مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: براءة أبي القاسم الجنيد من أباطيل متأخري الصوفية

براءة أبي القاسم الجنيد من أباطيل متأخري الصوفية


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


فقد من الله عز وجل علي بتدريس كتابي «اقضاء الصراط المستقيم» و «الاستقامة»كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية لبعض إخواني من طلبة العلم
وكتب شيخ الإسلام تفتح له آفاقاً في فهم الأمور على ما هي عليه ، وإزالة ما تلجن عندك من الغبش والتشويش الناشيء عن الأخطاء المنتشرة في بيئاتنا العلمية، والقراءة المتأنية تختلف اختلافاً كلياً في باب الفائدة ، عما عليه القراءة السردية التي يقرأها المرء مع نفسه.

وقد لفت نظري أثناء القراءة أن الشيخ يشير إلى أن متأخري الصوفية أحدثوا الكثير من الأمور التي لا أصل لها عند متقدمي المنسوبين للتصوف، بل بعض من ينتسب إليه الصوفية إذا درست سيرته وجدت أنه لا دليل على أنه كان (صوفياً ) بل غاية ما في الأمر أنه كان زاهداً غلبت عليه العبادة ن وكان ينشأ له لذلك أحوال يعبر عنها بعبارات مستحسنة ، فيأتي من يجعله ( صوفياً ) ثم ربما افترى عليه بعض ضلالاته.

لهذا قلت ( المنسوبين للتصوف ) ولم أقل ( الصوفية ) وأعني بهؤلاء أمثال إبراهيم بن أدهم وذي النون المصري وأبي تراب النخشبي والسري السقطي وأبي سليمان الداراني وأحمد بن أبي الحواري وغيرهم، وأما أمثال الحسن البصري والفضيل بن عياض فنسبتهم للتصوف إلى السخف ما هي !

لذا قررت دراسة تراجم هؤلاء وتحقيق قربهم وبعدهم من السنة ، ومما عليه متأخري الصوفية واعتمدت في ذلك كتاباً يعد أوثق كتاب جمع أخبار القوم على جمعه واستسقصائه وهو كتاب ( حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ) لأبي نعيم الأصبهاني، وشرعت في الأمر أجمع ما صح في الباب وما كان فيه ضعفاً محتملاً يحتمل في الآثار المقطوعة.

وبعد دراسة الكثير منها يمكن تلخيص أحوال هؤلاء القوم أنهم أناس غلبت عليهم العبادة وقد وقع لهم أحوال استغرقوا في شرحها والحث عليها ، غير أنهم عبروا عنها بألفاظ لا تشبه ألفاظ الصحابة والتابعين في المبنى
وإن شابهتها في المعنى ، وربما لا تشابهها في هذا ولا ذاك ، بل يغلب على ألفاظهم التأنق ومراعاة الأسجاع والإغراب في الألفاظ ، إلى حد يصل بعباراتهم في بعض الأحيان إلى الإشكال والاعجام حتى يحتاج المرء إلى أن يتأمل طويلاً في كلامهم حتى يفهم المراد.

وهذا المسلك ينافي التصوف الذي يدعون إليه ، فإن التصوف فيه دعوة إلى ترك العجب وكل ما يتوصل به إلى العجب لهذا كانوا يستغنون عن بعض ملذات الدنيا ، وحتى أبو نعيم مؤلف الحلية كان يأخذه زهو الرواية فيتفنن في تقليب اسم شيخه وتكنيته ونسبته تارةً إلى أبيه وأخرى إلى جده ، حتى إنك لتظن أنهم عدة رجال وهو رجل واحد ، وهذا ينافي التصوف الذي يدعو إلى البعد عن أسباب العجب.

وزيادة على هذا وذاك ، قد فتح هذا المسلك باباً للزنادقة يظهر بعضهم التصوف ثم يعبر بعبارات يريد بها الكفر ، ويظن بعض الناس أن معانيها صالحة ، ولكنها على طريقة القوم في الإلغاز والتكنية، ومع ذلك فلهم عبارات كثيرة رائقة وعامتهم ما كانوا قبورية ولا جهمية ولا طرقية ولا دعاة رهبانية محضة.

وقد أخذتهم هذه الأحوال عن كثير من العلم ، فوقع منهم بعض الأمور المخالفة للسنة لعدم الخبرة بالسنة
وقد ظهر فضل من جمع بين العلم والعبادة على الوجه الأتم كسفيان الثوري وابن المبارك وأحمد ابن حنبل عليهم جلياً، بل ظهر فضل من غلب عليه العلم كالإمام مالك عليهم ، فالعلم لا يعدله شيء لمن خلصت نيته
كما قال الزهري وأحمد.

وقد أبان شيخ الإسلام فضل أهل العلم بالحديث عليهم جلياً
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (16/48-49) :" فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين ، وآخر لا ينام الليل ، وآخر لا يفطر ، وغيرهم أقل عبادةً منهم ، وأرفع قدراً في قلوب الأمة ، فهذا كرز بن وبرة ، وكهمس ، وابن طارق ، يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة ، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع ".

وقد غلط في هذا الباب طائفتان:

طائفة خلطت هذا النوع من المنسوبين للتصوف بالزنادقة الخلص الذين انتسبوا للصوفية من المتأخرين ، أو القبورية فذمهم جميعاً بالذم نفسه ، وهذا يظهر في مسلك محمد حامد الفقي في تعليقاته على مدارج السالكين.
وطائفة خلطت بين الفريقين فإذا رأت كلمة في الثناء على بعض المتقدمين المنسوبين للتصوف حملتها على المبتدعة من المتأخرين.

وكلا المسلكين مخالف لسبيل العدل الذي أمرنا الله عز وجل به ، وإن كان أصحاب المسلك الأول أهل اتباع ، وأما المسلك الثاني فأصحابه أهل أغراض دنيئة
 قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ﴾
 وقال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

وجمع آثار المتقدمين من المنسوبين للتصوف ، وبيان مخالفتهم لمتأخري الصوفية أمرٌ يطول فيه الشرح
 ولكنني رأيت أن أذكر أنموذجاً يبين المراد ، وهو الجنيد بن محمد، وسبب وقوع الاختيار عليه أنه الصوفية المتأخرين عامتهم يعظمه ، حتى صار من الأبيات المعروفة التي يلخص فيها بعضهم الحال الشيطانية التي عليها كثيرٌ من أهل المغرب:
في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك

ولو أدركتهم الجنيد السالك لكفرهم !

فأردت أن أجمع آثاره ثم أبين أوجه مخالفته لمتأخري الصوفية الذين يعظمونه ويثنون عليه بل وينتسبون إليه:

(1) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 255) :
 سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْمُفِيدَ يَقُولَانِ: سَمِعْنَا أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُولُ:
عِلْمُنَا مَضْبُوطُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبِ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ لَا يُقْتَدَى بِهِ.
 هذا خبر ثابت عن الجنيد وهو من أجل الأخبار المنقولة عنه.

وقد احتفى شيخ الإسلام بهذا الخبر فقال في الاستقامة ص249 :
" وكلام المشايخ الذين ذكرهم أبو القاسم في هذا الأصل كثير مثل ما ذكره عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال ربما يقع النكتة في قلبي من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة
 وعن صاحبه أحمد بن أبي الحواري أنه قال من عمل بلا أتباع سنة فباطل عمله
 وعن سهل بن عبد الله التستري أنه قال كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يقفعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس
 وعن أبي حفص النيسابوري أنه قال من لم يزن أفعاله وأحواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال
 وعن الجنيد بن محمد أنه قال الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الجنيد أيضا أنه قال من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة".

وكذا احتفى به ابن القيم في مدارج السالكين حيث قال (2/ 367) :" وأما عن جملة العلم : فكلام أبي القاسم الثابت عنه في ضرورة الصادق إلى العلم وأنه لا يفلح من لم يكن له علم وأن طريق القوم مقيدة بالعلم وأنه لا يحل لأحد أن يتكلم في الطريق إلا بالعلم فمشهور معروف قد ذكرنا فيما مضى طرفا منه كقوله : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة
وأيضا فإن علم العلماء الذين أشار إليهم : هو ما فهموه واستنبطوه من القرآن والسنة"
 وفي قول الجنيد هذا عدة مسائل:

المسألة الأولى : الرد على من نفر من العلم الشرعي من أهل البدع واعتمدوا على ما أسموه بالمكاشفات والمنامات وقالوا ( أنتم تأخذون علمكم ميتاً عن ميت ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت )
 ومن سمى علم الحديث بعلم الورق وسمى علمهم علم الخرق أو علم الحقائق
 وقد أطنب ابن الجوزي في الرد على هؤلاء في تلبيس إبليس ، وقد قال الله عز وجل : ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، والنصوص في هذا الباب كثيرة جداً.

المسألة الثانية : الرد على من حكم العقل واعتمد علم الكلام .

المسألة الثالثة : الرد من جعل المجاذيب والمجانين شيوخاً للطريق وقال (خذ الحكمة من أفواه المجانين).

المسألة الرابعة : أهمية حفظ القرآن وكتابة الحديث ( بإسناده ) لمن سيصير إماماً مقتدى به ، وقد اشتهر في علم الأصول أنه لا يشترط للإمام المجتهد أن يكون حافظاً للقرآن ، بل يكفي أن يحفظ آيات الأحكام فقط ، واعترض عليه الأبهري المالكي بأن آيات الأحكام غير محصورة بعدد ومن حصرها فقد غلط
 وقد يستنبط الإمام من قصة من قصص الأنبياء أحكاماً فقهية كثيرة , وهذا قوي
 وكتابة الحديث لا تنفع ما لم يميز المرء بين الصحيح والسقيم وإلا صار حاطب ليل يخبط خبط عشواء ، ففي هذا بيان فضيلة أهل الحديث.

المسألة الخامسة : في هذا الرد على من ترك الكتاب والسنة واتجه إلى ما يسمونه بالسماع ، وهي القصائد الملحنة التي افتتن بها خلقٌ كثير
 والعجب أنهم يأتون بالقصائد التي قالها بعض من هو متيم مدنف قد أحرق العشق قلبه وينزلونها على رب العالمين
 وقد انتقد هذا المسلك المشين ابن القيم في رسالته في السماع ، وقبله شيخ الإسلام في الاستقامة وإن كان ابن القيم قد أطنب
 ولما غلب على كثير من المتأخرين منهم التعطيل ، نزهوا الله عز وجل عن الأمر ، وصاروا يقولون هذه القصائد في النبي صلى الله عليه وسلم ! إمعاناً في الشرك والإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم.

فإنك تسمع بعض الأبيات التي لو سمعها فحل لأمذى ، فتقول ( من هذه الفاتنة التي أخذت بلب هذا المسكين ) فيفاجؤك بقوله في آخر القصيدة بقوله ( سكارى في هو طه سكارى ) ، برأ الله نبيه من هذا الخطل
 ويأتون بأمرد حسن الصوت ليقول هذه الأبيات فالله المستعان !
 وتأثر بهم الإخوان المفلسون لاتصال السند المعروف ، فلا تكاد ترى منشداً إلا وهو حسن الصورة ، وإن لم يكن أمرداً تكلف ذلك بحلق لحيته أو تهذيبها !

وبعضهم يصرح ب ( ليلى ) ويقول ( ليلى هي الكعبة ) !

فعلاً ( سكارى في الهوى )!

وقد سئل شيخ الإسلام عن بعض النساء المتصوفات في عصره كن يجمعن في مجالس سماع ويغلبهن الحال ( زعمن ) فيقطعن ثيابهن !
وما أظن الحال يبلغ بأحد هذا المبلغ وحب الله ورسوله خير ولا يأتي إلا بخير ، وإنما فيهن شيء آخر غير غلبة الحال !

(2) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 256) : قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُبَيْشٍ النَّاقِدِ الصُّوفِيِّ صَاحِبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ بِبَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَأَقَرَّ بِهِ، قُلْتُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ:
 إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عِقْدِ الْحِكْمَةِ تَعْرِيفُ الْمَصْنُوعِ صَانِعَهُ وَالْمُحْدَثِ كَيْفَ كَانَ أَحْدَثَهُ؟ وَكَيْفَ كَانَ أَوَّلُهُ؟ وَكَيْفَ أُحْدِثَ بَعْدَ مَوْتِهِ؟
 فَيَعْرِفُ صِفَةَ الْخَالِقِ مِنَ الْمَخْلُوقِ وَصِفَةَ الْقَدِيمِ مِنَ الْمُحْدَثِ، فَيَعْرِفُ الْمَرْبُوبُ رَبَّهُ وْالْمَصْنُوعُ صَانِعَهُ
وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ سَيِّدَهُ
 فَيَعْبُدُهُ وَيُوَحِّدُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيَذِلُّ لِدَعْوَتِهِ وَيَعْتَرِفُ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ
فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْمُلْكِ لِمَنِ اسْتَوْجَبَهُ وَلَمْ يُضِفِ الْخَلْقَ فِي تَدْبِيرِهِ إِلَى وَلِيِّهِ
 وَالتَّوْحِيدُ عِلْمُكَ وَإِقْرَارُكَ بِأَنَّ اللَّهَ فَرْدٌ فِي أَوَّلِيَّتِهِ، وَأَزَلِيَّتِهِ لَا ثَانِيَ مَعَهُ وَلَا شَيْءَ يَفْعَلُ فِعْلَهُ وَأَفْعَالَهُ الَّتِي أَخْلَصَهَا لِنَفْسِهِ
 وَأَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَلَا يُسْقِمُ وَلَا يُبْرِئُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يَضَعُ وَلَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَلَا يُمِيتُ وَلَا يُحْيِي وَلَا يُسْكِنُ وَلَا يُحَرِّكُ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ
فَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقِيلَ لَهُ: بَيِّنِ التَّوْحِيدَ وَعَلِّمْنَا مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ الْيَقِينُ، فَقِيلَ لَهُ: بَيِّنْ لَنَا
فَقَالَ: هُوَ مَعْرِفَتُكَ أَنَّ حَرَكَاتِ الْخَلْقِ وَسُكُونَهَا فِعْلُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ وَحَّدْتَهُ
 وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّكَ جَعَلْتَ اللَّهَ وَاحِدًا فِي أَفْعَالِهِ إِذْ كَانَ لَيْسَ شَيْءٌ يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ
وَإِنَّمَا الْيَقِينُ اسْمٌ لِلتَّوْحِيدِ إِذَا تَمَّ وَخَلُصَ
 وَإِنَّ التَّوْحِيدَ إِذَا تَمَّ تَمَّتِ الْمَحَبَّةُ وَالتَّوَكُّلُ وَسُمِّيَ يَقِينًا، فَالتَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالتَّوْحِيدُ قَوْلُ الْعَبْدِ، فَإِذَا عَرَفَ الْقَلْبُ التَّوْحِيدَ وَفَعَلَ مَا عَرَفَ فَقَدْ تَمَّ
 وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ التَّوَكُّلَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَإِذَا فَعَلَ مَا عَرَفَ فَقَدْ تَمَّ إِيمَانُهُ وَخَلُصَ فَرْضُهُ
لِأَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ لَا يَفْعَلُهُ شَيْءً غَيْرُ اللَّهِ ثُمَّ تَخَافُ غَيْرَهُ وَتَرْجُو غَيْرَهُ لَمْ تَأْتِ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَنْبَغِي فَلَوْ عَمِلْتَ مَا عَرَفْتَ لَرَجَوْتَ اللَّهَ وَحْدَهُ حِينَ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ فِعْلَهُ غَيْرُهُ
 فَالْقَوْلُ فِيمَنْ يَقْصُرُ عِلْمُ قَلْبِهِ أَنَّهُ نَاقِصُ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مُشْتَغِلٌ بِالْفِتْنَةِ الَّتِي هِيَ آفَةُ التَّوْحِيدِ
 قُلْتُ: قِصَرُ عِلْمِ القَلْبِ مَا هُوَ ؟
قَالَ: ظَنُّكَ أَنَّ شَيْئًا يَفْعَلُ فِعْلَ اللَّهِ فَاسْمُ ذَلِكَ الظَّنِّ فِتْنَةٌ، وَالْفِتْنَةُ هِيَ الشِّرْكُ اللَّطِيفُ
 قُلْتُ: أَوَلَيْسَ الْفِتْنَةُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ؟
 قَالَ: لَا وَلَكِنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ وَمُفْسِدَةٌ لَهُ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: ظَنُّكَ بِاللَّهِ إِذْ ظَنَنْتَ أَنَّ مَنْ يَشَاءُ يَفْعَلُ فِعْلَهُ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَطُولُ وَلَكِنْ مَنْ يَفْهَمْ يَقْنَعْ بِالْيَسِيرِ".

أقول : هذا الأثر ثابت وفيه مسائل:

الأولى : التفريق بين الخالق والمخلوق خلافاً للكفار الزنادقة أصحاب وحدة الوجود.

الثانية : التنبيه على توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية معاً وعدم الاكتفاء بتوحيد الربوبية على طريقة المتكلمين الذي عرفوا (الإله بأنه القادر على الاختراع) فأرجعوا إلى الألوهية إلى الربوبية فضلوا وأضلوا.

الثالثة : قوله (وَأَنْ يَعْلَمَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَلَا يُسْقِمُ وَلَا يُبْرِئُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يَضَعُ وَلَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَلَا يُمِيتُ وَلَا يُحْيِي وَلَا يُسْكِنُ وَلَا يُحَرِّكُ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ) فيه الرد على القبورية الذي يسألون المخلوقين الرزق وشفاء المرضى ، وما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.

قال الله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾.

وقال الله تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾.

وقال الله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾، والنصوص في هذا المعنى كثيرة جداً يصعب حصرها.

(3) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 257) : سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مُوسَى، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرٍ الطُّوسِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عُلْوَانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ فِيمَا يَعِظُنِي بِهِ:
 يَا فَتَى الْزَمِ الْعِلْمَ وَلَوْ وَرَدَ عَلَيْكَ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا وَرَدَ، وَيَكُونُ الْعِلْمُ مَصْحُوبَكَ فَالْأَحْوَالُ تَنْدَرِجُ فِيكَ وَتَنْفَدُ
 لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.

هذا أثر ثابت وفيه المسائل التي في الأثر الأول والحمد لله رب العالمين
 ويزيد عليها في قوله (وَلَوْ وَرَدَ عَلَيْكَ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا وَرَدَ) وفيه أنه مهما بلغ المرء من الأنس بالله عز وجل والعبادة لا يجوز له ترك العلم وفي هذا الرد على من ترك العبادة بحجة سقوط التكاليف وأنه وصل للمراد واحتج بقوله تعالى ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) واليقين الموت لا ما يظن هذا المسكين ، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وما فوت صلاةً وهو أعظم الناس يقيناً ، وطعن عمر وهو في الصلاة ، وكان يذاكر في الفرائض على فراش الموت بعدما طعن.

(4) قال أبو نعيم في الحلية (13/257) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ وَحَدَّثَنِي عَنْهُ، مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
 رَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟
 قَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ وَغَابَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعُلومُ وَنَفِدَتْ تِلْكَ الرُّسُومُ، وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رُكَيْعَاتٌ كُنَّا نَرْكَعُهَا فِي الْأَسْحَارِ".
وهذا أثر ثابت ، ولعل الإشارات لم تنفعه لغلبة التأنق في الألفاظ عليها فقل نفعها ، ولو سلكوا مسالك الأوائل لنفعوا وانتفعوا

(5) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 257) : أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى الْفَقِيهُ الْأَسْفِيعَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ:
الطُّرُقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَلَزِمَ طَرِيقَتَهُ فَإِنَّ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ.
 وهذا أثر ثابت وفيه من المسائل ما في الأثر الأول ، وقد قدمنا احتفاء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا الأثر.

(6) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 257) : وَقَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُبَيْشٍ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
 سَأَلْتُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَأَسْبَابِهَا فَالْمَعْرِفَةُ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ هِيَ مَعْرِفَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِهَا وَاحِدٌ
 وَلَكِنْ لَهَا أَوَّلُ وَأَعْلَى فَالْخَاصَّةُ فِي أَعْلَاهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ مِنْهَا غَايَةً وَلَا نِهَايَةً
إِذْ لَا غَايَةَ لِلْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ وَكَيْفَ تُحِيطُ الْمَعْرِفَةُ بِمَنْ لَا تَلْحَقُهُ الْفِكْرَةُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ وَلَا تَتَوَهَّمُهُ الْأَذْهَانُ وَلَا تُكَيِّفُهُ الرُّؤْيَةُ؟
 وَأَعْلَمُ خَلْقِهِ بِهِ أَشَدُّهُمْ إِقْرَارًا بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ عَظَمَتِهِ أَوْ تَكَشُّفِ ذَاتِهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِعَجْزِهِمْ عَنْ إِدْرَاكِ مَنْ لَا شَيْءَ مِثْلُهُ
إِذْ هُوَ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ وَإِذْ هُوَ الْأَزِلِيُّ وَغَيْرُهُ الْمُبْدَأُ وَإِذْ هُوَ الْإِلَهُ وَمَا سِوَاهُ مَأْلُوهٌ وَإِذْ هُوَ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ مُقَوٍّ وَكُلُّ قَوِيٍّ بِقُوَّتِهِ قَوِيٌّ وَإِذْ هُوَ الْعَالِمُ مِنْ غَيْرِ مُعَلِّمٍ، وَلَا فَائِدَةَ اسْتَفَادَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَكُلُّ عَالِمٍ فَبِعِلْمِهِ عَلِمَ
 سُبْحَانَهُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ بِدَايَةٍ وَالْبَاقِي إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُهُ وَلَا يَلِيقُ بِسِوَاهُ
فَأَهْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي أَعْلَى الْمَعْرِفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغُوا مِنْهَا غَايَةً وَلَا نِهَايَةً
 وَالْعَامَّةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِهَا وَلَهَا شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ مِنَ الْعَارِفِينَ عَلَى أَعْلَاهَا وَعَلَى أَدْنَاهَا
 فَالشَّاهِدُ عَلَى أَدْنَاهَا الْإِقْرَارُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَخَلْعِ الْأَنْدَادِ مِنْ دُونِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِكِتَابِهِ وَفَرْضِهِ فِيهِ وَنَهْيِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى أَعْلَاهَا الْقِيَامُ فِيهِ بِحَقِّهِ، وَاتِّقَاؤُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِيثَارُهُ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ وَاتِّبَاعُ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ
وَاجْتِنَابُ مَا لَا يُقْرَبُ مِنْهُ، فَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي فَضَّلَتِ الْخَاصَّةَ عَلَى الْعَامَّةِ هِيَ عَظِيمُ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بِعَظِيمِ الْقَدْرِ وَالْإِجْلَالِ وَالْقُدْرَةِ النَّافِذَةِ وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْآلَاءِ
 فَعَظُمَ فِي قُلُوبِهِمْ قَدْرُهُ وَقَدْرُ جَلَالَتِهِ، وَهَيْبَتُهُ وَنَفَاذُ قُدْرَتِهِ، وَأَلِيمُ عَذَابِهِ وَشِدَّةُ بَطْشِهِ وَجَزِيلُ ثَوَابِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ بِجَنَّتِهِ وَتَحَنُّنِهِ وَكَثْرَةُ أَيَادِيهِ وَنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ
 فَلَمَّا عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ عَظْمُ الْقَادِرُ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَجَلُّوهُ وَهَابُوهُ وَأَحَبُّوهُ وَاسْتَحْيَوْا مِنْهُ وَخَافُوهُ وَرَجَوْهُ
 فَقَامُوا بِحَقِّهِ وَاجْتَنَبُوا كُلَّ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَعْطَوْهُ الْمَجْهُودَ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ
 أَزْعَجَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا اسْتَقَرَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ عَظِيمِ الْمَعْرِفَةِ، بِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ
 فَهُمْ أَهْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ
 فَلِذَلِكَ قِيلَ: فُلَانٌ بِاللَّهِ عَارِفٌ، وَفُلَانٌ بِاللَّهِ عَالِمٌ لَمَّا رَأَوْهُ مُجِلًّا هَائِبًا رَاهِبًا رَاجِيًا طَالِبًا مُشْتَاقًا وَرِعًا مُتَّقِيًا بَاكِيًا حَزِينًا خَاضِعًا مُتَذَلِّلًا
 فَلَمَّا ظَهَرَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ بِاللَّهِ أَعْرَفُ وَأَعْلَمُ مِنْ عَوَّامِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ، وَقَالَ دَاودُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِلَهِي مَا عَلِمَ مَنْ لَمْ يَخْشَكَ
 فَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي فَضُلَتْ بِهَا الْخَاصَّةُ الْعَامَّةَ هِيَ عَظِيمُ الْمَعْرِفَةِ فَإِذَا عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ وَاسْتَقَرَّتْ وَلَزِمَتِ الْقُلُوبَ صَارَتْ يَقِينًا قَوِيًّا فَكَمُلَتْ حِينَئِذٍ أَخْلَاقُ الْعَبْدِ وَتَطَهَّرَ مِنَ الْأَدْنَاسِ فَنَالَ بِهِ عَظِيمَ الْمَعْرِفَةِ بِعَظِيمِ الْقَدْرِ وَالْجَلَالِ وَالتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْخَلْقِ كَيْفَ خَلَقَهُمْ وَأَتْقَنَ صَنْعَتَهُمْ؟
 وَفِي الْمَقَادِيرِ كَيْفَ قَدَّرَهَا فَاتَّسَقَتْ عَلَى الْهَيْئَاتِ الَّتِي هَيَّأَهَا وَالْأَوْقَاتِ الَّتِي وَقَّتَهَا، وَفِي الْأُمُورِ كَيْفَ دَبَّرَهَا عَلَى إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ؟
 فَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهَا شَيْءٌ عَنِ الْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ وَالِاتِّسَاقِ عَلَى مَشِيئَتِهِ
 وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ النَّظَرَ فِي الْقُدْرَةِ يفْتَحُ بَابَ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ فِي الْقَلْبِ
 وَمَرَّ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ بِمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: عِظْنَا رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَالَ: بِمَ أَعِظُكَ؟ إِنَّكَ لَوْ عَرَفْتَ اللَّهَ أَغْنَاكَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ كَلَامٍ
 لَكِنْ عَرَفُوهُ عَلَى دَلَالَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا نَظَرُوا فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَدَوَرَانِ هَذَا الْفَلَكِ وَارْتِفَاعِ هَذَا السَّقْفِ بِلَا عَمَدٍ وَمَجَارِي هَذِهِ الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ عَلِمُوا أَنَّ لِذَلِكَ صَانِعًا وَمُدْبِرًا لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ أَعْمَالِ خَلْقِهِ فعَبْدُوهُ بِدَلَائِلِهِ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَايَنُوهُ، وَاللَّهُ فِي دَارِ جَلَالِهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ بِعَظِيمِ قَدْرِهِ أَعْرَفُ وَأَعْلَمُ إِذْ هُمْ لَهُ أَجَلَّ وَأَهْيَبُ".

هذا الأثر قريب من الأثر الثاني وهو ثابت وإن كان إطلاق ( الأزلي ) و (القديم ) من باب الإخبار وإلا ليست أسماءً ثابتةً لله عز وجل، وقد أنكر بعض أهل اللغة صحة كلمة ( ازلي ) لغةً وكنت متابعاً له حتى رأيت الدارمي عثمان بن سعيد يستخدمها.

وقوله ( وما سواه مألوه ) يريد به ما سواه يعبده وإن كان في اللفظ غرابة يدل على ذلك السياق 

(7) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 259) : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّمْسَارَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
 اعْلَمْ يَا أَخِي، أَنَّ الْوُصُولَ إِذَا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مَفَاوِزُ مُهْلُكَةٌ وَمَنَاهِلُ مُتْلِفَةٌ لَا تُسْلَكُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا تُقْطَعُ إِلَّا بِدَوَامِ رَحِيلٍ
 وَأَنَا وَاصِفٌ لَكَ مِنْهَا مَفَازَةً وَاحِدَةً فَافْهَمْ مَا أَنْعَتُهُ لَكَ مِنْهَا وَقِفْ عِنْدَمَا أُشِيرُ لَكَ فِيهَا وَاسْتَمِعْ لِمَا أَقُولُ وَافْهَمْ مَا أَصِفُ:
 اعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَفَازَةً إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ أُرِيدَ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَأَسْتَوْدِعَكَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ
وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْكَ وَاقِيَةً بَاقِيَةً فَإِنَّ الْخَطَرَ فِي سُلُوكِهَا عَظِيمٌ وَالْأَمْرَ الْمَشَاهَدَ فِي الْمَمَرِّ بِهَا جَسِيمٌ
فَإِنَّ مِنْ أَوَائِلِهَا أَنْ يُوغَلَ بِكَ فِي فَيْحِ بَرْزَخٍ لَا أَمَدَ لَهُ إِيغَالًا وَيُدْخَلَ بِكَ بِالْهُجُومِ فِيهِ إِدْخَالًا وَتُرْسَلَ فِي جُوَيْهِنَتِهِ إِرْسَالًا
 ثُمَّ تَتَخَلَّى مِنْكَ لَكَ وَيَتَخَلَّى مِنْكَ لَهُ فَمَنْ أَنْتَ حِينَئِذٍ؟ وَمَا يُرَادُ بِكَ؟
وَمَاذَا يُرَادُ مِنْكَ وَأَنْتَ حِينَئِذٍ فِي مَحَلٍّ أَمْنُهُ رَوْعٌ، وَأُنْسُهُ وَحْشَةٌ وَضِيَاؤُهُ ظُلْمَةٌ، وَرَفَاهِيَتُهُ شِدَّةٌ، وَشَهَادَتُهُ غِيبَةٌ، وَحَيَاتُهُ مَيْتَةٌ لَا دَرْكَ فِيهِ لِطَالِبٍ، وَلَا مُهِمَّةَ فِيهِ لِسَارِبٍ وَلَا نَجَاةَ فِيهِ لِهَارِبٍ
وَأَوَائِلُ مُلَاقَاتِهِ اصْطِلَامٌ وَفَوَاتِحُ بَدَائِعِهِ احْتِكَامٌ وَعَوَاطِفُ مَمَرِّهِ احْتِرَامٌ، فَإِنْ غَمَرَتْكَ غَوَامِرُهُ انْتَسَفَتْكَ بَوَادِرُهُ
وَذَهَبَ بِكَ فِي الِارْتِمَاسُ، وَأَغْرَقَتْكَ بِكَثِيفِ الِانْطِمَاسِ فَذَهَبْتَ سِفَالًا فِي الِانْغِمَاسِ إِلَى غَيْرِ دَرْكِ نِهَايَةٍ وَلَا مُسْتَقَرٍ لِغَايَةٍ فَمَنِ الْمُسْتَنْفِذُ لَكَ مِمَّا هُنَالِكَ ؟ وَمَنِ الْمُسْتَخْرِجُ لَكَ مِنْ تِلْكِ الْمَهَالِكِ  ؟
وَأَنْتَ فِي فَرْطِ الْإِيَاسِ مِنْ كُلِّ فَرَجٍ مُشَوَّهٍ بِكَ فِي إِغْرَاقِ لُجَّةِ اللُّجَجِ؟
 فَاحْذَرْ ثُمَّ احْذَرْ فَكَمْ مِنْ مُتَعَرِّضٍ اخْتُطِفَ وَمُتَكَلِفٍّ انْتُسِفَ، وَأَتْلَفَ بِالْغِرَّةِ نَفْسَهُ وَأَوْقَعَ بِالسُّرْعَةِ حَتْفَهُ
 جَعَلْنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ النَّاجِينَ وَلَا حَرَمَنَا وَإِيَّاكَ مَا خَصَّ بِهِ الْعَارِفِينَ
 وَاعْلَمْ يَا أَخِي، أَنَّ الَّذِي وَصَفْتُهُ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاوِزِ وَعَرَّضْتُ بِبَعْضِ نَعْتِهِ إِشَارَةً إِلَى عِلْمٍ لَمْ أَصِفْهُ
 وَكَشْفُ الْعِلْمِ بِهَا يُبْعِدُ وَالْكَائِنُ بِهَا يَفْقِدُ فَخُذْ فِي نَعْتِ مَا تَعْرِفُهُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَمَا يَبْلُغُهُ النَّعْتُ وَالسُّؤَالُ
 وَيوجَدُ فِي الْمُقَارِبِينَ وَالْأَشْكَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ بِظَفَرِكَ لِظَفَرِكَ وَأَبْعَدُ مِنْ حَظِّكَ لِحَظِّكَ
وَاحْذَرْ مِنْ مُصَادَمَاتِ مُلَاقَاةِ الْأَبْطَالِ وَالْهُجُومِ عَلَى حِينِ وَقْتِ النَّزَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِأَمَاكِنِ أَهْلِ الْكَمَالِ قَبْلَ أَنْ تُمَاتَ مِنْ حَيَاتِكَ ثُمَّ تِحْيَى مِنْ وَفَاتِكَ وَتُخْلَقَ خَلْقًا جَدِيدًا وَتَكُونَ فَرِيدًا وَحِيدًا، وَكُلُّ مَا وَصَفْتُهُ لَكَ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ مَا أُرِيدُهُ.

هذا الأثر على طريقة القوم في الإلغاز والإبهام ، والمراد هنا بيان عقيدته ومخالفته للمتأخرين وليس شرح ألفاظه فمن أراد الاتباع فعليه بما في الكتب والسنة وما جاء عن الصحابة والتابعين.

(8) قال أبو نعيم في الحلية (13/260) : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابٍ كَتَبَ بِهِ إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ:
 اعْلَمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ أَنَّ أَقْرَبَ مَا اسْتُدْعِيَّ بِهِ قُلُوبُ الْمُرِيدِينَ وَنُبِّهَ بِهِ قُلُوبُ الْغَافِلِينَ وَزُجِرَتْ عَنْهُ نُفُوسُ الْمُتَخَلِّفِينَ مَا صَدَقَتْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ جَمِيعِ مَا اتَّبَعَ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ
 فَهَلْ يَحْسُنُ يَا أَخِي أَنْ يَدْعُوَ دَاعٍ إِلَى الْأَمْرِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شِعَارُهُ وَلَا تَظْهَرُ مِنْهُ زِينَتُهُ وَآثَارُهُ، وَأَلَّا يَكُونَ قَائِلُهُ عَامِلًا فِيهِ بِالتَّحْقِيقِ، وَكُلِّ فِعْلٍ بِذَلِكَ الْقَوْلِ يَلِيقُ
 وَأَفِكَ مَنْ دَعَا إِلَى الزُّهْدِ وَعَلَيْهِ شِعَارُ الرَّاغِبِينَ وَأُمِرَ بِالتَّرْكِ وَكَانَ مِنَ الْآخِذِينَ وَأُمِرَ بِالْجِدِّ فِي الْعَمَلِ وَكَانَ مِنَ الْمُقَصِّرِينَ وَحُثَّ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَّا قَلَّ قَبُولُ الْمُسْتَمِعِينَ لِقِيلِهِ وَنَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ فِعْلِهِ وَكَانَ حُجَّةً لِمَنْ جَعَلَ التَّأْوِيلَ سَبَبًا إِلَى اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَمُسَهِّلًا لِسَبِيلِ مَنْ آثَرَ آخِرَتَهُ عَلَى دُنْيَاهُ
 أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَقَدْ وَصَفَ نَبِيَّهُ شُعَيْبًا وَهُوَ شَيْخُ الْأَنْبِيَاءِ وَعَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّسُلِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَهُوَ يَقُولُ ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾
 وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ لِمُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ﴾ فَهُوَ لَكُمْ، ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾
وَأَمَرَ اللَّهُ لَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
فَهَذِهِ سِيرَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالَّذِي يَجِبُ يَا أَخِي عَلَى مَنْ فَضَّلَهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ بِهِ وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي اسْتِتْمَامِ وَاجِبَاتِ الْأَحْوَالِ وَأَنْ يُصَدِّقَ الْقَوْلَ مِنْهُ الْفِعْلُ بِذَلِكَ أَوَّلًا عِنْدَ اللَّهِ وَيَحْظَى بِهِ مَنِ اتَّبَعَهُ آخِرًا
 وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ لِلَّهَ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ أَوْدَعَ قُلُوبِهِمُ الْمَصُونَ مِنْ سِرِّهِ وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ عَظِيمِ أَثَرِهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ فَهُمْ بِمَا اسْتَوْدَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَافِظُونَ وَبِجَلِيلِ قَدْرِ مَا أَمَّنَهُمْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ عَارِفُونَ
 قَدْ فَتْحَ لِمَا اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَذْهَانَهُمْ، وَقَرَّبَ مِنْ لَطِيفِ الْفَهْمِ عَنْهُ لِمَا أَرَادَهُ أَفْهَامَهُمْ، وَرَفَعَ إِلَى مَلَكُوتِ عِزِّهِ هُمُومَهُمْ، وَقَرَّبَ مِنَ الْمَحَلِّ الْأَعْلَى بِالْإِدْنَاءِ إِلَى مَكِينِ الْإِيوَاءِ بِحُبِّهِمْ، وَأَفْرَدَ بِخَالِصِ ذِكْرِهِ قُلُوبَهُمْ
 فَهُمْ فِي أَقْرَبِ أَمَاكِنِ الزُّلْفَى لَدَيْهِ وَفِي أَرْفَعِ مَوَاطِنِ الْمُقْبِلِينَ بِهِ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ
 إِذَا نَطَقُوا فَعَنْهُ يَقُولُونَ وَإِذَا سَكَتُوا فَبِوَقَارِ الْعِلْمِ بِهِ يَصْمُتُونَ، وَإِذَا حَكَمُوا فَبِحُكْمِهِ لَهُمْ يَحْكُمُونَ
 جَعَلَنَا اللَّهُ يَا أَخِي مِمَّنْ فَضَّلَهُ بِالْعِلْمِ وَمَكَّنَهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَخَصَّهُ بِالرِّفْعَةِ وَاسْتَعْمَلَهُ بِأَكْمَلِ الطَّاعَةِ وَجَمَعَ لَهُ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وهؤلاء الذين ذكرهم الجنيد إنما اكتسبوا علمهم من الكتاب والسنة ربطاً بالآثار السابقة.

(9) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 261) : أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
 وَسُئِلَ عَمَّا تَنْهَى الْحِكْمَةُ ؟
 فَقَالَ: الْحِكْمَةُ تَنْهَى عَنْ كُلِّ مَا يُحْتَاجُ أَنْ يُعْتَذَرَ مِنْهُ وَعَنْ كُلِّ مَا إِذَا غَابَ عِلْمُهُ عَنْ غَيْرِكَ، أَحْشَمَكَ ذِكْرُهُ فِي نَفْسِكَ
 فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَبِمَ تَأْمُرُ الْحِكْمَةُ ؟
 قَالَ: تَأْمُرُ الْحِكْمَةُ بِكُلِّ مَا يُحْمَدُ فِي الْبَاقِي أَثَرُهُ وَيطِيبُ عِنْدَ جُمْلَةِ النَّاسِ خَبَرُهُ وَيُؤْمَنُ فِي الْعَوَاقِبِ ضَرَرُهُ
 قَالَ: فَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوصَفَ بِالْحِكْمَةِ ؟
 قَالَ: مَنْ إِذَا قَالَ بَلَغَ الْمَدَى وَالْغَايَةَ فِيمَا يَتَعَرَّضُ لِنَعْتِهِ بِقَلِيلِ الْقَوْلِ وَيَسِيرِ الْإِشَارَةِ وَمَنْ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يُرِيدُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَاضِرٌ عَتِيدٌ
 قَالَ: فَبِمَنْ تَأْنَسُ الْحِكْمَةُ ؟ وَإِلَى مَنْ تَسْتَرِيحُ وَتَأْوِي ؟
 قَالَ: إِلَى مَنِ انْحَسَمَتْ عَنِ الْكُلِّ مَطَامِعُهُ وَانْقَطَعَتْ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْحَاجَاتِ مُطَالِبُهُ وَمَنِ اجْتَمَعَتْ هُمُومُهُ وَحَرَكَاتُهُ فِي ذَاتِ رَبِّهِ وَمَنْ عَادَتْ مَنَافِعُهُ عَلَى سَائِرِ أَهْلِ دَهْرِهِ .

وهذا أثر ثابت ، والنهي عن كل ما يعتذر منه ورد في حديث مرفوع يبحث في صحته.

(10) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 262) : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
 إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانِهِمْ وَفَارَقُوهَا بِعُقُودِ أَيْمَانِهِمْ أَشْرَفَ بِهِمْ عِلْمُ الْيَقِينِ عَلَى مَا هُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ وَفِيهِ مُقِيمُونَ وَإِلَيْهِ رَاجِعُونَ
فَهَرَبُوا مِنْ مُطَالَبَةِ نُفُوسِهِمُ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَالدَّاعِيَةِ إِلَى الْمَهَالِكِ وَالْمُعِينَةِ لِلْأَعْدَاءِ وَالْمُتَّبِعَةِ لِلْهَوَى وَالْمَغْمُوسَةِ فِي الْبَلَاءِ وَالْمُتَمَكِّنَةِ بِأَكْنَافِ الْأَسْوَاءِ إِلَى قَبُولِ دَاعِي التَّنْزِيلِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إِذْ سَمِعُوهُ يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾  فَقَرَعَ أَسْمَاعَ فُهُومِهِمْ حَلَاوَةُ الدَّعْوَةِ لِتَصَفُّحِ التَّمْيِيزِ، وَتَنَسَّمُوا بِرَوْحِ مَا أَدَّتْهُ إِلَيْهِمُ الْفُهُومُ الطَّاهِرَةُ مِنْ أَدْنَاسِ خَفَايَا مَحَبَّةِ الْبَقَاءِ فِي دَارِ الفَنَاءِ
 فَأَسْرَعُوا إِلَى حَذْفِ الْعَلَائِقِ الْمُشْغِلَةِ قُلُوبَ الْمُرَاقِبِينَ مَعَهَا، وَهَجَمُوا بِالنُّفُوسِ عَلَى مُعَانَقَةِ الْأَعْمَالِ وَتَجَرَّعُوا مَرَارَةَ الْمُكَابَدَةِ وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ
 وَأَحْسَنُوا الْأَدَبَ فِيمَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَهَانَتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ وَعَرَفُوا قَدْرَ مَا يَطْلُبُونَ
 وَاغْتَنَمُوا سَلَامَةَ الْأَوْقَاتِ وَسَلَامَةَ الْجَوَارِحِ وَأَمَاتُوا شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَسَجَنُوا هُمُومَهُمْ عَنِ التَّلَفُّتِ إِلَى مَذْكُورٍ سِوَى وَلِيِّهِمْ
 وَحَرَسُوا قُلُوبِهِمْ عَنِ التَّطَلُّعِ فِي مَرَاقِي الْغَفْلَةِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا رَقِيبًا مِنْ عِلْمِ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ وَمَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحَاطَ بِهِ خُبْرًا
فَانْقَادَتْ تِلْكَ النُّفُوسُ بَعْدَ اعْتِيَاصِهَا، وَاسْتَبَقَتْ مُنَافِسَةً لِأَبْنَاءِ جِنْسِهَا نُفُوسٌ سَاسَهَا وَلِيُّهَا وَحَفِظَهَا بَارِئُهَا وَكَلَأَهَا كَافِيهَا، فَتَوَهَّمْ يَا أَخِي إِنْ كُنْتَ ذَا بَصِيرَةٍ مَاذَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ مُنَاجَاتِهِمْ؟
 وَمَاذَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ نَوَازِلِ حَاجَاتِهِمْ؟
 تَرَ أَرْوَاحًا تَتَرَدَّدُ فِي أَجْسَادٍ قَدْ أَذْبَلَتْهَا الْخَشْيَةُ وَذَلَّلَتْهَا الْخِدْمَةُ وَتَسَرْبَلَهَا الْحَيَاءُ وَجَمَعَهَا الْقُرْبُ وَأَسْكَنَهَا الْوَقَارُ وَأَنْطَقَهَا الْحِذَارُ، أَنِيسُهَا الْخَلْوَةُ وَحِدِيثُهَا الْفِكْرَةُ وَشِعَارُهَا الذِّكْرُ، شُغْلُهَا بِاللَّهِ مُتَّصِلٌ وَعَنْ غَيْرِهِ مُنْفَصِلٌ
 لَا تَتَلَقَّى قَادِمًا وَلَا تُشَيِّعُ ظَاعِنًا، غِذَاؤُهَا الْجُوعُ وَالظَّمَأُ وَرَاحَتُهَا التَّوَكُّلُ وَكَنْزُهَا الثِّقَةُ بِاللَّهِ وَمِعْوَلُهَا الِاعْتِمَادُ وَدَوَاؤُهَا الصَّبْرُ وَقَرِينُهَا الرِّضَا، نُفُوسٌ قُدِّمَتْ لِتَأْدِيَةِ الْحُقُوقِ وَرُقِّيَتْ لِنَفِيسِ الْعِلْمِ الْمَخْزُونِ وَكُفِيَتْ ثِقَلَ الْمِحَنِ: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾.

هذا أثر ثابت وفيه موعظة حسنة يصلح أن يكون خطبة مع شيء من تهذيب الألفاظ تقريباً للعامة.

(11) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 263) : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ:
مَا مِنْ شَيْءٍ أَسْقَطَ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ مِنْ مُسَاكَنَةِ الطَّمَعِ مَعَ الْعِلْمِ فِي قُلُوبِهِمْ
 قَالَ: وَسَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ:  فَتْحُ كُلِّ بَابٍ وَكُلِّ عِلْمٍ نَفِيسٍ بَذْلُ الْمَجْهُودِ
ينعى على العلماء الذين طلبوا الشهرة ، أو تبعوا أهل الدنيا من السلاطين والجماهير وغيرهم ،وطلبوا ودهم ولا بد للود من مبذول يستجلب به ، فكان عندهم إلا أديناهم فاللهم سلم سلم.

وأما من دخل على السلطان ليأمره وينهاه بالتي هي أحسن للتي هي أقوم ، ومن تصدى للناس ليعلمهم الخير مستغنياً عن دنياهم ، وهم طالبون لعلمه فليس من هذا الباب في شيء.

(12) قال أبو نعيم في الحلية (13/264) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِي كِتَابِهِ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ، مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
لَوْ أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ عِنْدِي لَفَنِيَ وَلَكِنَّهُ مِنْ حَقٍّ بَدَا وَإِلَى الْحَقِّ يَعُودُ وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ زَعِيمَ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ
 كما قدمنا عن ابن القيم ، أنه علم القوم استفيد من الكتاب والسنة في أصله وعلى هذا تدل نصوصه السابقة .

قال أبو نعيم في الحلية (13/244) : سَمِعْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَمْدَانَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ، يَقُولُ:
 مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾، وهذا إسناد صحيح إلى أبي عثمان الحيري النيسابوري
 وقوله (وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ زَعِيمَ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ) يريد تبكيت نفسه ، وأنه وإن كان المعلم للتلاميذ في الظاهر إلا أنه أرذلهم فهم يطلبون يريدون به وجه ويجلسون مجلس التواضع والسكينة ، وهو يتهم نفسه بطلب الشهرة وأنه يجلس مجلساً ربما أدخل عليه الكبر فصار أرذلهم ، ومع ذلك لم يكف عن التعليم وجاهد نفسه ، إذ لا يعلم أيهما أخطر على المرء تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً ، أم أداؤه لهما على وجه فيه ما فيه ، والواجب أن يجاهد المرء نفسه ولا يفتح الباب للشيطان لإسكاته عن قول كلمة الحق .

وهذه الحال من الجنيد تخالف ما عليه كثير من المعلمين في عصرنا من الاغترار بالنفس ، ومطالبة التلاميذ بتعظيم زائد عما هو عليه حقيقةً ، ودعوة بينة إلى نفسه ، تظهر في شواهد الامتحان فكم من مبطل سكت عنه بحجة ( المصلحة ) فإذا مس جنابه بشيء استأسد وصار يرغي ويزبد لا يرى مصلحة ولا مفسدة .

(13) قال أبو نعيم في الحلية (10/124) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ:
 مَا أَرَى لِي عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا، قِيلَ: وَلَا عَلَى الْمُخَنَّثِينَ قَالَ: وَلَا عَلَى الْمُخَنَّثِينَ.
 هذا من باب التواضع ، وكما قال إذ لا يدري المرء ما يختم له به ، وربما رزق هذا المخنث توبةً قبل الموت جعلته أرفع منك ، وربما كان قلبك رياءً أو كبراً هما أشد من ذنب ذلك العاصي.

قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/187) :" وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذروات في الكبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم وصولة طاعاتهم ومنتهم على الخلق بلسان الحال واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه ويعرفه قدره ويذله بها ويخرج بها صولة الطاعة من قلبه فهي رحمة في حقه كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح وإقبال بقلوبهم إليه فهو رحمة في حقهم وإلا فكلاهما على خطر".

(14) قال أبو نعيم في الحلية (13/223) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
 دَقَقْتُ عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ الزَّيَّاتِ بَابَهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: مَا كَانَ لَكُمْ شُغْلٌ فِي اللَّهِ يَشْغَلُكُمْ عَنِ الْمَجِيءِ إِلَيَّ؟
 قَالَ: الْجُنَيْدُ: فَقُلْتُ: إِذَا كَانَ مَجِيئُنَا إِلَيْكَ مِنْ شُغْلِنَا بِهِ لَا نَنْقَطِعُ عَنْهُ، فَفَتَحَ الْبَابَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي التَّوَكُّلِ فَأَخْرَجَ دِرْهَمًا كَانَ عِنْدَهُ ثُمَّ أَجَابَنِي فَأَعْطَى التَّوَكُّلَ حَقَّهُ
 ثُمَّ قَالَ: اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أُجِيبَكَ وَعِنْدِي شَيْءٌ
 فَقُلْتُ لَهُ: مَا قَوْلُكَ فِي رَجُلٍ لَهُ فِي كُلِّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ حَظٌّ وَيُحْسِنُ الْقِيَامَ بِصِفَاتِ الْحَقِّ وَصِفَاتِ الْخَلْقِ؟
 تَرَى مُجَالَسَةَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ وَإِلَّا فَلَا، وَذَكَرَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْمُرِيدِينَ، تَحْفَظُ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: لَا
 فَقَالَ: وَاغَوْثَا بِاللَّهِ، مَرِيدٌ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ كَأُتْرُجَّةٍ لَا رِيحَ لَهَا، فَيِمَا يَتَنَعَّمُ؟ فَيِمَا يَتَرَنَّمُ؟ فَيِمَا يُنَاجِي رَبَّهُ؟
 أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ عَيْشَ الْعَارِفِينَ سَمَاعُ النَّغَمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ".

أقول : قوله (فَيِمَا يَتَنَعَّمُ؟ فَيِمَا يَتَرَنَّمُ؟ فَيِمَا يُنَاجِي رَبَّهُ؟) يدل على أنه ما كان عندهم سماع إلا سماع القرآن .

(15) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 224) : وَحَدَّثَنِي عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ قَالَ:
 ذَهَبَ إِلَيْهِ _ يعني أبا جعفر ابن الكوفي _ يَوْمًا الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ بِصُرَّةِ دَرَاهِمَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ وَذَكَرَ غِنَاهُ عَنْهَا
 فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ: إِنْ وَجَدْتَ غِنًى عَنْهَا فَفِي أَخْذِهَا سُرُورُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، فَأَخَذَهَا
ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَقُلْتَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ الرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ اسْتِعْمَالَ كُلِّ عَمَلِهِ كَلَامُهُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ سُكُوتُهُ؟
 فَسَكَتَ سَاعَةً مُطْرِقًا رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ:  إِنْ كُنْتَ هُوَ فَتَكَلَّمْ .

هذه مسألة كبيرة ، وبها يدخل الشيطان على كثير من الناس فيقول له ( اترك الأمر والنهي لأنك لست أهلاً فأنت يقع منك كذا وكذا ) ، والتحقيق أن ترك الأمر والنهي الواجبين معصيةٌ زائدة على نفس اتيانهما ، فمن وقع في معصية سراً ، ثم ما نهى عنها علناً فإثمة مركب من السكوت على الإنكار ووقوع في المنكر ، وأما إذا نهى عنها علناً وإن وقعت منه سراً رجي له أن يوفق إلى توبة أو أن يغفر له، ولو كان من شرط الآمر والناهي أن يكون على الاستقامة التامة ما أمر احد بالمعروف ولا نهى عن المنكر، وهذا كله في الواجبات ، وأما المستحبات فلا ضير من أمر الناس بها وإن لم يفعلها المرء بلا خلاف.

(16) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 265) : حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ وَسَأَلَهُ جَعْفَرٌ:
 مَا تَقُولُ أَكْرَمَكَ اللَّهُ فِي الذِّكْرِ الْخَفِيِّ؟ مَا هُوَ الَّذِي لَا تَعْلَمُهُ الْحَفَظَةُ؟ وَمِنْ أَيْنَ زَادَ عَمَلُ السِّرِّ عَلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ سَبْعِينَ ضِعْفًا؟
 فَأَجَابَهُ فَقَالَ:   وَفَقَّنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِأَرْشَدِ الْأُمُورِ وَأَقْرَبِهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَعْمَلَنَا وَإِيَّاكُمْ بِأَرْضَى الْأُمُورِ وَأَحَبِّهَا إِلَيْهِ وَخَتَمَ لَنَا وَلَكُمْ بِخَيْرٍ
 فَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي يَسْتَأْثِرُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ مَا اعْتَقَدَتْهُ الْقُلُوبُ وَطُوِيَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ مِمَّا لَا تُحَرَّكُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَالْجَوَارِحُ وَهُوَ مِثْلُ الْهَيْبَةِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ وَالْإِجْلَالِ لِلَّهِ وَاعْتِقَادِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ
 وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَهَذِهِ أَشْيَاءُ امْتِدِحَ اللَّهُ بِهَا فَهِيَ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
 وَأَمَّا مَا تَعْلَمُهُ الْحَفَظَةُ فَمَا وُكِّلَتْ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَقَوْلُهُ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ فَهَذَا الَّذِي وُكِّلَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الْحَافِظُونَ مَا لَفِظَ بِهِ وَبَدَا مِنْ لِسَانِهِ، وَمَا يُعْلِنُونَ وَيَفْعَلُونَ هُوَ مَا ظَهَرَ بِهِ السَّعْيُ، وَمَا أَضْمَرَتْهُ الْقُلُوبُ مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْجَوَارِحِ وَمَا تَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ فَذَلِكَ يَعْلَمُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ
 وَكُلُّ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ مَا عُقِدَ لَا يُجَاوِزُ الضَّمِيرَ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ مِنْ فَضْلِ عَمَلِ السِّرِّ عَلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ وَأَنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَزِيدُ عَلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ سَبْعِينَ ضِعْفًا
فَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ عَمَلًا فَأَسَرَّهُ فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يَنْفَرِدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِ ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ أَنْ يسْتَغْنَى بِعِلْمِ اللَّهِ فِي عَمَلِهِ عَنْ عِلْمِ غَيْرِهِ وَإِذَا اسْتَغْنَى الْقَلْبُ بِعِلْمِ اللَّهِ أَخْلَصَ الْعَمَلَ فِيهِ، وَلَمْ يَعْرُجْ عَلَى مَنْ دُونَهُ فَإِذَا عَلِمَ جَلَّ ذِكْرُهُ بِصِدْقِ قَصْدِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَسَقَطَ عَنْ ذِكْرِهِ مَنْ دُونَهُ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي أَعْمَالِ الْخَالِصِينَ الصَّالِحِينَ الْمُؤْثِرِينَ لِلَّهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ وَجَازَاهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ بِصِدْقِهِ مِنَ الثَّوَابِ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَلَى مَا عَمِلَ مَنْ لَا يَحِلُّ مَحَلَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَم  .

الخبر الذي اعتمده في فضل عمل السر على عمل العلانية لا يثبت ، وهذه آفة في كثيرة من المنسوبين للتصوف ، يشرحون أخباراً لا تثبت، والتحقيق أن عمل العلانية إن أراد به دعوة الناس إلى الخير وحثهم عليه فهو أفضل من عمل السر وإن لم يكن الأمر كذلك فالسر أفضل لقربه من الإخلاص.

قال الله تعالى : ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، وفي الحديث الصحيح في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ))، وفيه أيضاً : (وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) ، وتأمل قوله (خالياً).

وقال أبو داود في الزهد 112 : نا محمد بن كثير ، قال : أنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن الزبير قال : من استطاع أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل .
 حدثنا أبو داود قال : نا مسدد ، قال : نا يحيى ، عن إسماعيل ، قال : ني قيس ، قال: سمعت الزبير بن العوام ، يقول مثله.

وأما من يعمل بالعلن ليقتدي به الناس ففيه الحديث الصحيح (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً ، فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً)
 وقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تصدق أمام الناس فاقتدوا به
 لذا قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 341) :" وقال بعضهم رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين وهذا كلام ظاهره منكر جدا يحتاج إلى شرح فالعارف لا يرائي المخلوق طلبا للمنزلة في قلبه وإنما يكون رؤياه نصيحة وإرشادا وتعليما ليقتدى به فهو يدعو إلى الله بعمله".

وهذا كله في العمل الذي يحتمل الأمرين الإعلان والإسرار وأما ما أوجب الله في الإعلان فالأفضل فيه الإعلان مطلقاً كالصلاة في جماعة في الفريضة هي أفضل من صلاتها في البيت.

(17) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 265) : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَارُونَ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ الدَّيْنَوَرِيِّ:
مَنِ اسْتَخْلَصَهُ الْحَقُّ بِمُفْرَدِ ذِكْرِهِ وَصَافَاهُ يَكُونُ لَهُ وَلِيًّا مُنْتَخِبًا مُكْرِمًا مُوَاصِلًا يُوَرِّثُهُ غَرَائِبَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَزِيدُهُ فِي التَّقْرِيبِ زُلْفًى وَيُثْبِتُهُ فِي مُحَاضِرِ النَّجْوَى وَيَصْطَنِعُهُ لِلْخُلَّةِ وَالِاصْطِفَاءِ وَيَرْفَعُهُ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى وَيُبَلِّغُهُ فِي الرِّفْعَةِ إِلَى الْمُنْتَهَى وَيُشْرِفُ بِهِ مِنْ ذِرْوَةِ الذُّرَى عَلَى مَوَاطِنِ الرُّشْدِ وَالْهُدَى وَعَلَى دَرَجَاتِ الْبَرَرَةِ الْأَتْقِيَاءِ وَعَلَى مَنَازِلِ الصَّفْوَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَيَكُونُ كُلُّهُ مُنْتَظِمًا وَعَلَيْهِ بِالتَّمْكِينِ مُحْتَوِيًا وَبِأَنْبَائِهِ خَبِيرًا عَالِمًا وَعَلَيْهِ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِظْهَارِ حَاكِمًا وَبِإِرْشَادِ الطَّالِبِينَ لَهُ إِلَيْهِ قَائِمًا وَعَلَيْهِمْ بِالْفَوَائِدِ وَالْعَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ دَائِمًا، وَلِمَا نَصَبَ لَهُ الْأَئِمَّةَ مِنَ الرِّعَايَةِ لَدَيْهِ بِهِ لَازِمًا، وَذَلِكَ إِمَامُ الْهُدَاةِ السُّفَرَاءِ الْعُظَمَاءِ الْأَجِلَّةِ الْكُبَرَاءِ اللَّذَيْنِ جَعَلَهُمْ لِلدِّينِ عُمُدًا وَلِلْأَرْضِ أَوْتَادًا جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنْ أَرْفَعِهِمْ لَدَيْهِ قَدْرًا وَأَعْظَمِهِمْ فِي مَحَلِّ عِزِّهِ أَمْرًا إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ سُمَيْعٌ».

(18) قال أبو نعيم في الحلية (13/267) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ، عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْآفَاتِ أَكْثَرُهُمْ بَلَاءً وَآفَةً
 إما أن يريد وصف نفسه ( تواضعاً ) ، أو يريد أن متطلبي المعاصي والفواحش أعلم الناس بها ، وما صاروا إلا لأنهم تلطبوها بشغف وخالطوا أدناسهم حتى بلغت منهم المبلغ.

(19) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 267) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ، عُثْمَانُ قَالَ:
كُنْتُ أَمْشِي مَعَ الْجُنَيْدِ فَلَقِيَهُ الشِّبْلِيُّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا تَقُولُ فِيمَنِ الْحَقُّ حَسْبُهُ نَعْتًا وَعِلْمًا وَوُجُودًا ؟
 فَقَالَ لَهُ:  يَا أَبَا بَكْرٍ جَلَّتِ الْأُلُوهِيَّةُ وَتَعَاظَمَتِ الرُّبُوبِيَّةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَكَابِرِ الطَّبَقَةِ أَلْفُ طَبَقَةٍ فِي أَوَّلِ طَبَقَةٍ مِنْهَا ذَهَبَ الِاسْمُ.
 قَالَ: وَسَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ:  مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَعَنٍّ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَمَنٍّ، وَمُتَعَلِّمٌ يَتَعَلَّمُ الْحَقِيقَةَ يُوَصِّلُهُ اللَّهُ إِلَى الْهِدَايَةِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ .

(20) قال أبو نعيم في الحلية (13/267) : أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مِقْسَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ:
لَوْ بَدَتْ عَيْنٌ مِنَ الْكَرَمِ لَأَلْحَقَتِ الْمُسِيئِينَ بِالْمُحْسِنِينَ وَبَقِيَتْ أَعْمَالُ الْعَامِلِينَ فَضْلًا لَهُمْ .

أقول : قال البخاري في صحيحه 5673 : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ.

(21) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 268) : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَبَا الْقَاسِمِ، يَقُولُ:
وَرَأَى رُوَيْمًا وَقَدْ، تَوَلَّى الْقَضَاءَ فَقَالَ:  مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ خَبَّأَ فِي سِرِّهِ حُبَّ الدُّنْيَا عِشْرِينَ سَنَةً فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا.
 قد كان جماعة من السلف ينكرون على من دخل في القضاء ، ذكر وكيع طرفاً من ذلك في أخبار القضاة ، ورويم هذا كان قد أظهر التزهد والتقلل والتخشن عشرين عاماً ، حتى لما دعي إلى القضاء قبل بذلك مسرعاً فقال فيه الجنيد هذه الكلمة، ورويم لم يكن يقضي بغير ما أنزل الله ، ولا داهن مبتدعاً في ذلك الأمر ، فكيف بمن يظهر الزهد والتقلل حتى إذا دعاه داعي الشهرة والأضواء ، هرول إليها مسرعاً وصار ينكر ما كان يعرف ويعرف ما كان ينكر ، اللهم سلم سلم.

(22) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 269) : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ
 وَسَأَلَهُ سَائِلٌ: الْعِنَايَةُ قَبْلَ أُمِّ الْبِدَايَةِ  , فَقَالَ: الْعِنَايَةُ قَبْلَ الطِّينِ وَالْمَاءِ
 قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ يَقُولُ:
يَا مَنْ هُوَ كُلَّ يَوْمٍ فِي شَأْنٍ اجْعَلْنِي مِنْ بَعْضِ شَأْنِكَ.
 يريد بالعناية التوفيق من الله عز وجل.

(23) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 273) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
كَانَ يُعَارِضُنِي فِي بَعْضِ أَوْقَاتِي أَنْ أَجْعَلَ نَفْسِي كَيُوسُفَ وَأَكُونَ أَنَا كَيَعْقُوبَ فَأَحْزَنَ عَلَى نَفْسِي لِمَا فَقَدْتُ مِنْهَا كَمَا حَزِنَ يَعْقُوبُ عَلَى فَقْدِهِ لِيُوسُفَ فَمَكَثْتُ أَعْمَلُ مُدَّةً فِيمَا أَجِدُهُ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ
 سبحان الله هذه حال عجيبة ، وكل خير في اتباع من سلف.

(24) قال أبو نعيم في الحلية ( 13/ 274) : أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ، مُحَمَّدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
 رَأَيْتُ بَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ، وِرْدِي وَوضِعْتُ جَنْبِي؛ لِأَنَامَ كَأَنَّ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِي: إِنَّ شَخْصًا يَنْتَظِرُكَ فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا شَخْصٌ وَاقِفٌ فِي سَوَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَتَى تَصِيرُ النَّفْسُ دَاؤُهَا دَوَاؤُهَا؟
 قُلْتُ: إِذَا خَالَفَتْ هَوَاهَا صَارَ دَاؤُهَا دَوَاءَهَا، قَالَ: قُلْتُ هَذَا لِنَفْسِي، فَقَالَتْ: لَا أَقْبَلُ مِنْكَ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْهُ الْجُنَيْدَ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانٌ الْجِنِّيُّ، وَقَدْ جِئْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْمَغْرِبِ .

قَالَ: وَسَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:  لَا تَكُونُ عَبْدَ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا تَبْقَى عَلَيْكَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ بَقِيَّةٌ
قَالَ: وَسَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ:  لَا تَكُونُ عَبْدَ اللَّهِ حَقًّا وَأَنْتَ لِشَيْءٍ سِوَاهُ مُسْتَرَقًّا.

يريد أنك لا ترجو إلا الله ولا تخاف سواه ولا تتوكل إلا عليه ، وهذا واضح في الرد على القبورية الذين علقوا قلوبهم بالمقبورين.

(25) قال أبو نعيم في الحلية (13/278) : أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فِي كِتَابِهِ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
 حَاجَةُ الْعَارِفِينَ إِلَى كَلَاءَتِهِ وَرِعَايَتِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾، وَنُجْحُ قَضَاءِ كُلِّ حَاجَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَرْكُهَا وَفَتْحُ كُلِّ بَابٍ شَرِيفٍ بَذْلُ الْمَجْهُودِ
 قَالَ: وَرَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ إِشَارَاتٌ عَنْ مُشَاهَدَاتٍ , فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: كَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ بِنَاءٌ عَنْ حُضُورٍ، وَكَلَامُ الصِّدِّيقِينَ إِشَارَاتٌ عَنْ مُشَاهَدَاتٍ
 قَالَ: وَكَتَبَ الْجُنَيْدُ إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ: مَنْ أَشَارَ إِلَى اللَّهِ وَسَكَنَ إِلَى غَيْرِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ وَحَجَبَ ذِكْرَهُ عَنْ قَلْبِهِ وَأَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ فَإِنَّهُ انْتَبَهَ وَانْقَطَعَ عَمَّنْ سَكَنَ إِلَيْهِ وَرَجَعَ إِلَى مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ، كَشَفَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْمِحَنِ وَالْبَلْوَى فَإِنْ دَامَ نَزَعَ اللَّهُ عَلَى سُكُونِهِ مِنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ الرَّحْمَةَ عَلَيْهِ وَأُلْبِسَ لِبَاسَ الطَّمَعِ لِتَزْدَادَ مُطَالَبَتُهُ مِنْهُمْ مَعَ فُقْدَانِ الرَّحْمَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَتَصِيرُ حَيَاتُهُ عَجْزًا وَمَوْتُهُ كَدًّا وَمَعَادُهُ أَسَفًا، وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ السُّكُونِ إِلَى غَيْرِهِ.

وَقَالَ الْجُنَيْدُ:
 لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ مَا فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ
 وَقَالَ رَجُلٌ لِلْجُنَيْدِ: عَلَامَ يَتَأَسَّفُ الْمُحِبُّ؟
 قَالَ: عَلَى زَمَانِ بَسْطَ أَوْرَثَ قَبْضًا، أَوْ زَمَانِ أُنْسٍ أَوْرَثَ وَحْشَةً؟ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَدْ كَانَ لِي مَشْرَبٌ يَصْفُو بِرُؤْيَتِكُمْ ... فَكَدَّرَتْهُ يَدُ الْأَيَّامِ حِينَ صَفَا

تأمل قوله (مَنْ أَشَارَ إِلَى اللَّهِ وَسَكَنَ إِلَى غَيْرِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ) وقارنه بأحوال الداعين المستغيثين بغير الله عز وجل .

(26) قال أبو نعيم في الحلية (13/279) : كَتَبَ إِلَيَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَخْبَرَنِي عَنْهُ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَوَّاسُ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُخْلِصُ إِلَى الْقُلُوبِ مِنْ بِرِّهِ حَسْبَمَا خَلُصَتِ الْقُلُوبُ بِهِ إِلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ فَانْظُرْ مَاذَا خَالَطَ قَلْبَكَ؟
كَتَبَ إِلَيَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَخْبَرَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ:
يَا ذَاكِرَ الذَّاكِرِينَ بِمَا بِهِ ذَكَرُوهُ، وَيَا بَادِئَ الْعَارِفِينَ بِمَا بِهِ عَرَفُوهُ، وَيَا مُوَفِّقَ الْعَامِلِينَ لِصَالِحِ مَا عَمِلُوهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَكَ إِلَّا بِإِذْنِكَ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَذْكُرُكُ إِلَّا بِفَضْلِكَ.
 هذا أثر ثابت وفيه الدعوة للإخلاص والرد على من تعلق بغير الله عز وجل.

(27) قال أبو نعيم في الحلية (13/279) : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اسْتَخْلَصَ لِنَفْسِهِ صَفْوَةَ مَنْ خَلَقَهُ وَخَصَّهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ فَاسْتَعْمَلَهُمْ بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ وَأَقْرَبِهَا مِنَ الزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَبَلَّغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْغَايَةَ الْقُصْوَى وَالذِّرْوَةَ الْمُتَنَاهِيَةَ الْعُلْيَا، وَبَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى كُلِّ حَالٍ مَاضِيَةٍ فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا مَضَى شُغْلٌ عَمَّا يَأْتِي مِنَ الْحَالَةِ الْكَائِنَةِ وَأُوصِيكَ بِتَرْكِ الْمُلَاحَظَةِ لِلْحَالِ الْكَائِنَةِ وَبِتَرْكِ الْمُنَازَلَةِ لَهَا بِجَوَلَانِ الْهِمَّةِ لِمْلُتَقَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْوَقْتِ الْوَارِدِ بِذِكْرِ مَوْرِدِهِ وَنَسَقِ ذِكْرِ مَوْجُودِهِ فَإِنَّكَ إِذَا كُنْتَ هَكَذَا كُنْتَ تَذْكُرُ مَنْ هُوَ أَوْلَى وَلَا تَضُرُّكَ رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ وَأُوصِيكَ بِتَجْرِيدِ الْهَمِّ وَتَفْرِيدِ الذِّكْرِ وَمُخَالَصَةِ الرَّبِّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَاعْمَلْ عَلَى تَخْلِيصِ هَمِّكَ مِنْ هَمِّكَ لِهَمِّكَ وَاطْلُبِ الْخَالِصَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَلْبِكَ وَكُنْ حَيْثُ يَرَاكَ لِمَا يُرَادُ لَكَ وَلَا تَكُنْ حَيْثُ يُرَادُ لَكَ لِمَا تُرِيدُ لِنَفْسِكَ، وَاعْمَلْ عَلَى مَحْوِ شَاهِدِكَ مِنْ شَاهِدِكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّاهِدُ عَلَيْكَ شَاهِدًا لَكَ بِمَا يَخْلُصُ مِنْ شَاهِدِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كُنْتَ كُلَّكَ لَهُ كَانَ لَكَ بِكُلِّ الْكُلِّ فِيمَا تُحِبُّهُ مِنْهُ فَكُنْ مُؤْثِرًا لَهُ بِكُلِّ مَنِ انْبَسَطَ لَهُ مِنْكَ وَمِنْهُ بَدَا لَكَ وَمِنْهُ بِهِ يَبْسُطُ عَلَيْكَ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُكَ وَلَا تَبْلُغُ إِلَى أَمَانِيكَ وَآمَالِكِ وَإِذَا بُلِيتَ بِمُعَاشَرَةِ طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فَعَاشِرْهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ أَمَاكِنِهِمْ وَكُنْ مُشْرِفًا عَلَيْهِمْ بِجَمْيلِ مَا آتَاكَ اللَّهُ وَفَضَّلَكَ بِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحِبِهِ وَسَلَّمَ».

قوله (وَكُنْ حَيْثُ يَرَاكَ لِمَا يُرَادُ لَكَ وَلَا تَكُنْ حَيْثُ يُرَادُ لَكَ لِمَا تُرِيدُ لِنَفْسِكَ) فيه مشاهدة الأمر والنهي خلافاً لمن أسقطه بحجة الوصول إلى المراد من زنادقة الصوفية .

(28) قال أبو نعيم في الحلية (13/280) : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حُبَيْشٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسُئِلَ، عَنِ الرِّضَا، فَقَالَ: " سَأَلْتُمُ عَنِ الْعَيْشِ الْهَنِيءِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ، مَنْ كَانَ عَنِ اللَّهِ رَاضِيًا، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَهْنَأُ الْعَيْشِ عَيْشُ الرَّاضِينَ عَنِ اللَّهِ، فَالرِّضَا اسْتِقْبَالُ مَا نَزَلَ مِنَ الْبَلَاءِ بِالطَّاقَةِ وَالْبِشْرِ وَانْتِظَارِ مَا لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ بِالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَذَلِكَ أَنَّ رَبَّهُ عِنْدَهُ أَحْسَنُ صُنْعًا بِهِ وَأَرْحَمُ بِهِ وَأَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُ فَإِذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ لَمْ يَكْرَهْهُ وَكَانَ ذَلِكَ إِرَادَتَهُ، مُسْتَحْسِنًا ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ رَبِّهِ فَإِذَا عَدَّ مَا نَزَلَ بِهِ إِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ رَضِيَ فَالرِّضَا هُوَ الْإِرَادَةُ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ بِأَنْ يَكُونَ مَرِيدًا لِمَا صَنَعَ مُحِبًّا رَاضِيًا عَنِ اللَّهِ بِقَلْبِهِ
 قد حقق شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الصبر واجب والرضا مستحب.

(29) قال أبو نعيم في الحلية (13/280) : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ كِتَابًا يَقُولُ فِيهِ:
إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَلَا يُعَرِّيهَا مِنْ أَحِبَّائِهِ لِيَحْفَظَ بِهِمْ مَنْ جَعَلَهُمْ سَبَبًا لِحِفْظِهِ وَيَحْفَظَ بِهِمْ مَنْ جَعَلَهُمْ سَبَبًا لِكَوْنِهِ وَأَنَا أَسْأَلُ الْمَنَّانَ بِفَضْلِهِ وَطَوْلِهِ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكَ مِنَ الْأُمَنَاءِ عَلَى سِرِّهِ الْحَافِظِينَ لِمَا اسْتُحْفِظُوهُ مِنْ جَلِيلِ أَمْرِهِ تَجْمِيلًا مِنْهُ لَنَا بِأَعْظَمِ الرُّتَبِ وَإِشْرَافًا بِنَا عَلَى كُلِّ ظَاهَرٍ وَمُحْتَجَبٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ زَيَّنَ بَسِيطَ أَرْضِهِ وَفَسِيحَ سَعَةِ مُلْكِهِ بِأَوْلِيَائِهِ وَأُولِي الْعِلْمِ بِهِ وَجَعَلَهُمْ أَبْهَجَ لَامِعٍ سَطَعَ نُورُهُ وَعَنَّ لِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ ظُهُورُهُ، وَهُمْ أَحْسَنُ زِينَةً مِنَ السَّمَاءِ الْبَهِجَةِ بِضِيَاءِ نُجُومِهَا وَنُورِ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، أُولَئِكَ أَعْلَامٌ لِمَنَاهِجِ سَبِيلِ هِدَايَتِهِ، وَمَسَالِكِ طُرُقِ الْقَاصِدِينَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَمَنَارُ نُورٍ عَلَى مَدَارِجِ السَّاعِينَ إِلَى مُوَافَقَتِهِ وَهُمْ أَبْيَنُ فِي مَنَافِعِ الْخَلِيقَةِ أَثَرًا وَأَوْضَحُ فِي دِفَاعِ الْمَضَّارِ عَنِ الْبَرِيَّةِ خَيْرًا مِنَ النُّجُومِ الَّتِي بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يُهْتَدَى وَبِأَثَرِهَا عِنْدَ مُلْتَبِسِ الْمَسَالِكِ يُقْتَدَى؛ لِأَنَّ دِلَالَاتِ النُّجُومِ تَكُونُ بِهَا نَجَاةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ، وَدِلَالَاتُ الْعُلَمَاءِ بِهَا تَكُونُ سَلَامَةُ الْأَدْيَانِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ مَنْ يَفُوزُ بِسَلَامَةِ دِينِهِ وَمَنْ يَفُوزُ بِسَلَامَةِ دُنْيَاهُ وَبَدَنِهِ .

قوله (إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يُخَلِّي الْأَرْضَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَلَا يُعَرِّيهَا مِنْ أَحِبَّائِهِ لِيَحْفَظَ بِهِمْ مَنْ جَعَلَهُمْ سَبَبًا لِحِفْظِهِ) قد يظن ظان أن بعض دلالة لبعض ترهات القبورية ، وليس الأمر كذلك ، بل هو يريد أن الله عز وجل لا يهلك الناس وفيهم الأولياء الصلحاء
 قال ابن أبي الدنيا في الأولياء 62 : نا محمد بن يزيد ، نا عبيدة ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :   إذا كان فيها خمسة لم يعذبوا .

وقال ابن المبارك في الزهد 331 : أخبرنا محمد بن سوقة ، عن محمد بن المنكدر قال :  إن الله ليصلح بصلاح العبد ولده ، وولد ولده ، ويحفظه في دويرته ، والدويرات التي حوله ما دام فيهم
 ولعل قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، ولكن الولي إذا مات لم يكن هذا الحكم مستمراً وهذا واضح من قول الجنيد ( لا يخلي الأرض ) يعني من الأحياء فيكون فيه رد على القبورية، ولكن الخبث إذا كثر هلك الناس وإن كان فيهم الصالحون كما ورد في الخبر الصحيح.

(30) قال أبو نعيم في الحلية (13/ 283) : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الضِّيقَ فَعَلَّمَهُ وَقَالَ: قُلِ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْكَ مَا هُوَ لَكَ وَأَسْتَعِيذُكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يُسْخِطُكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ صَفَاءِ الصَّفَاءِ صَفَاءً أَنَالُ بِهِ مِنْكَ شَرَفَ الْعَطَاءِ اللَّهُمَّ وَلَا تَشْغَلْنِي شُغُلَ مَنْ شَغَلَهُ عَنْكَ مَا أَرَادَ مِنْكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يَذْكُرُكَ ذِكْرَ مَنْ لَا يُرِيدُ بِذَاكِرِهِ مِنْكَ إِلَّا مَا هُوَ لَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ غَايَةَ قَصْدِي إِلَيْكَ مَا أَطْلُبُهُ مِنْكَ اللَّهُمَّ أَمْلَأْ قَلْبِي بِكَ فَرَحًا وَلِسَانِي لَكَ ذِكْرًا وَجَوَارِحِي فِيمَا يُرْضِيكَ شُغُلًا اللَّهُمَّ امْحُ عَنْ قَلْبِيَ كُلَّ ذِكْرٍ إِلَّا ذِكْرَكَ وَكُلَّ حُبٍّ إِلَّا حُبَّكَ وَكُلَّ وُدٍّ إِلَّا وُدَّكَ وَكُلَّ إِجْلَالٍ إِلَّا إِجْلَالَكَ، وَكُلَّ تَعْظِيمٍ إلِاَّ تَعْظِيْمَكَ، وَكُلَّ رَجَاءٍ إلَّا لَكَ، وَكُلَّ خَوْفٍ إِلَّا مِنْكَ وَكُلَّ رَغْبَةٍ إِلَّا إِلَيْكَ وَكُلَّ رَهْبَةٍ إِلَّا لَكَ وَكُلَّ سُؤَالٍ إِلَّا مِنْكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ لَكَ يُعْطِي وَلَكَ يَمْنَعُ وَبِكَ يَسْتَعِينُ وَإِلَيْكَ يَلْجَأُ وَبِكَ يَتَعَزَّزُ وَلَكَ يَصْبِرُ وَبِحُكْمِكَ يَرْضَى، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يَقْصِدَ إِلَيْكَ قَصْدَ مَنْ لَا رُجُوعَ لَهُ إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِضَائِي بِحُكْمِكَ فِيمَا ابْتَلَيْتَني فِي كُلِّ وَقْتٍ مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْفَصِلٍ، وَاجْعَلْ صَبْرِي لَكَ عَلَى طَاعَتِكَ صَبْرَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَنِ الصَّبْرِ صَبْرٌ إِلَّا الْقِيَامَ بِالصَّبْرِ، وَاجْعَلْ تَصَبُّرِي عَمَّا يُسْخِطُكَ فِيمَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ تَصَبُّرَ مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الصَّبْرِ بِقُوَّةِ الْعِصْمَةِ مِنْكَ لَهُ اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يَسْتَعِينُ بِكَ اسْتِعَانَةَ مَنِ اسْتَغْنَى بِقُوَّتِكَ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يَلْجَأُ إِلَيْكَ لُجْءَ مَنْ لَا مَلْجَأَ لَهُ إِلَّا إِلَيْكَ وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يَتَعَزَّى بِعَزَائِكَ وَيَصْبِرُ لِقَضَائِكَ أَبَدًا مَا أَبْقَيْتَنِي، اللَّهُمَّ وَكُلُّ سُؤَالٍ سَأَلْتُهُ فَعَنْ أَمْرٍ مِنْكَ لِي بِالسُّؤَالِ فَاجْعَلْ سُؤَالِي لَكَ سُؤَالَ مَحَابِّكَ وَلَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ بِسُؤَالِهِ مَوَاضِعَ الْحُظُوظِ، بَلْ يَسْأَلُ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ حَقِّكَ».

الواجب التزام السنة في هذه الأبواب ، على أن الجنيد لم يكن له طريقة اسمها ( الجنيدية ) ولم يكن عند أوراد طريقة كما هو الحال عند مبتدعة الصوفية المتأخرين ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الخبر في دعاء الكرب أحسب أن الجنيد لو وقف عليه لاستغنى به عن هذا.

قال البخاري في صحيحه 6345 : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.

(31) قال أبو نعيم في الحلية (13/283) : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:
اعْلَمْ أَنَّ الْمُنَاصَحَةَ، مِنْكَ لِلْخَلْقِ وَالْإِقْبَالَ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِكَ فِيكَ وَفِيهِمْ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لَكَ فِي حَيَاتِكَ وَأَقْرَبُهَا إِلَى أَوْلِيَائِكِ فِي وَقْتِكَ , وَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً وَأَعْظَمَهُمْ دَرَجَةً فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَنٍ وَفِي كُلِّ مَحَلٍّ وَوَطَنٍ أَحْسَنُهُمْ إِحْكَامًا لِمَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَسْبَقُهُمْ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى اللَّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ، وَأَنْفَعُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ فَخُذْ بِالْحَظِّ الْمُوفَرِ لِنَفْسِكَ وَكُنْ عَاطِفًا بِالْمَنَافِعِ عَلَى غَيْرِكَ وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَجِدَ سَبِيلًا تَسْلُكُهُ إِلَى غَيْرِكَ وَعَلَيْكَ بَقِيَّةٌ مُفْتَرَضَةٌ مِنْ حَالِكِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُؤَهَّلِينَ لِلرِّعَايَةِ إِلَى سَبِيلِ الْهِدَايَةِ وْالْمُرَادِينَ لِمَنَافِعِ الْخَلِيقَةِ وَالْمُرَتَّبِينَ لِلنَّذَارَةِ وَالْبِشَارَةِ أُيِّدُوا بِالتَّمْكِينَ وَأُسْعِدُوا بِرَاسِخِ عِلْمِ الْيَقِينِ وَكُشِفَ لَهُمْ عَنْ غَوَامِضَ مَعَالِمِ الدِّينِ وَفُتِحَ لَهُمْ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ الْمُسْتَبِينِ، فَبَلَغُوا مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ وَجَادَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ أَمْرِهِ إِحْكَامَ مَا بِهِ أُمِرُوا، وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى مَا إِلَيْهِ نُدِبُوا وَالدِّعَايَةَ إِلَى اللَّهِ بِمَا بِهِ مُكِّنُوا، وَهَذِهِ سِيرَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ بُعِثُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَسِيرَتُهُمْ فِي تَأْدِيَةِ مَا عَلِمُوهُ مِنَ الْحِكَمِ، وَسِيرَةُ الْمُتَّبِعِينَ لِآثَارِهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَسَائِرِ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ مِنْ صَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ .

أقول : في هذا الأثر الثابت مسائل:

الأولى : الحث على تعليم العلم وأنه أفضل الأعمال.
الثانية : فيه الرد على من اختار السياحة والانقطاع على مخالطة الناس وتعليمهم أو التعلم من أهل العلم.
الثالثة : فيه التنبيه على ان الموعظة تكون بالبشارة والنذارة ، خلافاً لمن ترك الرجاء والخوف وعبد الله بالمحبة فقط.


(32) وقال أبو نعيم في الحلية (13/284) : كَتَبَ إِلَيَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ: أَنْشَدَنِي الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
وَسِرْتُ بِنَاسٍ فِي الْغُيوبِ قُلُوبُهُمْ ... وَجَالُوا بِقُرْبِ الْمَاجِدِ الْمُتَفَضِّلِ
وَنَالُوا مِنَ الْجَبَّارِ عَطْفًا وَرَأْفَةً ... وَفَضْلًا وَإِحْسَانًا وَبِرًّا يُعَجَّلُ
أُولَئِكَ نَحْوَ الْعَرْشِ هَامَتْ قُلُوبُهُمْ ... وَفِي مَلَكُوتِ الْعِزِّ تَأْوِي وَتَنْزِلُ

(33) قال أبو نعيم في الحلية (13/284) : كَتَبَ إِلَيَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ الْخَلَدِيُّ، وَسَمِعْتُ أَبَا طَاهِرٍ الْمُحْتَسِبَ، يَقُولُ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ وَهُوَ يَسْمَعُ قَالَ:
كَانَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا دَائِمًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا مَوْفُورًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، وَلَا زَوَالَ وَلَا نَفَاذَ لَهُ، وَلَا فَنَاءَ كَمَا يَنْبَغِي لِكَرِيمِ وَجْهِكَ وَعِزَّ جَلَالِكَ، وَكَمَا أَنْتَ أَهْلُ الْحَمْدِ فِي عَظِيمِ رُبُوبِيَّتِكَ وَكِبْرِيَائِكَ، وَلَكَ مِنْ كُلٍّ تَسْبِيحٌ وَتَقْدِيسٌ وَتَمْجِيدٌ وَتَهْلِيلٌ وَتَحْمِيدٌ وَتَعْظِيمٌ، وَمِنْ كُلِّ قَوْلٍ حَسَنٍ زَاكٍ جَمِيلٍ تَرْضَاهُ مِثْلُ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَبْدِكَ الْمُصْطَفَى الْمُنْتَخَبِ الْمُخْتَارِ الْمُبَارَكِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَشْيَاعِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَأَنْصَارِهِ وَإِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى أَهْلِ طَاعَتِكَ أَجْمَعِينَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَصَلِّ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَرِضْوَانٍ وَمَالِكٍ، اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى الْكَرُوبِيِّينَ وَالرُّوحَانِيِّينَ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالسَّيَّاحِينَ وَالْحَفَظَةِ وَالسَّفَرَةِ وَالْحَمَلَةِ، وَصَلِّ عَلَى مَلَائِكَتِكَ وَأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرَضِينَ وَحَيْثُ أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمُكَ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِكَ كُلِّهَا صَلَاةً تَرْضَاهَا وَتُحِبُّهَا وَكَمَا هُمْ لِذَلِكَ كُلِّهِ أَهْلٌ، وَأَسْأَلُكُ اللَّهُمَّ بِجُودِكَ وَمَجْدِكَ وَبَذْلِكَ وَفَضْلِكَ وَطَوْلِكَ وَبِرِّكَ وَإِحْسَانِكَ وَمَعْرُوفِكَ وَكَرَمِكَ، وَبِمَا اسْتَقَلَّ بِهِ الْعَرْشُ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ، أَسْأَلُكَ يَا جَوَّادُ يَا كَرِيمُ مَغْفِرَةَ كُلِّ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُكَ مِنْ ذُنُوبِنَا وَالتَّجَاوُزَ عَنْ كُلِّ مَا كَانَ مِنَّا وَأَدِّ اللَّهُمَّ مَظَالِمَنَا وَقُمْ بِأَوَدِنَا فِي تَبِعَاتِنَا جُودًا مِنْكَ وَمَجْدًا وَبَذْلًا مِنْكَ وَطَوْلًا، وَبَدِّلْ قَبِيحَ مَا كَانَ مِنَّا حَسَنًا، يَا مَنْ يَمْحُو مَا يَشَاءُ، وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، أَنْتَ كَذَلِكَ لَا كَذَلِكَ غَيْرُكَ اعْصِمْنَا فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَعْمَارِ إِلَى مُنْتَهَى الْآجَالِ عِصْمَةً دَائِمَةً كَامِلَةً تَامَّةً وَكَرِّهْ إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي تَكْرَهُ وَحَبِّبْ إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي تَرْضَاهُ وَتُحِبُّهُ وَاسْتَعْمِلْنَا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تُحِبُّ وَأَدِمْ ذَلِكَ لَنَا إِلَى أَنْ تَتَوَفَّانَا عَلَيْهِ، أَكِّدْ عَلَى ذَلِكَ عَزَائِمَنَا وَاشْدُدْ عَلَيْهَا نِيَّاتِنَا وَأَصْلِحْ لَهَا سَرَائِرَنَا وَابْعَثْ لَهَا جَوَارِحَنَا وَكُنْ وَلِيَّ تَوْفِيقِنَا وَزِيَادَتِنَا وَكِفَايَتِنَا، هَبِ لَنَا اللَّهُمَّ هَيْبَتَكَ وَإِجْلَالَكَ وَتَعْظِيمَكَ وَمُرَاقَبَتَكَ وَالْحَيَاءَ مِنْكَ وَحُسْنَ الْجَدِّ، وَالْمُسَارَعَةَ وَالْمُبَادَرَةَ إِلَى كُلِّ قَوْلٍ زَكِيٍّ حَمِيدٍ تَرْضَاهُ وَهَبْ لَنَا اللَّهُمَّ مَا وَهَبْتَ لِصَفْوَتِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ مِنْ دَائِمِ الذِّكْرِ لَكَ وَخَالِصِ الْعَمَلِ لِوَجْهِكَ عَلَى أَكْمَلِهِ وَأَدْوَمِهِ وَأَصْفَاهُ وَأَحَبِّهِ إِلَيْكَ، وَأَعِنَّا عَلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ إِلَى مُنْتَهَى الْآجَالِ، اللَّهُمَّ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْمَوْتِ إِذَا نَزَلَ بِنَا وَاجْعَلْهُ يَوْمَ حِبَاءٍ وَكَرَامَةٍ وَزُلْفًى وَسُرُورٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَلَا تَجْعَلْهُ يَوْمَ نَدَمٍ وَلَا يَوْمَ آسًى، وَأَوْرِدْنَا مِنْ قُبُورِنَا عَلَى سُرُورٍ وَفَرَحٍ وَقُرَّةِ عَيْنٍ وَاجْعَلْهَا رِيَاضًا مِنْ رِيَاضِ جَنَّتِكَ وَبِقَاعًا مِنْ بِقَاعِ كَرَامَتِكَ وَرَأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَلَقِّنَا فِيهَا الْحُجَجَ وَآمِنَّا فِيهَا مِنَ الرَّوْعَاتِ وَاجْعَلْنَا آمِنَيْنَ مُطْمَئِنَّيْنَ إِلَى يَوْمِ تَبْعَثُنَا يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَنَا آمِنَّا مِنْ رَوْعَاتِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ شَدَائِدِهِ وَاكْشُفْ عَنَّا عَظِيمَ كَرْبِهِ وَاسْقِنَا مِنْ ظَمَئِهِ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصْطَفَى الَّذِي انْتَخَبْتَهُ وَاخْتَرْتَهُ وَجَعَلْتَهُ الشَّافِعَ لِأَوْلِيَائِكَ الْمُقَدَّمَ عَلَى جَمِيعِ أَصْفِيَائِكَ الَّذِي جَعَلْتَ زُمْرَتَهُ آمِنَةً مِنَ الرَّوْعَاتِ، أَسْأَلُكَ يَا مَنْ إِلَيْهِ لُجُؤُنَا وَإِلَيْهِ إِيَابُنَا وَعَلَيْهِ حِسَابُنَا أَنْ تُحَاسِبَنَا حِسَابًا يَسِيرًا لَا تَقْرِيعَ فِيهِ وَلَا تَأْنِيبَ وَلَا مُنَاقَشَةَ وَلَا مُوَاقَفَةَ، وَعَامِلْنَا بِجُودِكَ وَمَجْدِكَ كَرَمًا وَاجْعَلْنَا مِنَ السُّرْعَانِ الْمَغْبُوطِينَ وَأَعْطِنَا كُتُبَنَا بِالْأَيْمَانِ، وَأَجِزْنَا الصِّرَاطَ مَعَ السُّرْعَانِ وَثَقِّلْ مَوَازِينَنَا يَوْمَ الْوَزْنِ، وَلَا تُسْمِعْنَا لِنَارِ جَهَنَّمَ حَسِيسًا وَلَا زَفِيرًا وَأَجِرْنَا مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ مَا يُقَرِّبُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَاجْعَلْنَا بِجُودِكَ وَمَجْدِكَ وَكَرَمِكَ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ وَحُبُورِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَقَرَابَاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا فِي دَارِ قُدُسِكَ وَدَارِ حُبُورِكَ عَلَى أَفْضَلِ حَالٍ وَأَسَرِّهَا وَضُمَّ إِلَيْنَا إِخْوَانَنَا الَّذِينَ هُمْ عَلَى أُلْفَتِنَا وَالَّذِينَ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى بَلِّغْهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَفَوْقَ مَا أَمَّلُوهُ وَأَعْطِهِمْ فَوْقَ مَا طَلَبُوهُ وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي دَارِ قُدُسِكَ وَدَارِ حُبُورِكَ عَلَى أَفْضَلِ حَالٍ وَأَسَرِّهَا وَعُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَمِيعًا بِرَأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ الَّذِينَ فَارَقُوا الدُّنْيَا عَلَى تَوْحِيدِكَ كُنْ لَنَا وَلَهُمْ وَلِيًّا كَالِئًا كَافِيًا وَارْحَمْ جُفُوفَ أَقْلَامِهِمْ، وَوُقُوفَ أَعْمَالِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، وَالْأَحْيَاءُ مِنْهُمْ تُبْ عَلَى مُسِيئِهِمْ وَاقْبَلْ تَوْبَتَهُمْ وَتَجَاوَزْ عَنِ الْمُسْرِفِ مِنْهُمْ وَانْصُرْ مَظْلُومَهُمْ وَاشْفِ مَرِيضَهُمْ وَتُبْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ تَوْبَةً نَصُوحًا تَرْضَاهَا فَإِنَّكَ الْجَوَّادُ بِذَلِكَ الْمُجِيدُ بِهِ الْقَادِرُ عَلَيْهِ وَكُنِ اللَّهُمَّ لِلْمُجَاهِدِينَ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَكَالِئًا وَكَافِيًا وَنَاصِرًا وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ نَصْرًا عَزِيزًا وَاجْعَلْ دَائِرَةَ السَّوْءِ عَلَى أَعْدَائِكَ وَأَعْدَائِنَا، وَاسْفِكِ اللَّهُ دِمَاءَهُمْ وَأَبِحْ حَرِيمَهُمْ وَاجْعَلْهُمْ فَيْئًا لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَصْلِحِ الرَّاعِيَ وَالرَّعِيَّةَ وَكُلَّ مَنْ وَلَّيْتَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ صَلَاحًا بَاقِيًا دَائِمًا اللَّهُمَّ أَصْلِحْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَصْلِحْهُمْ لِمَنْ وَلَّيْتَهُمْ عَلَيْهِمْ وَهَبْ لَهُمُ الْعَطْفَ وَالرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ بِهِمْ، وَأَدِمْ ذَلِكَ لَنَا فِيهِمْ وَلَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، اللَّهُمَّ اجْمَعْ لَنَا الْكَلِمَةَ وَاحْقِنِ الدِّمَاءَ وَأَزِلْ عَنَّا الْفِتْنَةَ وَأَعِذْنَا مِنَ الْبَلَاءِ كُلِّهِ، تَوَلَّ ذَلِكَ لَنَا بِفَضْلِكَ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ بِهِ أَعْلَمُ وَعَلَيْهِ أَقْدِرُ وَلَا تُرِنَا فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ سَيْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا تُرِنَا بَيْنَهُمْ خِلَافًا، اجْمَعْهُمْ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى مَا يُقَرِّبُ إِلَيْكَ؛ فَإِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَأَهْلُهُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكُ أَنْ تُعِزَّنَا وَلَا تُذِلَّنَا، وَتَرْفَعَنَا وَلَا تَضَعَنَا وَتَكُونَ لَنَا وَلَا تَكُونَ عَلَيْنَا وَتَجْمَعَ لَنَا سَبِيلَ الْأُمُورِ كُلِّهَا، أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ بَلَاغٌ لَنَا إِلَى طَاعَتِكَ وَمَعُونَةٌ لَنَا عَلَى مُوَافَقَتِكَ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ الَّتِي فِيهَا أَعْظَمُ رَغْبَتِنَا وَعَلَيْهَا مُعَوَّلُنَا وَإِلَيْهَا مُنْقَلَبُنَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ لَنَا إِلَّا بِكَ وَلَا يَصْلُحُ لَنَا إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، اللَّهُمَّ وَهَبْ لَنَا هَيْبَتَكَ وَإِجْلَالَكَ وَتَعْظِيمَكَ، وَمَا وَهَبْتَ لِخَاصَّتِكَ مِنْ صَفْوَتِكِ مِنْ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِكَ، وَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَا مَنَنْتَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ آيَاتِكِ وَكَرَامَتِكَ وَاجْعَلْ ذَلِكَ دَائِمًا لَنَا يَا مَنْ لَهُ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ وَهَبْ لَنَا الْعَافِيَةَ الْكَامِلَةَ فِي الْأَبْشَارِ وَجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَفِي جَمِيعِ الْإِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّاتِ وَالْقَرَابَاتِ، وَعُمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وأَجْرِ عَلَيْنَا مِنْ أَحْكَامِكَ أَرْضَاهَا لَكَ وَأَحَبَّهَا إِلَيْكَ وَأَعْوَنَهَا عَلَى كُلِّ مُقَرَّبٍ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَا سَامِعَ الْأَصْوَاتِ وَيَا عَالِمَ الْخَفِيَّاتِ، وَيَا جَبَّارَ السَّمَاوَاتِ صَلِّ عَلَى عَبْدِكَ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا وَآخِرًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاسْمَعْ وَاسْتَجِبْ وَافْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

هذا الدعاء ثابت عن الجنيد ، والأولى اتباع الأدعية النبوية ففيها الكفاية والغنية غير أنني أود التنبيه على عدة أمور في هذا الدعاء:

الأول : يلاحظ أنه توسل لله عز وجل أسمائه وصفاته ولم يتوسل بأحد من المخلوقين بل صلى عليهم
الثاني : أنه سأل الله عز وجل الجنة واستعاذ به من النار خلافاً لمن ادعى من الزنادقة أن هذا ليس من أحوال العارفين
الثالث : أنه بدأ بحمد الله والثناء عليه ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم سأل حاجته
وهذا عمل بالإرشاد النبوي في أدب الدعاء
 قال أحمد في مسنده 23937 : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ حُمَيْدُ بْنُ هَانِئٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ، حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ».

وليعلم أنه لا يصح حديث مرفوع في تسمية ملك الموت عزرائيل ، وإنما ورد ذلك عن وهب بن منبه في كتاب العظمة لأبي الشيخ 384 و 428 وفي سنده محمد بن إبراهيم بن العلاء متهم بالكذب ولكن على ذلك اتفاق وثمة آثار أخرى ، وكذلك لا يصح حديث مرفوع في تسمية خازن الجنة رضوان ، بقوله (َالرُّوحَانِيِّينَ) وظاهر كلامه أنهم صنف من الملائكة

 والخلاصة على نقاط:
الأولى : أنه لم يصح عن الجنيد شيء من كفريات المتأخرين من الصوفية من وحدة الوجود والحلول والاستغاثة بغير الله والذبح لغير الله وغيرها من الأمور بل صح عنه ما يدل على خلاف هذا بل لم يرو عنه شيء في تأييد هذه المذاهب لا صحيح ولا مكذوب في كتاب الحلية .

الثانية : لم يصح عن الجنيد انه دعا الله عز وجل عند قبر ولي أو شد إليه الرحال أو تمسح بقبر ، أو بنى مسجداً على قبر أو توسل بنبي أو ولي.

الثالثة : لم يثبت عن الجنيد أنه كانت له طريقة تحمل يفرق بها المسلمين على طريقة متأخري الصوفية ، ولا أوراد يتلقنها المريدون كما يتلقنون السنن ويلتزمونها بالتزامهم للسن.

الرابعة : لم يصح عن الجنيد أنه كان يحضر مجالس السماع ، أو يجالس المردان أو يدعو إلى ترك النكاح أو ينفر من العلم بل صح عنه ما يخالف كثيراً من هذه الأمور.

الخامسة : لم أجد خبراً ثابتاً يطلق فيه الجنيد على نفسه ( صوفي ) أو يقر هذه التسمية.

السادسة : لم يثبت عن الجنيد أنه أثبت حكماً شرعياً برؤيا منام.

السابعة : لم يثبت عن الجنيد أنه ادعى أن علمه لدني ، وأنه لا حاجة له بعلم الكتاب والسنة.

الثامنة : لم يثبت عن الجنيد أنه كان يلبس مريديه الخرقة.

وضلالات الصوفية التي لم تثبت عن الجنيد مع تمسحهم به يصعب حصرها ، وهذا ذكرته مثالاً لا استقصاءً، ويعجبني في النهاية نقل قول الشيخ الطريقة الدرقاوية الشاذلية أحمد الغماري الصوفي الشاذلي في كتابه ( الأجوبة الصارفة ) ص61 :" وأما من قال المراد بهم الصوفية -عني الطائفة المنصورة- فقوله باطل من جهة ، وإن كان حقا من جهة أخرى لأن لفظ الصوفية على الحقيقة ، والصوفية المتشبهة بهم والكذابين المدعين ، بل الزنادقة الملحدين الذين بتصوفهم الكاذب مرقوا من كل الأديان ، وحتى من الإنسانية وصاروا حيوانات لا دينية ، وما كان كذلك فلا يصح أن يريدهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويخبر أنهم لا يزالون على الحق إلى قيام الساعة ، وفيهم الزنادقة والملاحدة والكذابون الذين ليس منهم في الواقع ، مع عدم وجود ما يميزهم ويفرق بين أهل الصدق وأهل الكذب منهم".

ما أحسن قوله (بل الزنادقة الملحدين الذين بتصوفهم الكاذب مرقوا من كل الأديان ، وحتى من الإنسانية وصاروا حيوانات لا دينية) ! ، وإن كان كمن يهجو نفسه.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي