الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
جاء في كتاب الدرر السنية (4/65) :" وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن
أبا بطين، رحمه الله تعالى: ما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، فيمن اعتمد على كتب
المتأخرين، من غير التفات إلى ما خالفها، من نصوص القرآن والسنة، وكلام السلف، والعلماء
المتقدمين؟
ورأى أن ما حوته هو الذي شرعه
الله لرسوله، وأوجب أن يعبد به؟
وإن قيل له في ذلك، قال: قد اختار
هذه الكتب من هو أعلم منا، وأبصر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وما يقال في مثل
هذا؟ وما يخاف عليه منه؟
فأجاب: لا ريب، أن الله سبحانه فرض على عباده طاعته، وطاعة رسوله، قال
تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} ، ولم يوجب
الله سبحانه على الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به، إلا رسول الله صلى الله عليه
وسلم
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء
على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله
وقال الشافعي، رحمه الله تعالى:
أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن
يدعها لقول أحد من الناس. انتهى.
وقال ابن هبيرة في الإفصاح: اتفقوا
على أنه لا يجوز أن يولى القضا من ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة فإنه قال: يجوز
ذلك.
وقال الشيخ أبو محمد في المغني: يشترط في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد;
وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية; وقال بعضهم: يجوز أن يكون عامياً فيحكم بالتقليد،
لأن الغرض منه فصل الخصومات، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد، جاز، كما يحكم بقول المقومين.
ولنا قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
، ولم يقل بالتقليد
وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
وروى بريدة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق
فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو
في النار " 1، رواه ابن ماجة.
قال: والعامي يقضي على جهل، ولأن
الحكم آكد من الفتيا، لأنه فتيا وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون مقلداً، فالحكم أولى.
وقال في الإنصاف: ويشترط في القاضي أن يكون مجتهداً؛ هذا المذهب - إلى
أن قال - واختار في الترغيب: ومجتهد في مذهب إمامه للضرورة; واختار في الإفصاح والرعاية:
ومقلداً. قلت: وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس. انتهى.
وذكر ابن القيم - في مسألة التقليد في الفتيا - ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يجوز الفتوى في التقليد، لأنه ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق
عليه اسم عالم؛ وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو قول جمهور الشافعية.
والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز أن يقلد غيره من العلماء،
إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به لغيره; وهذا قول ابن
بطة وغيره من أصحابنا.
والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة والضرورة، ولكن قد دعت الحاجة
والضرورة إليه من زمان طويل لا سيما في هذا الوقت.
وحينئذ فيقال: التقليد ثلاثة أنواع: أحدها: التقليد بعد قيام الحجة وظهور
الدليل، فهذا لا يجوز
كما قال الشافعي، رحمه الله: أجمع
المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها
لقول أحد من الناس.
النوع الثاني: التقليد مع القدرة على الاستدلال والبحث عن الدليل، بأن
يكون متأهلاً لذلك، فهذا مذموم أيضاً، لقدرته وتمكنه من معرفة الدليل.
النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو نوعان:
أحدهما: من كان من العوام الذين
لا معرفة لهم بالحديث والفقه، وليس لهم نظر في كلام العلماء، فهؤلاء لهم التقليد بغير
خلاف؛ فإذا وقعت له حادثة استفتى من علمه عالماً عدلاً، ورآه منتصباً للإفتاء والتدريس؛
واشترط الشيخ تقي الدين مع ذلك الاستفاضة بأنه أهل للفتيا.
النوع الثاني: من كان متأهلًا
لبعض العلوم، قد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في بعض كتب متأخري الأصحاب، كالإقناع،
والمنتهى عند الحنابلة، لكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلام العلماء،
فهذا له التقليد أيضاً؛ إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا}
ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة
وذلك لقول الله تعالى: {فَاسْأَلوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما
شفاء العي السؤال "
ولكن هذا لا ينبغي له التسرع إلى
إفتاء غيره، فإن دعت الحاجة إلى فتواه، فهو إخبار عن مذهب إمامه الذي ينتسب إليه، لا
فتيا؛ قاله جماعة من الأصحاب; وعليه أن يتقي الله ما استطاع، فإن كان له فهم قوي وإدراك،
بحيث إذا نظر المسائل الخلافية، ورأى أدلة كل من المختلفين، وكان فيه ذكاء وفطنة، يدرك
بها الراجح من المرجوح فيما يراه، عمل بما ترجح عنده
فإذا كان طالب العلم متمذهباً
بأحد المذاهب الأربعة، ثم رأى دليلاً مخالفاً لمذهب إمامه، وذلك الدليل قد أخذ به بعض
أئمة المذاهب، ولم يعلم له معارضاً، فخالف مذهبه وتبع ذلك الإمام الذي أخذ بالدليل،
كان مصيباً؛ بل هذا هو الواجب عليه، ولا يخرج بذلك عن التقليد، فهو مقلد لذلك الإمام،
فيجعل إماماً بإزاء إمام، ويبقى له الدليل بلا معارض"
إلى أن قال :" فمن قال: إن ما أودع في بعض الكتب المصنفة، هو الذي
يجب اتباعه، فهو مخطئ يخاف عليه العقوبة في قلبه; ولازم هذه المقالة: أنه إذا وجد عن
المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ما يخالف بعض ما فيها، أن الذي في هذه الكتب هو الواجب
الاتباع، دون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل كثير منهم يصرحون بذلك ويلتزمونه،
مع أنه مخالف للكتاب، والسنة; فهو مخالف لقول الأئمة الأربعة الذين صنفت هذه الكتب
على مذاهبهم، لأنهم نهوا عن تقليدهم.
قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين
قلناه
وصرح مالك بأن من ترك قول عمر
بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي، أنه يستتاب
وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا
بقولي الحائط
وقال الإمام أحمد: لا تقلدوني،
ولا تقلدوا مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا، وقال: لا تقلد دينك
الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا.
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان،
والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . أتدري ما الفتنة؟
الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
ويقال أيضاً لمن قال: وضع هذه الكتب من هو أعلم منا، إذا كان ممن ينتسب
إلى الحنابلة، فوضع كتب الشافعية، والمالكيه، والحنفية من هو أعلم منك، فما الذي أوجب
اتباع بعضها دون بعض؟!
فلو قال صاحب هذه المقالة: أنا
أعلم أن التقليد ليس بعلم، وأن الواجب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن
قصور أفهامنا وضعف إدراكنا أوجب لنا التقليد، وألجأت الضرورة إليه؛ فلو تبين لي في
بعض ما قلدت فيه أنه مخالف للسنة، اتبعت السنة; وهذا هو الواجب علي، لكني قليل التمييز،
لقصور فهمي، وأعتقد أن الواجب اتباع السنة، ولا عذر لأحد في مخالفتها إذا ثبتت عنده"
أقول : وهذا التأصيل العجب ينادي به بعض من ينتسب للمنهج السلفي والله
المستعان ويقصر الأمر على المعاصرين فحتى المتأخرون لا ذكر لهم خصوصاً في بعض الأبواب
كباب علم الحديث تصحيحاً وتضعيفاً
قال الإمام المجدد في الدرر السنية (1/73) :" قالوا _ يعني أعداء
الدعوة _ : القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثالنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام
المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون.
قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي،
والحنبلي، كل: أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم. فلما أبوا ذلك
نقلت كلام العلماء من كل مذهب
لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك،
وتحققوه، فلم يزدهم إلا نفورا"
فتأمل هذا التأصيل العجب ( نحن لا نفهم القرآن ولا السنة ولا كلام السلف
) وهذا يقول به بعض من ينتسب للمنهج السلفي اليوم
وجاء في الدرر السنية من قول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر (4/57)
:" والمتعصبون لمذاهب الأئمة تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا
أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر، فالآخر; وكلما تأخر
الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه; فأهل كل عصر إنما يقضون
بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد، ازداد كلام المتقدمين هجراً ورغبة عنه،
حتى إن كتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم، فهي مهجورة"
وهذا حال بعض الناس ليس في كتب الفقه بل في كتب العقيدة وكتب الحديث بل
وحتى كتب الرقائق والله المستعان
وقال الشيخ حمد أيضاً :" وتجد كتب المتقدمين من أصحاب أحمد مهجورة
عندهم؛ بل قد هجروا كتب المتوسطين، ولم يعتمدوا إلا على كتب المتأخرين.
ف "المغني" و "الشرح" و "الإنصاف" و
"الفروع" ونحو هذه الكتب، التي يذكر فيها أهلها خلاف الأئمة، أو خلاف الأصحاب،
لا ينظرون فيها؛ فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار، لا أتباع الإمام أحمد"
وهذا ينطبق على كثير اليوم والله المستعان
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حماد بن معمر كما في الدرر السنية (15/455)
:" ويدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب، ومعرفة الطرق الموصلة إليه، من
الكتب المصنفة، والعلماء المتقدمين، وسائر الأدلة المتعددة، والتفرغ له عما يشغل به
غيرهم"
وحال الناس اليوم عجيبة في العزوف عن علوم السلف إلا من رحم الله ، حتى
في أبواب الرقائق
بل وفي باب التفسير الذي بني على
الإيضاح أصلاً
وكلمات السلف متعاضدة في لزوم الأمر العتيق ، وما كان عليه الناس قبل أن
يختلفوا ، والاقتداء بمن قد مات
ولا يلزم من ذلك الطعن بمن تأخر كما أن قول ابن مسعود ( من كان منكم مستناً
فليستن بمن قد مات ) لا يلزم منه الطعن في الأحياء
والعالم الفاضل قد تقع منه زلة ، بل إن عمر عد زلة العالم من هوادم الدين
الثلاثة ، وكيف لك أن تبصر زلة العالم إلا بالرجوع إلى كتب من تقدمه فإن أمارة الباطل الحدوث
والجدة ، وأمارة الحق أنه عتيق تراه عن الأوائل مشهوراً وإن كان في زمنك غير مشهور
فإنك قد تكون تعيش في أزمنة غربة الإسلام والسنين الخداعات فليس ما عليه عامة الناس
بمعيار لمعرفة الحق ، بل على العكس تماماً
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم