الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
قال ابن أبي شيبة في المصنف 25873: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، قَالَ
: أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، قَالَ
: قَالَ عَبْدُ اللهِ : ارْحَمْ مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ.
وقال وكيع في الزهد 491 : حدثنا إسرائيل ، وأبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
عبيدة قال : قال عبد الله :
ارحم من في الأرض ، يرحمك من في
السماء .
وقال اللالكائي في السنة 500 : أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا
عبد الغافر بن سلامة ، قال : ثنا أبو ثوبان مزداد بن جميل قال : أخبرنا عبد الملك بن
إبراهيم الجدي ، قال : أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أبي عبيده ، عن عبد
الله ، قال :
ارحم من في الأرض يرحمك من في
السماء .
وليس في هذا السند أحد ينظر في حاله إلا مزداد بن جميل وقد ترجم له الذهبي
في تاريخ الإسلام وقال :" كان يعد من الأبدال "
ومن هذا الطريق رواه ابن قدامة في إثبات صفة العلو
وقد تابعه علي بن الحسن الهلالي عند الحاكم ، ولكنه رفع الخبر والموقوف
أصح كما سيأتي بيانه
وقد روي هذا الخبر مرفوعاً في عدة مصادر والصواب الوقف
جاء في علل الدارقطني :" س 897- وسُئِل عَن حَدِيثِ أَبِي عُبَيدَة
، عَن عَبدِ الله ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلم ، قال : ارحَم مَن فِي
الأَرضِ يَرحَمُك مَن فِي السَّماءِ.
فَقال : يَروِيهِ أَبُو إِسحاق السَّبِيعِيُّ عَنهُ ، واختُلِف عَنهُ ؛
فَرَواهُ حَفصُ بن غِياثٍ ، مِن رِوايَةِ مُوسَى بنِ داوُد عَنهُ ، عَنِ الأَعمَشِ
، عَن أَبِي إِسحاق ، عَن أَبِي عُبَيدَة ، عَن عَبدِ الله ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
الله عَلَيه وسَلم.
وَخالَفَهُ أَبُو شِهابٍ ، وأَبُو مُعاوِيَة ، وفُضَيلُ بن عِياضٍ ، عَنِ
الأَعمَشِ فَوَقَفُوهُ.
وَرَفَعَهُ عَمّارُ بن رُزَيقٍ ، وأَبُو أَيُّوب الأَفرِيقِيُّ ، عَن أَبِي
إِسحاقَ.
وَرَفَعَهُ زَيد بن أَبِي أُنَيسَة مِن رِوايَةِ يَحيَى بنِ يَزِيد عَنهُ.
وَرَفَعَهُ شُعبَةُ مِن رِوايَةِ يَحيَى بنِ السَّكَنِ عَنهُ.
وَرَفَعَهُ أَبُو الأَحوَصِ واختُلِف عَنهُ.
فَأَمّا قَيسُ بن الرَّبِيعِ ، وحَفصُ بن سُلَيمان ، وإِسرائِيلُ ، وأَبُو
عَوانَة ، والمَسعُودِيُّ ، فَوَقَفُوهُ عَن أَبِي إِسحاق ، عَن أَبِي عُبَيدَة ، عَن
عَبدِ الله ، ولَم يَرفَعُوهُ.
وَرَفَعَهُ يَحيَى بن السَّكَنِ ، عَن قَيسٍ . والمَوقُوفُ أَصَحُّ"
وقد أعل هذا الأثر الموقوف بثلاث علل لا يصمد شيء منها أمام النقد
الأولى : اختلاط أبي إسحاق
والجواب عليها أن عدداً ممن رووا عنه الخبر رووا عنه قبل الاختلاط منهم
شعبة بن الحجاج
الثانية : تدليس أبي إسحاق
قال أبو داود في سؤالاته لأحمد 138: سَمِعْتُ أَحْمَد سُئِلَ عن الرجل
يعرف بالتَّدْلِيس ، يُحْتَجُّ فِيما لم يقل فِيه : سَمِعْتُ ؟ قَالَ : لا أدري .
فَقُلْتُ : الأَعْمَش ، متى تُصَاد له الألفاظ ؟ قَالَ : يضيق هذا ، أي
أنك تَحْتَج به .
ومثل هذا يقال في عنعنة أبي إسحاق إذ لا فرق بينهما ، بل إن أبا إسحاق
أحسن حالاً من الأعمش في هذا الباب إذ لم يثبت على أبي إسحاق أنه أسقط ضعيفاً مثل ليث
بن أبي سليم كما ثبت عن الأعمش في روايته عن مجاهد
ثم إن هذا الخبر ورد من رواية شعبة عن أبي إسحاق ورواية شعبة عن شيوخه
المدلسين محمولة على السماع لقوله ( كفيتكم تدليس ثلاثة )
العلة الثالثة : الانقطاع بين أبي عبيدة وأبيه
وهذا الانقطاع ليس بعلة عند جماعة من المحققين وعامة السلف
لأن أبا عبيدة من اعلم الناس بحديث
أبيه
وقال ابن المديني فِي حديث يرويه أبي عبيدة عن أبيه: هو منقطع، وهو حديث
ثبت.
وقال يعقوب بن شيبة: إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن
أبيه فِي المسند - يعني فِي الحديث المتصل - لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه
لَمْ يأت فيها بحديث منكر اهـ[ذكره ابن رجب في شرح العلل].
وقال الدارقطني في سننه (3/ 173) :" لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله
بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه وأبو عبيدة أعلم
بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه وعبد الله بن مسعود أتقى لربه وأشح
على دينه من أن يروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه
هذا لا يتوهم مثله على عبد الله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها
من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول أقول فيها برأي فإن
يكن صوابا فمن الله ورسوله وإن يكن خطأ فمني ثم بلغه بعد ذلك أن فتياه فيها وافق قضاء
رسول الله صلى الله عليه و سلم في مثلها فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا لم يروه فرح
مثله من موافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن كانت هذه صفته وهذا حاله
فكيف يصح عنه أن يروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا ويخالفه ويشهد أيضا لرواية
أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ما رواه وكيع وعبد الله بن وهب وغيرهما عن
سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود أنه قال دية الخطأ أخماسا"
وقال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي رحمه الله عند الحديث رقم [ 967 ]
من الكبرى : قال أبو عبد الرحمن أبو عبيدة لم يسمع من أبيه والحديث جيد . اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [ مجموع الفتاوى 6/404 ] : وَيُقَالُ إنَّ
أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ؛ لَكِنْ هُوَ عَالِمٌ بِحَالِ أَبِيهِ
مُتَلَقٍّ لِآثَارِهِ مَنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ أَبِيهِ
وَهَذِهِ حَالٌ مُتَكَرِّرَةٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- فَتَكُونُ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَيَكْثُرُ الْمُتَحَدِّثُ بِهَا وَلَمْ
يَكُنْ فِي أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخَافَ أَنْ
يَكُونَ هُوَ الْوَاسِطَةَ فَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ ابْنِهِ
عَنْهُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ .اهـ
وقال ابن رجب في فتح الباري [ 6/24 ] : وأبو عبيدة ، لم يسمع من أبيه ،
لكن رواياته عنه صحيحة .اهـ
وقال أيضاً [ 6/81 ] : وأبو عبيدة ، وإن لم يسمع من أبيه ، إلا أن أحاديثه
عنه صحيحة ، تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه - : قاله ابن المدني وغيره
.اهـ
وقال أيضاً : [ 7 / 4 ] : وأبو عبيدة ، لم يسمع من أبيه ، لكن رواياته
عنه أخذها عن أهل بيته ، فهي صحيحة عندهم .اهـ
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار [ 1/95 ] : فإن قال قائل الآثار الأول
أولى من هذا لأنها متصلة وهذا منقطع لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا قيل له ليس
من هذه الجهة احتججنا بكلام أبي عبيدة إنما احتججنا به لأن مثله على تقدمه في العلم
وموضعه من عبد الله وخلطته لخاصته من بعده لا يخفي عليه مثل هذا من أموره فجعلنا قوله
ذلك حجة"
وعليه فإن هذا الأثر صحيح ثابت ، وهو حجة جديدة على براءة السلف من عقيدة
التفويض أو التعطيل ، وأنهم كانوا يثبتون العلو لله عز وجل
وهو يقوي خبر (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في
السماء ) ويبين سبب تصحيح الترمذي للخبر ، مع وجود مجهول في سنده فإن المجهول إذا روى
خبراً مستقيماً وكان من التابعين مشاه الأئمة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم