مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: الرد على « عماد فراج » في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله

الرد على « عماد فراج » في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
      
                     
جاء في موقع عماد فراج الرسمي في مقال بعنوان «الحكم في الأمير وغير الأمراء على السواء»:
 السؤال: قول ابن تيمية: "وكل من حكم بين اثنين فهو قاض؛ سواء كان صاحب حرب، أو متولي ديوان، أو منتصباً للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط؛ فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام"اهـ

قال البعض: وعليه فالحكم في حق الأمير، وغير الأمير؛ على السواء.
الجواب:
الحمد لله: كأن السائل يريد أن يقول: إذا كنتم تكفرون الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله؛ فيلزمكم إذاً تكفير كل أحد - حاكماً كان أو غيره - حكم بغير ما أنزل الله؛ على غيره، أو على نفسه.

وهذا لازم لا يلزم؛ لما يلي:

أولاً: صاحب الحرب، ومتولي الديوان، والمنتصب للاحتساب، والحاكم بين الصبيان في الخطوط، وغيرهم ممن يحكم بين الناس، ويسمى حاكماً؛ لم يتخذ شرعاً مخالفاً؛ يسوس به الناس، ويحاكمهم إليه، ويلزمهم به؛ بل غاية ما هنالك: أنه قد يحكم بخلاف حكم الله؛ لهوى في نفسه، أو لرشوة، أو لغير ذلك من أسباب؛ مع قيام الشريعة، وظهورها، وقبولها، والعمل بها.

ثانياً: قوله تعالى (ومـن لـم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) خاص في الحكم بين الناس؛ لا يدخل في ذلك أعمال الإنسان فيخاصة نفسه؛ كحلق اللحية، وإسبال الثياب مثلاً.

ثالثاً: الحاكم الذي يفصل بين الناس في خصوماتهم، ويحكم في أقضيتهم؛ أميراً كان أو قاضياً؛ إذا اتخذ حكماً مخالفاً للشرع، وجعله مرجعاً له دون الشرع؛ يتحاكم إليه ويحكم به؛ كفر بهذا الفعل.

رابعاً: أننا نفرق بين القاضي الذي يجتهد فيحكم بخلاف الشرع؛ فهذا معذور، وبين من يحكم بهوى، أو بجهل؛ فهذا ليس بمعذور.

خامساً: أنتم تقولون: لا يكفر إلا إذا استحل؛ فهل تُكفَّرون من استحل أن يحكم بين الصبيان في الخطوط بغير حكم الله؟"

أقول : مذهب فراج أن من حكم بغير ما أنزل الله لهواه لا يكفر ولو حكم في مسائل كثيرة جداً ، وإذا كتب هذا الهوى وسماه قانوناً فهو كافر !

فمناط التكفير هو الكتابة أو التقنين ، وأما الإلزام الذي تحدث عنه فهو واقع من كل من حكم بغير ما أنزل الله حتى الذي يحكم في مسألة واحدة لهوى فيه يلزم المتحاكمين بحكمه
 ويلزم عماد فراج أن يكفر من حكم بغير ما أنزل لهوى ، فإن الهوى قد يكون إلها يعبد من دون الله قال الله تعالى : ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾، فلماذا القانون يكون طاغوتاً وصنماً ووثناً، ولا يكون الهوى طاغوتاً وصنماً ووثناً، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً فالحاكم الذي عرف بقبول الرشوة حتى صار كل من أراد الحيف الذهاب، من جهة الأثر أشر ممن يقنن قانوناً يخالف الشرع ولا يحكم به إلا نادراً هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن جعل مناط التكفير التقنين قول حادث وأصحابه لا يأتون بدليل إلا ويدخل فيه الصور التي لا يكفرون بها فاستدلال فراج بقول الله تعالى ﴿ومـن لـم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾، يدخل في الآية من يحكم بغير ما أنزل الله لهوى في مسألة أو عدة مسائل وهذا عماد فراج لا يكفره فكيف أخرجه من عموم الآية.

فإن قيل : قد حملتم الآية على الكفر استدلالاً بأثر ابن عباس ، فكيف أخرجتم المستحل والمستكبر والجاحد ؟

فيقال : المستحل لكل معصية كافر وهذا يجيب على السؤال الأحمق الذي ختم به مقاله، وهذه الآية نص عدد من أهل العلم أن الذين يستدلون بها على تكفير الحكام هو الخوارج.


قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره [2/ 42]: اعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية ويقولون من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر وأهل السنة لا يكفرون بترك الحكم. اهـ

قال ابن عبد البر في التمهيد [17/ 16]: وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب واحتجوا بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز وجل: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾.اهـ

وقال الجصاص في أحكام القرآن [4/ 92]: وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بغير ما أنزل الله من غير جحودٍ لها. اهـ

قال الشاطبي في الإعتصام [2/ 183 - 184] والآجري في الشريعة [1/ 31] واللفظ له: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ ويقرؤون معها ﴿ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾ فإذا رأوا الإمام حكم بغير الحق قالوا كفر. اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة [5/ 131]: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ..﴾ وهذه الآية مما يحتج به الخوارج على تكفير الولاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. اهـ

الوجه الثالث : أن المكوس التي ظهرت في الأزمنة المتأخرة حكم بغير ما أنزل الله تقنيناً ويعاقب الحاكم من لا يؤدي المكوس ( الضرائب ) ، ومع ذلك لم يكفر أحد من أهل العلم أصحاب المكوس
 ورسالة شيخ الإسلام في المظالم المشتركة معروفة، وكذلك أصحاب مصانع الخمور وبيوت الدعارة يقننون المعاصي ، ويثيبون الموافق ويعاقبون المخالف لهذه القوانين ولم يكفرهم أحد.

الوجه الرابع : قال شيخ الإسلام بن تيمية كما في منهاج السنة [5/ 130]:ولا ريب أن من لَمْ يعتقد وجوب الحكم بِمَا أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بِمَا يراه هو عدلاً من غير إتباع لما أنزل الله فهو كافر
 فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتِهِم التي لَمْ يُنْزِلها الله - سبحانه وتعالى -، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بِهَا المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بِمَا أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً. اهـ

قلت: فانظر كيف جعل مناط تكفير من يتحاكمون إلى سوالف البادية الاستحلال وليس مجرد التحاكم -وهي في حقيقة الأمر قوانين متبعة محفوظة ولا يؤثر فيها أنها لا تكتب-.

وقال الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ -رحمه الله- كما في منهاج التأسيس [ص 71]:وإنَّما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتَّتَر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك سوالف البادية وعاداتُهم الجارية ...

فمن استحل الحكم بِهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر؛ قال تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[المائدة:44] .. وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا: كفر دون الكفر الأكبر، لأنَّهم فهموا أنَّها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة.اهـ

قلت: فانظر كيف نزل الآية وتفسيرها على المقننين.

وقال صديق حسن خان في [الدين الخالص3/ 305]:الحكام ملزمون بأن يحكموا بالكتاب والسنة، وأما الحكام من أهل الرياسة والدولة، فحكمهم - أيضاً- حكم هؤلاء في إمضاء الأوامر والنواهي بما أنزل الله، وهو الكتاب المنزل من السماء على الرسول صلى الله عليه وسلم والحديث المنزل من قلب الرسول ولسانه على الأمة
 ولكن فسد الزمان فساداً بالغاً، وظهر الشر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ فلا يوجد واحد في ألف من الولاة والقضاة وأهل الفتوى يحكم بذلك أو يعرفه أو يعلمه بل أكثر الرؤساء تابعون للفرق الضالة، لا يجدون بداً من طاعتهم في الحكم الطاغوتي، والقضاء الجبتي وإن كان بعضهم عالماً بما أنزل الله والآية الشريفة تنادي عليهم بالكفر، وتتناول كل من لم يحكم بما أنزل الله، اللهم إلا أن يكون الإكراه لهم عذراً في ذلك، أو يعتبر الاستخفاف أو الاستحلال؛ لأن هذه القيود إذا لم تعتبر فيهم، لا يكون أحد منهم ناجياً من الكفر والنار أبداً. اهـ

وقال- أيضاً-[3/ 309]:حكم الولاة والحكام المكرهين على الحكم بالقوانين الوضعية وأما من لا يقدر على ذلك وهو مكره من جهة المالك، ومقهور في مجاري أمور الممالك، ولا يجد بداً لنفسه ولأتباعه لمصالح هناك ومفاسد في مخالفة ذلك، ولا يستخف، ولا يستحل شيئاً مما أنزله الله، وجاء به رسول الله، فالله أرحم الراحمين، وسيد الغافرين.اهـ

وقال الشيخ ابن باز كما في مجموع فتاواه ومقالاته [2/ 326 - 330]: ومن يدرس القانون، أو يتولى تدريسها؛ ليحكم بِهَا، أو ليعين غيره على ذلك مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله، ولكن حمله الهوى، أو حب المال على ذلك، فأصحاب هذا القسم لا شك فساق، وفيهم كفر وظلم وفسق، لكنه كفر أصغر، وظلم أصغر، وفسق أصغر، ولا يخرجون به من دائرة الإسلام، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم، وهو قول ابن عباس، وطاوس، وعطاء، ومجاهد، وجمع من السلف والخلف، كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم، وذكر معناه العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الصلاة .. ومن يدرس القوانين أو يتولى تدريسها مستحلاًّ للحكم بِهَا، سواء اعتقد أن الشريعة أفضل، أم لَمْ يعتقد ذلك، فهذا القسم كافر بإجماع المسلمين كفرًا أكبر؛ لأنه باستحلاله الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله يكون مستحلاًّ لما علم من الدين بالضرورة أنه محرم.

فيكون في حكم من استحل الزنا والخمر ونحوهما؛ ولأنه بِهَذَا الاستحلال يكون قد كذب الله ورسوله، وعاند الكتاب والسنة، وقد أجمع علماء الإسلام على كفر من استحل ما حرمه الله، أو حرم ما أحله الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومن تأمل كلام العلماء في جميع المذاهب الأربعة في باب الردة اتضح له ما ذكرنا. اهـ

الوجه الخامس :
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [عليك السّمعُ والطّاعةُ في عُسْرِك، ويُسرِك، ومَنشطك ومَكرهك، وأثرةٍ عليكَ] رواه مسلم.

قلت: ووجه الشاهد قوله: [وأثرة عليك] ويعني الاستئثار بأمور الدنيا عنك، ولا يخفى بأن هذا الاستئثار من الوالي بالدنيا عن الرعية ليس من الحكم بما أنزل الله ..

(2) عن حذيفة رضي الله عنه يرفعه: ((يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس , قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمعُ وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) رواه مسلم.

قلت: قوله: ((لا يهتدون بهداي)) صريحٌ في أنهم لا يحكمون الشريعة وهذا يشمل التقنين وغيره.

(3) سأل سلمةُ بنُ يزيد الجُعفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ((يا نبي الله أرأيتَ إن قامت علينا أمراءُ يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلُوا وعليكم ما حملتم)) رواه مسلم.

قلت: لا شك بأن منع الناس حقوقهم ليس من الحكم بما أنزل الله، بل إنه لا يحدث في الصورة المذكورة بالحديث إلا بالتقنين أو التشريع.

واعلم أن القوم يأتون بنصوص لشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فيمن يتحاكم للعقل أو الذوق أو السياسات ، وينزلونها على من يحكم بغير ما أنزل الله وإن لم ينسب ذلك للشرع
 وابن تيمية وابن القيم يتكلمان عن الأشاعرة الذين يحكمون العقل ويجعلونه نتاجه شريعة تتبع في أسماء الله وصفاته ، وعلى الصوفية الذين يحكمون الذوق ويتعبدون لله به ، فلا يقاس هؤلاء على من حكم بغير ما أنزل الله ولم ينسب ذلك للشرع

وبقي النظر أن الاستحلال يظهر في أمور غير قوله ( هذا حلال ) فمن صرح أن الحكم بغير ما أنزل الله عدل أو وصف الشرع بالظلم أو التطرف أو اعتقد أن الديمقراطية لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية أو سن قوانين هي كفر في نفسها فهذا كافر أو واقع في الكفر

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي