مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: الحل العلماني لمشكلة تعدد المذاهب والفرق الإسلامية ...

الحل العلماني لمشكلة تعدد المذاهب والفرق الإسلامية ...


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

دائماً ما يطرح العلمانيون في البلدان ذات الغالبية الإسلامية هذا الإشكال


( يوجد فرق ومذاهب كثيرة في الإسلام فإذا حكمنا بأيها سنحكم )

ويقال أيضاً ( العلمانية ستوفر الحقوق لجميع الطوائف الإسلامية على حد سواء )

وهذا كلام يبدو أنه جميل _ عند قليل العلم _ في باديء الرأي ولكن حقيقته مؤسفة جداً

فباختصار العلمانية تأتي إلى المسلمين _ والمنتسبين للإسلام_ المختلفين ثم تفرض عليهم أن يحكموا بنظام يخالف حتى ما يتفقون عليه !

فكل المذاهب متفقة على حرمة الزنا واللواط وشرب الخمر ومتفقة على الحدود الشرعية والحجاب

هذا أمر لا يختلف فيه أهل السنة مع الزيدية والإمامية والإباضية كلهم متفقون على هذا

فتأمل الحل العلماني اللوذعي !

العلمانية العربية بالذات فلسفة إباحية في حقيقة الأمر لهذا لا تجدهم يختلفون أبداً في مسألة إباحة الخمور والزنا وتقبل ما يسمونه ب( الشذوذ ) في عامتهم ( وهذا أمر ينبغي أن يفرض على المجتمعات فرضاً مهما رفضته )

ولو كان الأمر بالنسبة لهم مجرد مذهب سياسي لا علاقة له بالأديان في خصوصياتها الأخلاقية ما وجدتهم جميعاً على هذا المذهب

ثم هذه الفلسفة إذا حكمت فهي بالنسبة للإباحي المتهتك فرصة للتميز والارتياح كما يفكر السني إذا حكم بلده سني

لأن مظاهر الإباحية ستنتشر وهذا يسبب ضيق لأهل التدين وسعادة للإباحي ففي النهاية جئنا إلى فلسفتين متضادتين ووقفنا مع واحدة ضد الأخرى ( وهذه عبارة تنزلية وإلا الواقع أننا أمام دين الرحمن ودين الشيطان )

و ( فصل الدين عن الدولة ) مجرد فكرة وليست حقيقة مطلقة وفرضها على الناس ضرب من ضروب الدكتتاورية ( هذا كلام تنزلي )

وإنني أتعجب لا يكاد منهم يتكلم عن التقدم أو التأخر إلا ويقحم موضوع الحجاب والاختلاط ويحوم حول الإباحية ويربطه ربطاً وثيقاً بالتقدم الصناعي أو الاقتصادي أو العسكري مع أن مجرد فهم طبيعة هذه الأمور لأي إنسان عاقل يعلمه أنه لا علاقة بين هذه الأمور

المنتسبون للملة الإسلامية يصلون في الحرم معاً ويصومون رمضان معاً ويحجون معاً مع اختلافاتهم المذهبية

لأن هذه الاختلافات لا تمنع من وجود مشترك يجعل الحكم بالشريعة ممكناً

وكثير من الأنظمة العلمانية العربية تعتمد الشريعة في كثير من الأحوال الشخصية بل وبعضهم في المواريث

مع وجود خلاف الفقهاء بل الأمور التي تمت تنحيتها من الشريعة الاتفاق عليها أعظم من هذه الأمور والفقهاء يختلفون في التفاصيل لا المجملات الكلية

ومعلوم أن البلدان العلمانية نفسها لا تتطابق أحكامها بشكل كلي بل بين ولاية وولاية في بلد واحد تختلف الأحكام

وإذا كانت وحدة مليونين أو ثلاثة فيما ترى العلمانية عمل عظيم ويركزون على ذلك عن طريق تضخيم الأقليات

فالإسلام الذي يوحد مليار منتسب للإسلام وأكثر وهذا  مطلب ملح

فالعجب ممن يفرق بين المسلمين أهل اللغة الواحدة والدين الواحد والتاريخ الواحد بحدود وضعها مستعمر ثم بعد ذلك يتباكى على الأقليات أو على اختلاف المذاهب

ثم لماذا نذهب بعيداً الخلافة الإسلامية على مدى ثلاثة عشر قرناً كانت تحوي مذاهب مختلفة ويكون الخليفة على مذهب ويوافقه جزء من المسلمين ويخالفه آخرون ( والكلام هنا عن أحكام الشريعة الظاهرة )

بل حتى أهل الكتاب ولنأخذ هنا حكمين مغيبين

الأول : ما ذكره الإمام الشافعي في الأم أن الخوارج الذين يكفرون الإمام والمسلمين لا يمنعون حقهم من الفيء إذا لم يحملوا السلاح

قال الشافعي في الأم :" وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ وَتَجَنَّبُوا جَمَاعَاتِ النَّاسِ وَكَفَّرُوهُمْ لَمْ يَحْلِلْ بِذَلِكَ قِتَالُهُمْ لِأَنَّهُمْ عَلَى حُرْمَةِ الْإِيمَانِ لَمْ يَصِيرُوا إلَى الْحَالِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقِتَالِهِمْ فِيهَا بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيًّا رضي الله تعالى عنه بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إذْ سَمِعَ تَحْكِيمًا مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ لاَ حَكَمَ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله تعالى عنه كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلاَثٌ لاَ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ وَلاَ نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا كَانَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا وَلاَ نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : رحمه الله أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْرَقِيُّ الْغَسَّانِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَدِيًّا كَتَبَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْخَوَارِجَ عِنْدَنَا يَسُبُّونَك فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إنْ سَبُّونِي فَسُبُّوهُمْ أَوْ اُعْفُوَا عَنْهُمْ وَإِنْ أَشْهَرُوا السِّلاَحَ فَأَشْهِرُوا عَلَيْهِمْ وَإِنْ ضَرَبُوا فَاضْرِبُوهُمْ

الثاني : ما ذكره فقهاء الحنابلة أن الذمي إذا شرب خمراً لا يقام عليه الحد لأن الخمر ليس حراماً في دينه

فأهل الكتاب والمجوس يتفقون مع المسلمين على حرمة الزنا وما يسمونه بالشذوذ والسرقة والقذف والحلف بالباطل وغيرها من الأمور

وموضوع الجزية تكلمنا عليه مراراً ويكفيك أن تعرف أن كتب أهل الكتاب تحث على إعطاء الجزية لمن يطلبها وأحكامها معروفة حيث لا تؤخذ من النساء والأطفال وغير المقاتلين ( على خلاف بينهم في الجزئية الأخيرة )

والعلماني لا يعرف من التاريخ الإسلامي إلا بعض المنعطفات فالخلافة تبقى ثلاثون عاماً مستقرة مع اتساع سريع في البقعة التي تحكم فتحصل فتنة لمدة ستة أشهر ثم تنتهي فتجده لا يعرف إلا هذه الفتنة

بل ليعلم أن من أسباب حصول الفتن بين المسلمين في الصدر الأول تقبلهم للآخرين ( وهنا أستخدم مصطلحاتهم للتفهيم ) فالخليفة الثاني عمر قتله مجوسي والخليفة الثالث عثمان ألب عليه يهودي اسمه عبد الله بن سبأ والخليفة الرابع قتله خارجي والوزير الذي خان ومكن للتتر كان إمامياً وهو ابن العلقمي ( على أن فعل الراشدين كان مشروعاً وفعل العباسي الذي مكن الوزير الرافضي من رقاب المسلمين لم يكن مشروعاً )

فلو كان وهم الإبادة لكل المخالفين حقيقياً لما وجدت هذه الأقليات التي تتاجرون بها اليوم

ولكن إبادة السكان الأصليين ومحاكم التفتيش جعلت غيرنا لا يقع في هذا

نعم هذا الأمر فيه بعض مفسدة ولكن مصلحة دخول الناس في الدين أعظم

وحين نقول أن عمر بن عبد العزيز كان عادلاً فليس معنى هذا أن الخلفاء قبله وبعده ( من غير الراشدين ) لم يكن عندهم أي مستوى من العدل بل عامتهم كان يخلط عدلاً وظلماً بل كثير منهم كان عدله يغلب على ظلمه وبغض النظر عن كل شيء كان هناك مستوى عال من العزة للأمة ككل وبيئة خصبة للإنتاج الجماعي الموجه لمصلحة الأمة ( ولم يوجد في تاريخ الخلافة كلها شيء اسمه ثورة جياع )

والعلمانية هنا تقف أمام تناقض حاد حيث تريد الاستفادة من الدين لإيجاد منظومة أخلاقية وتريد الاستفادة منه بالأحوال الشخصية وفي القضاء حيث يتم تحليف الشاهد على القرآن وحتى في البرلمان يفعل هذا ( يقسمون بالله على المحافظة على تنحية شرعه )

ثم ينحون الشريعة عن الحكم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض

ولو خاطبت علمانياً وقلت له : في العقود الماضية لم تكن تحكمنا الخلافة الإسلامية بل كانت تحكمنا حكومات فصلت الدين عن الدولة ومع ذلك ازددنا تخلفاً

فسيقول لك : هذه ليست العلمانية التي نريد وهؤلاء لا يمثلون العلمانية هذه علمانية مفرغة من الديمقراطية

فإذا قلت له : في واقعك تجعل كل خطأ لمتدين حملاً على الدين وهنا تريد البراءة من أصحابك ولك كامل الحق في هذا ولكن لماذا لم تنجحوا في توعية الشعوب ووضع البيئة الخصبة لما تريدون ووسائل الإعلام عامتها في أيديكم وكذا التعليم أو على الأقل أنتم أوفر حظاً من الإسلاميين فما فعلتم غير ترسيخ صورة خيالية في الذهن عن الإنسان الغربي الخارق وقتل كل أمل في القلوب للتقدم مع الدعوة للإباحية وانبطاح كثير منكم للأنظمة الدكتتاورية فالدكتتاوري يصفعكم على وجوهكم لتذهبوا بعدها وتسبوا خلفاء المسلمين في العصور الأولى

فسيقول لك بعد أن يبريء نفسه من كل ما تقول ويأتيك بالشذوذات من أحوال أصحابه : أننا تحت حكم قمعي وشعوب جاهلة لا تفهم أطروحاتنا المتحررة والمخلصة لهم

فإن قلت له : هذه الحكومات من يدعمها ومن يستفيد من وجودها وكيف جاءت العلمانية أصلاً إلى بلاد المسلمين هل كانت باختيار أم برغبة مستعمر وهل سيختار لك المستعمر الأصلح لك أم له

وما دامت الشعوب جاهلة ولا تعطيكم قدركم فما فائدة الكلام عن الديمقراطية وهي حكم الشعب لنفسه فالشعب الجاهل إن حكم نفسه سيدمرها

حقيقة نحن نرفض العلمانية بالعقل المجرد فهي تفويت لفرصة توحد المسلمين وتكريس للسياسة التفريق التي زرعها المستعمر

ثم إنها تكرس التبعية للأمم الأخرى وتحارب الهوية

وثالثاً هي تفوت فرصة إيجاد منظومة أخلاقية معتمدة على الدين

رابعاً : ليس عندها أي آلية في مقاومة تسلط الأثرياء إلا بالنظام الاشتراكي الذي ثبت فشله

خامساً : تهدر الوقت في النقاش في مسائل محسومة دينياً باسم حرية الرأي وكان الأولى أن نقبل على محاربة صور الفساد في مجتمعاتنا من الرشوة والمحسوبية وتوسيد الأمر لغير أهله والتبعية للآخرين التي هي أسباب التخلف

والخلاصة إذا ذكر لك علماني هذه المشكلة فقل له : جلدنا للقاذف والزاني وفرضنا للحجاب والزكاة  بماذا سيؤثر في زيادة الخلاف بين الفرق المتخالفة أو رأب الصدع بينها ؟ 

واطرح عليه أسئلة من هذا النوع لتعلم أنه يثرثر في أمر غير متعلق بمحل النزاع أصلاً  
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي