مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: هل مرجئة الفقهاء من أهل السنة ؟

هل مرجئة الفقهاء من أهل السنة ؟



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
     
                      
فقد ذهب بعض الناس في عصرنا إلى أن مرجئة الفقهاء من أهل السنة ، وخالفهم غيرهم  ، وصار بعض من يرى أن مرجئة الفقهاء من أهل السنة ينكر على من ذهب إلى أنهم من أهل البدع.

فبدا لي أن أكتب بحثاً أجمع فيه من آثار السلف ما يبين موقفهم من مرجئة ، وهل يعدونهم من أهل السنة ؟

وقبل البدء لا بد من بيان أمرين مهمين :
الأول : هو أن مرجئة الفقهاء أقدم فرق المرجئة ظهوراً إذ أنها ظهرت قبل ظهور الجهم بن صفوان الذي أحدث قول الجهمية في الإرجاء.
قال عبد الله بن أحمد في السنة 594 - حدثني أبي ، نا هاشم بن القاسم ، عن محمد يعني ابن طلحة ، عن سلمة بن كهيل ، قال : « وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيه ، ثم قال : إني أخاف أن يتخذ هذا دينا ، فلما أتته الكتب من الآفاق قال فسمعته يقول بعد : وهل أمر غير هذا ؟ »

وذر بن عبد الله هذا كوفي ، وهو أعلى طبقةً من الجهم فإنه من كبار أتباع التابعين ، وكان عنده من العلم ما حمل بعض الفقهاء كحماد بن سليمان وغيره على اتباعه ، بخلاف الجهم بن صفوان فإن الناس كانوا نافرين عنه لقبح مقالاته وقلة علمه

وأما مرجئة الكرامية ومرجئة الأشاعرة فما ظهرت إلا بعد ذلك بزمن ، وإن كان قول الأشعرية في الإيمان مقارباً لقول الجهم

الأمر الثاني : أن قول الجهمية في الإيمان كفري عندنا وعند مرجئة الفقهاء.
قال ابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 324) :" قد جامعتنا في هذا المرجئة كلها على أن الإقرار باللسان من الإيمان إلا فرقة من الجهمية كفرت عندنا ، وعند المرجئة بزعمهم أن الإيمان هو المعرفة فقط بعد شهادة الله على قلوب من سماهم كافرين بأنهم عارفون فضادوا خبر الله ، وسموا الجاحد بلسانه العارف بقلبه مؤمنا ، وأقرت المرجئة إلا هذه الفرقة أن الإقرار من الإيمان وليس هو منه عمل القلب"

وبناءً على الحقيقتين السابقتين فإن المرجئة إذا أطلقوا إنما يراد بهم مرجئة الفقهاء ، لأنهم أقدم في الظهور ، ولأن أهل العلم اعتادوا على تمييز الجهمية بلقب ( الجهمية ) ، لأن ضلالهم أوسع من الضلال في مسائل الإيمان ، ثم إن ضلالهم في مسائل الإيمان له خصوصية يرفضها حتى مرجئة الفقهاء

ومما يدل على أن السلف إذا أطلقوا ( المرجئة ) أرادوا بذلك مرجئة الفقهاء :
ما روى الخلال في السنة 976- أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ , أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنِ الْمُرْجِئَةِ , مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَقُولُونَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ.

أقول : ومرجئة الجهمية لا يدخلون ( القول ) في مسمى الإيمان ، فهم ليسوا مقصودين بهذا ، بل ما أراد إلا مرجئة الفقهاء فإن مرجئة الكرامية لم يدركوا أحمد


والآن مع الآثار السلفية في شأن المرجئة :

1) قال ابن سعد في الطبقات 9192- قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الْمُرْجِئَةُ فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنَّهُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

أقول : وهذا إسنادٌ صحيح ، وإبراهيم النخعي أعلى طبقةً من ذر الهمداني الذي أحدث الإرجاء ولم يدرك بدعة الجهمية لذا لا يحفظ له كلامٌ فيها ، بل يريد هنا إرجاء الفقهاء الذي وقع فيه فيما بعد تلميذه حماد بن أبي سليمان ، ويبعد أن يطلق النخعي كلمةً شديدة كهذه في قومٍ يراهم من أهل السنة

2) قال ابن سعد في الطبقات 9188- قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحِلٌّ قَالَ : قَالَ لَنَا إِبْرَاهِيمُ : لاَ تُجَالِسُوهُمْ يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ.

أقول : والأمر بهجرانهم على مقالتهم يدل على أنهم عنده من أهل البدع

3) قال عبد الله بن أحمد في السنة 541 - حدثني أبي ، نا إسماعيل ، عن أيوب ، قال : قال سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكرا ذاك له : « لا تجالس طلقا يعني أنه كان يرى رأي المرجئة »

وسعيد بن جبير من شيوخ ذر الذين نسب إلى إحداث الإرجاء .

قال الخلال في السنة وهو يحكي كتاب الإيمان للإمام أحمد 1354 - قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِذَرٍّ: «مَا هَذَا الرَّأْيُ قَدْ أَحْدَثْتَ بَعْدِي؟ وَالزُّبَيْرُ بْنُ السَّيْقَلِ يُغْنِيكُمْ بِالْقُرْآنِ؟»

4) قال عبد الله بن أحمد في السنة 624 - حدثني أبي ، نا عبد الله بن نمير ، عن جعفر الأحمر ، قال : قال منصور بن المعتمر - في شيء - : « لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة »

وهذا تصريح بتبديعهم.

5) قال اللالكائي في السنة أخبرنا محمد بن المظفر المقرئ ، قال : حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقرئ ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال : سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك ، فقالا فذكرا اعتقاداً ومما جاء فيه :" فمن قال : إنه مؤمن حقا فهو مبتدع ، ومن قال : هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين ، ومن قال : هو مؤمن بالله حقا فهو مصيب . والمرجئة والمبتدعة ضلال".

أقول : وهذه مقالة جميع المرجئة

6) قال عبد الله بن أحمد في السنة 534 - حدثني أبي ، نا حجاج ، سمعت شريكا : وذكر المرجئة ، فقال هم أخبث قوم وحسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله تعالى

وكان شريك شديداً على المرجئة ، حتى أنه لم يقبل شهادة أبي يوسف

قال الخلال في السنة 1024- وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ , قَالَ : شَهِدَ أَبُو يُوسُفَ عِنْدَ شَرِيكٍ بِشَهَادَةٍ , فَقَالَ لَهُ : قُمْ , وَأَبَى أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ , فَقِيلَ لَهُ : تُرَدُّ شَهَادَتُهُ , فَقَالَ : أُجِيزُ شَهَادَةَ رَجُلٍ يَقُولُ : الصَّلاَةُ لَيْسَتْ مِنَ الإِيمَانِ ؟.

7) قال الخلال في السنة 974- أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ إِسْحَاقَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ , قَالَ : الرَّجُلُ يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ؟ قَالَ : هُوَ كَافِرٌ حَقًّا.

975- أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ , قَالَ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , يَقُولُ : لاَ يُعْجِبُنَا أَنْ نَقُولَ : مُؤْمِنٌ حَقًّا , وَلاَ نُكَفِّرُ مَنْ قَالَهُ.

أقول : قول إسحاق بالتكفير لا أعلم أحداً تابعه عليه ، والمقالة ذكرها مقالة جميع فرق المرجئة

وقد عقد الخلال فصلاً في مناكحة المرجئة واللالكائي فصلاً في هجرانهم وأوردا ما جاء عن السلف في ذم مرجئة الفقهاء ، مما يدل على أنهم من أهل البدع عندهم فإذا قلنا أنهم يهجرون وقولهم بدعة لم يكن لقولنا أنهم ( من أهل السنة ) بعد ذلك معنى

وقال ابن بطة في الإبانة الكبرى (3/97) :" والمرجئة تزعم أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان ، فقد أكذبهم الله عز وجل ، وأبان خلافهم . واعلموا رحمكم الله أن الله عز جل لم يثن على المؤمنين ، ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم ، والنجاة من العذاب الأليم ، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح ، والسعي الرابح ، وقرن القول بالعمل ، والنية بالإخلاص ، حتى صار اسم الإيمان مشتملا على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض ، ولا ينفع بعضها دون بعض ، حتى صار الإيمان قولا باللسان ، وعملا بالجوارح ، ومعرفة بالقلب خلافا لقول المرجئة الضالة".

فنعتهم بالضلال.

8) قال الخلال في السنة 1146- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ , وَسُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , وَأَحْمَدُ بْنُ أَصْرَمَ الْمُزَنِيُّ , وَهَذَا لَفْظُ سُلَيْمَانَ , قَالَ : قُلْتُ لأَحْمَدَ : يُصَلَّى خَلْفَ الْمُرْجِئِ ؟ قَالَ : إِذَا كَانَ دَاعِيَةً فَلاَ يُصَلَّى خَلْفَهُ.
1147- وَأَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ , يَقُولُ : لاَ يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ إِذَا كَانَ دَاعِيَةً.

أقول : وأحمد هنا لا يعني إذا مرجئة الفقهاء ، فإن الجهمية عنده كفار لا تختلف عنه الرواية في ترك الصلاة خلفهم متى قدر المرء على ذلك سواءً كانوا دعاةً أو غير دعاة

قال العقيلي في الضعفاء (4/444) : حدثنا عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عن أسد بن عمرو وأبي يوسف فقال أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي أن يروى عنهم "

أقول : أبو يوسف صدوق في نفسه ، فالترك له إنما كان لأمرٍ زائدٍ على الضعف ، وهو البدعة وعدم الاحتياج لحديثه

فإن قيل : لعله أخذ عليهم الرأي

قلت : هذا أبلغ في تقرير الحجة لأن الإرجاء أشد من القول بالرأي

9) قال الخلال في السنة 981- وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ , قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : كَانَ شَبَابَةُ يَدْعُو إِلَى الإِرْجَاءِ , وَكَتَبْنَا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ , كَانَ يَقُولُ : الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ , فَإِذَا قَالَ : فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ , قَوْلٌ رَدِيءٌ.
982- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , وَقِيلَ لَهُ : شَبَابَةُ , أَيُّ شَيْءٍ تَقُولُ فِيهِ ؟ فَقَالَ : شَبَابَةُ كَانَ يَدْعُو إِلَى الإِرْجَاءِ , قَالَ : وَقَدْ حُكِيَ عَنْ شَبَابَةَ قَوْلٌ أَخْبَثُ مِنْ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ , مَا سَمِعْتُ أَحَدًا عَنْ مِثْلِهِ , قَالَ : قَالَ شَبَابَةُ : إِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ , قَالَ : الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ كَمَا يَقُولُونَ : فَإِذَا قَالَ فَقَدْ عَمِلَ بِجَارِحَتِهِ أَيْ بِلِسَانِهِ . فَقَدْ عَمِلَ بِلِسَانِهِ حِينَ تَكَلَّمَ , ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ , مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَقُولُ بِهِ , وَلاَ بَلَغَنِي.

أقول : وقول شبابة هذا قريبٌ من قول مرجئة الفقهاء مع حيلة ، والإمام أحمد ترك الكتابة عنه

وسرد نصوص السلف في هذا الباب يطول ، والمراد هنا الإشارة المفهمة.

وقبل الختام لا بد من تنبيهين.

الأول : قول شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 394) :" وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة اهل علم ودين ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي".

ليس فيه نفي تبديعهم ، وإنما نفى تكفيرهم ونفي الأعلى إثباتٌ ضمني للأدنى هذا أولاً.

ثانياً : قول الشيخ (فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي ) نص في أن ليس كل النزاع معهم لفظي ، بل قال ( كثيراً ) ، ولم يقل ( كل النزاع )

التنبيه الثاني : قد ورد عن بعض مرجئة الفقهاء أنهم يرون السيف ، بل نسب ذلك بعض الناس للفرقة كلها ، وعلى هذا لا يجوز أن يقال فيمن يرى السيف أنه سني إذا صح عنه ذلك إذ أن القول بالسيف فيصلٌ بين أهل السنة والبدعة

وقال الآجري في الشريعة 1986 : وحدثنا الفريابي قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا سعيد بن عامر قال : حدثنا سلام بن أبي مطيع قال : كان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ، ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي