الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
قال الإمام ابن تيمية _ رحمه الله _ في
درء تعارض العقل والنقل (7/308) :" علم صفات الرب سبحانه وأسمائه فإنهم يسمون
ذلك علم التوحيد وذلك مما يمكن معرفته بالشرع فإنه يعلم بالفطرة وبالعقل إثبات
الصانع على طريق الإجمال وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع "
هذا النص هام جداً في أن معرفة الله عز
وجل وعدد من صفاته كالعلم والحكمة والقدرة يعلم بالفطرة والعقل غير أن تفاصيل
الأسماء والصفات لا يعلم إلا بالسمع ، ولو كان كل حقائق التوحيد تعرف بالعقل
والفطرة فقط لما احتاج الناس إلى الأنبياء
ولهذا إذا استقر في ذهنك ضرورة وجود الله
عز وجل وعلمت حكمته وقدرته وعلمه فإنك إذا جهلت شيئاً من أمر الحكمة في المخلوقات
أو النصوص ولم تفهمه فكله إلى عالمه ، فإن هذا اختبار أهل الإيمان واليقين لا يزول
بشك وهذا ما سلكه الملائكة ، وأما من جهل بعض الحكمة فجعل جهله حاكماً على كل ما
يراه من صور الحكمة وخاصم رب العالمين فهذا منهج إبليس
قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ
آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسمائهم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بأسمائهم قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)
فتأمل الفرق بين طريقة الملائكة وطريقة
إبليس
قد استيقن كل من الملائكة وإبليس ( وقد
كان منهم ) بوجود الله عز وجل وعلمه سبحانه
فلما استشكل الملائكة خلق آدم تأدبوا في
السؤال ولم يعترضوا وإنما استفسروا فلما أخبرهم سبحانه أنه يعلم ما لا يعلمون ،
سبحوه وذكروا أنفسهم أنه الحكيم الذي لا يفعل إلا لحكمة وأنه العليم الذي ما يفعل
وهذا منهج أهل الإيمان في كل زمان
وأما إبليس فلم يستفسر ولم يأبه بما ذكره
له رب العالمين من البرهان بل رأساً اعترض وقال ( أنا خير منه خلقتني من نار
وخلقته من طين )
وهذا منهج كل ملحد ومتكلم وآرائي
فالملحد يرى حكمة الله عز وجل في آلاف
الأشياء ويجهلها في شيء فيجعل جهله هذا سبباً لمخاصمة رب العالمين بجهله ، وكثير
ممن يزعمون عدم وجود الحكمة فيه كل ما في الأمر أنهم يجهلون الحكمة وإلا فهي ظاهرة
لأهل الإيمان أو تظهر فيما بعد ففي التشريعات تراهم يعترضون على تعدد الزوجات
ويسكتون على السفاح وتعدد الخليلات ويعتبرونه حرية شخصية ، ويعترضون على الجزية
التي لا تؤخذ إلا المقاتلين كل عام ، ولا يعترضون على الفوائد الربوية وعلى الضرائب
التي تؤخذ كل شهر من الرجل والمرأة وكل من يحظى بالخدمات
وفي أمر الخلق كانوا يزعمون أن الزائدة
الدودية لا فائدة منها ، حتى ظهر لها فائدة فرجعوا بخفي حنين
ثم انتهى الأمر بأكابرهم بالشك في كل شيء
فأفكارهم تفاعلات كيميائية كيف يوثق بها ، والحواس هي نتيجة تطور فربما تطورت أكثر
فظهر قصورها عن الإدراك فيما بعد فلا يوثق بها هي الأخرى
بل العجيب أنهم أنكروا ما تقتضيه الحكمة
من وجود يوم قيامة يحاسب فيه الظالم على ظلمه والكافر على كفره ، فما استفادوا من
اعتراضهم على الحكمة سوى تقنيط المظلوم واليأس من جود قيمة للحياة
وأما أهل الكلام فآمنوا بالشريعة إجمالاً
ثم أدخلوا العقل في غير مجاله فإن الإيمان بوجود الله وبصحة الوحي يقتضي التسليم
فيما تحار فيه العقول ولا تحيله ( إذ أن الشريعة لا تأتي بما يحيل العقول )
وقد هربوا إلى المباحثات العقلية فما
رفعوا خلافاً وما حصلوا يقيناً بل قالوا كلاماً يناقض العقل كالكلام بغير حرف وصوت
وإنكار علو الله عز وجل على خلقه وضلوا في باب القدر والإيمان والنبوات ضلالاَ
بعيدا
وكان الواجب أن يصعنوا كما صنعت الملائكة
حيث أنهم لما لم يعقلوا الحكمة علموا أن الحكيم العليم لا يفعل إلا لحكمة ولو
جهلوها
ونصوص الصفات لا تعارض العقل أبداً ومن
أحسن ما صنع ابن تيمية ذلك التحقيق النفيس في اتساع الأدلة العقلية والنقلية في
درء التعارض والذي لخصه ابن القيم كما في مختصر الصواعق ، وقد حقق ابن تيمية في
الدرء أن أدلتهم العقلية كلها تنقض قولهم من حيث لا يشعرون
وأما أهل الرأي وهم أقل القوم ضلالاً على
أن ضلالهم بعيد أيضاً رأوا في بعض الأحكام بعقولهم القاصرة فردوا بعض الأخبار بحجة
أنها تخالف القياس ، ثم تناقضوا وأقروا بأخبار ضعيفة تخالف القياس كإيجاب الوضوء
من القهقهة ، وإجازة الوضوء بالنبيذ
وقد بسط ابن القين في إعلام الموقعين
فصلاً نفيساً في أنه لا يوجد حكم في الشرع يخالف القياس وجاء على كل أمثلتهم التي
يدعونها وأفسدها
وهؤلاء رأوا اتساق الشريعة في عامتها ثم
جاءوا إلى أحكام لم يفهموا وجهها وادعوا أنها تخالف القياس وردوها
كل ذلك جرياً على سنن إبليس ولهذا كان فقه
السلف عميقاً لما قالوا ( أول من قاس إبليس ) يعني القياس الفاسد المعارض للنص
وجميع هؤلاء خلطوا بين مجال العقل والفطرة ( وهو المعرفة الإجمالية ) ومجال الوحي ( وهو المعرفة التفصيلية ) فأدخل هذا على ذاك على أن العقل السليم والفطرة السليمة لا تعارض الوحي ، ولكن إدخال العقل فيما ليس له معرفته إلا بالوحي من قبيل اتلافه بتكليفه ما لا يطيق وبابه فهم الوحي لا الحكم عليه لذا كانت حيرة المتكلمين والفلاسفة عنواناً بارزاً في حياتهم
وجميع هؤلاء خلطوا بين مجال العقل والفطرة ( وهو المعرفة الإجمالية ) ومجال الوحي ( وهو المعرفة التفصيلية ) فأدخل هذا على ذاك على أن العقل السليم والفطرة السليمة لا تعارض الوحي ، ولكن إدخال العقل فيما ليس له معرفته إلا بالوحي من قبيل اتلافه بتكليفه ما لا يطيق وبابه فهم الوحي لا الحكم عليه لذا كانت حيرة المتكلمين والفلاسفة عنواناً بارزاً في حياتهم
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم