مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: أثران نفيسان في مسألتين هامتين ...

أثران نفيسان في مسألتين هامتين ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال ابن بطة في الإبانة 1259 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ , قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي , حَدَّثَكُمْ مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُمَرو َ , وَمَالِكًا , وَسَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ , يَقُولُونَ: " لَيْسَ لِلْإِيمَانِ مُتْنَهًى , هُوَ فِي زِيَادَةٍ أَبَدًا , وَيَقُولُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ وَأَنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ " قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِيمَانُهُ كَإِيمَانِ إِبْلِيسَ , لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ , وَكَفَرَ بِالْعَمَلِ , فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

أقول : هذا أثر هام عن سعيد بن عبد العزيز العالم الشامي يفيد في مسألة تقسيم التوحيد

فقد نص على أن إبليس أقر بالربوبية ، ومعلوم أن ذلك لا ينجيه فدل على أن في الباب توحيداً آخر

وعدد ممن يعترض على هذا التقسيم يدعي أنه يلزم منه إثبات التوحيد للمشركين ، وإنما يثبت لهم بعض توحيد نقضوه بشركهم في الألوهية

قال الله تعالى : ( ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)

قال الطبري في تفسيره  حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} [يوسف: 106] الْآيَةَ، قَالَ: " مِنْ إِيمَانِهِمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ، وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَمَنْ خَلَقَ الْجِبَالَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ "

وقال أيضاً قَالَ: ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ نَصْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] قَالَ: " مِنْ إِيمَانِهِمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ؟ قَالُوا: اللَّهُ، وَإِذَا سُئِلُوا: مَنْ خَلَقَهُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَهُمْ يُشْرِكُونَ بِهِ بَعْدُ "

وقال أيضاً حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثنا شَبَابَةُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] " إِيمَانَهُمْ قَوْلُهُمُ: اللَّهُ خَالِقُنَا، وَيَرْزُقُنَا، وَيُمِيتُنَا "

فتأمل قول السلف ( إيمانهم ) ولا شك أنهم لم يريدوا الإيمان النافع

فمن اعترض على تقسيم التوحيد بتلك الحجة ليعترض على قول السلف ( إيمانهم )

وقريب من هذا الاعتراض اعتراض بعضهم على قولهم في تفسير ( لا إله إلا الله ) بأن قولهم ( لا معبود بحق ) لا معنى له وإنما ينبغي أن يقال ( لا معبود إلا الله ) لأن كل ما سوى الله معبود بباطل والإله لا تطلق إلا على الله

والواقع أن الله هو الإله الحق لا شك وما من إله إلا الله ، ولكن كلمة إله تطلق على المعبودات الباطلة باعتبار فعل المشركين بها وإن كان باطلاً مهلكاً

قال تعالى ( فراغ إلى آلهتهم )

وقال عبد الرزاق في تفسيره 3036 - عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] قَالَ: «هِيَ آلِهَةٌ كَانَ يَعْبُدُهَا الْمُشْرِكُونَ , وَكَانَتِ اللَّاتُ لِأَهْلِ الطَّائِفِ , وَكَانَتِ الْعُزَّى لِقُرَيْشٍ , وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَنْصَارِ»

وأما الأثر الثاني : قال الآجري في الشريعة 518 - وَأَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ سَيَّارٍ النَّصِيبِيُّ قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّ قَوْمًا يُنْكِرُونَ مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: «بَيِّنُوا لَهُمْ وَارْفُقُوا بِهِمْ، حَتَّى يَرْجِعُوا» ، فَقَالَ قَائِلٌ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدِ اتَّخَذُوهُ دِينًا يَدْعُونَ إِلَيْهِ النَّاسَ، فَفَزِعَ لَهَا عُمَرُ فَقَالَ «أُولَئِكَ أَهْلٌ أَنْ تُسَلَّ أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ أَقْفِيَتِهِمْ سَلًّا، هَلْ طَارَ ذُبَابٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا بِمِقْدَارٍ؟»
519 - أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفًّى قَالَ: نا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوًا مِنْهُ


أقول : هذا أعلى أثر وقفت عليه في التفريق بين الداعية وغير الداعية وليعلم أن الأصل مع أهل البدع المصارمة ولكن عند الحاجة لرواية أو صلاة خلف من بدعته غير مكفرة يفرق الكثير من العلماء بين الداعية وغير الداعية فالداعية تترجح مصلحة مصارمته على مصلحة الاحتياج إليه ، والداعية لا يتعامل معه إلا ضرورة كصلاة الجمعة خلفه حيث لا تتوفر إلا معه وكالجهاد معه في جهاد متعين ويكون هو إمام المسلمين

واعلم أن بعض الجهلة الفجرة عدوا التفريق بين الداعية وغير الداعية من أصول المرجئة ورموا الإمام أحمد بأنه وافق المرجئة في أصل لهم وأنه خالف الكتاب والسنة والإجماع وصار أحسنهم طريقة يدعي أن الإمام أحمد قضى عمره في هذه الضلالة ثم تاب عنها

وهذا التفريق قد صح عن ابن مهدي وصح عن ابن المبارك وعليه تصرفات عامة المحدثين ، ولكن ما يصنع المرء بغرور المغترين وهذا هو سبيل عمر بن عبد العزيز كما ترى

ومن طريقة عمر بن عبد العزيز التي ما أنكرها أحد من العالمين

ما روى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه  وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ قال: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: كُنْتُ أُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَقَالَ لِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ رَجُلٌ أَسْرَعَ فِي كَذَا، أَوْ رَجُلٌ أَسْرَعَ فِي الْمَالِ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ، وَقُلْتُ: لا أعود.

أقول : وهذا إلزام فلا علي توسع في الدماء ولا عثمان توسع في الأموال ولكن لما كانت السبئية قد غرست في قلوب الناس أن عثمان فعل في الأموال كذا وكذا افتراء وكذباً ، كان من مقابلتهم بالإلزام والإسكات القول بأن عثمان إنما تأول في الأموال وهذا علي نقم عليه أناس سيرته في الحروب حتى ناصبوه العداء فما عساكم تقولون سوى أنه تأول رضي الله عنه وربما استدللتم على صوابه فيما فعل والاعتذار في باب الأموال أيسر بكثير من الاعتذار في باب الدماء

وكلا من عثمان وعلي فاضل ولا يزن بريبة ، ولكن هذا تنزل مع الخصوم للإفحام وعدم إطالة الخصام وهذا ما فعله ابن تيمية في منهاج السنة فنقم عليه الجهلة ولئن ينقم عليه شيعي فلا بأس ولكن أن ينقم عليه مدع للسنة فهذا فيه كل البأس

وأيضاً من كمال عقل عمر ما صنعه مع الخوارج

قال ابن عبد الحكم : بعث عمر بن عبد العزيز محمد ابن الزبير الحنظلي1 إلى شوذب الحروري2، وأصحابه حين خرجوا بالجزيرة3، قال: فكتب معنا إليهم كتابا، فأتيناهم فأبلغناهم رسالته وكتابه، فبعثوا معنا رجلين منهم أحدهما من بني شيبان والآخر في حبشية، وهو أشد الرجلين حجة ولسانا. فقدمنا بهما إلى عمر بن عبد العزيز وهو بخناصره فصعدنا إليه في غرفة فيها ابنه عبد الملك وكاتبه مزاحم، فأعلمناه مكانهما فقال: ابحثوهما إن لا يكون معهما حديدة، ثم أدخلوهما ففعلنا، فلما دخلا، قالا: السلام عليكم ثم جلسا، فقال لهما عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا؟ وأي شيء نقمتم علينا؟ فقال الذي في حبشية: والله ما نقمنا عليك في سيرتك فإنك لتجرى العدل والإحسان، ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، وإن منعتنا فلست منا ولسنا منك. قال عمر: وما هو؟ قال: رأيتك خالفت أعمال أهل بيتك وسلكت غير طريقهم وسميتها مظالم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال، فابرأ منهم والعنهم، فهو الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق. قال: فتكلم عمر عند ذلك فقال: إني قد عرفت أو ظننت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها. وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغه علمكما. قالا: نفعل. قال: أرأيتم أبابكر وعمر أليسا من أسلافكم وممن تقولون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلى. فقال: هل تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم أبو بكر فسفك الدماء، وسبي الذراري، وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمان أن عمر لما قام بعده رد تلك السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلى. قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم فلم يخيفوا آمنا، ولم يسفكوا دما، ولم يأخذوا مالا؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع عبد الله ابن وهب الراسبي1 استعرضوا الناس فقتلوهم، وعرضوا لعبد الله بن خباب1 صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حيا من العرب يقال لهم بنوا قطيعة فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء، والولدان حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الأقط وهي تفور بهم قالا: قد كان ذلك. قال: فهل برئ أهل الكوفة من أهل البصرة، أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من طائفة منهما. قالا: لا. قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحد أم اثنين؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قالا: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبابكر وعمر وتولى كل واحد منهما صاحبه وقد اختلفت سيرتهما؟ أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة وأهل البصرة أهل الكوفة وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج، والأموال. ولا يسعني بزعمكما إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها فأخبرني عنك أيها المتكلم متى عهدك بلعن أهل فرعون، ويقال: بلعن هامان؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحكم إنكم قوم جهال. أردتم أمرا فأخطأتموه، فأنتم تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل منهم ويأمن

فهنا ألزمهم بسيرة أوائلهم وأظهر تناقضهم ، ومن هذا ما تجده في بعض كتب السلف من ذكر  آثار لأقوام غمزوا في عقيدتهم في ذم بدعة أعظم خصوصاً ذم بعض أهل الرأي للتجهم فإن أكثر الجهمية كانوا أهل رأي فيذكر لهم كلام أسلافهم الذين يعتمدونهم في الحلال والحرام إلزاماً ولبيان إحداث مذهبهم وأنه ما كان حتى لمتقدميهم
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي