مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: طاغوت الصدفة في الديانة العلموية ...

طاغوت الصدفة في الديانة العلموية ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
                                                       أما بعد :
 
فإن من أكبر الأوهام العصرية وهم اسمه ( الدين والعلم ) فيطرح الدين على أنه قسيم للعلم التجريبي ، ثم يبنى على هذا كون كثير من الناس يميلون للعلم التجريبي ثم يقدمونه على كل شيء

وأنصار العلم التجريبي يحتقرون حتى الفلسفة اليوم وكلمة ستيفن هاوكنج العلم دفن الفلسفة . لا زالت مدوية في الآذان

هنا سأحاول أن أكشف أن البحث التجريبي المعاصر والمجتمع العلمي في تفسير حدوث الأشياء سواء أصل الكون أو أصل النظام الشمسي أو أصل الحياة أو أصل تنوع الأحياء ، إنما يميل إلى فلسفة من نوع خاص إذا حللتها تجد أنها دين فلسفي لا يختلف عن الهندوسية أو النصرانية من أوجه عديدة

لا بد أن تفهم الأصل العقدي أو الفلسفي للشخص لكي تحكم بعد ذلك على اختياراته هل هي ناشئة عن تجرد تام أو ناشئة عن عقيدة

فمثلاً لو كان هناك حديث في صحيح البخاري في مسألة ما ، فستتوقع إن طرحت هذه المسألة على أي عالم مسلم معتني بالحديث أنه سيفتي بظاهر هذا الحديث ولا يتركه إلا لمخصص يكافئه

فما هو الأصل العقدي الموجود عند العلمويين والذي يؤثر على اختياراتهم وتفاسيرهم لظهور الأمور

لفهم هذا الأمر عليك أن تفهم أن الأفعال التي تنشأ عنها الأشياء على ثلاثة أنواع

1_ فعل مقصود

وهو فعل يفعله العاقل لقصد ما

2_ فعل صدفوي

وهو فعل يصدر من عاقل أو غير عاقل لغير غاية

3_ فعل ميكانيكي

وهو فعل يصدر من الشيء ويتكرر بدون قصد

مثال الأول : كوني أحرك الكوب لأشرب منه الماء

مثال الثاني : كوني أكسر الكوب حين أعثر به دون قصد

مثال الثالث : صدور الأشعة من الشمس

الفلاسفة قديماً فسروا وجود العالم بأنه قديم مع الله وقالوا أنه للكون كالشمس لشعاعها يعني الكون مقارن لله تبارك وتعالى

وهذه إحدى مقالاتهم التي ناقشهم بها الغزالي في تهافت الفلاسفة

فهم جعلوا وجود الكون ميكانيكيا أو ضرورياً

وأما المتكلمون ومعهم عامة أهل الملل فجعلوا الكون ناشئاً عن فعل مقصود

باختصار لكي لا أطيل العلمويون اليوم في فلسفتهم العلموية يجعلون الكون بلا غاية وفقط يرحبون بالفعل الصدفوي وبالفعل الميكانيكي وما سوى ذلك يعتبرونه خرافة

ولهذا يعتبرون التصميم الذكي ليس منتمياً للعلم لأنه يجعل وجود الأشياء فعلاً مقصوداً لله تبارك وتعالى

وهم يعتمدون التطور لأنه يعتمد على آليتين

الأولى : الطفرات العشوائية ( وهي فعل صدفوي )

الثانية : الانتخاب الطبيعي ( وهي فعل ميكانيكي )

وهذا أمر متسق عندهم حين يريدون شرح ظاهرة خارقة أو بداية أمر فإنهم يلجأون للصدفة ولا يعبرون عنها بهذا اللفظ المنفر ولكن يحتالون عليها ثم يتركون الأمر للفعل الميكانيكي

فمثلاً القوانين هي وصف لعلاقة الأشياء الموجودة مع بعضها البعض لهذا هي لا تغنينا عن الإله لأننا نحتاج إلى أن نفسر وجود هذه الأشياء ابتداءً ونحتاج لتفسير هذه القوانين نفسها

فيكون المقترح دائماً شيء صدفوي فمثلاً أصل الكون يحاول تفسيره اليوم بعدة نماذج ترجعه للصدفة أو فعل ميكانيكي لشيء قديم أصلاً

وأصل الحياة يرجع للصدفة تكون النظام الشمسي يحدثك عن سحابة ( ولا تسأل من أين جاءت ) ثم حصل لها حادث معين ( صدفة طبعاً ) ثم القوانين الميكانيكية فعلت فعلها فتكون النظام الشمسي بكل ما نراه

فإن قلت : ما المؤاخذة الكبيرة على هذا مع ما يجده المرء من نفرة فطرية من ذلك ؟

فيقال : لا يحتاج الأمر إلى تحديد مظاهر القصد في الكون وبيان صعوبة تراكم كل تلك الصدف السعيدة ولكن يحتاج إلى التنبه إلى عدة أمور

أولها : أن الصدفة لا تنفي وجود فاعل عاقل وإنما تنفي وجود القصد من فعله

فيوجد عاقل يفعل صدفة ويوجد عاقل يفعل لقصد ويوجد عاقل يفعل عبثاً فالصدفة التي تنفي وجود الفاعل هذه خرافة من خرافات ملاحدة الطبائعيين ولا وجود لها إلا في الخيال بل ذلك إيمان لا يختلف عن الإيمان بالتثليث

ثانيها : أن القوانين الميكانيكية أو الأفعال الميكانيكية لا تنفي وجود الفعل العاقل فالبشر يصنعون آلات ميكانيكية فإذا كانت الصدفة لا تنفي وجود فاعل والآليات الميكانيكية لا تنفي وجود فاعل فاستبدال الفعل بها كأنهما نقيضان لا يجتمعان تناقض ( نعم الفعل المقصود نقيض للصدفة ) ولكن ليس للفعل الميكانيكي ثم إن الصدفة التي تنتج نظاماً ميكانيكيا شيء غير مشاهد ولا مثال له

ثالثها : أن كل فعل يفعل صدفة يمكن أيضاً أن يفعل بقصد فترجيح الصدفة هو تحكم محض

بمعنى قد أكون كسرت الإناء صدفة وقد أكون كسرته بقصد وهكذا في كل فعل فعل مصادفة

فإذا كان الأمر كذلك فاعتبار الصدفة علماً والفعل المقصود ليس بعلم تحكم واضح

بل نشأة قوانين تفعل فعلاً نافعاً مقصوداً مثل آليات الأكل والشرب والجماع لكل الأحياء يرجح كفة الفعل المقصود على الصدفة وتكرر الفعل النافع يرجح كفة الفعل المقصود فتكون الأرض والشمس بهذه الصورة التي أتاحت ظهور الحياة وكون الإنسان قادر على الانتفاع بموارد الطبيعية ذهنياً وجسديا وغيرها من الآلاف البراهين الدالة على القصد ترجح كفة الفعل المقصود واستنتاج استبعاده مجرد إيمان وتحكم

فلو فرضنا صحة نظرية الأكوان المتعددة وأن كوننا جاء مضبوطاً من بينها

فهذا قد يرجع للصدفة المحضة وقد يرجع للفعل المقصود أيضاً على حد سواء فوجود خالق ضبط كوننا ليكون الكون الوحيد القادر على ظهور الحياة فيه أمر لا ينافي العقل وهو أقرب من كون ذلك حدث مصادفة محضة

فالخلاصة أنك أمام طاغوت اسمه الصدفة وهي نوع من الصدف التي لا نراها في حياتنا اليومية ويمكن تسميتها طرافة ( صدفة الفجوات ) أو ( عشوائية الفجوات ) فهم يستخدمونها للهروب من الإله وفعله المقصود

وهي فلسفة وإن ادعوا أن الفلسفة قد ماتت وهي عقيدة ويرجحون كل ما كان إليها أقرب ويسمونه ( علمي )

وكثير من الافتراضات والإنحيازات الفكرية بسبب هذه الفلسفة يظنها الناس ( علماً ) وكثير من هذه المنتجات تدرس في المدارس ويشربها من يظن أن هؤلاء الناس متجردون تماماً وبدون أي خلفية عقدية وأن الخلفية العقدية خاصة بأهل الأديان

وهم بدورهم يفترضون أنهم وحدهم من يملك الحقيقة لهذا الداعي

والتفسير الصدفوي أو الميكانيكي يقبل بأقل قرائن ممكنة وتسمى هذه القرائن أدلة علمية ومهما وقفت أمامه العوائق فإنهم يبقون يقبلونه

فخذ مثلاً أنه لا زالوا يقبلون الفيزياء النيوتنية في تفسير علاقة الكواكب مع بعضها البعض مع كون تمدد الكون بهذه السرعة يناقض هذه الدعوى فاخترعوا وجود الطاقة المظلمة التي لا دليل عليها إلى اليوم

والأمر أوضح وأوضح مع نظرية التطور وما يقف أمامها من مشكلات في السجل الأحفوري وغيره

وتجد الجواب دائماً ( العلم سيكتشف ) منتهى الإيمان بالعلم ( وهذا غيب يدعونه ) ويعنون أن العلم سيكتشف فعلاً ميكانيكياً يمكن إرجاع بدايته للصدفة هذا ما يؤملونه

ومثل هذه الكلمة لا تقال إذا تحدثوا عن وجود أعضاء ضامرة غير وظيفية في الإنسان أو غيره ( العلم سيكتشف وظيفة مثلاً ) لأن الاكتشاف هنا يحجم الرؤية المادية ويعزز الفعل المقصود فهنا يتمنون لو أن العلم لم يكتشف

إذا فهمت ما مضى تعلم لماذا نظرية التطور علم ولماذا التصميم الذكي ليس علمياً ؟

فالأولى علم لأنها متسقة مع الفعل الصدفوي والميكانيكي

والثانية ليست علماً لأنها تشير للفعل المقصود

وفلسفتهم منحازة للأولى وقد تبين لك ما فيه من تناقض

ولتعلم أن كثرة كلامهم في موضوع إله الفجوات إنما يكون له معنى في الفعل الميكانيكي ، وأما الفعل الصدفوي فهو أصلاً جاء للجواب على سؤال أصل وجود الأشياء التي يقع بينها الفعل الميكانيكي وأصل وجود القوانين الميكانيكية وهنا لا معنى للكلام عن إله فجوات فالفجوة لا تسد إلا بالصدفة الفعالة والتي لا نظير لها في حياتنا كما شرحت آنفاً فليست هي الصدفة التي نعرف

واعلم أن محاولات تفسير وجود أصل الكون بتفاسير يدعى أنها تتسق مع قول شيخ الإسلام في تسلسل الحوادث مجرد دجل وغلط على الشيخ

فمذهب الشيخ أن هذا الكون له بداية وأنه مخلوق لقصد وأن هناك مخلوقات قبل هذا الكون وكل مخلوق قبله مخلوق قبله مخلوق إلى ما لا بداية كما أن هناك أفعال أهل الجنة متسلسلة إلى ما لا نهاية

فالشيء يتكلم عن مخلوقات لا بداية لها وكل مخلوق يرجع إلى الخالق الذي خلقه بفعل مقصود

وأما الذي يقترحه العلمويون فتسلسل في الحوادث المؤثرة بمعنى كل مخلوق مسبوق بمخلوق هذا المخلوق الأول هو علة وجود الثاني وهكذا إلى ما لا بداية

وهذا الممتنعات العقلية أصلاً وهو يسمى التسلسل في المؤثرات

وشرح هذا فيما يلي وهنا سأشرح دليل الحدوث

قلت في مقال لي : بحث الطبائعيون عن سبب مادي للانفجار الكبير وللضبط الدقيق للكون لكي يهربوا من أمر الإله

والعجيب أن بعض العلمويين من بني جلدتنا بدأ يتأثر بهم

وهذا البحث يدل على أنهم إلى الآن لم يستوعبوا حجة اللاهوتيين المبنية على عدة مقدمات

المقدمة الأولى : أن هذا الكون موجود

المقدمة الثانية : أنه وجد بعد إن لم يوجد وهذا كان الفلاسفة والمتكلمون يثبتونه بأدلة كثيرة وكان من الناس من يتشكك به مثل الرازي وتوما الأكويني ولكن الفيزيائيين اليوم يقرون مع جماهير اللاهوتيين بحدوث الكون

المقدمة الثالثة : أن كل شيء له بداية ( يعني حادث ) فلا بد له من سبب مؤثر جعله يبدأ وهذه بديهة السببية والتي يحاول البعض التشكيك بها من خلال الاحتكام للجهل فيما يتعلق ببعض معطيات ميكانيكا الكم التي لم يعرف العلم لها جواباً بعد فجاءت تفسيرات عديدة فاختار القوم أبعد التفاسير عن الحتمية والسببية وقالوا به واختاروه من دون غيره بتحكم والواقع أن ذلك لا ينفي السببية فجهلنا بالسبب لا يعني عدم وجوده وبديهة السببية أحد الأسس التي يقوم عليها العلم يبحث في علل الأشياء وحتى الصدفة هي صورة من صور السببية فهي سبب غير مقصود

المقدمة الرابعة : أن التسلسل في الأسباب المؤثرة ممتنع لأنه ينبني عليه بطلان المقدمة الأولى وهي كون الشيء موجوداً

ما معنى هذا الكلام

لو فرضنا أن هناك جندي يريد أن يطلق رصاصة وكان أمره متوقفاً على أن يأمره من فوقه والذي فوقه هناك فوقه واحد وهكذا إلى ما لا بداية فلن تنطلق الرصاصة أبداً فإذا انطلقت علمنا أن السلسلة انقطعت وأن هناك آمر مؤثر غير متأثر وغير متوقف على غيره

الكون هو هذه الرصاصة ونحن متأكدون من وجود الكون والكون حادث كهذه الرصاصة التي انطلقت بعد أن لم تكن منطلقة ، فلا بد والحال هذه من مؤثر غير متأثر

وفي حال الكون هذا المؤثر لكي لا يكون متأثراً وتتنفي في حقه بديهية السببية يجب أن يكون لا بداية له لكي لا يتوقف وجوده على سبب أحدثه ( وهذا يرد على سؤال من خلق الخالق لأنه مغالطة منطقية لأن السؤال عن السبب إنما يكون في الأشياء الحادثة التي لها بداية )

إذا فهمت الحجة السابقة بكل حيثياتها تفهم أن البحث عن سبب مادي للانفجار الكبير لن يحل المشكلة أبداً

لأن هذا السبب المادي إذا كان له بداية وهو قطعاً كذلك فلا بد أن يكون سببه شيء آخر وتنطبق عليه الحجة السابقة

والذي يقول لا أتصور أن يؤثر الخالق في المخلوق لأن المخلوق مادي ، يقال له وهل تتصور سبب مادي له بداية بلا سبب مؤثر فيه ، أو تتصور سلسلة لا بداية لها من المؤثرات وأنتجت شيئاً هذا أشد امتناعاً من الأول

وإذا كان المخلوق يؤثر في المخلوق فمن باب أولى الخالق

وأما قول بعض أهل العلم بأن كل مخلوق قبله مخلوق قبله مخلوق إلى ما لا بداية وكل مخلوق له أول وآخر

فهذا قول لا ينافي حجتنا الماضية لأنه يقول كل مخلوق إنما أوجد بالخالق ( المؤثر الذي لا يؤثر عليه أحد )

فهناك فرق بين التسلسل في المؤثرات والتسلسل في المخلوقات التي كلها ترجع إلى مؤثر واحد أو خالق واحد وهو رب العالمين.

والخلاصة أن قول ابن تيمية يشبه قولنا خلق الله جندياً قبله جندي قبله جندي قبله جندي إلى ما لا بداية من الجنود

وقول العلمويين هو أن هناك جندي سيطلق رصاصة وهذه الرصاصة متوقفة على أمر جندي فوقه سيطلق رصاصة أخرى ورصاصة هذا الجندي متوقفة على رصاصة سيطلقها من قبله وهكذا إلى ما لا بداية وهذا ممتنع عقلاً أن يحصل معه إطلاق أي رصاصة إلا إذا وقف التسلسل ووقف التسلسل يجعل العلمويين أمام الفعل المقصود وبهذا ينتهون إلى المأزق الذي هرب منه

فهو باختصار هروب من الفعل المقصود إلى الفعل الميكانيكي للخروج من حرج الصدفة الفعالة السخيف

وإذا فهمت قصة الفعل المقصود والصدفة والفعل الميكانيكي ستفهم تلاعبهم في الخوض في مسألة ميكانيكا الكم ودعواهم أن في ذلك نفياً للسببية

والواقع أن تفسير كوبنهاجن إنما ينفي الحتمية وليس السببية

والفارق بينهما في هذا المثال

إذا أطلقت رصاصة للسماء فأنا متقين أنها تتجه لفوق هذه حتمية

ولكن إذا أطلقت رصاصة لا أدري أين تتجه مع أنني أوجه للسماء فهذا معناه نفي الحتمية

وإلا السببية بديهية ولكن تأمل تناقضهم إذا تحدثوا عن مفهوم إله الفجوات يدفعونه بالفعل الميكانيكي واكتشاف السبب الميكانيكي إذا وجدوا لم يجدوا سبباً ميكانيكيا نفوا السببية كلها وجعلوا ذلك أيضاً حجة للإلحاد

مع أنه من الفعل في اللاحتمية أن يحضر إله الفجوات ليكون هو المتحكم في البت في كل عملية

والواقع أن الفعل الميكانيكي والفعل اللاحتمي كليهما لا ينفي وجود الله

ولا زال أهل الملل وأهل الشرك يرون أن الله يفعل الأمور بالطريقتين

فتجدهم يؤمنون بالمعجزات التي تكسر الحتمية ويؤمنون بأن الله خالق الأمور الحتمية التي يرونها كل يوم

فالله عز وجل يفعل الأمور بعدة طرق ويفعل الأمور المتقابلة يحيي ويميت ويهدي ويضل

وسيبقى الفيزيائيون يعيشون حيرة شديدة لأنهم يريدون تصور الكون كله يجري بنفس القوانين في كل حين وأوان ولهذا هناك مشاكل في الجمع بين ميكانيكا الكوانتم ونسبية أينشتاين وهكذا

وبقيت نظرية كل شيء حلماً بعيد المنال

ومن أكثر ما حطم الفعل الميكانيكي هم البشر فالعلم الحديث يتصورهم آلات ميكانيكية ولكن العلوم الإنسانية مختلفة تماماً عن العلوم الطبيعية المبنية على ميكانيكية الطبيعة

قال عبد الوهاب المسيري في شرحه للفروق بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية في موسوعته عن اليهود

:" ويذهب البعض إلى أن نموذج العلوم الطبيعية (بما ينطوي عليه من واحدية موضوعية مادية) لابد أن يُطبَّق في كل العلوم الأخرى (وضمن ذلك العلوم الاجتماعية والإنسانية) . وقد لاحظ كثير من العلماء في الشرق والغرب خلل مثل هذه المحاولة نذكر منهم د. حامد عمار، د. توفيق الطويل، د. حسن الساعاتي (الذين يعتمد هذا المدخل على كتاباتهم) وبينوا الاختلافات بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية، ونوجزها فيما يلي:
1ـ أ) الظاهرة الطبيعية مُكوَّنة من عدد محدود نسبياً من العناصر المادية التي تتميَّز ببعض الخصائص البسيطة، وهذا يعني أنه يمكن تفتيتها إلى الأجزاء المكوِّنة لها. كما أن الظاهرة الطبيعية توجد داخل شبكة من العلاقات الواضحة والبسيطة نوعاً والتي يمكن رصدها
ب) الظاهرة الإنسانية مُكوَّنة من عدد غير محدود تقريباً من العناصر التي تتميَّز بقدر عال من التركيب ويستحيل تفتيتها لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم لنا. وحينما يُفصَل الجزء عن الكل، فإن الكل يتغيَّر تماماً ويفقد الجزء معناه. والظاهرة الإنسانية توجد داخل شبكة من علاقات متشابكة متداخلة بعضها غير ظاهر ولا يمكن ملاحظته.
2ـ أ) تنشأ الظواهر الطبيعية عن علة أو علل يسهل تحديدها وحصرها، ويسهل بالتالي تحديد أثر كل علة في حدوثها وتحديد هذا الأثر تحديداً رياضياً.
ب) الظاهرة الإنسانية يصعب تحديد وحصر كل أسبابها، وقد تُعرَف بعض الأسباب لا كلها، ولكن الأسباب تكون في العادة متداخلة متشابكة، ولذا يتعذر في كثير من الحالات حصرها وتحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة التي ندرسها.
3ـ أ) الظاهرة الطبيعية وحدة متكررة تَطَّرد على غرار واحد وبغير استثناء: إن وُجدت الأسباب ظهرت النتيجة. ومن ثم، نجد أن التجربة تُجرَى في حالة الظاهرة الطبيعية على عينة منها ثم يُعمَم الحكم على أفرادها في الحاضر والماضي والمستقبل.
ب) الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تَطَّرد بنفس درجة الظاهرة الطبيعية لأن كل إنسان حالة متفردة، ولذا نجد أن التعميمات، حتى بعد الوصول إلىها، تظل تعميمات قاصرة ومحدودة ومنفتحة تتطلب التعديل أثناء عملية التطبيق من حالة إلى أخرى.
4ـ أ) الظاهرة الطبيعية ليس لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا ضمير ولا شعور ولا أنساق رمزية تُسقطها على الواقع وتدركه من خلالها، فهي خاضعة لقوانين موضوعية (برانية) تحركها.
5ـ أ) الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها ويدل عليه دلالة تامة بسبب ما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل يُوحِّد بينهما فيجعل الظاهرة الطبيعية كلاًّ مصمتاً تحكمه من الداخل والخارج قوانين بالغة الدقة لا يمكنها الفكاك منها، ولهذا تنجح الملاحظة الحسية والملاحظة العقلية في استيعابها كلها.
ب) الظواهر الإنسانية ظاهرها غير باطنها (بسبب فعاليات الضمير والأحلام والرموز) ولذا فإن ما يَصدُق على الظاهر لا يَصدُق على الباطن. وحتى الآن، لم يتمكن العلم من أن يُلاحظ بشكل مباشر التجربة الداخلية للإنسان بعواطفه المكبوتة وأحلامه الممكنة أو المستحيلة.
6ـ أ) لا يوجد مكوِّن شخصي أو ثقافي أو تراثي في الظاهرة الطبيعية؛ فهي لا شخصية لها، مجردة من الزمان والمكان تَجرُّدها من الوعي والذاكرة والإرادة.
ب) المكوِّن الشخصي والثقافي والذاتي مكوِّن أساسي في بنية الظاهرة الإنسانية. والثقافة ليست شيئاً واحداً وإنما هي ثقافات مختلفة، وكذا الشخصيات الإنسانية.
7ـ أ) معدل تحوُّل الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدماً (من وجهة نظر إنسانية) ، فهو يتم على مقياس كوني، كما أن ما يلحق بها من تغير يتبع نمط برنامج محدد، ولذا فإن الظواهر الطبيعية في الماضي لا تختلف في أساسياتها عنها في الحاضر، ويمكن دراسة الماضي من خلال دراسة الحاضر
ب) معدل التغيُّر في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير ويتم على مقياس تاريخي، وما يطرأ عليها من تغير قد يتبع أنماطاً مسبقة ولكنه قد ينسلخ عنها. وعالم الدراسات الاجتماعية لا يستطيع أن يرى أو يسمع أو يلمس الظواهر الإنسانية التي وقعت في الماضي، ولذا فهو يدرسها عن طريق تقارير الآخرين الذين يلونون تقاريرهم برؤيتهم، فكأن الواقعة الإنسانية في ذاتها تُفقَد إلى الأبد فور وقوعها.
8ـ أ) بعد دراسة الظواهر الطبيعية والوصول إلى قوانين عامة، يمكن التثبت من وجودها بالرجوع إلى الواقع. ولأن الواقع الطبيعي لا يتغيَّر كثيراً، فإن القانون العام له شرعية كاملة عبر الزمان والمكان.
ب) بعد دراسة الظواهر الإنسانية، يصل الإنسان إلى تعميمات. فإن هو حاول تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة فإنه سيكتشف أن المواقف الجديدة تحتوي على عناصر جديدة ومكونات خاصة إذ من غير الممكن أن يحدث في الميادين الاجتماعية ظرفان متعادلان تماماً، ومتكافئان من جميع النواحي.
9ـ أ) لا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجارب التي تُجرَى عليها سلباً أو إيجاباً، كما أن القوانين العامة التي يُجرِّدها الباحث والنبوءات التي يطلقها لن تؤثر في اتجاهات مثل هذه الظواهر، فهي خاضعة تماماً للبرنامج الطبيعي.
ب) تتأثر العناصر الإنسانية بالتجربة التي قد تُجرَى عليها، فالأفراد موضوع البحث يحوِّلون من سلوكهم (عن وعي أو عن غير وعي) لوجودهم تحت الملاحظة، ففي إمكانهم أن يحاولوا إرضاء صاحب التجربة أو يقوضوا نتائجه. كما أن النبوءات التي يطلقها الباحث قد تزيد من وعي الفاعل الإنساني وتغيِّر من سلوكه.
10ـ أ) بإمكان الباحث الذي يدرس الظاهرة الطبيعية أن يتجرد إلى حدٍّ كبير من أهوائه ومصالحه لأن استجابته للظاهرة الطبيعية وللقوانين الطبيعية يَصعُب أن تكون استجابة شخصية أو أيديولوجية أو إنسانية، ولذا يمكن للباحث أن يصل إلى حدٍّ كبير من الموضوعية.

إلى آخر كلامه

وتبقى الدلالة الدامغة للآية الكريمة ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) خالدة

( أم خلقوا من غير شيء ) فكل من الصدفة والفعل الميكانيكي والفعل المقصود أفعال تصدر من شيء

( أم هم الخالقون ) والبشر هم أكمل الخلق والفكر الإلحادي يفترض أن الوعي واللغة وغيرها من خصائص الإنسان تكونت عن طريق صدف من مادة أصل لا توجد فيها هذه الكمالات ففاقد الشيء في هذا الفكر يعطيه !

والبشر ليسوا هم الخالقون اتفاقاً

وإثبات قدم العالم تجريبياً مستحيل لأن البحث التجريبي إنما يتعامل مع المحدثات

والخلاصة الدخول مع القوم في مناقشات فرعية في نظرياتهم قبل بيان موقفهم من الصدفة ونقضه وكشف هذا للمغتر بهم فإنه إذا فهمه لم تغره كثرتهم ولا جامعاتهم وسيعرف الأصل الذي بنوا عليه ووهائه وأنه إلى الانتحار العقلي أقرب بل هو فلسفة فاسدة تنزه عنها عامة الفلاسفة المتقدمين فضلاً عن المشركين والمتكلمين فضلاً عن أهل الملل 0
"
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي