الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
فهذه قاعدة هامة تمس إليها الحاجة في هذه
الأيام التي كثر فيها التشكيك في السنة من قبل الجهلة
وهذه القاعدة تأتي جواباً على سؤال هام (
هل يوجد حديث مرفوع في الحلال والحرام قال به بعض أهل العلم ولم يظهر فيه من
أمارات الصحة سوى أنه رواه ثقة عن ثقة إلى منتهاه بلا شذوذ ولا علة )؟
والجواب يقال : أن هذا الضرب المذكور شبه
معدوم في أحاديث الأحكام الصحيحة فكل حديث من أحاديث الأحكام الثابتة أو معظمها قد
اقترنت بها قرائن ترفعها إلى درجة القطع عند الفاقه ، ويطمئن لذلك نفس المتشكك إذا
ما أوقف على هذه القرائن
وشرح ذلك في بيان عدة حقائق علمية تخفى
على كثيرين
الحقيقة الأولى : أن الصحابة قد بلغوا من
العدد 124 ألفاً لم يروَ الحديث إلا عن ألف منهم فقط بل أقل من الألف بواحد
وثلث هؤلاء لم يروِ إلا حديثاً واحداً
والسبب في ذلك شدة أمر الرواية عن النبي
صلى الله عليه وسلم
وكان الصحابة الكبار يشكلون رقابة صارمة
على أمر الرواية وكان الناس يتورعون عن التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خوف
الخطأ حتى وصل الأمر إلى القلة التي ذكرت لك وإليك بعض الأخبار التي تشرح طرفاً من
هذا
قال الدارمي في مسنده 135 - أخبرنا أبو
نعيم ثنا سفيان عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : لقد
أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود ان
أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا ود ان أخاه كفاه الفتيا
وقال ابن ماجه في سننه 26- حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ ، عَنْ
شُعْبَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ ، قَالَ : سَمِعْتُ
الشَّعْبِيَّ يَقُولُ : جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ سَنَةً ، فَمَا سَمِعْتُهُ
يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ شَيْئًا
وقال أحمد في مسنده 19324 - حَدَّثَنَا
عَفَّانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ
أَبِي لَيْلَى قَالَ: قُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: حَدِّثْنَا، قَالَ:
«كَبُرْنَا وَنَسِينَا، وَالْحَدِيثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَدِيدٌ»
فكان ينتدب للحديث أفراد من الصحابة كثير
منهم حمله على الإكثار من الحديث أسباب سأذكرها ، من أهمها أنه كان المنتدب من
بقية الصحابة لذلك
فإن سألت : هل يوجد في الصحابة مكثرون
رووا الكثير من الأحاديث
قلت لك : معظم الأحاديث المروية عن النبي
صلى الله عليه وسلم تدور على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وعبد
الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وعائشة وعبد الله بن عمرو رضي الله
عنهم جميعاً
والسبب في كثرة حديث هؤلاء هو طول العمر
في كل من عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر ( آخر الصحابة موتاً في المدينة
) ، وأنس ( آخر الصحابة موتاً في البصرة ) وأبي سعيد الخدري
فهم لما كانوا في زمن الصحابة الكبار كانت
كثير من السنن ظاهرة متوارثة فالناس يعرفون كيف يصلون وكيف يحجون وكيف يزكون وكيف
يقسمون الميراث وكيف يجاهدون وغيرها من الأمور وما ظهرت البدع ولا الإحداثات فلما
أدرك هؤلاء الإحداث صاروا يحدثون بالسنن ولما جهلت الكثير من أحوال النبي صلى الله
عليه وسلم التي كانت متواترة بين المسلمين في الصدر الأول صاروا يحدثون بها
فإن قيل : هلا ضربت أمثلة على أمور كان
معلومة في زمن كبار الصحابة وجهلت في زمن بني أمية مثلاً
فيقال : هنا عدة أمثلة
أولها مواقيت الصلاة
قال البخاري في صحيحه 3221 - حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ أَمَا إِنَّ
جِبْرِيلَ قَدْ نَزَلَ فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ قَالَ سَمِعْتُ
بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نَزَلَ جِبْرِيلُ
فَأَمَّنِي فَصَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ
ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ
صَلَوَاتٍ
فعمر بن العزيز على جلاته لم يكن يعرف
المواقيت الصحيحة للصلاة حتى حدثه عروة بسبب تغيير بني مروان بن الحكم في هذا
الباب كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
المثال الثاني : التكبير في كل خفض ورفع
قال البخاري في صحيحه 788 - حَدَّثَنَا
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ أَحْمَقُ فَقَالَ
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ
فعكرمة الفقيه جهل هذه السنة بل ظن أن من
يفعلها أحمق فأخبره ابن عباس بأن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ريب أنهم
في الصدر الأول لم يكونوا يجهلون هذا أبداً
المثال الثالث : إطالة الجلوس بين
السجدتين
قال البخاري في صحيحه 821 - حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا قَالَ
ثَابِتٌ كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ كَانَ إِذَا
رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ
وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ
وهذه السنة إلى اليوم يهجرها عامة
المسلمين
فهنا القرينة الأولى على صدق الراوي وهي
سكوت الناس عليه وقد كانوا ينكرون على من يعتقدون وهمه وأمر عائشة في ذلك مشهور
وكذا عمر بن الخطاب
ولهذا الاعتبار الدقيق كانت الشهادة لا بد
فيها من اثنين في معظم أحكامها وأما الرواية فيكتفى فيها بواحد
وذلك أن الشهادة حادثة عين لا يطلع عليها
عامة الناس فاحتاجت إلى مزيد توكيد مع السلامة من المعارض
غير أن الرواية لما كانت مقترنة بهذه
القرينة وهي قرينة سكوت المجتمع العلمي في القرون الفاضلة خصوصاً قرن الصحابة
اكتفي فيها بواحد فقط
وليست فقط قرينة السكوت هي وحدها تقوي
الظن بصحة فهناك قرينة السلامة من المعارض
والمعارض هنا عدة أمور
الأول : حديث آخر بنفس درجة الصحة
الثاني : فتاوى الصحابة المتواطئة على
خلاف الخبر
الثالث : عدم إفتاء أحد من أهل العلم به
فالخبر إذا سكت في مجتمع الصحابة وخلى من
المعارضات السابقة قوي الظن بصحته
والكثير من الأخبار كان محل استنكارها عند
أهل العلم ورود هذه المعارضات عليه حتى وإن رواه الثقات أحياناً
فإذا كان الحديث رواه ثقة وسكت عليه في
المجتمع العلمي وسلم من المعارضات وكان راويه ممن اجتمعت دلائل الصدق فيها فوثقه
أهل الحديث
فإن قلت : هلا ذكرت لنا شيئاً من دلائل
الصدق التي يوثق بها أهل الحديث
فأقول : لنضرب مثلاً بأبي هريرة الذي
لاكته الألسنة الفاجرة وإن صحابياً فوق محل الشكوك
القرينة الأولى : أنه كان يحدث بين
المهاجرين والأنصار ومن سبقه في الإسلام فكانوا يسكتون على عامة حديثه
الثانية : أنه كان يعرض حديثه على عائشة
ويجلس عند حجرتها وما هذا بحال متهم وكان يفتي في زمن عمر وعمر من أشد الناس في
أمر الرواية
الثالثة : أن عدداً من أبواب لا يكاد يوجد
لأبي هريرة فيها حديث كالحيض والمسح على الخفين مع كونها أبواب حيوية وطرقها الناس
ولكنه لم يكن يحفظ فيها شيئاً فيسكت ، كما أن له الكثير من الفتاوى فكان يميز
كلامه عن كلام الرسول
الرابعة : أنه إذا شرك غيره في الحديث جاء
حديثه مطابقاً لحديث أصحابه مما يدل على الضبط
وإليك خمسة أمثلة في هذا الباب وغيرها
كثير
المثال الأول : قال البخاري في صحيحه 358
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ
سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ
فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ»
هذا له شاهد من حديث جابر وأفتى به عمر
المثال الثاني : حديث النزول المشهور ينزل
ربنا رواه جمع غفير من الصحابة أبو هريرة أحدهم
المثال الثالث : قال البخاري في صحيحه 408
- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ
حَصَاةً فَحَكَّهَا، فَقَالَ: «إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ
قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ
قَدَمِهِ اليُسْرَى»
وهذا مروي عن أبي سعيد كما ترى وصح عن ابن
عمر أيضاً
المثال الرابع : قال البخاري في صحيحه 437
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، اتَّخَذُوا
قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»
وهذا الخبر تواتر عن النبي صلى الله عليه
وسلم
المثال الخامس : قال البخاري في صحيحه 458
- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ
أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: «أَفَلاَ
كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ - أَوْ قَالَ قَبْرِهَا -
فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا»
وهذا له شاهد من حديث يزيد بن ثابت وابن
عباس
ثم إن أبا هريرة قد حاز تزكية عدد من
الصحابة القدماء
قال الإمام البخاري (3375) وقال الليث:
حدثني يونس، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت:ألا
يعجبك أبوهريرة، جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسمعني ذلك، وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم.ورواه مسلم 2493
فأبو هريرة يذهب لحجرة عائشة ويجلس يحدث
عندها ليرى هل تنكر عليه أم تقره وهذا أمر لا يقدم عليه إلا صادق فإن أم المؤمنين
نقدها شديد وقد خطأت العديد من الرواة ، فما أنكرت عليه سوى سرده للحديث الكثير
ولو كان يحدث بغير الصدق لكان إنكار مثل هذا أولى من إنكار السرد
وقال الترمذي في جامعه 3836 - حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْلَى
بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ،
أَنَّهُ قَالَ: لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ كُنْتَ
أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْفَظَنَا
لِحَدِيثِهِ» : «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ»
وعبد الله بن عمر من قدماء المهاجرين
وشهادته هذه نفيسة ، وأبو هريرة لم يدخل في شيء من أمر الفتن
وقال البخاري في صحيحه 453 - حَدَّثَنَا
أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ، يَسْتَشْهِدُ أَبَا
هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ» قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: نَعَمْ
فهذا حسان بن ثابت شاعر الرسول الذي لا
يختلف فيه يستشهد أبا هريرة مما يدل على أن روايته وشهادته عندهم مقبولة
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 6285 - حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا كَفَّ بَصَرُهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنْ دَاوَيْتُكَ لَهُ إِنْ صَبَرْتَ لِي سَبْعًا لَا تُصَلِّي إِلَّا مُسْتَلْقِيًا، دَاوَيْتُكَ وَرَجَوْتُ أَنْ تَبْرَأَ عَيْنُكَ، قَالَ: فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: «أَرَأَيْتُ إِنْ مِتُّ فِي هَذِهِ السَّبْعِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟» قَالَ: فَتَرَكَ عَيْنَيْهِ لَمْ يَكُ يُدَاوِيهَا
فهذا ابن عباس وهو من هو يستفتي أبا هريرة
وقال الذهبي في السير :" وقد اعتمدَتِ الصحابةُ على حديث أبي هُريرة في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها"
فهذا اتفاق من الصحابة بل من الأمة كلها على العمل بروايته
وقد روى عن أبي هريرة عدد هائل من أعيان التابعين بلغوا ثلاثمائة أو ثمانمائة ولو اشتهاره بالرواية والصدق لما تكلف كل هذا العدد الرواية عنه
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 6285 - حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا كَفَّ بَصَرُهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنْ دَاوَيْتُكَ لَهُ إِنْ صَبَرْتَ لِي سَبْعًا لَا تُصَلِّي إِلَّا مُسْتَلْقِيًا، دَاوَيْتُكَ وَرَجَوْتُ أَنْ تَبْرَأَ عَيْنُكَ، قَالَ: فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: «أَرَأَيْتُ إِنْ مِتُّ فِي هَذِهِ السَّبْعِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِالصَّلَاةِ؟» قَالَ: فَتَرَكَ عَيْنَيْهِ لَمْ يَكُ يُدَاوِيهَا
فهذا ابن عباس وهو من هو يستفتي أبا هريرة
وقال الذهبي في السير :" وقد اعتمدَتِ الصحابةُ على حديث أبي هُريرة في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها"
فهذا اتفاق من الصحابة بل من الأمة كلها على العمل بروايته
وقد روى عن أبي هريرة عدد هائل من أعيان التابعين بلغوا ثلاثمائة أو ثمانمائة ولو اشتهاره بالرواية والصدق لما تكلف كل هذا العدد الرواية عنه
وما من راو من رواة الحديث إلا ودرس أهل
الحديث حياته دراسة دقيقة واستخرجوا البينات على ضبطه وعدمه ونقدوا كل رواية من
رواياته نقداً خاصاً
هذه كلها الحقيقة الأولى فقط !
الحقيقة الثانية : أن ما من خبر من أخبار
الأحكام إلا النزر اليسير منها إلا وقد اعتضد بأحد عدة عواضد أو عدد منها أو كلها
العاضد الأول : روايته من غير وجه
الثاني : إفتاء بعض أعيان الصحابة به أو
عدد منهم دون معارض أو مع وجود معارض لا خبر معه أو جماعة التابعين
الثالث : إجماع أهل العلم على هذا الخبر
الرابع : أن تعضده قواعد الشريعة العامة
أو حتى القرآن الكريم فيكون له نظائر في الشرع
فإن قيل : هلا ضربت أمثلة على ذلك
فيقال : أما ما يعضده القرآن فكثير جداً
أكتفي ببعض ما قد يند عن أذهان بعض الناس
المثال الأول : قال البخاري في صحيحه 1521
- حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الحَكَمِ،
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ
وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
هذا الحديث يرويه أبو هريرة أحد المكثرين
، وهذا يوجد في القرآن ما يعضده !
قال الله تعالى : (وَاذْكُرُواْ اللّهَ
فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ
وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)
قوله تعالى : ( فلا إثم عليه ) يعني ذنبه
مغفور كما فسره جماعة المفسرين من السلف وهذا ما يناسب السياق فلو كان المقصود
بقوله ( فلا إثم عليه ) فالمتعجل يرفع عنه الحرج فما بال المتأجل وقد أدى العبادة
على أحسن وجه
قال الطبري في تفسيره 3934 - حدثنا ابن
بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان، عن حماد. عن إبراهيم، عن عبد
الله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له" ومن تأخر فلا
إثم عليه"، قال: غُفر له.
3935 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا
أبو نعيم، قال: حدثنا مسعر، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في
يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له.
3936 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا
المحاربي= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= جميعًا، عن سفيان، عن حماد،
عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر
فلا إثم عليه"، قال: قد غُفر له.
وعبد الله هنا هو ابن مسعود والإسناد إليه
صحيح وقد روي ذلك عن ابن عباس أيضاً وابن عمر وجماعة من التابعين
المثال الثاني : قال مسلم في صحيحه 43 -
(1841) حَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شَبَابةُ، حَدَّثَنِي
وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ
جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَلَ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرٌ، وَإِنْ يَأْمُرْ
بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ»
وهذا الحديث في البخاري وهو يدل على أن
جهاد الطلب لا بد له من إمام وهذا المعنى في القرآن
قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا)
فتأمل أنهم لما أرادوا الجهاد طلبوا
الإمام
المثال الثالث : حديث ( عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )
فهذا معناه في القرآن !
فإنك تدعو في كل صلاة تقول ( اهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم)
وقد قال في الآية الأخرى (وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا )
فرأس الذين أنعم الله عليهم بعد الأنبياء
الصديقون ورأسهم أبو بكر الصديق ، والشهداء وبقية الخلفاء الأربعة كلهم شهداء فعمر
شهيد وعثمان شهيد وعلي شهيد
وقد قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
وقد وصف الصحابة أنهم هم الصادقون
فقال تعالى : (لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)
فهذا يعضد معنى حديث اتباع سنة الخلفاء
فجميعهم مهاجر وقد أخرجوا من ديارهم وأموالهم وجاهدوا جهاداً عظيماً
وأما ما رواها غير واحد من الصحابة فهذه
كثيرة جداً سواءً لفظاً أو معنى
المثال الأول : حديث ( لا نكاح إلا بولي )
رواه من الصحابة أبو موسى الأشعري وعائشة وأفتى به ابن عباس وفي ظاهر القرآن ما
يعضده ( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ) فلما وجه خطابه للرجال دل على أنهم لهم
تأثير في الأمر وأبلغ منه قوله تعالى : ( فلا تعضلوهن ) وقوله تعالى : ( وأنكحوا
الأيامى )
وقد روي عن علي وعمر بن الخطاب إفتاؤهم
بذلك وصح هذا عن عمر بن عبد العزيز
المثال الثاني : المسح على الخفين
روى أحاديث المسح على الخفين صفوان بن
عسال وجرير بن عبد الله والمغيرة بن شعبة وصح عن عمر الإفتاء به وعليه عامة
التابعين وفعله أنس بن مالك وغيره من الصحابة
كل واحد من هؤلاء له أسانيد تختلف عن
أسانيد الآخر
المثال الثالث : النهي عن نكاح الشغار
هذا النهي رواه عن النبي أبو هريرة وابن
عمر ومعاوية وجابر بن عبد الله كل منهم له أسانيده المستقلة
وهناك عشرات الأحاديث من هذا الباب
ولكي تتأكد من صحة ما أقول راجع جامع
الترمذي فإنه لحذقه وعلمه يورد الحديث من طريق صحيح أو دون ذلك ثم يعطيك قرينة
تقوي صحته وهي إفتاء الصحابة به أو عامة أهل العلم ثم يقول لك ( وفي الباب عن فلان
وفلان ) فيبين لك أنه روي من غير طريق
ونظرة في كتب الحديث المشهورة ثم نظرة في
مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة يؤكد لك هذا
قال ابن قدامة في تحريم النظر في كتب الكلام :" فَهِيَ وَإِن لم تتواتر آحادها لَكِن حصل من الْمَجْمُوع الْقطع وَالْيَقِين بِثُبُوت أَصْلهَا وَيَكْفِي ذَلِك فِي التَّوَاتُر
فإننا نقطع بسخاء حَاتِم وشجاعة عَليّ وَعدل عمر وَعلم عَائِشَة وَخِلَافَة الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَلم ينْقل إِلَيْنَا فِيهَا خبر وَاحِد متواتر لَكِن تظاهرت الْأَخْبَار بهَا وَصدق بَعْضهَا بَعْضًا وَلم يُوجد لَهَا مكذب فَحصل التَّوَاتُر بالمجموع"
وهذا معنى كلامنا في القرائن الذاتية والخارجية
قال ابن قدامة في تحريم النظر في كتب الكلام :" فَهِيَ وَإِن لم تتواتر آحادها لَكِن حصل من الْمَجْمُوع الْقطع وَالْيَقِين بِثُبُوت أَصْلهَا وَيَكْفِي ذَلِك فِي التَّوَاتُر
فإننا نقطع بسخاء حَاتِم وشجاعة عَليّ وَعدل عمر وَعلم عَائِشَة وَخِلَافَة الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَلم ينْقل إِلَيْنَا فِيهَا خبر وَاحِد متواتر لَكِن تظاهرت الْأَخْبَار بهَا وَصدق بَعْضهَا بَعْضًا وَلم يُوجد لَهَا مكذب فَحصل التَّوَاتُر بالمجموع"
وهذا معنى كلامنا في القرائن الذاتية والخارجية
وهنا فائدتان نفيستان
الأولى : أن عامة الأحاديث الضعيفة التي
يخرجها أصحاب السنن في الأحكام من هذا القبيل الذي اعتضد بعواضد مع ضعفه ولم يوجد
دليل على نكارته فيخرجونه لهذا الاعتبار
وكان رائدهم في هذا الباب الإمام الشافعي
الذي أصل هذا في مقويات الخبر المرسل
ولهذا الاعتبار تراهم لا يخرجون بعض
الأحاديث المنكرة التي لم يفتِ بها أحد أو تحقق من نكارتها على تفاوت بينهم في
تحرير الأمر
فهذا هو الفارق بين الضعيف الذي خرجوه
والضعيف الذي اطرحوه
ولهذا الاعتبار لم يحسن أبداً من قسم
السنن إلى صحيح وضعيف
الفائدة الثانية : أن قول عبد الرحمن بن
مهدي أنه إذا جاءت أحاديث الأحكام شددنا لعل هذا معناه
وهو طلب القرائن الخارجية فأنا في الحقيقة
الأولى ذكرت القرائن الذاتية وأما في هذه الحقيقة ذكرت القرائن الخارجية
وأما أحاديث الفضائل والسير وأشراط الساعة
وأخبار الأنبياء فالأمر فيها أهون من أمر أحاديث الحلال والحرام ومع ذلك قد يعتضد
بها العواضد السابقة
وقد كان معظم ما ينفرد به أبو هريرة عن
بقية الصحابة من هذا القبيل وهو ذكر ثواب لعمل اتفق على مشروعيته أو بعض أنباء
السابقين وقد كان الصحابة في باديء الأمر حريصين على تعليم الناس الأمور التي لا
بد لهم منها في أمر دينهم أعني الحلال والحرام ولم يتوسع كثير منهم في الرواية
توسع أبي هريرة ، وأبو هريرة توسعه كان بين طلبته الذين كانوا أوعية علم فلا ضير
وأما بقية الصحابة فراعوا أحوال عامة
الناس وهذا أمر يشاهد إلى اليوم في تفاوت الناس
والخلاصة أن عامة أحاديث الأحكام الصحيحة
بل وحتى الضعيفة التي خرجها العلماء قد اقترنت بها قرائن ذاتية وقرائن خارجية
الناظر فيها يجعله ذلك يقطع بثبوتها
الحقيقة الثالثة : فإن سأل سائل ما داعي
خلاف الفقهاء والحال هذه ؟
فيقال : الذي يجهله كثيرون أن معظم مسائل
الفقه إجماعية ! وكثير من الخلافيات سببها أهل الرأي الذي لهم منهج مبتدع ولم
يفهموا طريقة أهل الحديث
قال شيخ الإسلام في [ الاستقامة ص59 ]
:" إن قال قائل مسائل الاجتهاد والخلاف في الفقه كثيرة جدا في هذه الأبواب ,
قيل له مسائل القطع والنص والإجماع بقدر تلك أضعافا "
وقد يستبعد هذه العبارة بعض من لا يفتح
عينيه إلا على الخلاف ومن درس الفقه بدقة ونظر في كلام ابن تيمية علم صوابه خصوصاً
إذا علمنا أن معظم الخلاف يكون بسبب وجود
أهل الرأي وأما إذا عدت إلى مدرسة أهل الحديث التي يمثلها مذهب مالك
والشافعي وأحمد فالخلاف يقل
وكثير من الخلاف فيه نقطة اتفاق فمثلاً
يختلفون في الفعل الفلاني هل هو واجب أو مستحب وهذا كثير وهناك نقطة اتفاق وهو أن
هذا الفعل مشروع أو يختلفون هل هو مكروه أو محرم ولكن قلما يجد الباحث خلافاً هل
هذا الفعل واجب أو محرم
وكثير من المسائل التي يختلف فيها
المتأخرون تراها محل اتفاق بين الصحابة وكثير من الخلافات انقرضت بعد ظهور الأدلة
كالخلاف في ربا الفضل هل يجوز أم لا يجوز
ونحن نتكلم عن معظم مسائل الشرع وليس كلها
فإذا حققنا عبارة ابن تيمية في أن معظم
مسائل الفقه إجماعية انتهينا إلى حقيقة قطعية وهي أن معظم مسائل الشرع قطعية
فالإجماع يقضي بالقطع
ومن حكمة الله ان الفقهاء يختلفون فلو
كانوا متفقين دائماً لظن الناس أنهم أهل تقليد ولا يتعدد نظرهم ولكنهم ما اختلفوا
كان اتفاقهم أقوى إذ أنهم على اختلاف ملكاتهم وأنظارهم وتباين بلدانهم إذا اتفقوا
كان الاتفاق في أعلى درجات القوة
الحقيقة الرابعة : أن السلف كانوا أهل
تدين شديد كما هو معلوم عنهم وهذا معناه أن حرصهم على الأحكام العملية يكون أقوى
ويكونون لذلك أحفظ لكونهم يطبقونها بشكل مستمر
فالأحاديث الواردة في الوضوء والصلاة
والصيام والزكاة والحج وغيرها من الأحكام العملية خصوصاً ما لا بد للناس منه تجد
أن الناس قد تواردوا على روايتها وتجد في الواقع العملي ما يعضدها بقوة
والآن لنضرب عدة أمثلة تبين المقصود مما
ينكره الزنادقة في عصرنا
المثال الأول : الرجم الذي ينكره الزنادقة
الأحاديث في الرجم عدة نكتفي بذكر بعضها
قال مالك في الموطأ 3035/ 623 - عَنْ
نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ إِلَى
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ
وَامْرَأَةً زَنَيَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا
تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟».
فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَمٍ:
كَذَبْتُمْ. إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ. فَأَتَوْا
بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا. فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ
الرَّجْمِ. ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا
وَمَا بَعْدَهَا.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَمٍ:
ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ يَدَهُ. فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ.
فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ. فِيهَا
آيَةُ الرَّجْمِ.
فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم فَرُجِمَا.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ:
فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ، يَقِيهَا الْحِجَارَةَ.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين
وقال مالك أيضاً 3040/ 628 - مَالِكٌ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ؛ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ
رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ
أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ.
وَقَالَ الْآخَرُ، وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا:
أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ. وَائْذَنْ لِي فِي
أَنْ أَتَكَلَّمَ.
قَالَ: «تَكَلَّمْ»، فَقَالَ: إِنَّ
ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هذَا. فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ. فَأَخْبَرَنِي أَنَّ
عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ. فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي.
ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي
جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى
امْرَأَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ، لِأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ. أَمَّا غَنَمُكَ
وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ»، وَجَلَدَ ابْنَهُ مَائَةً. وَغَرَّبَهُ عَاماً.
وَأَمَرَ أُنَيْساً الْأَسْلَمِيَّ أَنْ
تَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ. فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ
فَرَجَمَهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ.
وهذا أيضاً في الصحيحين
وقال أحمد في مسنده 7849 - حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي خَالِدٍ
يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَدَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ ثَلَاثَ
مِرَارٍ، فَلَمَّا جَاءَ فِي الرَّابِعَةِ، أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ "
وقال مسلم في صحيحه 18 - (1692)
وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ
الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، يَقُولُ:
أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَصِيرٍ،
أَشْعَثَ، ذِي عَضَلَاتٍ، عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَقَدْ زَنَى، فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ،
ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «كُلَّمَا نَفَرْنَا غَازِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، تَخَلَّفَ أَحَدُكُمْ
يَنِبُّ نَبِيبَ التَّيْسِ، يَمْنَحُ إِحْدَاهُنَّ الْكُثْبَةَ، إِنَّ اللهَ لَا
يُمْكِنِّي مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا» أَوْ «نَكَّلْتُهُ»،
قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: «إِنَّهُ رَدَّهُ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ»،
وقال مسلم أيضاً 20 - (1694) حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ،
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ
لَهُ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ، أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، قَالَ: ثُمَّ سَأَلَ قَوْمَهُ،
فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا إِلَّا أَنَّهُ أَصَابَ شَيْئًا يَرَى
أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ، قَالَ:
فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَنَا أَنْ
نَرْجُمَهُ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ: فَمَا
أَوْثَقْنَاهُ، وَلَا حَفَرْنَا لَهُ، قَالَ: فَرَمَيْنَاهُ بِالْعَظْمِ،
وَالْمَدَرِ، وَالْخَزَفِ، قَالَ: فَاشْتَدَّ، وَاشْتَدَدْنَا خَلْفَهُ حَتَّى
أَتَى عُرْضَ الْحَرَّةِ، فَانْتَصَبَ لَنَا فَرَمَيْنَاهُ بِجَلَامِيدِ
الْحَرَّةِ - يَعْنِي الْحِجَارَةَ - حَتَّى سَكَتَ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا مِنَ الْعَشِيِّ، فَقَالَ: «أَوَ
كُلَّمَا انْطَلَقْنَا غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ تَخَلَّفَ رَجُلٌ فِي
عِيَالِنَا، لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ، عَلَيَّ أَنْ لَا أُوتَى بِرَجُلٍ
فَعَلَ ذَلِكَ إِلَّا نَكَّلْتُ بِهِ»، قَالَ: فَمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَلَا سَبَّهُ،
وروى قصة ماعز بريدة أيضاً
وروى قصة اليهود البراء بن عازب في صحيح
مسلم من طريق الأعمش
فاجتمع في أحاديث الرجم كل القرائن التي
تدل على قطعية الأخبار
القرينة الأولى : رواية علية الرواة لها
فمنهم نافع ومنهم الزهري ومنهم الأعمش
الثانية : توارد الرواة عليها ففي طبقة
الصحابة قارب رواة الرجم العشرة أنفس وهذا عدد تواتر في قول جميع من يعتد به
الثالثة : تنوع مخارج الخبر فتارة المخرج
مدني وتارة بصري وتارة كوفي
الرابعة : أن الرجم حادثة تعلق في الأذهان
فلو سمع المرء بحادثة رجم أو شهدها فإنه لا ينساها أبداً لقوة الحادثة في الأنفس
الخامسة : أن الصحابة طبقوا ذلك عملياً
ومع هذا يبعد النسيان وقد تعلق بذلك فناء أنفس معروفة منهم الصحابي ماعز بن مالك
والذي لا يعرف له سبب وفاة غير الرجم
السادسة : إطباق أهل العلم من الصحابة
والتابعين على الإفتاء بالرجم فقد صح ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وقد رجم علي شراحة
الهمدانية ولا يختلف قولهم في ذلك
فأخبار الرجم متواترة ومقطوع بها ومنكرها
كافر
المثال الثاني : حد الردة
قال الترمذي في جامعه 1458 : حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ البَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ
عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ
عَبَّاسٍ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّلَ
دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ .
وَلَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ
، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ. هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ فِي
المُرْتَدِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي المَرْأَةِ إِذَا ارْتَدَّتْ عَنِ الإِسْلَامِ،
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ: تُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ
الأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: تُحْبَسُ
وَلَا تُقْتَلُ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ
الكُوفَةِ .
فترى الترمذي الاتفاق على قتل المرتد
الرجل
وهذا الحديث في البخاري
قال البخاري في صحيحه 6923 : حَدَّثَنَا
مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ
هِلَالٍ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ أَقْبَلْتُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلَانِ مِنْ
الْأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِي وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ فَكِلَاهُمَا سَأَلَ فَقَالَ
يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قَالَ قُلْتُ وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَمَا شَعَرْتُ
أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ
شَفَتِهِ قَلَصَتْ فَقَالَ لَنْ أَوْ لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ
أَرَادَهُ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
قَيْسٍ إِلَى الْيَمَنِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً قَالَ انْزِلْ وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ
قَالَ مَا هَذَا قَالَ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ قَالَ
اجْلِسْ قَالَ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ تَذَاكَرَا قِيَامَ اللَّيْلِ فَقَالَ
أَحَدُهُمَا أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا
أَرْجُو فِي قَوْمَتِي
فتأمل قوله (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ
قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)
قال مسلم في صحيحه 4390- [25-1676]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ،
وَأَبُو مُعَاوِيَةَ ، وَوَكِيعٌ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مُرَّةَ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ،
يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، إِلاَّ
بِإِحْدَى ثَلاَثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ،
وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ.
قال ابن ماجه في سننه 2533: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ ، فَسَمِعَهُمْ وَهُمْ يَذْكُرُونَ الْقَتْلَ
فَقَالَ : إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُونِي بِالْقَتْلِ ؟ فَلِمَ تَقْتُلُونِي ؟
وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ : لاَ
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلاَثٍ : رَجُلٌ زَنَى وَهُوَ
مُحْصَنٌ فَرُجِمَ ، أَوْ رَجُلٌ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ، أَوْ رَجُلٌ
ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ , فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ
فِي إِسْلاَمٍ ، وَلاَ قَتَلْتُ نَفْسًا مُسْلِمَةً ، وَلاَ ارْتَدَدْتُ مُنْذُ
أَسْلَمْتُ.
وقال أحمد في مسنده 452 : حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُغِيرَةَ بْنَ مُسْلِمٍ أَبَا
سَلَمَةَ، يَذْكُرُ عَنْ مَطَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ
عُثْمَانَ، أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: عَلامَ
تَقْتُلُونِي؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ:
رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا
فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ،
فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَلا قَتَلْتُ أَحَدًا،
فَأُقِيدَ نَفْسِي مِنْهُ وَلا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِنِّي أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
فهذه أربعة أحاديث من طريق أربعة من
الصحابة كلها في حد الردة
مع ما تواتر عن الصحابة من قتالهم
للمرتدين ، وأيضاً قد صح عن الخلفاء الراشدين العمل بهذا الحديث
قال عبد الرزاق في المصنف [ 18710 ] :
عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ , عَنْ سُلَيْمَانَ
التيمي , عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ :
أَنَّ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلِيَّ
تَنَصَّرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ , فَبَعَثَ بِهِ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ إِلَى
عَلِيٍّ فَاسْتَتَابَهُ , فَلَمْ يَتُبْ , فَقَتَلَهُ , فَطَلَبَتِ النَّصَارَى
جِيفَتَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا , فَأَبَى عَلِيٌّ وَأَحْرَقَهُ .
أقول : تحرفت [ سليمان التيمي ] في
المطبوعة إلى [ سليمان الشامي ]
وقد قتل ابن مسعود المرتدين الذين وجدهم
يقرأون قرآن مسيلمة
فالقرائن الذاتية والخارجية كلها متوفرة
هنا فهذا يفيد القطع ومنكره كافر أيضاً
المثال الثالث وهو أعمق : أحاديث المهدي
قال أحمد في مسنده 4098 - حدثنا يحيى عن
سفيان حدثني عاصم عن زِرّ عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا تذهب الدنيا"، أو "لا تنقضي الدنيا، حتى يملك العربَ رجلٌ من
أهل بيتي، يواطىءُ اسمهُ اسمي".
هذا الحديث رجاله ثقات سوى أن عاصماً
اختلف عليه واتفق الناس على عدالته فهو صاحب القراءة المعروفة وكان يضطرب في حديث
زر فيجعله عن أبي وائل والعكس وهذا غير مؤثر فهل ضبط المتن هنا
لننظر في القرائن
ذكر المهدي ظهر على ألسنة الكثير من
التابعين
قال ابن أبي شيبة في المصنف 37649 - أَبُو
أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «الْمَهْدِيُّ مِنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ وَهُوَ الَّذِي يَؤُمُّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ»
وقال معمر في جامعه 20838 - عَنْ أَيُّوبَ، أَوْ غَيْرِهِ، عَنِ
ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «يَنْزِلُ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ لَأْمَتُهُ، وَمُمَصَّرَتَانِ
بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَيَقُولُونَ لَهُ: تَقَدَّمْ، فَيَقُولُ: بَلْ
يُصَلِّي بِكُمْ إِمَامُكُمْ، أَنْتُمْ أُمَرَاءُ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ» ،
20839 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُرَى أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي
يُصَلِّي وَرَاءَهُ عِيسَى
أقول : محمد بن سيرين من أعيان التابعين
وكان لا يروي إلا عن ثقة لذا نص ابن عبد البر على قوة مراسيله فهذا مرسل قوي يعضد
خبر عاصم
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 37652 -
حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْمَهْدِيُّ؟ قَالَ: «قَدْ كَانَ مَهْدِيًّا وَلَيْسَ بِهِ , إِنَّ
الْمَهْدِيَّ إِذَا كَانَ زِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ , وَتِيبَ عَنِ الْمُسِيءِ
مِنْ إِسَاءَتِهِ , وَهُوَ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَشْتَدُّ عَلَى الْعُمَّالِ
وَيَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ»
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 37652 -
حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْمَهْدِيُّ؟ قَالَ: «قَدْ كَانَ مَهْدِيًّا وَلَيْسَ بِهِ , إِنَّ
الْمَهْدِيَّ إِذَا كَانَ زِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ , وَتِيبَ عَنِ
الْمُسِيءِ مِنْ إِسَاءَتِهِ , وَهُوَ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَشْتَدُّ عَلَى
الْعُمَّالِ وَيَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ»
وهذا إسناد حسن وطاوس تابعي فاضل تتلمذ
على أعيان الصحابة وهو مكي وابن سيرين بصري ومخرج خبر ابن مسعود كوفي
وقال الداني في الفتن 580 - حَدَّثَنَا
ابْنُ عَفَّانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ شَبُّوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: الْمَهْدِيُّ حَقٌّ؟ قَالَ: «حَقٌّ» ،
قُلْتُ: مِمَّنْ؟ قَالَ: «مِنْ كِنَانَةَ» ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مِمَّنْ؟ قَالَ:
«مِنْ قُرَيْشٍ» ، قَدَّمَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، قُلْتُ: ثُمَّ مِمَّنْ؟
قَالَ: «مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» ، قُلْتُ: ثُمَّ مِمَّنْ؟ قَالَ: «مِنْ وَلَدِ
فَاطِمَةَ»
وسعيد بن المسيب من أعيان التابعين في
المدينة وهذا في حكم المرسل ومراسيله من أقوى المراسيل وقد خالف سعيداً عمرو بن
شعيب فأنكر أن يكون المهدي من بني أمية أو بني هاشم وهذا الاختلاف الكفة فيه مع
ابن المسيب وهذا لا يطعن في وجود المهدي فجميعهم اتفقوا على وجوده وإنما وقع
الاختلاف في النسب
قال الحافظ أبو جعفر العقيلي المتوفى سنة
اثنتين وعشرين وثلاثمئة: «إن في المهدي أحاديث جياداً»
والعقيلي من أوسع المحدثين نقداً كيف لا
وهو صاحب كتاب المجروحين
وقال الخلال في السنة 669 - أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ
الضَّرِيرُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُمْ
مُعَاوِيَةَ لَقُلْتُمْ: هَذَا الْمَهْدِيُّ "
ورواه أيضاً الآجري ومجاهد تابعي مكي
وإسناده قوي على البحث في سماع الأعمش من مجاهد وإن لم يكن قد سمعه فقد أخذه من
ليث وليث محتمل في المقطوع
فانتشار هذه الآثار التي يذكر فيها اسم
المهدي بين التابعين في مختلف الأقطار دون نكير مما يقوي أن عاصماً قد ضبط حديثه
وبعض هذه الآثار ولو يعتضد بمرفوع فإنه
يصلح لبناء عقيدة خصوصاً وأن مراسيل ابن سيرين وابن المسيب من أقوى المراسيل
فإن قال قائل بعد هذا الاستعراض : أنتم
تبنون عقائد وأحكام فقهية على أخبار الصحابة وهي لا تحظى من جهة إسنادية بما يوجد
في المرفوع الذي يتوارد الناس على روايته
فيقال : قد علمنا من استقراء أحوال رواة
المرفوعات الثقات أنهم أهل ضبط وكثير من فتاوى الصحابة تتوافر فيها قرائن التوارد
من غير جهة على الآثار أو إفتاء التابعين بذلك ولا ندفع أن يبنى دين على خبر واحد
صح عن صحابي فإنهم الفتاوى المروية عنهم والأخبار متسقة مع أصول الشريعة لا نكارة
فيها مع كون ضبط الموقوف أيسر ورواية الراوي للموقوف مظنة ضبط فإن الأصل رواية
المرفوع فهذه قرينة ضبط موجودة في عامة الأخبار الموقوفة
وقبل الختم هنا لطيفتان
الأولى تتعلق بالرد على أهل الرأي : وهي
أنهم ردوا حديث المصراة بحجة أنه خبر واحد خالف القياس وقد أخزاهم بأن ورد متن
الخبر من فتيا عبد الله بن مسعود الفقيه الذي يعولون عليه والحمد لله معز الإسلام
بنصره
الثانية : تتعلق بالرد على الجهمية فقد
ألزم بعض المتكلمين ممن أنصف الجهمية الذين يدندون حول رد أخبار الصفات الآحادية
بأنهم لا ينكرون شيئاً منها إلا وله نظير في القرآن فأين يذهبون
وقد أشار إلى هذا المعنى ابن قتيبة في
تأويل مختلف الحديث
حيث قال :" وَالَّذِي عِنْدِي
-وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنَّ الصُّورَةَ لَيْسَتْ بِأَعْجَبَ مِنَ
الْيَدَيْنِ، وَالْأَصَابِعِ، وَالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِلْفُ لِتِلْكَ،
لِمَجِيئِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ مِنْ هَذِهِ، لِأَنَّهَا
لَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِالْجَمِيعِ، وَلَا نَقُولُ فِي
شَيْءٍ مِنْهُ بِكَيْفِيَّةٍ وَلَا حَدٍّ"
وإذا كان نظير ما تنكر من السنة وارداً في
القرآن فأي نكارة تدعي في الخبر وتكذب خبر الثقة وما أتى إلا بأمر له نظير في
القرآن !
وقال العمراني في الانتصار :" وأما الجواب عن قوله إنه من أخبار الآحاد فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول ويوافق ظاهر القرآن فجرى مجرى أخبار التواتر، وعلى أنه إذا جاز الاستدلال بأخبار الآحاد في جلد الإنسان وضرب الرقاب وتحليل الفروج وتحريمها جاز الاستدلال بها في الأصول"
وقال الشاطبي في الاعتصام :" وَلْيَعْلَمِ الْمُوَفَّقُ أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الأحاديث تقصر عن رتبة الصحيح، وإنما أوتي بِهَا عَمَلًا بِمَا أَصَّلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي أَحَادِيثِ الترغيب والترهيب، إذ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْقُرْآنِيِّ وَالدَّلِيلِ السُّنِّيِّ الصَّحِيحِ، فَمَا زِيدَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ إِنْ شاء الله "
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية :" وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْه الْأُمَّة بِالْقَبُولِ، عَمَلًا بِهِ وَتَصْدِيقًا لَهُ - يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِي عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّة، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَي الْمُتَوَاتِرِ. وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّة في ذَلِكَ نِزَاعٌ، كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِه» وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»، وَكَقَوْلِه: «يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَهُوَ نَظِيرُ خَبَرِ الَّذِي أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِبْلَة تَحَوَّلَتْ إِلَى الْكَعْبَة. فَاسْتَدَارُوا إِلَيْهَا.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ رُسُلَه آحَادًا، وَيُرْسِلُ كُتُبَه مَعَ الْآحَادِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ لَا نَقْبَلُه لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه عَلَى خَلْقِه، لِئَلَّا [تَبْطُلَ] حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه.
وَلِهَذَا فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِه وَبَعْدَ وَفَاتِه، وَبَيَّنَ حَالَه لِلنَّاسِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ في [الْسحْرِ] أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ، لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ كَذَّابٌ"
وقال ابن عبد البر وهو يتكلم عن كتاب عمرو بن حزم :
" وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل ، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل " انتهى من" الاستذكار " (2/471) .
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي رحمه الله :
" لا أعلم في جميع الكتب كتابًا أصح من كتاب عَمْرو بن حزم ، وقَال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون يرجعون إليه ويَدَعون آراءهم ". انتهى من" المعرفة والتاريخ " (2/217)
تأمل الأمثلة التي ذكرها
وهذا نص هام في مسألة الاستشهاد بالضعيف المحتمل
وأختم بالتنبيه على حديث سهل بن سعد الساعدي في المرأة الواهبة نفسها والتي زوجها لرجل على سورة من القرآن
فهذا الحديث تواتر عن أبي حازم عن سهل بن سعد وقد رواه عن أبي حازم مالك والثوري ومعمر وحماد بن زيد وغيرها ، وما أنكره أحد منهم ثم إن الحديث فيه قصة والقصة مظنة ضبط من الراوي وثمة قرائن أخرى في متنه تدل على قبوله وإن لم يتفق الفقهاء على القول بمقضتاه لحمل جماعة منهم الخبر على الخصوصية
وقال العمراني في الانتصار :" وأما الجواب عن قوله إنه من أخبار الآحاد فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول ويوافق ظاهر القرآن فجرى مجرى أخبار التواتر، وعلى أنه إذا جاز الاستدلال بأخبار الآحاد في جلد الإنسان وضرب الرقاب وتحليل الفروج وتحريمها جاز الاستدلال بها في الأصول"
وقال الشاطبي في الاعتصام :" وَلْيَعْلَمِ الْمُوَفَّقُ أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الأحاديث تقصر عن رتبة الصحيح، وإنما أوتي بِهَا عَمَلًا بِمَا أَصَّلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي أَحَادِيثِ الترغيب والترهيب، إذ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْقُرْآنِيِّ وَالدَّلِيلِ السُّنِّيِّ الصَّحِيحِ، فَمَا زِيدَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ إِنْ شاء الله "
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية :" وَخَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْه الْأُمَّة بِالْقَبُولِ، عَمَلًا بِهِ وَتَصْدِيقًا لَهُ - يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِي عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّة، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَي الْمُتَوَاتِرِ. وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّة في ذَلِكَ نِزَاعٌ، كَخَبَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِه» وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَة عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا»، وَكَقَوْلِه: «يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَهُوَ نَظِيرُ خَبَرِ الَّذِي أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِبْلَة تَحَوَّلَتْ إِلَى الْكَعْبَة. فَاسْتَدَارُوا إِلَيْهَا.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُ رُسُلَه آحَادًا، وَيُرْسِلُ كُتُبَه مَعَ الْآحَادِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِمْ يَقُولُونَ لَا نَقْبَلُه لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْفَظَ اللَّهُ حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه عَلَى خَلْقِه، لِئَلَّا [تَبْطُلَ] حُجَجَه وَبَيِّنَاتِه.
وَلِهَذَا فَضَحَ اللَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِهِ فِي حَيَاتِه وَبَعْدَ وَفَاتِه، وَبَيَّنَ حَالَه لِلنَّاسِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة: مَا سَتَرَ اللَّهُ أَحَدًا يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ في [الْسحْرِ] أَنْ يَكْذِبَ فِي الْحَدِيثِ، لَأَصْبَحَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ كَذَّابٌ"
وقال ابن عبد البر وهو يتكلم عن كتاب عمرو بن حزم :
" وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل ، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل " انتهى من" الاستذكار " (2/471) .
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي رحمه الله :
" لا أعلم في جميع الكتب كتابًا أصح من كتاب عَمْرو بن حزم ، وقَال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون يرجعون إليه ويَدَعون آراءهم ". انتهى من" المعرفة والتاريخ " (2/217)
تأمل الأمثلة التي ذكرها
وهذا نص هام في مسألة الاستشهاد بالضعيف المحتمل
وأختم بالتنبيه على حديث سهل بن سعد الساعدي في المرأة الواهبة نفسها والتي زوجها لرجل على سورة من القرآن
فهذا الحديث تواتر عن أبي حازم عن سهل بن سعد وقد رواه عن أبي حازم مالك والثوري ومعمر وحماد بن زيد وغيرها ، وما أنكره أحد منهم ثم إن الحديث فيه قصة والقصة مظنة ضبط من الراوي وثمة قرائن أخرى في متنه تدل على قبوله وإن لم يتفق الفقهاء على القول بمقضتاه لحمل جماعة منهم الخبر على الخصوصية
واعتبر ما ذكرت لك في هذه الأحكام في عامة أبواب الفقه خصوصاً ما تدعو إليه الحاجة ترى أنه لا يند عنها إلا الشيء اليسير
وبهذا تعلم حفظ الله عز وجل لدينه وتعلم عظيم فقه السلف الكرام ودقة منهجهم
تنبيه : وجدت كلاماً نفيساً جداً لابن تيمية
قال الشيخ في بيان التلبيس :" وقد كان الثقة يحدث عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه لما رأى قوله إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين لعنه على ذلك وقال هذا تعطيل الإسلام وقد بسط هذا في مواضع والمقصود هنا أن يتبين أن دعواه أن كل دليل سمعي موقوف على مقدمات ظنية دعوى باطلة معلوم فسادها بالاضطرار ولو صح هذا لكان لا يجزم أحد بمراد أحد ولكان العلم بمراد كل متكلم لا يكون إلا ظنًّا وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار وإذا كان آحاد العامة قد بين مراده بكلامه حتى يقطع بمراده فالعلماء أولى بذلك وإذا كان العلماء المصنفون في العلوم يقطع بمرادهم في أكثر ما يقولونه كما يقطع بمراد الفقهاء والأطباء والحُسّاب وغيرهم فالرسول الذي هو أكمل الخلق علماً وبياناً ونصحاً أولى أن يبين مراده ويقطع به وكلام الله تعالى أكمل من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأكمل بياناً فهو أولى بالقطع بمراد الرب فيه من كلام كل أحد ومعاني الكلام منقولة بالتواتر معلومة بالاضطرار أعظم من ألفاظه والمسلمون كلهم يعلمون بالاضطرار أن الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس في الوضوء وبالاغتسال من الجنابة وبالتيمم وأن الله تعالى أمر بالصلاة إلى الكعبة وأمر بالحج إلى البيت الذي بمكة والطواف به والتعريف بعرفات وصوم شهر رمضان وامتناع الصائم من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك من معاني القرآن وأكثرهم لا يحفظون حروف القرآن فمعانيه التي دلت عليها هي معلومة عندهم بالاضطرار منقولة بالتواتر أعظم من العلم بألفاظه الدالة على تلك المعاني ولا يحتاجون في ذلك إلى نقل اللغة ولا نفي المعارض بل الأمر موقوف على مقدمة واحدة وهو العلم بمراد المتكلم وهذا قد يعلم اضطراراً وقد يعلم بأدلة قطعية وقد يكون ظنًّا كذلك العلم بما أخبر له الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الرب وصفاته ومن اليوم الآخر كثير منه أو أكثره معلوم عند الأمة اضطراراً نقلاً متواتراً وإن كان أكثرهم لا يحفظون حروفه وإذا سمعوا حروفه علموا قطعاً أنها دالة على تلك المعاني المعلومة عندهم كما إذا سمعوا قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 97] علموا أن المراد بلفظ البيت البيت الذي بمكة وإذا سمعوا شهر رمضان علموا أن المراد بهذا اللفظ بالشهر التاسع الذي بين شعبان وشوال وإذا سمعوا خلق السموات والأرض علموا أن المراد بذلك أنه هو الذي أحدثهما وابتدأهما وأنشأهما لا أنهما قديمتان ملازمتان له وإذا سمعوا قوله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة 73] وقوله كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) [فاطر 9] علموا أن المراد بذلك إحياء الموتى للقيامة وإذا سمعوا قوله تعالى وتقدس إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] علموا أن ذلك معنى أنه سميع بصير وأمثال ذلك كثير "
ومثل هذا الرجم مقطوع بوجوده في الملة عند عموم عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم في الأزمنة الأولى
قال أبو منصور الماتردي إمام الماتردية في تفسيره وهو يتكلم عن حديث لا وصية لوارث :" فأما من قال: بأنه من أخبار الآحاد، فإن الأصل في هذا أن يقال: إنه من حيث الرواية من الآحاد، ومن حيث علم العمل به متواتر.
ومن أصلنا: أن المتواتر بالعمل هو أرفع خبر يعمل، إذ المتواتر المتعارف قرنًا بقرنٍ مما عمل الناس به لم يعملوا به، إلا لظهوره، وظهوره يغني الناس عن روايته، لما علموا خلوه عن الخفاء ولهذا يقول في الخبر الذي جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع "، فترد به الخبر المروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه من أخبار الآحاد. هو من حيث الرواية من الآحاد، ولكنه من حيث تواتر الناس للعمل به صار بحيث يوجب علم العمل.
فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شيء علموا كله من كتاب أو سنة غير ما ورد، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة، فكذا هذا، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به؛ فلهذا قضينا بنسخه. واللَّه أعلم"
والتواتر العملي هو الذي في الرجم وغيره أيضاً
تنبيه : وجدت كلاماً نفيساً جداً لابن تيمية
قال الشيخ في بيان التلبيس :" وقد كان الثقة يحدث عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه لما رأى قوله إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين لعنه على ذلك وقال هذا تعطيل الإسلام وقد بسط هذا في مواضع والمقصود هنا أن يتبين أن دعواه أن كل دليل سمعي موقوف على مقدمات ظنية دعوى باطلة معلوم فسادها بالاضطرار ولو صح هذا لكان لا يجزم أحد بمراد أحد ولكان العلم بمراد كل متكلم لا يكون إلا ظنًّا وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار وإذا كان آحاد العامة قد بين مراده بكلامه حتى يقطع بمراده فالعلماء أولى بذلك وإذا كان العلماء المصنفون في العلوم يقطع بمرادهم في أكثر ما يقولونه كما يقطع بمراد الفقهاء والأطباء والحُسّاب وغيرهم فالرسول الذي هو أكمل الخلق علماً وبياناً ونصحاً أولى أن يبين مراده ويقطع به وكلام الله تعالى أكمل من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأكمل بياناً فهو أولى بالقطع بمراد الرب فيه من كلام كل أحد ومعاني الكلام منقولة بالتواتر معلومة بالاضطرار أعظم من ألفاظه والمسلمون كلهم يعلمون بالاضطرار أن الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس في الوضوء وبالاغتسال من الجنابة وبالتيمم وأن الله تعالى أمر بالصلاة إلى الكعبة وأمر بالحج إلى البيت الذي بمكة والطواف به والتعريف بعرفات وصوم شهر رمضان وامتناع الصائم من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك من معاني القرآن وأكثرهم لا يحفظون حروف القرآن فمعانيه التي دلت عليها هي معلومة عندهم بالاضطرار منقولة بالتواتر أعظم من العلم بألفاظه الدالة على تلك المعاني ولا يحتاجون في ذلك إلى نقل اللغة ولا نفي المعارض بل الأمر موقوف على مقدمة واحدة وهو العلم بمراد المتكلم وهذا قد يعلم اضطراراً وقد يعلم بأدلة قطعية وقد يكون ظنًّا كذلك العلم بما أخبر له الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الرب وصفاته ومن اليوم الآخر كثير منه أو أكثره معلوم عند الأمة اضطراراً نقلاً متواتراً وإن كان أكثرهم لا يحفظون حروفه وإذا سمعوا حروفه علموا قطعاً أنها دالة على تلك المعاني المعلومة عندهم كما إذا سمعوا قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران 97] علموا أن المراد بلفظ البيت البيت الذي بمكة وإذا سمعوا شهر رمضان علموا أن المراد بهذا اللفظ بالشهر التاسع الذي بين شعبان وشوال وإذا سمعوا خلق السموات والأرض علموا أن المراد بذلك أنه هو الذي أحدثهما وابتدأهما وأنشأهما لا أنهما قديمتان ملازمتان له وإذا سمعوا قوله تعالى كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة 73] وقوله كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) [فاطر 9] علموا أن المراد بذلك إحياء الموتى للقيامة وإذا سمعوا قوله تعالى وتقدس إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه 46] علموا أن ذلك معنى أنه سميع بصير وأمثال ذلك كثير "
ومثل هذا الرجم مقطوع بوجوده في الملة عند عموم عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم في الأزمنة الأولى
قال أبو منصور الماتردي إمام الماتردية في تفسيره وهو يتكلم عن حديث لا وصية لوارث :" فأما من قال: بأنه من أخبار الآحاد، فإن الأصل في هذا أن يقال: إنه من حيث الرواية من الآحاد، ومن حيث علم العمل به متواتر.
ومن أصلنا: أن المتواتر بالعمل هو أرفع خبر يعمل، إذ المتواتر المتعارف قرنًا بقرنٍ مما عمل الناس به لم يعملوا به، إلا لظهوره، وظهوره يغني الناس عن روايته، لما علموا خلوه عن الخفاء ولهذا يقول في الخبر الذي جاء عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع "، فترد به الخبر المروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه من أخبار الآحاد. هو من حيث الرواية من الآحاد، ولكنه من حيث تواتر الناس للعمل به صار بحيث يوجب علم العمل.
فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شيء علموا كله من كتاب أو سنة غير ما ورد، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة، فكذا هذا، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به؛ فلهذا قضينا بنسخه. واللَّه أعلم"
والتواتر العملي هو الذي في الرجم وغيره أيضاً
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم