مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: التنبيه على أن الآثار الموقوفة لا تعامل كالأحاديث المرفوعة

التنبيه على أن الآثار الموقوفة لا تعامل كالأحاديث المرفوعة



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
                      
     
فمن المسائل التي تخفى على كثير من الباحثين مسألة التفريق في الحكم على الأخبار بين الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة أو المقطوعة فإن الآثار الموقوفة يتسامح فيها بما لا يتسامح به في المرفوع وإليك بيان ذلك، تتضح لك المسألة إذا علمت أن عامة أوهام الرواة في الإسناد حيث أو الراوي يصل المرسل ويرفع الموقوف، فإذا كان الخبر موقوفاً أو مقطوعاً من كلام شيخه لا إسناد فيه قوي الظن بأنه حفظه.

وكان أئمة العلل يرجحون أحياناً رواية الأقل إذا لم يسلك الجادة ، والموقوف والمقطوع ليس جادة في الغالب، جاء في ترجمة صدقة السمين من تهذيب الكمال: "قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه : ما كان من حديثه مرفوعا فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلا عن مكحول فهو أسهل ، و هو ضعيف جدا".

فتأمل قول أحمد قول (وما كان حديثه مرسلاً عن مكحول فهو أسهل) فهو يدل على التسامح في أمر الآثار، وجاء في ترجمة أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي وهو ضعيف من تهذيب الكمال: "وقال أحمد بن أبى يحيى : سمعت أحمد بن حنبل يقول : يكتب من حديث أبى معشر أحاديثه عن محمد بن كعب فى التفسير".

وإنما احتمل حديثه عن محمد بن كعب القرظي في التفسير لأن محمداً شيخه ويروي عنه مباشرة فاحتمل ذلك منه، وقال البيهقي في دلائل النبوة (1/34) :" وضرب لا يكون روايه متهما بالوضع، غير أنه عرف بسوء الحفظ وكثرة الغلط، في رواياته، أو يكون مجهولا لم يثبت من عدالته وشرائط قبول خبره ما يوجب القبول.

فهذا الضرب من الأحاديث لا يكون مستعملا في الأحكام، كما لا تكون شهادة من هذه صفته مقبولة عند الحكّام. وقد يستعمل في الدعوات والترغيب والترهيب، والتفسير والمغازي فيما لا يتعلق به حكم.
سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ الحافظ، يقول: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا: يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيَّ، يَقُولُ: سمعت أبا الْحَسَنِ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ يقول: كان أبي يحكي عَنْ «عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مهدي» أنه قال:إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال، تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام، تشدّدنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال".

فما بالك إذا كانت الرواية عن تابعي أو صحابي وليست عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان الضعف في الإسناد من جهة الراوي عنه مباشرة فمثل هذا يحتملونه إذا لم يكن في المتن نكارة، قال الذهبي في (( ديوان الضعفاء ))(ص374): "وأما المجهولون من الرواة ، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقى بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ".

والسبب في ذلك والله أعلم أن أسانيدهم قصيرة واحتمل الوهم فيها بعيد فبقي النظر في المتن ، وكلام الذهبي في المرفوع فلا شك أنه ينطبق على الموقوف والمقطوع من باب أولى، قال ابن أبي حاتم في المراسيل 84 قال أبو زرعة في حديث رواه حفص بن غياث عن محمد بن قيس عن حبيب بن أبي ثابت قال كان عمر لا يجيز نكاحا في عام سنة يعني مجاعة قيل لأبي زرعة ما ترى في هذا قال هو مرسل ولكن عمر أهاب أن أراد قوله.

فهذا منقطع ومع ذلك جعله أبو زرعة محتجاً به وهاب مخالفته فما بالك بما كانت علته أهون من مثل هذا الانقطاع فتكون ضعف راو ضعفه محتمل أو جهالة حال.

وقال صالح بن الإمام أحمد في سيرة أبيه ص127 :" وَاجْتمعت عَلَيْهِ أوجاع الْحصْر وَغير ذَلِك وَلم يزل عقله ثَابتا وَهُوَ فِي خلال ذَلِك يَقُول كم الْيَوْم فِي الشَّهْر فَأخْبرهُ وَكنت أَنَام بِاللَّيْلِ إِلَى جنبه فَإِذا أَرَادَ حَاجَة حركني فأناوله وَقَالَ لي جئني بِالْكتاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث ابْن إِدْرِيس عَن لَيْث عَن طَاوُوس أَنه كَانَ يكره الانين فَقَرَأته عَلَيْهِ فَلم يَئِن إِلَّا فِي اللَّيْلَة الَّتِي توفّي فِيهَا".

وليث بن أبي سليم ضعيف ولكن الإمام أحمد احتمله في هذا لأنه إنما يروي عن شيخه قوله: وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/259): "منها ما رواه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: قَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بْن سلام زرت أَحْمَد بن حنبل فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني فِي صدر مجلسه فقلت: يا أبا عَبْد اللَّه أليس يقال صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه قَالَ: نعم يقعد ويقعد من يريد قال: فقلت: فِي نفسي خذ إليك أبا عبيد فائدة ثم قلت: يا أبا عَبْد اللَّه لو كنت آتيك عَلَى حق ما تستحق لأتيتك كل يوم فقال: لا تقل ذاك فإن لي إخوانا ما ألقاهم فِي كل سنة إلا مرة أنا أوثق فِي مودتهم ممن ألقى كل يوم قَالَ: قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد فلما أردت القيام قام معي قلت: لا تفعل يا أبا عَبْد اللَّه قَالَ: فقال: قَالَ: الشعبي من تمام زيارة الزائر أن يمشي معه إلى باب الدار ويؤخذ بركابه قَالَ: قلت: يا أبا عَبْد اللَّه من عَنِ الشعبي قَالَ: ابن أبي زائدة عَنْ مجالد عَنِ الشعبي قَالَ: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة".

فهنا الإمام أحمد احتج برواية مجالد عن الشعبي مع أن مجالداً ضعيف ولكنه هنا يروي أمراً عن شيخه من قوله: وهذا يفسر لك احتمال الكثير من الأسانيد الضعيفة في التفسير ، ويفسر لك احتجاج الجمع الغفير من الأئمة بأثر ليث عن مجاهد في المقام المحمود مع ما قيل في ليث.

وقال الخلال في الوقوف والترجل 149- فَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:أَرَى أَنْ يُدْفَنَ. كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفِنُ شَعْرَهُ إِذَا حَلَقَهُ.

يقول أحمد هذا مع أن الأثر مروي عن ابن عمر من حديث عبد الله العمري عن نافع عنه، وعبد الله العمري المكبر ضعيف ولكنه يحتمل في الموقوف عن ابن عمر ، لذا روى عبد الرحمن بن مهدي مع انتقائه بعض الأخبار الموقوفة عن ابن عمر من طريق عبد الله العمري منها هذا الخبر.

وقال الألباني في مختصر العلو وهو يتكلم عن قصة قتل القسري للجعد ص134 :" قال المصنف: قرأت في "كتاب الرد على الجهمية" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي صاحب التصانيف: حدثنا عيسى بن أبي عمران الرملي حدثنا أيوب بن سويد عن السري بن يحيى...
قلت: وهذا إسناد رجاله موثقون غير عيسى هذا فقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" "3/ 1/ 284".
"كتبت عنه بالرملة، فنظر أبي في حديثه، فقال: "يدل حديثه أنه غير صدوق" فتركت الرواية عنه".
قلت: ولعل روايته عنه هذه القصة، لأنها ليست حديثا مرفوعا. والله أعلم".

وما استظهره هو المتعين فالقصص شيء والأخبار المرفوعة شيء آخر غير أن الألباني نفسه ناقض هذا في مناسبات عديدة ، وهذا كله إذا لم يكن متن الخبر منكراً عن الشيخ فمثل هذا قد يغلط فيه حتى الثقات كما غلطوا حنبلاً في بعض مروياته عن أحمد وكان الخلال لا يعد انفراد حنبل رواية ، وكما غلطوا ابن عبد الحكم في روايته عن الشافعي تجويز إتيان المرأة في الدبر.

وهذا الأمر -أعني التساهل في الآثار- ينبغي أن يتنبه له من تصدى لتحقيق الكتب المسندة ، فإن كثيراً منهم يتعامل مع الآثار بتعنت شديد ينافي طريقة السلف في التعامل معها ، خصوصاً ما كان منها من كتب العقيدة.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي