مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: مراجعات في مسائل عقيدية ...

مراجعات في مسائل عقيدية ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فقد سبق لي أن كتبت مقالات في تقويم المعاصرين نبهت فيها على ما وقفت عليه من الأخطاء العقيدية في كلام المعاصرين ممن ينتسب إلى السنة

واليوم سأكتب مراجعات أنبه فيها على أمور وقعت لي وتراجعت عنها

المسألة الأولى : إسرافيل نافخ الصور

كنت قديماً كتبت مقالاً بينت فيه أنه لا يصح خبر مرفوع في أن إسرافيل نافخ الصور وفي كتابتي على يحيى بن سلام وفي لسان الميزان ألمحت إلى وجود إجماع في المسألة

قال ابن أبي حاتم في تفسيره 16622 - حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطِّهْرَانِيُّ، أَنْبَأَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، ثنا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ قَالَ: الصُّورُ مَعَ إِسْرَافِيلَ فِيهِ أَرْوَاحُ كُلِّ شَيْءٍ تَكُونُ فِيهِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الصَّاعِقَةَ فَإِذَا نَفَخَ نَفْخَةَ الْبَعْثِ قَالَ: اللَّهُ: بِعِزَّتِي لَيَرْجِعَنُّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ وَدَارِهِ ... أَعْظَمُ من سبع سموات وَمَنَ الأَرْضِ قَالَ: فَخَلَقَ الصُّورَ عَلَى فِي إِسْرَافِيلَ وَهُوَ شَاخْصٌ بَصَرَهُ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ.

وهذا خبر قوي عن عكرمة

وقد ذكر الطبري في تفسيره أن الأخبار في ذلك متواردة ومتضافرة

المسألة الثانية : مسألة عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم

كنت قديماً أظن أن هذا الخبر منكر وكنت أعارضه بينه وبين حديث ( إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك )

ثم تبين لي أن الخبر يبعد أن يكون منكراً لأن بكر بن عبد الله المزني أرسله

قال القاضي إسماعيل في فضل الصلاة على النبي 26 - حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ كَثِيرٍ أَبِي الْفَضْلِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، وَوَفَاتِي لَكُمْ خَيْرٌ، تُحَدِّثُونَ فَيُحَدَّثُ لَكُمْ فَإِذَا أَنَا مُتُّ عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُ خَيْرًا حَمِدْتُ اللَّهَ وَإِنْ رَأَيْتُ شَرًّا اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ»

وبكر تابعي عالم عامة شيوخه من الصحابة وحماد بن سلمة إمام لا يروي المنكر

والجمع بينه وبين خبر ( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) أن هذا الضرب من المحدثات لم تعرض عليه

ومن جمع بأن الخبر في المرتدين لذا لم تعرض أعمالهم على النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه بأن الخبر يدل على أن في المذادين مسلمين لقوله ( فلا أرى ينجو منهم إلا مثل همل النعم )

وأيضاً يرد عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أعوان الظلمة ( ولا يرد علي الحوض )

فإن قيل : أليس القبورية يحتجون به على شركهم

فيقال : أما أن هذا من حمقهم وجهلهم وقد أفردوا التصانيف في تصحيح الحديث وهو لا يرتقي إلى تعريف الحديث الصحيح أو الحسن في كتب المصطلح بل غايته أن يكون مرسلاً وزيادة ابن أبي رواد في حديث الملائكة السياحين شاذة قطعاً

والعجيب أنهم يضعفون العديد من الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرها ثم ينتصرون لحديث كهذا

وهم القائلون بأن العقائد لا تثبت بأخبار آحاد

وهذا الخبر لا يدل على قبورياتهم فإن غاية ما في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الإيمان ، وثبوت العذاب على كثير منهم يدل على أن استغفاره قد لا يرفع العذاب ، وليس في الخبر انه يقضي الحوائج

بل هذا الاستغفار كما قال ابن تيمية كاستغفار الملائكة لا يحصل بطلب طالب ولا يزيد بطلب طالب بل هو أمر مأذون به في البرزخ ليس مأذوناً بغيره

والنبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً لا يسأل ما لا يقدر عليه إلا الله ، وبعد الموت إنما يثبت له في البرزخ من الأعمال ما دلت عليه النصوص

قال ابن تيمية في الرد على البكري :" و إن كان قد جاء في الآثار عن السلف أن الموتى يدعون للأحياء و أن أعمالهم إذا عرضت دعوا لهم و أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للأمة فهذا كله هو فاعل له بأمر الله و أمره له في غير دار التكليف أمر تكوين لا يتصور مخالفة المأمور كما أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس و ليسوا مكلفين بذلك و كذلك استغفار الملائكة لبني آدم كما أخبر به القرآن وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم و الملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه   ومع هذا فلا يجوز لأحد أن يدعو الملائكة ولا يستغيث بهم ولا يطلب منهم ما أخبر الله به أنهم يفعلونه فإنها ذريعة إلى دعائهم من دون الله و الإشراك بهم   و كذلك دعاء الموتى من الأنبياء و الصالحين ذريعة إلى ذلك بخلاف سؤال أحدهم في حياته و حضوره فإن ذلك لا يفضي إلى عبادته من دون الله لأنه لو رأى أحدا يفعل ذلك نهاه إذ الأنبياء و الصالحون لا يقرون أحدا على الشرك مع قدرتهم على نهيه و إنما يعبد أحدهم بعد موته و كذلك الصلاة خلف أحدهم من أفضل العبادات في حال حياتهم و بعد موتهم لا يجوز أن يصلى خلف قبورهم ولا أن تتخذ قبورهم مساجد ولا تستقبل في الصلاة كما في حديث أبي مرثد الغنوي لا تجلسوا على القبور و لا تصلوا إليها رواه مسلم لأن ذلك ذريعة إلى الشرك و اصل الشرك إنما نشأ من القبور كما في الصحيح عن ابن عباس و الملائكة لا يراهم الناس فلهذا لا يطلب منهم الحوائج   و أيضا فما تفعله الملائكة و الأنبياء بعد الموت هو أمر محدود يفعلون منه ما أمر الله به لا يزداد بسؤال السائلين فليس في سؤالهم إياه منفعة بل مضرة فنهى عنه لأنه شر لا خير فيه فصار بمنزلة أن يطلب الرجل من الشمس أن تصحبه و من الريح أن تهب و نحو ذلك   و كذلك كل ما يؤمر بأمر تكوين لا يحتاج أن يطلب فإنه فاعله طلب أو لم يطلب و ما لم يأذن به الله فهو لا يفعله طلب منه أو لم يطلب بخلاف الشفاعة يوم القيامة فإن الناس يسألونه و سؤال الحي الحاضر يجوز في الدنيا و القيامة و إن كان الميت يسمع الكلام كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أهل القليب ما أنتم بأسمع لما أقول منهم
  و ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الميت ليسمع قرع نعالهم حين يتولون عنه مدبرين   و قال صلى الله عليه وسلم ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام رواه أبو عمر ابن عبد البر و صححه
و الشيء الذي لم يشرع تارة لا يشرع لعدم المنفعة فيه و تارة لوجود المضرة فيه و تارة لرجحان المضرة على المنفعة إذا اجتمعا   و أما ما ترجحت مصلحته على مفسدته و منفعته على مضرته فإن الشارع لا يهمله إذ الشارع مبعوث بتحصيل المصالح و تكميلها و تعطيل المفاسد و تقليلها كما قد بسط في غير هذا الموضع   وقد كان السابقون الأولون لا يكفلونه هذه الأثقال ولا يلحفون عليه في السؤال وهم أعظم قدرا و أعلى منزلة أفتراهم ما كانوا يعرفون ما له من الجاه و المنزلة أم لم يعلموا أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم و خير البرية حتى نبغ نابغة من أهل الجهل و الضلال المبتدعين فعكسوا الأمر كما عكسه من أشبهوه من النصارى فجعلوا معصيته طاعته و مخالفته اتباعا و تكريما و جعلوا كل ما يعلو به درجته خفضا و نقصا و جعلوا الشرك بالله دينا و قربة و جعلوا إخلاص الدين لله و ابتغاء الأجر و الثواب منه و الرغبة إليه دون غيره من فعل أهل الكفر الملحدين و الله تعالى هو الذي ينصر رسله و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد   فليتدبر العاقل فعل من بدل دين الله و سلك سبيل المرتدين المنافقين الذين يجعلون الإيمان كفرا و السنة بدعة و الكذب صدقا و الباطل حقا و أولياء الله أعداءه و جند الله جند الشيطان كل ذلك مضاهاة لأهل الشرك و البهتان  
فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع خطاب البعيد والقريب  
قيل ليس في هذا الحديث المعروف ما يدل على التسوية بين    القريب و البعيد في سمع خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك المعروف في هذا الباب من الأحاديث يبين ذلك ففي السنن حديث أوس بن أوس رضي الله عنه الذي رواه أبو داود و غيره ورواه ابن حيان في صحيحه و الدارقطني في سننه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم و فيه قبض و فيه النفخة و فيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك و قد أرمت قال يقولون بليت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء   و الحديث الذي رواه أحمد و أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا و صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني   و الحديث الذي رواه النسائي و ابن حيان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام و روى أبو يعلى في مسنده عن موسى بن محمد بن حيان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبيد الله بن نافع حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسين بن علي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا في بيوتكم و لا تتخذوها قبورا و لا تتخذوا بيتي عيدا صلوا علي و سلموا فإن صلاتكم و سلامكم يبلغني أينما كنتم   و روى الروياني في مسنده و البزار و غيرهما عن نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري قال قال لي عمار بن ياسر قال نبي الله صلى الله عليه وسلم يا عمار إن لله ملكا أعطاه أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فلا يصلي علي أحد صلاة إلا سماه باسمه و اسم أبيه فقال صلى عليك فلان كذا و كذا فيصلي الرب على ذلك المصلي بكل واحد عشرا   وقال أبو أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال ليس أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك فلان يصلي عليك كذا و كذا صلاة و قال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحراث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة و إن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ قال قلت و بعد الموت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء   فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة و السلام يعرضان عليه و إن ذلك يصل حيثما كنا   و في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام   و هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه العلماء كأحمد و أبي داود و غيرهما في السلام عليه عند قبره وهو الذي اعتمد في زيارة قبره إذ لم يكن معهم سنة يستندون إليها في زيارة قبره إلا هذا الحديث وبقية الأحاديث التي رويت في زيارة قبره ضعيفة بل موضوعة أكثرها وضعت بعد أحمد و أمثاله   فهذه النصوص تدل على أنه يسمع سلام القريب و يبلغ سلام البعيد و صلاته لا أنه يسمع ذلك من المصلي المسلم و إذا لم يسمع سلام البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب و استغاثته بطريق الأولى و الأحرى و النص إنما دل على أن الملائكة تبلغه الصلاة و السلام   و الحديث الذي فيه ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام فهموا من هذا الحديث السلام عليه عند قبره خاصة فلا يدل على البعيد   ثم نقول لا يخلو إما أن يكون الحديث عاما في سلام البعيد و القريب و إما أن يكون خاصا بالقريب فإن كان الثاني فلا حجة فيه على سماع خطاب البعيد بغير واسطة تبليغ الملائكة و إن كان الأول فالحجة فيه أضعف من وجهين   أحدهما أنه حينئذ لا يبقى السلام عند قبره بخصوصه حديث ولا سنة أصلا بل لا يبقى فرق بين السلام عليه من القريب و البعيد كما لم يفرق بين الصلاة من القريب و البعيد   لكن هذا خلاف ما عرف من السنة و خلاف ما عليه الأئمة من استحباب السلام عليه عند قبره فإنه قد سن إذا زار القبور زائر مطلقا أن يسلم عليهم و كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم و يدعو لهم فكيف لا يسلم على الميت عند قبره   و قد كان الصحابة يسلمون عليه عند قبره وقد كان ابن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت رواه مالك عن نافع عنه و رواه أحمد و غيره   الثاني إن الذي في الحديث أن الله يرد عليه روحه ليرد السلام وهذا قد يكون بتوسط تبليغ الملائكة وقد يكون بمباشرته هو سماع المسلم و إذا احتمل الأمرين فتعيين أحدهما مما يفتقر إلى دليل و الأحاديث المتقدمة تدل على أن صلاة البعيد و سلامه معروض عليه مبلغ إليه بواسطة الملائكة و ذلك ينفي السماع مباشرة من غير تبليغ فإن كان يسمع كلام المخاطب بنفسه لم يحتج إلى واسطة   و المقصود هنا أن هذا المحتج لم يحرر أدلته تحريرا ينفي عنها الإجمال و الالتباس حتى يتبين ما فيها من الضلال و الإضلال لجميع الناس فإن قوله كل من سأل كلام مجمل أيريد به على كل من سأل الله بالمتوسل به تفريج كربة أو على من سأل الله و سأل المتوسل به أن يسأل الله أو على كل من سأل المستغاث به تفريج الكربة"

وهذا كلام حسن فيه دفع الشبهة والاحتراز للآثار

فإن قيل : أليس الخبر مرسلاً والمرسل ليس بحجة ؟

فيقال : هناك فرق بين قولنا مرسل ليس بحجة وقولنا متنه منكر والتراجع عن الثاني ، ثم إن متن هذا الخبر ليس مدفوعاً لأنه تكلم به تابعي فقيه ورواه أئمة فضلاء وله نظائر من آثار أن الموتى يستغفرون لأقاربهم رواها ابن أبي الدنيا فبهذه القرائن قلت ما قلت ، وأما الجهمي الذي ينكر أثر مجاهد وقد اجتمع فيه ما هو أعظم من هذا بل ينكر الكثير من أخبار الصفات وفيها حديث الجارية أنى له الكلام بمثل هذه القرائن

المسألة الثالثة : تزاور الموتى

قد سبق لي أن كتبت بحثاً في تضعيف أخبار تزاور الموتى في أكفانهم التي وردت مرفوعة وهذا حق

ولكن ينبغي الكلام على العقيدة نفسها فقد استنكرت متن الخبر وهذا غلط وما ينبغي

وقال عبد الرزاق في المصنف 6208 - عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ «مَنْ وَلِيَ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ وَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ»

وابن سيرين تابعي فقيه ولا يروي إلا عن ثقة وعامة رواياته عن الصحابة فقوله بلغني يغلب على الظن أنه بلاغ صحابة

نعم هناك أخبار بأن أرواح المؤمنين في الجنة ولكن قد تتصل بالأجساد كما في سؤال الملكين على هيئة لا يعلمها إلا الله

وقد يكون هذا التزاور خاصاً ببعض أهل الإيمان دون بعض

وبعد هذا ليعلم أنه لا بد للإنسان من المراجعة المستمرة والتعلم الدائم

ليصحح ما وقع منه

وأما أن تجعل هجيرك تعقب بعض المعاصرين والانتفاخ بذلك ، أو البحث عمن خالف في بضع مسائل أنت حررتها لتقنع نفسك بأنك أعلم الجميع أو تضفي على نفسك لقب التجديد كما فعله بعضهم فهذه خساسة همة وسوء طوية

وليعلم أن عصرنا هذا هو عصر الرويبضات بامتياز فكل يوم يظهر لك أحد بمقالة غريبة

فمن منكر لصيام عاشوراء وآخر منكر لصيام عرفة وآخر ينكر صيام عشر ذي الحجة ، وآخر ينكر المنع من أخذ الأظفار والشعر لمن أراد أن يضحي ، وآخر يكفر ابن تيمية وابن عبد الوهاب وآخر يريد أن يثبت لله صفة الأذنين  غير الإنكار لبعض الثوابت المعلومة انبطاحاً للغرب ، غير الإغراب بطريقة العرض

والسبب يلخص فيما روى أبو داود في سننه 4611 - حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ عَائِذَ اللَّهِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ عُمَيْرَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ حِينَ يَجْلِسُ إِلَّا قَالَ: «اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ»، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَوْمًا: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ، وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ، وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ "، قَالَ: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: «بَلَى، اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مَا هَذِهِ، وَلَا يُثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا»، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يُنْئِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَكَانَ يُثْنِيَنَّكَ، وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي هَذَا: الْمُشَبِّهَاتِ، مَكَانَ الْمُشْتَهِرَاتِ، وَقَالَ: لَا يُثْنِيَنَّكَ كَمَا قَالَ عُقَيْلٌ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ بَلَى مَا تَشَابَهَ عَلَيْكَ مِنْ قَوْلِ الْحَكِيمِ حَتَّى تَقُولَ مَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ

واليوم في زمننا انتشرت وسائل التواصل وصارت الشهرة مغرية وصار هناك من يبحث عنها بهذه الأمور

فإن قيل : إننا نرى كاتب هذه السطور له مقالات يستغربها الناس

فيقال : أما إن هذه المقالات كانت هي المشهورة في زمن السلف ، والفارق بيني وبين غيري أنني أدفع المشهور المعاصر نصرة للمشهور السلفي بخلاف من يدفع المشهور في كل زمان

والقوم الذين أعنيهم على ضربين

ضرب ليس زنديقاً محضاً ولكنه يتطلب الإغراب ليظهر في ركام التصانيف المعاصرة وقد أغراه ما حصل لبعض المعاصرين من الشهرة بسبب بعض المقالات الغريبة كتحريم الذهب المحلق

وهؤلاء تجد المرء منهم أول بحث يبحثه يضرب إجماعاً أو يستنكر حديثاً صححه الأئمة ويزري على ابن حنبل بل وعموم الأئمة

ولو كان فيه غيرة حقاً على الدين لنظر في الزنادقة الذين يطعنون فيه ليل ولم يتعب نفسه بأبحاث غايتها راجح ومرجوح وهو مخالف لعموم أئمة السلف

وهناك ضرب آخر منهزم أمام القيم الغربية

فإن قيل : ما بينة دعواك أنه منهزم

فسأقول لك : هل وجد في أمة الإسلام من ينكر حد الردة وجهاد الطلب وتغطية المرأة وجهها قبل الاستعمار وتقسيم الدول الإسلامية ؟

ولماذا التركيز على هذه العناوين هذه الأيام فحسب لما زرع الكيان الصهيوني بيننا

الأمة كانت مترامية الأطراف على ثلاث قارات ووجد فيها من قال بمقالات كثيرة خبيثة ولكن لم يختلفوا في الردة والرجم وزواج النبي من عائشة في سنها ذاك كما لا يختلف النحويون في أن المفعول المطلق ينصب

وبعضم يحاول اختلاق خلاف ولكنه غير موجود أو منقرض ، أو بابه غير باب الخلاف فما روي عن الأزارقة من إنكار الرجم كان مبنياً على عدم الثقة بالصحابة وتكذيبهم وإنكار الأزارقة للرجم يدل على وجود الرجم في وقتهم ، والصحابة كانوا موجودين وكانوا مع الطرف الراجم ، فالأزارقة يقولون بأن قاذف المحصن لا يحد لأن الآية في قاذف المحصنة

فبابهم الجمود وتكذيب السنن مع عدم بلوغها لجهلهم وعدم تطلبهم لها لا استقباح الأمر خضوعاً للثقافة الغربية والناس متفقون على تواتر أحاديث الرجم من جميع الطوائف بعد انقراض الأزارقة

وكذا القول بأن اليهود والنصارى سيدخلون الجنة ، وأنه لا يحكم عليهم بالنار إنما ظهر بعد الاستعمار

فالوقوف مع النص موقف عقلاني لأن المزاج الغربي العام واضح في التأثير على مقالات الناس ، ومعلوم أن الذين قسموا بلداننا وزرعوا بيننا دولة اليهود هم أيضاً من وضع الكثير من مناهجنا ولا زالوا إلى اليوم يشرفون على الحياة في بلداننا ويضمنون فيها مستوى معيناً لا يحق لنا تجاوزه

فالناس على مدى ثلاثة عشر قرناً كانت لهم عقول وفطر ونظر في النصوص فلماذا بعد الاستعمار فحسب وتقسيم بلداننا تظهر مقالات معينة

وعند حاملي هذه المقالات مثلث الهدم الذي يمكن من خلاله نصرة أي قول

الضلع الأول : التلاعب في الاستدلال فالاحتجاج بما شاءوا من الأحاديث والأخبار مهما كانت ضعيفة ، وإنكار ما شاءوا من الأحاديث مهما اتفق الأئمة على تصحيحها وتوارد الناس على روايتها وتقويتها بإيراد اعتراضات قد تمت الإجابة عنها وربما تجد الاعتراض ينطبق على حديث ولا ينطبق على آخر في الباب نفسه

وهذه ليست طريقة هؤلاء بل طريقة المنصرين والروافض والملاحدة

ولا زلت أذكر منصراً كان ينكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقب بالصادق الأمين قبل الوحي ، مع أن هذه الحجة أشير إليها في القرآن في قوله (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

فلما أوردوا له أخباراً عديدة متعاضدة في أن المشركين عند بناء الكعبة قالوا ( جاء الأمين ) في النبي صلى الله عليه وسلم

وذكروا له خبر أبي سفيان مع هرقل وذكروا له قول الناس للنبي لما جمعهم وقولهم ما جربنا عليك كذباً قط

بدأ يتنطع ويتكلم في العلل الدقيقة فأعل خبراً بهلال بن خباب ! لأنه صدوق يغلط

ومعلوم أن أخبار السيرة يتسامح فيها وحديث هلال مقبول لأنه اعتضد بمراسيل ولا نكارة فيه ، ثم تجد هذا المنصر إذا احتاج يحتج بالأخبار التي لا ترتقي إلى قوة هذا الأثر كخبر الزهري المرسل في محاولة النبي صلى الله عليه وسلم التردي من فوق جبل لما انقطع عنه الوحي في بداياته ، ويحتج أيضاً بأخبار تنصر عبيد الله بن جحش وكلها أسانيدها واهية

فهذا المنصر مثله مثل عدنان إبراهيم الذي إذا أراد ثلب معاوية احتج بأكاذيب المؤرخين ثم ينكر الأحاديث الصحيحة المتصلة في الرجم والشهادة لأهل بدر بالجنة ونزول المسيح ابن مريم وغيرها كثير

الضلع الثاني : خرق الإجماعات وعدم الاعتداد بتواطؤ العلماء على شيء

وإظهار من يأخذ بإجماع العلماء الذي تواردوا عليه بصورة المقلد لرجل لا عصمة له مع الفرق الظاهر بين اتفاق العلماء وقول عالم مفرد خالفه غيره

ولو قلت : أن الكسائي وسيبويه والأخفش والفراء كلهم خالفوا اللغة الصحيحة ، ثم قلت لك أنه خالفوا مباديء اللغة ! ثم قلت لك أنهم مع هذه المخالفة ما نبه أحد على هذه المخالفة وما انتبه لها على مدى أربعة عشر قرناً أحد غيري

فلا شك أنك ستقول عني مجنون

في الحقيقة هذا ما يقوله عدنان إبراهيم في بعض خطبه عن الفقهاء والمحدثين وعامة العلماء في العديد من المسائل وربما اخترع لنفسه سلفاً لو بحثت فستجد أنه يدلس

فحين ينص الزجاج وابن حزم وعبد القاهر البغدادي وابن تيمية على تواتر أحاديث الرجم ويفتي بها جميع الفقهاء ولا يخالف أحد في ذلك ، ويتفق المفسرون أن تحريف اليهود الذي ذكر في القرآن هو إخفاؤهم لآية الرجم

ثم يأتي شخص ويقول الرجم يخالف قطعيات قرآنية !

فهذا يتكلم بغير المعقول فالقطعيات القرآنية قد تخفى على واحد واثنين ولكن لا تخفى على آلاف العلماء والمشتغلين من مختلف الملكات والمذاهب والنحل على مدى قرون ، ومعلوم أن هناك من كان مقلداً ولكن كان هناك عشرات المجتهدين

فهذا كمن يقول لك رأيت طائفة من النساء الطاهرات العفيفات يخرجن عرايا في الشارع دون علة في عقولهن أو إكراه، ولم يستغرب أحد ذلك أو يسأل عن سببه أو يستنكره

فهذا سيكون جنوناً وهذا الجنون يلقنونه لأتباعهم

الضلع الثالث : التفسيرات الباطنية والمتكلفة لآيات القرآن الكريم

وبهذه الأضلاع الثلاثة ننتهي إلى مثل ما ينتهي إليه الملحد

فالكافر اللاديني أو الملحد يحاول التحلل من الشرائع ويأتي بعض الناس تأثراً بالثقافة الإباحية فيستخدم هذا المثلث للوصول إلى تحلل مشروع

لهذا تكثر الأبحاث في إباحة الغناء وإتيان المرأة في الدبر وتعطيل جهاد الطلب والمقام في ديار الكفر وتعطيل الولاء والبراء

والانتهاء إلى التسوية بين كل الأديان بالقول بأن الجنة ليست حكراً على دين معين

ولو قرأت في مباديء الماسونية لوجدت أن هذا هو ما يريدون كخطوة أولية

بل في الواقع أننا نجد الكافر الغربي أعز بكثير من المسلم العربي في بعض البلدان كبلدان الخليج مثلاً فالمسلم العربي يعير بأنه ( مصري ) أو ( سوري ) وتجد كل التقدير والتوقير للأمريكي والبريطاني وذلك يكون بحجة دعوته للإسلام ، ولا أدري إذا كان سيدخل الجنة مسلماً أو غير مسلم فلماذا تدعوه للإسلام وربما إذا أسلم ولبس كما يلبس المسلمون فلعلك تظنه شامياً فتحتقره !، ثم إذا كان أمر الإسلام يهمك فأخوة الإسلام تفرض عليك ألا تتكبر على إخوانك

نعم هذا ليس في كل الناس ولكنه كثير وغالب ، أذكر هذا لأبين أن القوم تركوا الولاء والبراء الشرعيين واستبدلوها بجاهليات

والرجعية حقاً ما يدعوننا إليه فقد عدنا في كثير من أحوالنا إلى ما قبل الإسلام فقبل الإسلام كنا تبعاً لفارس والروم ونقتتل فيما بيننا ولا يجمعنا إمام والنساء لا يحتجبن ، وتفرقنا العصبيات

فهذه هي الرجعية حقاً وإنا لله وإنا إليه راجعون
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي