الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فقد ساءني وساء غيري من أهل السنة مقطع صوتي لأحد المشايخ يقول فيه أننا
إذا اختلفنا في تبديع حزبي، ما ينبغي أن تحدث فرقة وخصام، ويستدل لذلك بحديث الرجل
الذي قتل تسعة وتسعين نفسَا، وتاب وهاجر ومات في هجرته فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة
العذاب
فقال هذا الشيخ أن الملائكة اختصموا،
ومع ذلك لم يحدث ذلك فرقة !
وقد فرح أتباع الحلبي بهذا التقرير لأنه في حقيقته تقرير لقاعدة (خلافنا
في غيرنا لا يكون خلافاً بيننا)، والواقع أن هذا الاستدلال ليس إلا قياس ، فإن الحديث
الذي استدل به ليس نصاً في مسألتنا وإنما هو يقيس خلاف الملائكة في ذلك الرجل ، على
خلاف أهل السنة في تبديع رجل
والواقع أنه شاهد الجامع ( وهو
الاختلاف ) ولم يشاهد الفارق بل الفوارق بين الحالين فاجتمع في استدلاله أربعة أقيسة
فاسدة.
القياس الأول : قياس الحكم الدنيوي على الحكم الأخروي: هناك فرق بين الحكم
الدنيوي والحكم الأخروي ، فإن المرء قد يكون مصاناً من العقوبة في الدنيا معاقباً في
الآخرة كحال المنافق الذي لا يظهر نفاقه، وقد يكون معاقباً في الدنيا ، غير معاقب في
الآخرة ، وهذا كحال البغاة ودعاة البدعة المتأولين ومن كثروا سوادأهل الباطل
قال شيخ الإسلام في الفتاوى مقرراً
لهذا المعنى (10/ 376):
"وكذلك يجوز قتال (البغاة) وهم الخارجون على الإمام أو غير الإمام
بتأويل سائغ مع كونهم عدولا ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو
خراج أو غير ذلك إذ الصحابة لاخلاف فى بقائهم على العدالة أن التفسيق انتفى للتأويل
السائغ وأما القتال فليؤدوا ما تركوه من الواجب وينتهوا عما ارتكبوه من المحرم وان
كانوا متأولين.
وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه وان كانوا قوما صالحين
فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا وان
كانوا معذورين فيه لدفع ضرر فعلهم في الدنيا
كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وان كان قد تاب توبة نصوحا
وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس
فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم
وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره
وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلابقتالهم فالعقوبات
المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة وتكون في حقه من جملة
المصائب
كما قيل في بعضهم القاتل مجاهد والمقتول شهيد
وعلى هذا فما أمر به آخر أهل السنة من إن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد
ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه قد يكون من هذا الباب
فإن هجرة تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هوبدعة
أو غيرها وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا إذ الهجرة مقصودها أحدشيئين أما ترك
الذنوب المهجورة وأصحابها وأما عقوبة فاعلها ونكاله فأما هجرة بترك في غير هذا الموضع".
قلت: فانظر كيف صرح بوقوع العقوبة على داعية البدع وإن كان في نفسه متأولاً
مراعاةً للمصلحة العامة في ترك الناس لبدعته
قال مسلم في صحيحه 7347-
[8-2884] وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ ، قَالَتْ :
عَبَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ ، فَقُلْنَا
: يَا رَسُولَ اللهِ ، صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ ، فَقَالَ
: الْعَجَبُ إِنَّنَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ بِالْبَيْتِ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ
،قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَبِهِمْ ، فَقُلْنَا
: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ ، قَالَ : نَعَمْ ،
فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا
وَاحِدًا ، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى ، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.
قال النووي في شرح هذا الحديث : وَفِيهِ أَنَّ مَنْ كَثُرَ سَوَاد قَوْم
جَرَى عَلَيْهِ حُكْمهمْ فِي ظَاهِر عُقُوبَات الدُّنْيَا .
أقول : وعلى هذا يقاس من كثر سواد الحزبيين في جمعياتهم
فملائكة الرحمة وملائكة العذاب
إنما اختلفوا في حكم أخروي ، ونحن عندما نختلف في حزبي فنحن نختلف في حكم دنيوي والحكم
الدنيوي أظهر وألزم ، فالحكم الأخروي يتعلق بمعرفته على وجهه معرفة قبول الله عز وجل
لتوبة التائب ، وهذا لا يعلمه البشر ويعلمه الملائكة بإعلام الله عز وجل لهم ، ولا
شك أن ملائكة العذاب لم يعلموا ان الله عز وجل قبل توبة هذا التائب وكفر عنه ذنبه.
قال البخاري في صحيحه 2641 - حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ
انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ
أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَا هُوَ لَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ
شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ
وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ.
هذا نص في أن الحكم الدنيوي المتعلق بالظاهر أبين من الحكم الأخروي المتعلق
بالباطن
القياس الفاسد الثاني : قياس البدعة على المعصية
فهذا الرجل وإن كان قاتلاً فهذه معصية ، حال فاعلها أنه معترف بذنبه ،
وأما المبتدع فليس معترفاً بذاك بل هو يرى نفسه على الحق وينافح عن الحال التي هو عليها
قال أبو نعيم في الحلية (7/26) : حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو أَحْمَدَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ , ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِا لْجَارُودِ، ثنا أَبُو
سَعِيدٍ، ثنا ابْنُ يَمَانٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ، يَقُولُ: «الْبِدْعَةُ أَحَبُّ
إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ , الْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا , وَالْبِدْعَةُ
لَايُتَابُ مِنْهَا»
والحال يختلف في المعاملةبين المبتدع و العاصي ونصوص السلف في هذا كثيرة.
القياس الفاسد الثالث : قياسه التائب المهاجر على المقيم على الفعل: فهذا
الرجل الذي اختلفت فيه الملائكة ، اجتمع فيه وقوعه في المعصية وطلبه التوبة منها وسؤاله
أهل العلم وقبوله لإرشادهم له بالهجرة وعزمه على الهجرة بل وشروعه فيها، فكيف يقاسمن
هذا حاله بحزبي مقيم على التحزب ، مكثر لسواد أهل الباطل غير متمايز عنهم ، هذا من
أفسد القياس فالخلاف في هذا ليس كالخلاف في ذاك.
القياس الفاسد الرابع : قياسه من أذعن للحق على من كابر الحجة العلمية
لما اختلف ملائكة الرحمة وملائكة
العذاب لم يقروا هذا الخلاف ويقولوا ( خلافنا في غيرنا لا يكون خلافَابيننا ) بل تحاكموا
للحجة، فجاء في الحديث: ((فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُا لرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ
الْعَذَابِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى
هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ
بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ)).
وانتهى الخلاف ! ،وهكذا ينبغي أن تكون الخلافات بين أهل السنة يتحاكم فيها
للحجة العلمية، وأمر التبديع منضبط بضوابط يتحاكم إليها عند النزاع
فلو جرحت أنا شخصاً ، فإما أن تثبت لي أن هذا ليس بجرح وأن قوله صواب ،أو
أن المسألة اجتهادية ليست من مسائل التبديع، أو تثبت لي أن الرجل تراجع ، فإذا استمررت
على القدح فيه بعد ذلك فأنا ظالم
والعكس بالعكس ، لو كانت مسائل
الجرح والتعديل كلها اجتهادية وفي رتبة واحدة،لكان تبديع هذا الشيخ االمتكلم ( اجتهادياً
) ، ولكان جرح القرضاوي ( اجتهادياً ) وتعديل الشيخ ربيع ( اجتهادياً ) فلا ينكر على
المخالف في هذا ، ونقول ملائكة الرحمة وملائكة العذاب اختلفوا.
ونظير هذا القياس الفاسد من يقيس خلاف الصحابة في قول النبي صلى الله عليه
وسلم ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) على كل خلاف فقهي يراه ، فلا يميز
بين ما ظهر فيه الحجة وبين ما كان الأمر فيها متردداً لتعارض الأدلة ، فليس خلاف الصحابة
المذكور ، كمثل خلاف من اختلفوا في المسح على الخفين والمتعة والصرف والغناء ورفع االيدين
في الصلاة ، فإن هذه المسائل كلها ظهرت فيها الحجة واستبانت المحجة فينكر على المخالف
فيها.
قال ابن رجب في فتح الباري (5/ 166) : "وسئل الإمام أحمد ، فقيل لهُ
: إن عندنا قوما يأمروننا برفع اليدين في الصلاة ، وقوما ينهوننا عنه؟
فقالَ : لا ينهاك إلا مبتدع ،
فعل ذَلِكَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وكان ابن عمر يحصب من لا يرفع، فلم يبدع
إلا من نهى عن الرفع وجعله مكروها ، فأما المتأول في تركه من غير نهي عنه فلم يبدعه".
فهنا أحمد يبدع من أنكر على من فعل السنة ولم يقل (هذا خلاف فقهي يحتمل)
ونظير هذا من يأتي بكلمة قالها
الإمام أحمد فيمن توقف في التفضيل بين عثمان وعلي فقال أحمد (الإخراج من السنة شديد)
، فصار ينزلها على من ينكر زيادة الإيمان ونقصانه ! ، ودخول العمل في مسمى الإيمان
فإن التفضيل بينعثمان وعلي ليس
فيه نص واضح في القرآن كنصوص زيادة الإيمان ونقصانه ، ودخول العمل في مسمى الإيمان
، ولا سنن متوافرة متكاثرة ، وإن كان هناك أخبار يعلمها أهل الفن ، بل حتى الحس يدل
على زيادة الإيمان ونقصانه.
وينسى هذا المستدل بكلمة أحمد أن الرواية لا تختلف عن أحمد تبديع من وقع
في معاوية أو أنكر خلافته ولم يقل فيه ( الإخراج من السنة شديد ) فكيف بمن وقع في علي
أو عثمان، ويتناسى نصوص أحمد الواضحة في تبديع من فضل علياً على عثمان.
والأدهى من هذا من يأتي وينزل هذه العبارةع لى أصحاب البدع المكفرة ،فيقيس
البدعة المفسقة على المكفرة ، وينزل هذا النص على منكر العلو وقد علمت أن أدلة إثبات
العلو لله عز وجل تفوق الألف دليل ، وأن إجماع المسلمين واليهود والنصارى انعقد على
على علو الله عز وجل على خلقه ، ودلت الفطرة والعقل على علو الله عز وجل على خلقه.
فهل يقاس من أنكر مسألة هذا شأنها على من توقف فيعثمان وعلي ، بل لا يقاس
على من فضل علياً على أبي بكر فإن تفضيل علي على أبي بكر بدعة مفسقة بإجماع ، وإنكار
العلو بدعة مكفرة بإجماع.
والعجيب أنه مع كل تلك الردود على الحلبي في هذه القاعدة ، يأتي من ينشر
ذلك المقطع ! ، وكأننا ما كتبنا شيئاً في الرد على الحلبي وزمرته !
ولعل قائلاً يقول : إنما أراد الشيخ أن يحارب الغلو الذي انتشر..
فيقال : لو سلمنا لك أن الغلو قد عم وطم ، وملأ السهل والوادي والجبل ،
فالباطل لا يرد بالباطل، ومن رد باطلاً بباطل فقد اتهم الشرع الحق بالقصور عن رد الباطل.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم