الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
قال علي الصلابي في كتابه فقه النصر والتمكين ص416:
" وكان القضاء على الرق خاضعًا لسنة التدرج. يقول الدكتور القرضاوي:
ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته لا
يقدم على إلغاء نظام الرق الذي كان نظاما سائدا في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان
محاولة إلغائه تؤدي إلى زلزلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق
روافده، بل ردمها كلها، ما وجد إلى ذلك سبيلاً".
أقول : هذا كلامٌ باطل يهدف منه الصلابي والقرضاوي إلى هدم أحكام الرق
الثابتة في الشرع ، والتي يتفرع عليها عشرات الأحكام التي ذكرها فقهاء الإسلام على
مدى أربعة عشر قرناً مداهنةً للغرب
ونقض ذلك من وجوه:
الأول : أن الله عز وجل لا يداهن العباد ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم
مات وأحكام الرق موجودة ، وقد ألغى ما هو أعظم أثراً على اليحاة الاقتصادية والاجتماعية
وأكثر ذيوعاً عند أهل الجاهلية وهو الربا وثارات الجاهلية ، وألغى عامة أنكحة الجاهلية.
قال الترمذي في جامعه 3087- حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الخَلاَّلُ،
قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ شَبِيبِ
بْنِ غَرْقَدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَبِي، أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَّرَ وَوَعَظَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّ
يَوْمٍ أَحْرَمُ، أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ، أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ؟ قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ:
يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا
فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ لاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ يَجْنِي
وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلاَ وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلاَ إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو
الْمُسْلِمِ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَحَلَّ
مِنْ نَفْسِهِ، أَلاَ وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، لَكُمْ رُءُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ غَيْرَ رِبَا العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، أَلاَ وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ
مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ وُضِعَ مِنْ دَمِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، أَلاَ
وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ
مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ
فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ،
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَى
نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى
نِسَائِكُمْ، فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ
لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلاَ وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ
فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو
الأَحْوَصِ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ.
ثانيها : قوله أن الإسلام ضيق روافد الرق غير صحيح ، وإنما حث على عتق
المؤمنين فقط ، وهذا يدل ضمناً على الحض على إبقاء رق الكفار، ففي حكم القتل الخطأ
جاء النص في الرقبة المؤمنة
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
وفي حكم المكاتبة ( وهو شراء العبد
نفسه من سيده)، قال الله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}
قال ابن أبي حاتم في تفسيره
15286: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ, ثنا وَكِيعٌ, عَنِ ابْنِ عَوْنٍ, عَنِ
ابْنِ سِيرِينَ, عَنْ عَبِيدَةَ:" " فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا " , قَالَ: إِنْ صَلَّى"
وَرُوِي عَنِ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُ
ذَلِكَ.
وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم في جاريته التي لطمها ،
لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعتقها إلا بعد أن امتحنها وعلم أنها مؤمنة ، فلو
كان العتق محضوضاً عليه مطلقاً سواءً كان المعتق مسلماً أو كافراً ما فائدة هذا الامتحان
؟
ولهذا كان الصواب في كفارة الظهار ، أن العتق لا يجزيء إلا لرقبة مؤمنة
وقال مسلم في صحيحه 3787
[21-1509] : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ ، حَدَّثَنِي
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ ، عَنْ سَعِيدِ ابْنِ مَرْجَانَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً
مُؤْمِنَةً ، أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إِرْبٍ مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ،
فخص هذا الأجر العظيم بالرقبة المؤمنة ، ومفهوم هذا أن الرقبة الكافرة لا يحصل بإعتاقها
هذا الأجر العظيم.
ثالثها : أن إلغاء حكم الرق يعني إلغاء ذلك الفضل العظيم المترتب على عتق
الرقاب ، فإذا لم توجد رقاب لإعتاقها تشوف الناس لذلك الأجر العظيم
قال البخاري في صحيحه 2518 : حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
مُرَاوِحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ
فِي سَبِيلِهِ قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا
عِنْدَ أَهْلِهَا، ولا يعرف أفضل الرقاب إلا إذا كان حكم الرق موجوداً أصلاً، بل وجود
الرقيق التيسير على المسلمين في كفاراتهم ونذورهم وأيمانهم التي تتعلق بعتق الرقاب،
وفي بقاء الرقيق مصلحة اعفاف المسلمين غير القادرين على نكاح الحرائر، قال الله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، وفي بقاء الرقيق مصلحة تكثير المسلمين ، فإنه
إذا كثر التسري المباح شرعاً نتج عن ذلك الإنجاب وتكثير المسلمين، وهناك مصلحة أعظم
من هذا كله في استرقاق أهل الكفر ، فإنهم إذا استرقوا وعاشوا بين المسلمين نشأ عن ذلك
في الغالب تعرفهم على أحكام الإسلام ، ودخول الإسلام في قلوبهم.
قال أبو داود في سننه 2677 : حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد يعني ابن
سلمة قال أخبرنا محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه
و سلم يقول: "عجب ربنا عزوجل من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل".
فلو فرضنا أن أصل الرق فيه مفسدة ، فإن الله عز وجل لا يشرع شيئاً إلا
ومصلحته راجحة على مفسدته ، والقرضاوي والصلابي وغيرهم لا يرون الكفر جريمة تستحتق العقوبة
لذا يستثقلون بعض الأحكام التي يظهر فيها مزية المسلم على الكافر ، ويظهر
فيها قصد الشارع لإذلال أهل الكفر وإهانتهم ، أو الأحكام التي تدل على تقديم الدعوة
للكفار على أي شيء آخر .
الوجه الرابع : قال البخاري في صحيحه 2594 : وَقَالَ بَكْرٌ عَنْ عَمْرٍو
عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا فَقَالَ لَهَا وَلَوْ
وَصَلْتِ بَعْضَ أَخْوَالِكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ، فهنا قدم صدقة الأقارب على
العتق ، فهذا يدل على ضرورة بقاء أحكام الرق للمصالح الأخرى التي تترتب عليها ، ولكي
يكون عند الناس أمرٌ عظيم يتواصلون ، وقد علمت مما سبق أن في الرق مصالح أخرى أجل من
مصلحة الصلة.
والخلاصة أن هذا الحكم ليس موجوداً اليوم في واقع المسلمين ، ولكن عدم
وجوده لا يعني أن ننكر مشروعيته مداهنةً للكفار
فإن قيل: ما فائدة مثل هذا البحث
والرق غير موجود ؟
يقال : فائدته أن تأصيل هؤلاء يقتضي أن سوق الجهاد لو قام من جديد فإنه
لا يجوز إرجاع أحكام الرق ، وهذا تحريم لما أحل الله عز وجل ، ثم إنهم ينسبون الشارع
إلى السكوت على ما يراه منكراً مراعاةً للناس مطلقاً
ثم يجعلون هذا أصلاً يبنون عليه
دعوتهم التي اتسمت بالمداهنة ومراعاة أهواء الناس
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم