها مُوَافقَة لِلْعَقْلِ السَّلِيم وَعلمهَا .
حَتَّى انجلى مَا كَانَ قد غشيه من أقوال الْمُتَكَلِّمين من الظلام وَزَالَ عَنهُمَا خَافَ أن يَقع فِيهِ من الشَّك وظفر بالمرام، وَمن أراد اختبار صِحَة مَا قلته فليقف بِعَين الإنصاف الْعرية عَن الْحَسَد والانحراف إن شَاءَ على مختصراته فِي هَذَا الشَّأْن كــ شرح الأصبهانية وَنَحْوهَا، وإن شَاءَ على مطولاته كــتَخْلِيص التلبيس من تأسيس التَّقْدِيس والموافقة بَين الْعقل وَالنَّقْل ومنهاج الاسْتقَامَة والاعتدال، فَإِنَّهُ وَالله يظفر بِالْحَقِّ وَالْبَيَان ويستمسك بأوضح برهَان ويزن حِينَئِذٍ فِي ذَلِك بأصح ميزَان . اهـ

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي