مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: هل دعا ابن باجه إلى فصل الفلسفة عن الدين ؟

هل دعا ابن باجه إلى فصل الفلسفة عن الدين ؟



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
 
جاء في ترجمة ابن باجه في ويكيبيديا :" ولفلسفة ابن باجّه قيمتان أساسيتان، أولاهما أنه بنى الفلسفة العقلية على أسس الرياضيات والطبيعيات فنزع عن الفلسفة الإسلامية سيطرة الجدل، وخلع عليها لباس العلم. وثانيتهما أنه أول فيلسوف في الإسلام فصل بين الدين والفلسفة في البحث، وانصرف إلى العقل ولهذا اتهم بالإلحاد والخروج عن تعاليم الدين، وقد لام أبا حامد الغزالي لميله إلى التصوف."

المصيبة أن هذا الكلام ليس مخالفاً للواقع بل مناقض للواقع تماماً

قال ابن باجه كما في رسائله الفلسفية ناصحاً أحد طلاب الفلسفة :" والمعطي هذا كله العقل الفعال يظهر أولاً للمتعلمين بصيرة يرون بها المعقولات الأول التي بها هؤلاء يمتحنون حتى يصلوا، فإذا وجد استعداداً فائقاً أعطى ما هو أكثر بحسب ما هو استعداد في استعداداً فلا يبعد أن يصل بما فطرته الأنبياء إلى درجات من الكمال أكمل مما يوصل بالعلم البرهانين إذ كان الإنسان بالاستعداد قوياً للقبول، فإن العقل الفعال أبداً يفيض عنه كمال تام للإنسان في الغاية. والتقصير إنما يلحق من جهة الاستعداد القابل لا من جهته. وكما يفيض عن كل واحد من العقول الثواني على ترتيب عقل شبيه به ليس هو، كذلك يفيض عن العقل الفعال عقل شبيه به ليس هو هو، يبقى ببقائه، لا يحتاج في وجوده إلا له، كسائر الثواني التي لا تحتاج في وجودها إلا للذي أوجدها بما يفيض عليها أبداً.
وطريق الصوفية المستعدين للقبول، وطريق الغزالي من الطرق الموصلة، والطرق المأخوذة أولاً عن نبينا صلعلم.
فأرى أن تمزج ما عندك من الكمال التعليمي بذكر الله عز وجل، وبالفكرة في كماله، بما عندك من اليقين بوجوده، وإنه عالم، وإن علمه بذاته فقطن وعلمه هو ذاته، فإنه يعلم جميع الأسباب من جهة علمه بذاته وبكمال ذاته التي بكمالها فاض وجودا ذلك الموجود، وإنه عالم بما فاض عنه، ولعلمه بذاته فيعلم ما يفيض عنه. فاعمل على تصفية نفسك بذكر الله وتعظيمه بصفاته على ما ذكر الشيخ أبو نصر في كتاب الله.
وهو الموفق للحق لا رب غيره."

فهو يثني على طريقة الغزالي في التصوف ويأمر بالنظر في كتاب الله

وقال أيضاً :" وهذه الموهبة من الله عز وجل، التي هي بصائر القلوب، تتفاضل في الإنسان تفاضلاً عظيماً، وأعظم البصائر الموهبة من الله عز وجل بصائر الأنبياء صلوات الله عليهم يعلمون الله عز وجل ومخلوقاته حق علمه، ويرون ببصائرهم الفائقة في نفوسهم ذلك العلم العظيم دون تعلم ولا اكتساب. وأجل المدركات العلم بالله تعالى وهو لا سد، ويهدهم الله لمعرفته ومعرفة ملائكته علم ما كان ويكون من الحوادث الجزئية الحادثة في هذا العالم يرونها ببصائر قلوبهم من يغر أن يشاهدوها ويعاينوها.
ودون الأنبياء أولياء الله الذين فطرهم على فطر فائقة يأخذون بها من الأنبياء ما يوصلهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة القصوى، ولا يزالون يصدقون بذلك حتى يروا علم ذلك في نفوسهم ببصائرهم بحسب درجات الموهبة من الله تعالى التي يبصرون بها نفوسهم على ذلك مسدون الدنيا ويأنسون ويلذون للفكرة بذكر الله ببصائرهم الفائقة، نطقت بذلك نفسهم أو لم تنطق، فإنه لا يخلو علم ذلك من نفوسهم. وهؤلاء المخلصون يفيض عليهم من الله عز وجل بحسب الرؤيا جزء يسير مما وهبه الله للأنبياء من الإطلاع على المغيبات التي تكون من الله تعالى في العلم على درجات.
وأولياء الله منهم صحابة النبي  صلى الله عليه وسلم  وكل من أخلص لله وصدق فلا بد له من السعادة الأخروية.
وبعد أولياء الله طائفة قليلة، وهبهم الله بصائر يتحققون بها على تدريج ما هو كل موجود بقيناً، إلى أن يبلغوا من العلم اليقين بمخلوقات الله عز ودل ما يبلغهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة، ويروا يقيناً ببصائرهم أنهم تبرأوا بذلك عن البدن، وحصل لهم الكمال الذي هو السعادة القصوى التي هي بقاء بلا فناء وعز بلا ذل. وبالجملة أن يدرك الإنسان أجل مطلوباته وأكملها، وهو العلم بالله عز وجل، حتى يكون كل ما دون الذي أدركه حقيراً عنده لا يرضاه ولا يحاكيه، بل يحب ما هو فيه ويلتذ به أكمل لذة ويتعشقه، وهؤلاء هم مثل أرسطو وهم قليل جداً"

وقال أيضاً :" والسبب القريب في الشمس، نبصر بها ونرى مخلوقات الله تعالى حتى نكون ممن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة إيماناً يقيناً، فنكون من الذين "يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار". ولا فكرة إلا بتلك الموهبة، وتلك الموهبة هي اتصاله بالعقل الفعال"

وهنا جعل هذه الآية أصلاً في تعلم العلوم الطبيعية والنظر في أمر الكواكب وسبقه إلى هذا البيروني ومحمد بن جابر الحراني

قال محمد بن جابر الحراني المهندس الفلكي في كتابه زيج الصابيء :" أما بعد إن من أشرف العلوم منزلة وأسناها مرتبة وأحسنها حلية وأعلقها بالقلوب وألمعها بالنفوس وأشدها تحديداً للفكر والنظر وتذكية للفهم ورياضة للعقل بعد العلم بما لا يسع الإنسان جهله من شرائع الدين وسنته علم صناعة النجوم لما في ذلك من جسيم الحظ وعظيم الانتفاع بمعرفة مدة السنين والشهور والمواقيت وفصول الأزمان وزيادة الليل والنهار ونقصانها ومواضع النيرين وكسوفها ومسير الكواكب في استقامتها ورجوعها وتبدل أشكالها ومراتب أفلاكها وسائر مناسباتها إلى ما يدرك بذلك من أنعم النظر وأدام الفكر فيه من إثبات التوحيد ومعرفة كنه عظمة الخالق وسعة حكمته وجليل قدرته ولطيف صنعه قال عز من قائل " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " وقال تبارك وتعالى " تبارك الذي جعل في السماء بروجاً " وقال عز وجل " هو الذي جعل الليل والقمر نوراً خلفة " وقال سبحانه " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب " وقال جل ذكره " والقمر بحسبان " مع اقتصاص كثير في كتاب الله عز وجل يطول وصفه ويتسع القول بذكره واستشهاده"

وقال البيروني في الجماهر :" أما البصر فللاعتبار بما يشاهد من آثار الحكمة في المخلوقات والاستدلال على الصانع من المصنوعات - قال الله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وقال سبحانه وتعالى (الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خائسا وهو حسير) وقال تعالى (وكائن من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) واما السمع فليسمع به كلام الله بأوامره ونواهيه ويعتصم فيها بحبله فيصل إلى جواره ويبلغ حق مأمنه وليس ذلك بخفي عن خاص او عام"

ونعود لابن باجه حيث قال في رسائله :" وكذلك مخلوقات الله عز وجل ما نعلم نحن فيها ما نعلمه من جهتها ومن جهة الفكر فيها ببصيرة القلب، والله عز وجل يعلمها من جهة علمه بما خلق وابتدع فإنما الإنسان ولي ذلك الإنسان.
خذ نفسك واعمل ببصيرتك في مخلوقات الله عز وجل حتى نوصلك إلى المعرفة به.
"إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً".
وإذا علمت الله عز وجل وكتبه ورسله فمن أصل ممن نسيه "نسو الله فأنساهم أنفسهم" ومن نسي نفسه ضلالاً بعيداً، إذا لا طريق له إلى الهداية، وصار في ظلمات الشهوات من اتخذ ألهه هواه. فكن ممن جعل هواه ذكر ربه بقلبه، ووالي ذلك بجهدك يهديك الصراط المستقيم، "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"

وقال أيضاً :" فإذا كمل وجوده لم يزل موجوداً. وهذا الموجود وحده من الموجودات أزلي في الكون والفساد صفته هذه الصفة، لا يزال الوجود فيه كذلك، لا يزال يوجد بعد أن لم يكن. فإن وجد دام وجوده مع الدهر لا مع الزمان. فعلى هذا الوجه يكون عقل الإنسان له البقاء الدائم.
وانظره في إيضاح الخير بجده، ففيه أبواب كثيرة في الخير. وأظنه الذي يسمى بمقالات الخير، فإن كل باب منه قول في الخير.
فهذا ما ظهر لي فيما تجاذبناه. ولقد واليت النظر في أبوابه، فانكشف لي نور بين وعلم يقين، فلا أقدر أن أفارقه، ولقد علقت عليه.
وانظر، مع نظرك في مقالات الخير، في عيون المسائل، ثم في قول أبي حامد، تجد الكل من نمط واحد، والكل في التأويل مع الكتاب العزيز متفق.
لكن ذلك بأن توجد في بصيرة العقل في العقل، وهذا هو رجوع الشيء على ذاته، حتى يكون فعله هو ذاته، حتى لا يحتاج إلى فاعل يفعله ولا لمن يحفظه، بل هو حافظ ذاته، وفعله دائم لا يحتاج في وجوده إلى غيره، فليس له شيء يعدمه لأنه واحد في ذاته"

فهنا يثني على الغزالي ويربط الدين بالفلسفة

وعلى كل لا نعتد نحن بالفلاسفة ولكن لبيان كذب كثير من الباحثين العلمانيين والغربيين الكذابين فالرجل سائر على طريق الفارابي مع كونه أكثر تصالحاً مع الشرعيين منه وهذا واضح من موقفه من الغزالي

وكأنه يميل إلى مقالتهم أن الله لا يعلم الجزئيات كما هي وإنما يعلمها بعلم إجمالي حيث يقول :" ومن بعض ما ذكرته أن الأول يعلم الجزئيات من جهة علمه بحدودها"

ولم أستبن حقاً قوله في هذه المسألة

وقد قال :إذ ليس أحب عند الله من هذا العقل. وهذا كمال إلهي لا يدرك إلاّ بمعونة إلهية. ولذا بعث الله الرسل والأنبياء تتميماً «لأجل مواهبه عند الناس وهو العلم» (ص 95 من تدبير المتوحد).

ويستدل بحديث : «خلق الله العقل فقال له أقبِلْ فأقبَلَ. ثم قال له أدبِرْ فأدبَرَ، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحب إليّ منك».

وهذا حديث لا يثبت غير أنه روي في مراسيل الحسن عند أحمد في الزهد وبهذا دفع السيوطي القول بوضعه

وأخيراً كلمة للمغالين بدراسة المنطق فيقال لهم لقد بلغ الصحابة والتابعون أقصى ما يبلغ الأولياء دون نظر في المنطق وعامة أبحاث الفلاسفة إنما احتاج لها القوم لبعدهم عن الوحي ولكن بعد الوحي فالإقبال عليه هو المتعين وترك كل ما سواه وعامة الفلاسفة لم يصنعوا في الأمم عشر ما فعله الصحابة والتابعون من الإصلاح بل جاءوا للحكمة وعقدوها وجعلوها حكراً على قوم معينين وما أحسنوا تقريبها للعامة وعاشوا في بروج عاجية مع ما دخل حكمتهم من دخن عظيم
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي