الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فإن المتأمل لأحوال المقلدين ، يجد أن مسالكهم مبنية على تعسير الاجتهاد
، وتحجير فضل الله الواسع ، ودعوى أن النساء قد ثكلت عن إنجاب من له أهلية النظر في
نصوص ، ثم إنك تجد هؤلاء المقلدين يجتهدون في أبواب ما كان أئمتهم الذين يقلدونهم يجتهدون
فيها وبيان ذلك من وجهين
أولها : أنهم يجتهدون في تفضيل إمامهم الذي يقلدونه على غيره ، ودعوى أنه
أحق بالتقليد من غيره
وما من أحد من الأئمة المتبوعين ادعى هذه الرتبة لنفسه ، بل كل منهم يستدل
لأقوال نفسه ولا يستدل بها ، ويدعو لترك قوله إذا خالف الدليل
ولم يقل مالك ( أنا عالم المدينة الذي يجب اتباعه ) ولم يقل الشافعي (
أنا قرشي فأنا أولى بالاتباع من غيري )
ثم إن جمع فضائل الإمام ومحاولة الحط على غيره لإظهار أن الإمام أفضل منه
، عملية اجتهادية عسيرة ، أيسر منها النظر في النصوص الصحيحة ومذاهب العلماء فيها وترجيح
الأقرب إلى الدليل ، ولقد يسر الله عز وجل الذكر فهل من مدكر
وبهذا الوجه رد ابن عبد البر على المقلدة في عصره ، وقد نقل الشيخ عبد
الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كلام ابن عبد البر محتجاً به
قال الشيخ عبد الله كما في الدرر السنية (4/62) :" وقال أبو عمر بن
عبد البر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به، وخالفت السلف في ذلك؟ فإنهم لم يقلدوا.
فإن قال: قلدت، لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم أحصها; والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني.
قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على تأويل شيء من الكتاب، أو حكاية عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء، فهو الحق لا شك فيه
ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه
بعضهم، دون بعض؛ فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض، وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله
أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه.
فإن قال: قلدته لأني أعلمه على صواب، قيل له: علمت ذلك من كتاب الله، أو
سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع؟
فإن قال: نعم، أبطل التقليد، وطولب
بما ادعاه من الدليل؛ وإن قال: قلدته لأنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك،
فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً، ولا تخص من قلدته، إذ علتك فيه أنه أعلم منك.
فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس، قيل له: فهو إذاً أعلم من الصحابة، رضي
الله عنهم؛ فكفى بقول مثل هذا قبحاً; فإن قال: أنا أقلد بعض الصحابة، قيل له: فما حجتك
في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح
بفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه"
ومثل هذا يقال فيمن عكف على أحكام عالم معين في التصحيح والتضعيف وهجر
أحكام من سواه سواءً كان متقدماً أو متأخراً أو معاصراً
لماذا أخذت بأحكام هذا العالم دون من سواه وقلدته
فإن قال : لأنه أعلم مني
فيقال له : فقلد كل من هم أعلم منك لماذا تخص هذا بالمتابعة وإن خالف جمهور
من هم أعلم منك
فإن قال : أقلده لأنه أعلم من غيره
قيل له : المقلد جاهل والمفاضلة للعلماء وطلبة العلم المتمكنين ، وأقم
دليلاً على دعواك أنه أعلم من غيره
فإن أقام : نقض تقليده المبني
على ترك البحث والمباحثة والأخذ بأقوال هذا العالم مجردة دون استدلال لها ، وقد كان
أيسر عليه بدلاً من أن يجتهد في جمع الأدلة على أن هذا العالم الذي يقلده أعلم من غيره
، أن يبحث هو في كلام أهل العلم وينظر الأقرب للدليل ويقول به
ويقال أيضاً : هل معنى هذا أنه أعلم من أحمد وابن معين وأبي حاتم وأبي
زرعة والبخاري ومسلم والدارقطني وابن تيمية والذهبي وغيرهم ؟!
فإن قال : أنا أقلد العالم الفلاني لأن كلامه متيسر بين أيدينا
فيقال له : وكذلك كلام الأئمة خصوصاً بعد ظهور البرامج البحثية ، وكلام
المعاصرين على درجة متقاربة من الوضوح والبيان
الوجه الثاني : أن المقلدين يجتهدون في نصرة أقوال أئمة مذاهبهم بما لم
يرد عن أولئك الأئمة
فالإمام مثلاً يخالف حديثاً ثابتاً لأنه لم يبلغه ، فيأتي المقلد ويحاول
تأويل هذا الحديث بما يوافق المذهب ، أو ربما يأتي ويحاول تضعيفه ولو كان في الصحيحين
وانظر لمثل هذا كتاب ( النكت الطريفة ) للكوثري
وبعض الحنفية يرد بعض الأحاديث الثابتة بحجة أن راويها من الصحابة ليس
فقيهاً ، أو يدفع آثار الصحابة بحجة أنها لا تصلح أن تكون شرعاً مع أن إمامهم يبني
بعض الأبواب الفقهية على قول النخعي وقول الشعبي
وهذا الإمام مالك اشترط في أقل المهر أن يكون ( ربع دينار ) قياساً على
السرقة ، وورد عليه حديث سهل بن سعد في الصحيح ( التمس ولو خاتماً من حديد ) ، فتكلف
بعض المالكية تكلفات عجيبة في دفع دلالة هذا الحديث البينة على جواز الإمهار بأقل من
ربع دينار ، تجد هذه التكلفات في شرح البخاري لابن حجر نقلها عنهم وناقشها
والمراد بيانه هنا ، أن هذا الدفاع عن المذهب في حقيقته اجتهاد ، من أعلى
صور الاجتهاد وأكثره إرهاقاً ، فلماذا لا يجتهد هذا المتعصب في اتباع الدليل بدلاً
من الاجتهاد في نصرة المذهب؟ ، ما دام أن الله عز وجل قد من عليه بقدرة على الاستدلال
وترتيب الأدلة ومناقشة أدلة الخصوم
وعامة مماحكات المتعصبين لا أصل لها في كلام أئمتهم بل هي من اجتهادهم
وكدهم وتعبهم
وهكذا من يتعصب لبعض المعاصرين في باب التصحيح والتضعيف ، تجد هذا المتعصب
حريصاً على أن يجد زلةً في بحث من يخالفه في تقليده ، شديد التدقيق فيما يكتب
ثم هو بعد ذلك ، قوي العزيمة في ترقيع قول العالم الذي يقلده ، ولو بقواعد
لا يعرفها هذا العالم ولا يقر بها ، وربما أضرت هذه القواعد بقول هذا العالم في أماكن
أخرى
وما دام عنده القدرة على مراجعة أبحاث الناس ، ومناقشتها وبيان وجه الصواب
فيها والخطأ ، فهلا بحث هو طالباً للحق ملقياً لجلباب العصبية عنه جانباً
فإن قلت : ما موقع العامي من هذا كله ؟
فيقال : العامي لا مذهب له بل مذهبه مذهب مفتيه بل قدر أنه سكن في قرية
مفتيها شافعي ، كان شافعياً باعتبار أنه كلما سأل فيفتى بقول الشافعي ، فإذا انتقل
إلى قرية مفتيها حنبلي صار حنبلياً بالاعتبار السابق لهذا يقول المحققون ( العامي لا
مذهب له بل مذهبه مذهب مفتيه والمفتون يتعددون بحسب ما يتيسر له عند حاجته إلى الفتيا
)
ومن عجائب الاجتهادات ما بلغني أن بعض الإخوة يقعد أن العلماء إذا تكلموا
في منحرف بألفاظ معينة لم يجز لطالب العلم أن يزيد على هذه الألفاظ
وهذا القائل حريصٌ على ألا يزاد على أهل العلم وألا يتقدم بين أيديهم ،
غير أني أراه وقع فيما نهى عنه إذ أن هذه القاعدة ما سمعت عالماً تكلم بها !
ومن أعجب ما ترى ما اجتهادات المقلدين زعمهم أن هذا الشخص لا يصلح للاجتهاد
في المسألة الفلانية ، وهذا لا يصلح للبحث في الباب الفلاني
ولو جاءهم شخص وخاطبهم بلسانهم فقال ( تحديد من هو أهل ومن ليس بأهل وظيفة
الأئمة المجتهدين ، بل خاصة الأئمة المجتهدين إذ أنه داخل في الجرح والتعديل وكم من
ثقة لا يصلح للجرح والتعديل ، وأنتم لستم كذلك _ يعني لستم مجتهدين_ فالواجب عليكم
السكوت ) لكان جواباً مسكتاً !
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم