مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: لفظة ( مخانيث ) في التوصيف العقدي بين ابن تيمية والغزالي

لفظة ( مخانيث ) في التوصيف العقدي بين ابن تيمية والغزالي



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
 
قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (6/359) :" وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا وَهِيَ تَرْجِعُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ إلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا فَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا صِفَاتٌ حَادِثَةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ عَدَمِيَّةٌ. وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى " الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ " مِنْ الرُّومِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ حَيْثُ زَعَمُوا: أَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إلَى سَلْبٍ أَوْ إضَافَةٍ؛ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْ سَلْبٍ وَإِضَافَةٍ؛ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ ضُلَّالٌ مُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ. وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَصَرًا نَافِذًا وَعَرَفَ حَقِيقَةَ مَأْخَذِ هَؤُلَاءِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ وَبِالْكِتَابِ وَبِمَا أُرْسِلَ بِهِ رُسُلُهُ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَآيِلَةٌ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ؛ وَالْأَشْعَرِيَّةُ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ الْجَهْمِيَّة الذُّكُورُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ الْجَهْمِيَّة الْإِنَاثُ"

هذا النص تباكى عنده الأشعريون كثيراً إذ كيف يصفهم الشيخ بهذه اللفظة

وواضح أنه يريد دلالة معنوية فكما أن الخنثى لا يعرف هل هو رجل أم أنثى فكذلك المعتزلي لا تدري هل هي فيلسوف أو مناقض للفلسفة فتارة يتكلمون بكلام الفلاسفة بنصه في معارضة ظواهر النصوص وتارة يكفرون الفلاسفة وينتصرون للنصوص

والأمر نفسه مع الأشاعرة في أمر المعتزلة

علماً أن الأشاعرة وجهمية الجهم تخالف المعتزلة في باب الإيمان والقدر ولكنهم متفقون في عامة مسائل الصفات خصوصاً الأشاعرة المتأخرين الجوينية وأما السابقون لهم فمحط الاتفاق في الصفات الفعلية

ومع كونهم يتناسون التكفير والاتهام بالتجسيم الذي هو أشنع مما ذكر الشيخ بل القذف الصريح في كلام بعضهم

فقد جاء في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي مقراً لذلك :" مِنْهَا
(كذب ابْن فاعلة يَقُول لجهله ... الله جسم لَيْسَ كالجسمان)"

ولكن دعنا من هذا كله إليك كلاماً لأبي حامد الغزالي يستخدم كلمة ( مخنث ) بمثل المعنى الذي أراده ابن تيمية وإن كان يريد تقرير ضلالة

قال الغزالي في إحياء علوم الدين :" فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه مذبذباً بين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه  فإن كنت قد فهمت من قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خلق آدم على صورته الصورة الظاهرة المدركة بالبصر فكن مشبهاً مطلقاً كما يقال كن يهودياً صرفاً وإلا فلا تلعب بالتوراة"

ومعلوم من يريد بهذا الكلام !

فما عسى القوم يقولون والحال هذه

ومن ظلمهم وعتوهم يأخذون على ابن تيمية موافقته بعض أقوال الظاهرية في الطلاق كالقول بأن الثلاث في مجلس واحد تعد واحدة ( وقد نسبه الشيخ لبعض المتقدمين )

قال الزركشي في البحر المحيط :" وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَحَكَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ الِاعْتِدَادُ بِخِلَافِهِمْ، وَلِهَذَا يَذْكُرُ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافَهُمْ فِي الْكُتُبِ الْفَرْعِيَّةِ ثم قال : وَاَلَّذِي أُجِيبُ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِخَارَةِ: أَنَّ دَاوُد يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ، وَيُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ إلَّا مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْقِيَاسِيُّونَ مِنْ أَنْوَاعِهِ أَوْ بَنَاهُ عَلَى أُصُولِهِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى بُطْلَانِهَا، فَاتِّفَاقُ مَنْ سِوَاهُ عَلَى خِلَافِهِ إجْمَاعٌ يَنْعَقِدُ، فَقَوْلُ الْمُخَالِفِ حِينَئِذٍ خَارِجٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ، كَقَوْلِهِ فِي التَّغَوُّطِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَتِلْكَ الْمَسَائِلِ الشَّنِيعَةِ، وَفِي " لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ " الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَخِلَافُهُ فِي هَذَا وَشَبَهُهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. اهـ."

فإذا اختيار بعض أكابر فقهاء الشافعية أنه يعتد بخلاف داود إذا كانت المسألة غير قياسية فلم التشنيع ( بحسب أصولكم ) على من يميل لقول من أقواله بناءً على أخبار وآثار عنده وإن خالفتموه

قال النووي:
اجمع العلماء الذين يعتد بهم علي أن من ترك صلاة عمداً لزمه قضاؤها وخالفهم أبو محمد على ابن حزم فقال : لا يقدر علي قضائها أبداً ولا يصح فعلها أبدا قال بل يكثر من فعل الخير وصلاة التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة ويستغفر الله تعالي.

قول ابن حزم هذا اختاره العز بن عبد السلام فما شنعوا عليه تشنيعهم على ابن تيمية ( علماً أن هذا القول مروي عن الحسن ولكن يبقى جماهير العلماء على خلافه )

وقال محمد بن حسين الفقيه في الكشف المبدي مبيناً تلاعب القوم وتحاملهم :" والذي يظهر لي: أنّه ما حمل السبكيّ على الرّدّ على هذا الإمام ـ الذي علمتَ فضله بشهادة أهل العلم النّبويّ ـ إنّما هو محضّ التّعصّب والحسد؛ لأنّه لم يفعل ذلك مع الذين تكلّموا في الدّين بالكلمات الكفريّة؛ بل جعلوهم أولياء لله، وأوّلوا كلامهم بما يوافق أهواءهم تأويلًا كاسدًا يخالف ما عليه المسلمون؛ فهذا الغزاليّ الذي قال: «ليس في الإمكان أبدع مما كان» ، وهو القائل أيضًا: «مَن لا منطق له لا ثقة بعلمه» ، ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما كانوا يعلمون المنطق؛ بل صحّ النّهي عنه عن الشافعيّ ومالك؛ فهل يقول مسلم: لا ثقة بعلم مالك والشافعيّ؟! وهذا ابن عربيّ القائل: «والعبد رب والرب عبد؛ ليت شعري مَن المكلّف؟» ، وهذا ابن عطاء الله السكندريّ القائل في حكمه: «طلبك منه اتهام له» ، وقوله فيها أيضًا: «اشتغالك بما ضمن لك دليل على انطماس البصيرة منك» ، ومعلوم لدى كلّ أحد أنّ الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ وغيرهم من صالحي هذه الأمّة أنّهم كانوا يطلبون من الله ـ تعالى ـ ويسألونه حوائجهم، ويطلبون المعيشة والكسب والعمل؛ فهل يقول مسلم: إنّ هؤلاء اتهموا الله ـ تعالى ـ بطلبهم منه حوائجهم، وانطمست بصائرهم بالاشتغال في أمر معيشتهم؟!
فيا لله العجب! هؤلاء يُعَدُّون من الأولياء، ويُؤوّل كلامهم هذا، وشيخ الإسلام لا يُعذر في كلامه! لو فرضنا أنّه أخطأ في مسألة من المسائل، والحال قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّه مأجور؛ حيث يقول: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد وأصاب فله أجران»"

علماً أنني في مسائل الطلاق ومسألة قضاء الصلاة سائر مع العامة ولكنني ألزم القوم

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي