الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
فعند النظر لبواعث تبني بعض الشباب
للإلحاد أو العلمانية أو الليبرالية أو إنكار السنة نجد من أبرز الدوافع الدافع
الإباحي ، والدافع الإباحي هو الاعتقاد بقيمة مطلقة اسمها الحرية بحسب المقاييس
الغربية التي تولي للحرية البشرية اهتماماً كبيراً خصوصاً الحرية الجنسية
وقد يرى بعض الناس ذلك مني إلقاء
لتهمة بلا معنى ، ولكن الأمر تحصل عندي من خلال عدة أمور من أهمها حوار دار بيني
وبين شاب كان يطرح شبهات حول القرآن وكان واضحاً أنه يحاول تبرير الحالة التي
يعيشها بأنه وجد في القرآن ما يستدعي عدم الإيمان به فكفر وألحد فكان كلما طرح
شيئاً أجبته فيذهب يبحث عن شيء آخر
حتى وصلنا للكلام عن الحرية فقلت له
: أنت لم تختر والديك ولا لونك ولا بلدك فهذا يدل على أنك خاضع لإرادة أكبر من
إرادتك وأنك عبد وكفرك بالله لن يحل من الأمر شيئاً لأنك تدخل بلداً يحكمه بشر
مثلك فتطيعهم خوفاً من العقاب أو رغبة في الثواب وتلتزم بكل القوانين وإن لم تقتنع
بها فما بالك برب العالمين الذي أنعم عليك بكل النعم بما فيها إحساسك بالعدل
والظلم .
حين قلت له هذه الكلمات : استغفر
وتاب ! وتبددت كل شبهاته السابقة فعلمت أن هذا هو بيت القصيد وكل ما سواه كان
تغليف لتلك الحالة النفسية
وهذا الكلام واضح في طرح حتى بعض
كهول الملاحدة مثل ريتشارد دوكنز حين وضع إعلاناً بعنوان الله على الأرجح غير
موجود فاستمتع بحياتك
فهو يفهم وجود الله عز وجل على أنه
تقييد ولا يفهم حياة طيبة إلا بلا غاية ! وأنك تعيش هكذا هملاً
ولصاحبه لورانس كراوس كلمة نحوها في
ضرورة الاحتفال بالإلحاد لهذا السبب
وهذا ليس غريباً فالله عز وجل ذكر في
القرآن أن سبب كفر قوم لوط تمسكهم بالفحشاء وقوم شعيب تمسكوا بالكفر بخلاً وقوم
عاد كبراً وطغياناً وفرعون جبروتاً وحبا في الرياسة وقد رأينا حروب الردة وكيف كفر
القوم بخلاً
فتصور أن الكفر دائماً سببه الشبهة
تصور ساذج بل غالب أحواله سببه الشهوة والشبهة هي مجرد تغليف
ولو تأمل المرء في كثير مما يطرح من
الشبهات لعلم أنها تغليف لأنها في الأساس أمور لاحظها البشر منذ فجر التاريخ ولم
تكن دافعة لهم للكفر بالله مثل وجود الشر في الدنيا
ولإيضاح الأمر أكثر نأخذ هذه الفائدة
من الأخ عماد الدين
أعتقد أن سبب اختيارنا الشغوف لأصل
الأنواع هو بسبب أن فكرة الله تدخلت في عاداتنا الجنسية.
- السير جوليان هكسلي، رئيس اليونسكو
ويدعم هذه الفكرة بشكل قوي جداً
العلاقة الطردية بين ظهور الإلحاد الخشن وظهور الإباحية الخشنة المفرطة
وعضد هذا في عالمنا العربي النظرة
الدونية للذات في مقابل الغربي حتى أن أحدهم يقول لك ( العقل ) ويعني بالعقل القيم
الغربية
وحين يقع حوار بين أحد التنويريين (
سواءً الغلاة منهم من أتباع محمد شحرور وأحمد عبده ماهر أو متوسطتهم من أتباع
عدنان إبراهيم ) وأحد الملحدين يكون هم الطرف الملحد أن يثبت للتنويري أن دينه
يخالف القيم المتفق عليها بينهم وهي القيم الغربية السائدة التي يستسلمون لها بفعل
العامل السياسي والاقتصادي وأهم ذلك قيمة الحرية المطلقة والتي أسميها الإباحية
والتنويري لو كان حاذقاً فإنه سيلزمه
بمقتضيات مذهبه المادي والتي تقتضي نفي الحرية بل ونفي العقلانية أيضاً ونفي
المساواة بشكل قطعي
فأما نفي الحرية فحين نقول أنه لا
صحيح إلا ما دل عليه الدليل التجريبي العلمي فإن الإرادة الحرة هنا ستكون في موقف
محرج لأنه لا يمكن اختبارها في المختبر ولهذا صنفها كانط في الأبحاث الميتافيزيقية
يعني الأبحاث الغيبية وهذه يدفعها البحث التجريبي كلها
والنظرة المادية تحصر الإنسان
بالمادة وبناءً عليه تصرفاته محكومة بالقوانين المادية وعليه فلا إرادة حرة له فإن
الاعتراف بالإرادة الحرة يعني الاعتراف بأمر فوق المادة وهذا سيأخذهم للإله ويناقض
أصل نظرتهم المادية
فإن
الإنسان ليس مختلفا عن الكون المادي وهو جزء منه
بل البشر لا يختلفون عن الآلات
نحن فعلياً آلات نحن روبوتات (خرقاء)
– كما يقول ريتشارد دوكنز
وقد كان باروخ سبينوزا واعياً لهذا
ولهذا أنكر الإرادة الحرة
والملاحدة الجدد لا يختلفون عنه فهذا
سام هاريس له رسالة في إنكار الإرادة الحرة وقد كتبت عليه ردود وهذا ما يقرره
دوكنز وهاوكنج وغيرهما تارة تصريحاً وتارة تلميحاً
وقد تنبه عدنان إبراهيم فخطب خطبة
بعنوان جبرية الملاحدة
وإيمان صاحب الفكر المادي بالإرادة
الحرة أمر اعتباطي ومتناقض وبناءً عليه اعتراضهم على الأديان في موضوع الحرية هو
اعتراض بناءً على أساس ميتافيزيقي وهذا يناقض نظرتهم المادية
وتبريرهم لبعض الأمور كالشذوذ بأنه أمر
جيني لا معنى له لأن كل سلوكياتنا محكومة جينياً فلا إرادة حرة ومع ذلك نعاقب
المجرمين على إجرامهم
وقد حاول دوكنز في كتابه الجين
الأناني أن يصهر عموم سلوكيات البشر في بوتقة الجين الأناني بمعنى أن كل شيء راجع
للجينات
والتفسير الجيني هذا يجني على
الإلحاد لأن معناه أن الشذوذ حالة مرضية فالحالة الغالبة هي التي تفسر السلوك
الطبيعي للجين والإلحاد حالة شاذة في البشر
بل لو قلت ما الدليل التجريبي الذي
يدل على أن البحث عن الحقيقة أمر جيد ؟
لماذا لا يكون الباطل أمراً جيداً لأن
الحقيقة في بعض الأحيان قد تفقدك الكثير من المصالح المادية؟
وقلت مرة أن البحث مع الملحد المادي
منتهي ابتداءً لأنه حتى لو كان على صواب فإن ذلك يعني أن معول التفاضل بين البشر
اللذة العاجلة والسعادة العاجلة
وهذه يحصلها صاحب المال الوفير سواءً
كان متديناً أو غير متدين ثم اللذة المعنوية لو كانت متجسدة في الطمع بنعيم مطلق
فإن المؤمن سيكون أعظم سعادة من الملحد بكثير بسبب هذا التصور
المسألة الثانية وهي أوضح من مسألة
الإرادة الحرة وهي مسألة الغائية
يعتقد الفكر المادي أن هذا الكون جاء
بحادث اتفاقي ( مصادفة ) وبناءً عليه هو يسير بلا غاية
ولهذا تجد كراوس مثلاً يقول لا يوجد
شيء في الكون يدل على الغاية ( وهذه مكابرة )
من أحسن ما ينقض به هذا أن يقال
لماذا كل البشر يثنون على من له هدف وغاية إذا كان الكون في أصله ليس غائياً فقيمة
الغاية قيمة لا مكان لها في هذا الكون كما أنه لا مكان في مجتمع عميان للكلام عن
تناسق الألوان
ولكن المشكلة هنا إذا كان الكون غير
غائي فإنه من الطبيعي جداً أن يعيش الإنسان العبثية والعدمية بل تضحية المرء
ومساعدة الآخرين كلها أفكار اعتباطية
والمشكلة الأكبر في ظل كون لاغائي ما
معنى الكلام عن قيم تفصلنا عن بقية الكائنات مثل دعوى أننا أحرار ودعوى أن
لأقوالنا قداسة معينة وأنه يجب تقديس حرية
التعبير وغير ذلك
الأمر الذي يليه الكلام على
العقلانية
صرح دارون أنه يقلقه فكرة أن دماغنا
تطور من كائنات أدنى ( وهذا ما قرره بنفسه ) لأن ذلك يلغي وثوقية عقولنا فمن الذي
يثق بعقل قرد مثلاً وإذا كان العقل مجرد تفاعلات كيميائية فكيف تثق بأي استنتاج يخبرك به هذا العشوائي
الأعمى؟
وهذا الفكرة طرحها ديكارت وهي أن
الثقة بالعقل تكون نابعة من الثقة بواهب العقل أنه أعطاه المقدرة على إصابة العقل
إذا عمل بشكل صحيح أما إذا كان مجرد نتاج عشوائية فكيف يمكن الوثوق به فقد يكون
يعطينا نتائج خاطئة خصوصاً مع وجود نظرية التطور فهذا معناه أن بعد ملايين السنين
ستأتي كائنات أعظم وعياً منا وسيسخرون من وعينا البدائي ونتائجه كما نسخر نحن من
الحيوانات أحياناً
وأما فكرة المساواة فهي فكرة أيضاً
مناقضة للمادية ومن عجب أن تبنى الشيوعية على فكرة العدالة وليست العدالة معروفة
من الطبيعة الصماء وليس الناس متساوين قوة ونشاطًا وذكاء، والنتيجة المنطقية
للمادة أن يعتبر الإنسان كائنًا اقتصاديًّا فحسب, قانونه الطمع والمنفعة وتنازع
البقاء بالأسلحة الطبيعية. لا عدالة إلا في مذهب يعترف بماهية إنسانية مشتركة بين
أفراد النوع، وبحياة إنسانية أرفع من الحياة المادية، وهذان ركنان لا يعترف بهما
المذهب المادي ( هذا كلام صاحب تاريخ الفلسفة الحديثة )
يقول ارنست رينان ((الاستعمار إنه
ضرورة سياسية في الدرجة الأولى ... إن غزو بلد من عرقٍ أدنى من قبل بلد من عرقٍ
أعلى لا يدعو إلى الاستنكار ... عندما يكون الأمر بين الأعراق المتساوية فذلك أمر
يدعو إلى الاستهجان. لكن تجديد الأعراق المنحطة بأعراق عليا فتلك عناية إلهية
للإنسانية))
وهذا مع كونه نصرانياً تأثر بالنفثة
الداروينية
تشارلز داروين في كتابه أصل الإنسان
في الفصل السادس ما يلي :- (: "في مرحلة مستقبلية معينة، ليست ببعيدة ، سوف
تقوم الأعراق البشرية المتحضرة على الأغلب بالقضاء على الأعراق الهمجية واستبدالها
في شتى أنحاء العالم." )
كتب فريدريك فوربرنارد وهو احد
جنرالات الحرب العالمية الأولى :- ( الحرب حاجة أيديولوجية بقدر حاجة الأحياء في
الطبيعة للصراع وتُعطي نتائج مجدية من الناحية البيولوجية ) فهو قد قام بالربط بين
الحرب وصراع الاحياء من منظور دارويني مُجرد Man in process world .pub .co. newyork 1961 p.76
فالخلاصة أن أفكاراً مثل الحرية
والمساواة والعقلانية كلها غير منطقية نهائياً وغير متسقة مع الفكر المادي الذي
دخل في مراحل سوفسطائية
والواقع أن الحرية المنشودة عند
القوم مجرد وهم فإن الأعراف الاجتماعية والمقدرة المادية من أكبر مقيدات الحرية
فلا تخرج من عباد الله إلا لعبادة البشر فتراعيهم في كل صغير وكبير ، وترهن حريتك
عند بعض البشر لمدة طويلة لكي يعطيك مالاً تنفقه فيما تريد
ولو كانت الحرية قيمة مطلقة ما جعل
إفقادك إياها عقوبة من العقوبات فالسجن عقوبة معروفة ولا أحد يعاقبك بأن يفقدك
البر أو الصدق أو غيرها إنما يعاقبونك بإفقادك الحرية والتي ليست موجودة مطلقة
أصالة
مع ما في دعاوى المتحررين من تناقضات
شديدة فيمكنهم تقييدك متى ما شاءوا بحجة الأمن أو الخوف من الإرهاب والشيء الوحيد
الذي يمثل الحرية هو الإباحية
قديماً لم تكن هناك حدود بين الدول
ومعناه أن حرية التنقل كانت أكبر بكثير من اليوم فاليوم قيدت الحريات بشكل كبير
جداً
ولو نظرت في قوانين الدعارة في
أوروبا لوجدت بعض البلدان مثل السويد تمنعه وإن كان بالتراضي وبعض الدول تجعله
جناية في حق مشتري الخدمات الجنسية وأخرى تجعله جناية في حق بائعها وأخرى تمنعه في
الشارع دون الماخور وهكذا
وفي هولندا يسمح بتعاطي المخدرات
الخفيفة للمواطنين دون السياح وتخالفهم بقية الدول الأوروبية
إذن هذه قيمة مضطربة جداً ولو
اعتبرناها شيئاً مطلقاً لكان ينبغي أن ننتقد السويد في منعها للدعارة بنفس القوة
أو أشد التي ننتقد فيها منع السعودية لقيادة المرأة للسيارة
ولا يستوي منع الحجاب في بلد أصلاً
يدعي أن الحرية هي القيمة العليا والكبرى ( لأن هذا مناقضة للقيمة الأصلية التي
يدعى أن البلد بني عليها وخصوصاً وأن المحجبة والعارية كلاهما تدفعان الضرائب )
ومنع التعري في بلد أصلاً مبني على
الدين أو على أعراف عامة فحين تلزم المرأة بما يلزمه بها دينها سواءً كان إسلاماً
أو نصرانية فهذا لا تناقض فيه خصوصاً وأنها في حال زواجها يلزم زوجها بواجباته
تجاهها من نفقات وغيرها بحسب الشريعة فلا تتعامل مع الشريعة بنفاق تأخذ ما تريد
وتترك ما تريد
وزيادة على ذلك عموم الحكومات
الغربية المقدسة تقيد حرية المرء قبل سن الثامنة عشر من فعل أمور كثيرة وبعد
الثامنة عشر ويوم تصبح هذه كلها مباحة ولا فارق علمي أو عقلي بين سن الثامنة عشر
والسادسة عشر مثلاً ولكن ما دامت الحكومات الغربية هي من يقيد لا النصوص الشرعية
فسمعاً وطاعة
وما دام الفقر من أكثر ما يقيد حريات
الناس فإن الربا والنظام الرأسمالي هو أكثر ما يقيدها لأنه وطد للفقر في كثير من
البلدان فينبغي على أدعياء الثقافة أن يحاربوه قدر المستطاع بعيداً عن محاربة
التراث الذي لم يعد يحكم أصلاً محاربة لطواحين الهواء
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله
وصحبه وسلم