مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تعقيب على عبد الله الشهري في مسألة التكفير

تعقيب على عبد الله الشهري في مسألة التكفير



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

غرد المشرف العام على مركز براهين عبد الله الشهري بما يلي :  من أجمع وأحسن ما قيل في ضبط مسألة التكفير، مع بيان مأخذ المسرفين فيه

ثم نقل كلاماً لابن دقيق العيد هذا نصه :" وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ وَسَبَبِهِ ، حَتَّى صُنِّفَ فِيهِ مُفْرَدًا ، وَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ النَّظَرُ فِي هَذَا : أَنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ : هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَا ؟ فَمَنْ أَكْفَرَ الْمُبْتَدِعَةَ قَالَ : إنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ فَيَقُولُ : الْمُجَسِّمَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا جِسْمًا ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُمْ عَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ كَفَرَ ، وَيَقُولُ : الْمُعْتَزِلَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِأَحْكَامِ الصِّفَاتِ - فَقَدْ أَنْكَرُوا الصِّفَاتِ وَيَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ إنْكَارُ أَحْكَامِهَا ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَحْكَامَهَا فَهُوَ كَافِرٌ .
وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ تَنْسِبُ الْكُفْرَ إلَى غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْمَآلِ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، إلَّا بِإِنْكَارِ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ عَنْ صَاحِبِهَا ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلشَّرْعِ ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْقَوَاطِعِ مَأْخَذًا لِلتَّكْفِيرِ وَإِنَّمَا مَأْخَذُهُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ السَّمْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ طَرِيقًا وَدَلَالَةً"

ووصفه بأنه من النفائس

وهذا الكلام فيه إنكار على من كفر المعتزلة خلافاً لإجماع السلف في ذلك

قال ابن القيم كما في مختصر الصواعق المرسلة :" فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْأُخُوَّةَ الَّتِي بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّعْطِيلِ فَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: هَذَا الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ هُوَ الْقُرْآنُ حَقِيقَةً لَا عِبَارَةً عَنْهُ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ"

وقال البخاري في خلق أفعال العباد وهو يتكلم عن الجهمية ومنهم المعتزلة 34- نَظَرْتُ فِي كَلاَمِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَضَلَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ ، وَإِنِّي لَأَسْتَجْهِلُ مَنْ لاَ يُكَفِّرُهُمْ إِلاَّ مَنْ لاَ يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ.

قال شيخ الإسلام في درء التعارض (3/61) :" قلت : وكلام السلف والأئمة في تكفير الجهمية وبيان أن قولهم يتضمن التعطيل والإلحاد كثير ليس هذا موضع بسطه

 وقد سئل عبد الله ابن المبارك و يوسف بن أسباط فأجابا بما تقدم

 وقد تبين أن الجهمية عندهم من نوع الملاحدة الذين يعلم بالاضطرار أن قولهم مخالف لما جاءت به الرسل بل إنكار صفات الله أعظم إلحادا في دين الرسل من إنكار معاد الأبدان فإن إثبات الصفات لله أخبرت به الرسل أعظم مما أخبرت بمعاد الأبدان

 ولهذا كانت التوراة مملوءة من إثبات صفات الله وأما ذكر المعاد فليس هو فيها كذلك حتى قد قيل : إنه ليس فيها ذكر المعاد

 والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدرا من آيات المعاد فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك"

قال شيخ في درء التعارض (7/27) :" وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك كالعلم بالأكل والشرب في الجنة والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب والعلم بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع

 والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين قد يقال إنه يحتمل التأويل ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة

والحوض والميزان وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة وسجود السهو ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها ومنع ميراث القاتل ونحو ذلك مما تلقاه عامة الأمة بالقبول

 ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري"

فهنا الشيخ ينقل الاتفاق على تكفير منكر العلو وهذا كالإجماع المنقول على تكفير من يقول بخلق القرآن  _ والمعتزلة الذين نافح عنهم ابن دقيق العيد كذلك _

فابن دقيق العيد إنما يتكلم عن السلف ويرد على السلف ، وكلامه متناقض فالمعتزلة أنكروا متواترات في باب الصفات كالعلو والرؤية وأنكروا عذاب القبر وكثير منهم أنكر الدجال فهذه كلها متواترات

والواقع أنهم لم يكونوا بسطحيته بل فهموا حقيقة مقالات الجهمية

فقول الجهمي أن الله لا داخل العالم ولا خارجه أو في كل مكان هو في الحقيقة إعدام للرب ، وقولهم بأنه لا يتكلم وأن كلامه مخلوق إشارة إلى أنه من اختلاق البشر ولهذا نص ابن تيمية أنه لا يشك أن مؤسسي الجهمية ومنهم المعتزلة زنادقة

قال ابن عبد البر في الانتقاء حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ قَاسِمٍ نَا الْحسن بن رَشِيقٍ قَالَ نَا مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الْخَيَّاطُ قَالَ نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأَصْبَهَانِيُّ بِمَكَّةَ قَالَ سَمِعْتُ الْجَارُودِيَّ يَقُولُ ذُكِرَ عِنْد الشَّافِعِي ابراهيم ابْن اسماعيل بن عُلَيَّةَ فَقَالَ أَنَا مُخَالِفٌ لَهُ فِي كُلِّ شئ وَفِي قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ لَسْتُ أَقُولُ كَمَا يَقُولُ أَنَا أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ تَكْلِيمًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَذَاكَ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كَلامًا أَسْمَعَهُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ

وقد نقل هذه الكلمة عن الشافعي على وجه ابن تيمية في غير مناسبة وتلميذه ابن القيم

وكلمة الشافعي هذه هي عين ما سماه الشهري إسرافاً في التكفير وانتقده ابن دقيق العيد

وهذه هي مغبة النظر في كتب أهل البدع دون وجود التأصيل الكافي الذي حذرت منه مراراً وتكرارً ولا زلت أفعل

وقد تكلم ابن تيمية في عقيدة ابن دقيق العيد في شرح العقيدة الأصبهانية حيث سماه ب( القشيري ) شهرته آنذاك وذكر أنه يسير على أصول الفلاسفة لا أصول المتكلمين ولا أهل الحديث وقد أفردت كلام ابن تيمية في مقال مستقل

ويقبح بالمرء أن يحارب الإلحاد الصريح الغبي الساذج ويدافع عن أهل الإلحاد الملتف والمغلف

تنبيه : قد كتب الأخ عبد الله الشهري تعقيباً ذكياً على ما كتبته في نقده ، من أراده فليراجعه في صفحته في تويتر وهي أشهر من مدونتي فيما أحسب 

وتعقيبي على تعقيبه أن سوء التمثيل مع صحة الفكرة لا يعفيها من النقد بل إن سوء التمثيل يشوه الفكرة الصحيحة 

مبحث هل لازم المذهب مذهب أم لا مبحث دقيق ليس هذا محله ، وهناك فرقاً بين لازم المذهب وحقيقة المذهب 

فابن تيمية وصف الرازي وابن عربي أنهما جحدا وجود رب العالمين ، والرازي لا شك أنه لا يصرح بذلك ولكنه حقيقة مذهبه 

وكذلك عند الكلام على مذاهب الرافضة وكونها طعناً مباشراً في الرسول صلى الله عليه وسلم 

ولي تعقيب كتبته قديماً على من ادعى أنه لا يكفر إلا منكر المتواتر 

وقد قال ابن تيمية في الدرء أن من زعم أن في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف فلم يؤمن بالرسول حقاً 

فعند الكلام على الغلو في التكفير ثم يمثل بفرقة من أكفر الفرق هذا غلط كبير 

وبالنسبة لمسألة المساعي المشكورة لبعض أهل البدع فلا يكون في باب تأصيلهم لمسائل كبار يغلطون فيها في التأصيل أو التمثيل 

وابن تيمية لا يجوز الاجتزاء في أقواله 

فخذ مثلاً قوله في الدرء  (5/257) :" وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب وطريق هؤلاء تناقضه علم بالضرورة من دين الإسلام أن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته
 وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين بل يفيد الشك والحيرة علم أنها فاسدة في العقل كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع
 وهذا كله بين لمن تدبره والأمر فوق ما أصفه وأبينه وهذا الموضع لا يحتمل البسط والإطناب ولا ريب أن موجب الشرع أن من سلك هذه السبيل فإنه بعد قيام الحجة عليه كافر بما جاء به الرسول
 ولهذا كان السلف والأئمة يتكلمون في تكفير الجهمية النفاة بما لا يتكلمون به في تكفير غيرهم من أهل الأهواء والبدع وذلك لأن الإيمان إيمان بالله وإيمان للرسول فإن الرسول أخبر عن الله بما أخبر به من أسماء الله وصفاته ففي الإيمان خبر ومخبر به فالإيمان للرسول تصديق خبره والإيمان بما أخبر به والإقرار بذلك والتصديق به
 ولهذا كان من الناس من يجعل الكفر بإزاء المخبر به كجحد الخالق وصفاته ومنهم من يجعله بإزاء الخبر وهو تكذيب الرسول
 وكلا الأمرين حق فإن الإيمان والكفر يتعلق بهذا وبهذا"


وقوله أيضاً :"  قلت وكلام السلف والأئمة في تكفير الجهمية وبيان أن قولهم يتضمن التعطيل والإلحاد كثير ليس هذا موضع بسطه "

فتأمل قوله ( يتضمن التعطيل والإلحاد) وكيف أن كثيراً من الناس يعتبره من باب التكفير باللازم 

 
ال ابن تيمية في التسعينية (2/577_581) :" ولهذا لما قال له _ يعني للإمام أحمد _ الأثرم فمن قال : القرآن مخلوق وقال لا أقول أسماء الله مخلوقة ولا علمه ، لم يزد على هذا أقول : هو كافر ، فقال : هكذا هو عندنا ، ثم استفهم استفهام المنكر : فقال : نحن نحتاج إلى أن نشك في هذا ؟ القرآن عندنا فيه أسماء الله وهو من علم الله فمن قال مخلوق فهو عندنا كافر
فأجاب أحمد : بأنهم وإن لم يقولوا بخلق أسمائه وعلمه فقولهم يتضمن ذلك ، ونحن لا نشك في ذلك حتى نقف فيه ، فإن ذلك يتضمن خلق أسمائه وعلمه ، ولم يقبل أحمد قولهم ( القرآن مخلوق ) وإن لم يدخلوا فيه أسماء الله وعلمه ، لأن دخول ذلك فيه لا ريب فيه ، كما أنهم لما قالوا القرآن مخلوق ، خلقه الله في جسم ، لكن هو المتكلم به لا ذلك الجسم لم يقبل ذلك منهم ، لأنه من المعلوم أنه إنما كلام ذلك الجسم لا كلام الله ، كإنطاق الله لجوارح العبد وغيرها ، فإنه يفرق بين نطقه وبين إنطاقه لغيره "

فتأمل كيف أن الجهمي ينص على عدم التزامه بحقيقة قوله أحمد يكفره ويعتبره متلاعباً وابن تيمية يقر ذلك 
 

وقوله أيضاً :"  ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري "

وقد فرق ابن القيم في الكافية الشافية بين اللازم الظاهر واللازم الخفي وهذا يحل الإشكال والله أعلم 

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي