الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
اعلم - وفقك الله لطاعته - أن الرب يطلق ويراد به معنيان
الأول : المالك وعلى هذا يخرج قوله تعالى ( رب العزة ) يعني ( ذو العزة
)
الثاني : الخالق المربي وهذا معظم إطلاقه في النصوص
إذا علمت فاعلم أن هناك من جوز أن يحلف برب القرآن إذا كان بالمعنى الأول
بشرط ألا يريد به ما أراد الجهمية ، من كون القرآن مربوباً مخلوقاً
قال ابن رجب في فتح الباري (4/214) :" وأمارواية من روي: (اللهم،
رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة)، كما هي رواية البخاري والترمذي وغيرهما، فيقال:
كيف جعل هذه الدعوة مربوبة، مع ان فيها كلمة التوحيد، وهي من القرآن، والقرآن غير مربوب
ولا مخلوق؟
وبهذا فرق من فرق من اهل السنة بين افعال الايمان واقواله، فقال: اقواله
غير مخلوقة، وافعاله مخلوقة؛ لان اقواله كلها ترجع إلى القران؟
واجيب عن هذا بوجوه:
منها: ان المربوب هو الدعوة إلى الصلاة خاصة، وهو قوله: (حي على الصلاة،
حي على الفلاح)، وليس ذلك في القرآن، ولم يرد به التكبير والتهليل. وفيه بعد.
ومنها: ان المربوب هو ثوابها. وفيه ضعف.
ومنها: ان هذه الكلمات من التهليل والتكبير هي من القرآن بوجه، وليست منه
بوجهه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( افضل الكلام من القران اربع، وهن من القرآن:
سبحانه الله، والحمد الله، ولا اله الا الله، والله اكبر)).
فهي من القرآن إذا وقعت في اثناء القرآن، وليست منه إذا وقعت من كلام خارج
عنه، فيصح ان تكون الكلمات الواقعة من ذلك في ضمن ذلك مربوبة.
وقد كره الامام أحمد ان يؤذن الجنب، وعلل بأن في الاذان كلمات من القرآن.
ومن الأصحاب من حملة على التحريم، وفيه نظر؛ فان الجنب لا يمنع من قول:
"سبحان الله، والحمد الله، ولا قوة الا بالله، والله اكبر" على وجه الذكر،
دون التلاوة.
وسئل إسحاق عن الجنب يجيب المؤذن؟ قال: نعم؛ لانه ليس بقران.
ومنها: ان الرب ما يضاف اليه الشيء، وان لم يكن خلقا لم، كرب الدار ونحوه،
فالكلام يضاف إلى الله؛ لانه هو المتكلم به، ومنه بدأ، واليه يعود، فهذا بمعنى اضافته
إلى [ربوبية] الله.
وقد صرح بهذا المعنى الاوزاعي، وقال فيمن قال: (برب القران): ان لم يرد
ما يريد الجهمية فلا بأس.
يعني: إذا لم يرد بربوبيته خلقه كما يريده الجهمية، بل اراد اضافة الكلام
إلى المتكلم به"
فتأمل فتيا الأوزاعي فلم يفتِ بجواز هذا مطلقاً حتى قيده بألا يريد ما
أراد الجهمية
وقال الدارمي في رده على المريسي ص553 :" أَرَأَيْتَكَ إِنْ عَرَّضْتَ
بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ لَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ:
يَا رَبَّ الْقُرْآنِ، فَجَعَلْتَهُ مَخْلُوقًا بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون} أَفَتَحْكُمُ عَلَى عِزَّةِ
اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ الْعِزَّةِ} كَمَا حَكَمْتَ عَلَى الْقُرْآنِ؟ وَيْحَكَ!
إِنَّمَا قَوْله: {رَبِّ الْعِزَّةِ} يَقُولُ: ذِي الْعِزَّةِ. وَكَذَلِكَ ذُو الْكَلَامِ
كَقَوْلِهِ: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}"
وعامة أهل العلم منعوا من إطلاق ( رب القرآن ) ومثله في المعنى قولنا
( رب المصحف ) إذ أن المصحف يحوي القرآن
وسبب هذا المنع حسم المادة فإن الكلمة قد تحمل المعنى الآخر وهو أن المربوب
مخلوق
قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/71) : " إثبات ربوبيته للعالمين
وتقريرما ذكرناه والعالم كل ما سواه فثبت أن كل ما سواه مربوب والمربوب مخلوق بالضرورة
وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن فإذا ربوبيته تعالى لكل ماسواه تستلزم تقدمه عليه وحدوث
المربوب ولا يتصور أن يكون العالم قديما وهو مربوب أبدا فإن القديم مستغن بأزليته عن
فاعل له وكل مربوب فهو فقير بالذات فلا شيء من المربوب بغنى ولا قديم "
وقال اللالكائي في السنة 325 - ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم قال : حدثنا
أبي قال : حدثني علي بن صالح بن جابر الأنماطي قال : حدثنا علي بن عاصم ، ح . قال
: وحدثنا أبي قال : حدثنا الصهبي عم علي بن عاصم ، عن علي بن عاصم ، عن عمران بن حدير
، عن عكرمة قال : كان ابن عباس في جنازة ، فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال : اللهم
رب القرآن اغفر له . فوثب إليه ابن عباس فقال : « مه ، القرآن منه » زاد الصهبي في
حديثه فقال ابن عباس : القرآن كلام الله ليس بمربوب ، منه خرج وإليه يعود
وليس أحد ينظر في حاله في هذا السند غير علي بن عاصم فإنه صدوق يخطيء ويصر
، وقد يمشى مثله في الموقوفات
وقد احتج ابن تيمية بأثره هذا وأقر معناه في عدد من كتبه
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/ 418) :" فأما الرد على
الجهيمة القائلين بنفي الصفات وخلق القرآن ففي كلام التابعين وتابعيهم والأئمة المشاهير
من ذلك شيء كثير وفي مسألة القرآن من ذلك آثار كثيرة جدا مثل ما روى ابن ابي حاتم وابن
شاهين واللالكائي وغيرهم من غير وجه عم على بن ابي طالب رضي الله عنه انه قيل له يوم
صفين حكمت رجلين فقال ما حكمت مخلوقا ما حكمت الا القرآن وعن عكرمة قال كان ابن عباس
في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال اللهم رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن
عباس فقال له مه القرآن منه وفي رواية القرآن كلام الله وليس بمربوب منه "
واحتج بهذا الأثر قوام السنة الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة ، والجوزقاني
في كتابه الأباطيل والمناكير والصحاح المشاهير
بل بوب الجوزقاني بقوله ( بَابٌ: فِي أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ وَلَا مَرْبُوبٍ)
إطلاق القدم على القرآن محل نظر ، وإنما أراد بذلك أنه غير مخلوق وهذا
معنى صحيح
والخلاصة أن لفظ موهم والذي ينبغي في مثل هذا المقام تركه حسماً للمادة
، وما رأيت أجازه إلا ما ينقل عن الأوزاعي وقد اشترط الأوزاعي ألا يريد به المعنى الذي
يريده الجهمية ، فلا نجيز لأحد هذا القول إلا عند الاستفصال من قصده إن أردنا متابعة
الأوزاعي
والصواب أن الواجب تركه إذ لا سنة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلن أو
عن صحابي أو تابعي ، وهو يوهم مذهب أولئك الأراذل فينبغي تركه حسماً للمادة وسداً للذريعة
ثم إن هناك مأخذاً آخراً من المنع من الحلف برب المصحف وهو أنه قد يراد
ب( رب المصحف ) مالكه فالعبد له تملك المصحف وهذا استخدام موجود في لسان بعض الفقهاء
فيقولون ( إن أذن له له رب المصحف ) فيكون يوهم حلفاً بمخلوق .
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم