مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تنبيهات شرعية حول قضية البطالة ...

تنبيهات شرعية حول قضية البطالة ...



أما بعد :
 
فإن مما يزهدني في الكتابة في مثل هذه الأمور ، أن أمر المسلمين ليس بأيديهم ولا زالوا يقبعون تحت وطأة الكفار بتسليط بني جلدتنا لهم علينا ، غير أن الأمر لا يخلو من تنبيهات قد تنفع بعض أهل الإسلام ويمكن تطبيقها من بعض الأفراد ، وقد يكون لأهل الدين بلد يحكم فيه بالشرع فيفعل بعض ما نشير إليه

أمر البطالة مما يؤرق الكثيرين وعلى عادتهم مع الأسف يبحثون عن الحلول المستوردة من الغربيين ولا يراعون خصوصيات مجتمعهم الثقافية ، وأن الله عز وجل أنزل علينا وحياً فيه كل خير

وأول ما نتكلم عليه في هذا المقام عوامل البطالة في النظام الربوي الحديث

العامل الأول : الفجوة العظيمة بين الأغنياء والفقراء

بحيث صار الفقير لا يجد مصدراً للقوت والحاجات الأساسية إلا العمل عند هذا الرجل الثري

فيستغل الغني فقره وشدة حاجته فيجعله يعمل عمل اثنين أو ثلاثة براتب رجل واحد ويكون قد وفر أجرة الرجل الثاني والفقير لا يمكنه الكلام أو الاعتراض أو المساومة لشدة حاجته للعمل

وهذا أمر يتكرر في العديد من البلدان خصوصاً في بعض البلدان العربية التي تستقدم العمالة إليها فيستغلون الوافد الذي يكون من بلدان عربية أخرى أو بلدان إسلامية استغلالاً عظيماً ويحملونه الحمالات العظيمة بأجرة يسيرة وهو يكون منتفعاً ولكن لو لم يكن بهذه الظروف لما أقر بمثل هذا العقد

ثم إن هناك صوراً عجيبة من استغلال الخلق في التأخر عليهم في أجرتهم وإيذائهم بالألفاظ والتضييق عليهم بالإجازات وغيرها من الأمور التي يطول شرحها حكايتها ومثل هذا الضرب من الظلم لا يتفطن له كثير من الناس الذين لا يتفطنون إلا للظلم الخشن ولبلادة الإحساس لا يفطنون للظلم الناعم


قال مسلم في صحيحه 4749- [19-1828] حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ ، قَالَ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ ، فَقَالَتْ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ : رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ، فَقَالَتْ : كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا ، إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ ، وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ ، وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ ، فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ ، فَقَالَتْ : أَمَا إِنَّهُ لاَ يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا : اللَّهُمَّ ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ ، فَارْفُقْ بِهِ.
4750- [...] وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ، عَنْ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِمِثْلِهِ.

وقال مسلم في صحيحه 4326- [38-1661] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ ، قَالَ : مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ ، فَقُلْنَا : يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً ، فَقَالَ : إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلاَمٌ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً ، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ.

وورد في الحديث الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، وورد في الحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه

وهذا الاستغلال جرأ كثيرين منهم على السرقة على جهة الانتقام وليس مبرراً لما يفعلون ولكن هذا أمر واقع ، وهو كزنا المرأة مجازاة لزوجها الزاني تستوجب فيه الرجم ولكنه يكون شريكاً لها في الإثم

وحل هذا الاستغلال من الأغنياء للفقراء أن يكون للفقراء مصدر دخل يدفع عنهم شدة الفاقة غير العمل ، فإذا أراد أحدهم أن يحسن من وضعه المعيشي عمل

وهذا في الشريعة في الإسلامية في أمر الزكاة والصدقات والكفارات وغيرها من حقوق الفقراء في أموال الأغنياء ، ومما يضيق الفجوة الواسعة تحريم الربا والاحتكار وغيرها

بل إن مثل الزكاة مما يحرك السوق لأنها إخراج للمال من أيدي مائلة للادخار ( المال بقي في يدها عاماً كاملاً ) إلى أيدي مائلة للإنفاق وهم الفقراء فهذا يحرك السوق ويزيد فرص العمل

فانظر الحكمة العجيبة وهذا بخلاف المكوس الذي تصرف في الأمور العامة ولا يتملك منها الفقير شيئاً بعينه بل يشترك بنفعها الغني والفقير زيادة على أنها ربما أخذت من أيدي مائلة للإنفاق وهذا مشاهد في الدول التي تأخذ المكوس ( الضرائب )

وأما المصالح العامة في البلد الذي يحكم بالشرع فيؤخذ من بيت مال المسلمين ومصادره الفيء والخراج وبعض الغنيمة وفي مثل هذا العصر الموارد العامة التي تباع باسم البلد ، وليس هذا أنه لا يملك منه الفقير أو المحتاج بعينه شيئاً وإنما بيت مال المسلمين ينفق منه الحاكم على المسلمين ككل وينحل منهم من احتاج بعينه فهو كالوالد مع أولاده

والزكاة على ضربين أموال ظاهرة كالزروع وعروض التجارة وزكاة الأنعام وهذه يأخذها الإمام وهو يليها ويلزم الناس بها ويقاتل الممتنع عنها

وأموال باطنة وهي الذهب والفضة ( النقد ككل ) فهذه لا يليها الإمام باتفاق وهي راجعة لتدين الناس فأمرها من هذا الوجه كالكفارات واختلف العلماء إن أخرجها المرء هل الأفضل أن تدفع للإمام أم يليها المرء بنفسه ويعطيها للأحوج بتقديره

وهنا يأتي دور الفقهاء والوعاظ يحثون الناس على مثل هذا ، وعلى الصدقة أيضاً

وفي البلدان التي تزداد فيها الضرائب ( المكوس ) ، تكثر البطالة لأن صاحب العمل يضن بالمال الذي يعطيه للضرائب فيحمل العمالة عنده أكثر مما يطيقون ليوفر أموال الضرائب ويحرص على تقليلهم قدر المستطاع

وما يظنه فجار التجار وغيرهم من أن إثقالهم على الفرد الواحد واستغلال عوزه ليعمل أكثر من عمل بأجرة العمل الواحد أن هذا يفيدهم ظن غالط فإنه والحال هذه يتحول كالآلة ليس عنده أي قابلية للإبداع وإفادة العمل بأفكار جديدة

والواجب على من يلي أمر المسلمين أن يتتبع مثل هذا ويحفظ بذلك الحقوق ولكن تتبع مثل هذا متعذر جداً فلا حل سوى الزكاة وأن يكون للمحتاج مصدر دخل غير العمل يأكل منه ويشرب فيكون العمل للحاجات العالية كالزواج وغيرها وهذا يعطيه فرصة للاختيار أكبر ولا تهون عليه نفسه في أي عمل

فالمشكلة مركبة من تضييع أمر الزكاة وضعف الوازع الديني والرحمة عند التجار ، وفشو ملة الوطنية فيكون الكافر المواطن أعز في بلاد المسلمين من المسلم غير المواطن ولا تراعى الأخوة الإيمانية أبداً بل المصري والبنغالي المسلم وغيرهم لا ينال نصف العزة التي يجدها الأمريكي أو البريطاني في بلدان الخليج والله المستعان

هذا هو العامل الأول

والعامل الثاني : البطالة المقنعة والتوظيف لاعتبارات غير الحاجة

فعلى سبيل المثال توظيف النساء في العديد من البلدان المنتسبة للإسلام ما هو إلا ليقولوا للغرب نحن عندنا نساء تعمل فانظروا إلينا وارضوا عنا

والواقع أن عمل النساء يحتاج إلى نظر شرعي دقيق فلا أحد يعارض عملها بين النساء في تدريس أو تمريض أو غيره

ولكن المشكلة توظيفهن بلا حاجة لهذا الداعي ولكي يسكتوا مطالبات المنظمات النسوية ويوفوا بمواثيق الأمم المتحدة فكان لعمل المرأة أثر سلبي على حياة النساء ككل

فكثير من فرص العمل التي كان من الممكن أن يأخذها شاب ثم تكون سبباً في زواجه من شابة وينفق عليها مما يكسبه

صار هذا العمل تأخذه امرأة ، وفي طبيعة الناس الاجتماعية المأخوذة من الدين ودخلت عليها داخلة الأعراف أن الرجل هو الذي يدفع المهر للمرأة وهو الملزم بالنفقة عليها في حال كونها تحته وفي حال الطلاق

فكيف والحال هذه يحرص على عمل المرأة كعمل الرجل تماماً والرجل أحوج للعمل لهذه الاعتبارات ؟

بل ينبغي أن تكون ساعات عمل المرأة أقل وراتبها أقل لقلة متطلباتها الاجتماعية وذوات الظروف الخاصة يقدمن في ذلك الكتب والوالي يستثنيهن

فما بالك وكثير من هذه الأعمال غير شرعية وكانت مدخلاً للفساد على المجتمع والله المستعان

وقد صار كثير من الأولياء يطمعون بما يدخل على بناتهم من المال فيضنون بهن على الأزواج وازدادت مشكلة العنوسة بسبب هذا الأمر ، والحوادث في ذلك كثيرة وصارت مشتهرة عند العامة

والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ، وكونها في البيت ترعى زوجها في ولده وماله لا يعني أنه بطالة بل عملها هذا من أعظم العمل وأنفعه والحاجة إليه ملحة

والعامل الثالث من عوامل انتشار البطالة الإنفاق ببذخ على وسائل الترفيه ككرة القدم والغناء وغيرها فما يصرف على مهرجانات هذه الأمور يكفي لسد حاجة آلاف المحتاجين ثم إن دخلها وما توفره من فرص العمل أمر قليل مقارنة بالأعمال النافعة ، زيادة على كون بعضها لا يختلف العقلاء في تحريمه

وقد رأيت تقريراً عن أن الاستثمارات الخليجية في أندية كرة القدم الأوروبية تكفي لسد مجاعة الصومال ، ولا أستبعد صحة هذا فما نسمعه عن المبالغ الطائلة في هذه الألعاب

فهذه الأموال لو كانوا يتقون الله وأعطوها لذوي الحاجات ، أو فتحوا بها أعمالاً وتجارات أو مستشفيات لأفادت أبناء المسلمين إفادة عظيمة وفي الحديث كل معروف صدقة ، فتوفير عمل نزيه لشاب مسلم يقتات منه من الصدقة

وقد يقول المرء أن من الناس من لا يعمل زهداً في الدنيا ، فيقال هذا الضرب من الناس لا نراه اليوم وهو الضرب الذي رد عليه الخلال في كتابه الحث على التجارة والصناعة

ولكن أكثر ما يفعل اليوم قبول الشباب بوظائف عليها مؤاخذات شرعية وبعضها محرم صريحاً بحجة أن هذا خير من سؤال الناس ، وهذا غير صحيح بل سؤال الناس مع الحاجة مباح والمباح لا يكون شراً من المحرم وقد جعل الله تعالى للمحروم حقاً في أموال إخوانه الأغنياء ، والتعفف أفضل وهو دأب الصالحين

والناس اليوم يظنون أن العمل محصور في الوظائف الحكومية ولهذا الذي يعمل في التجارة أو نظيرها يعد في نظر كثيرين كالعاطل

والبطالة لها أسباب أخرى وينظر إليها من جهة أخرى وإنما أتكلم هنا عن البحث الشرعي وما لم ينبه عليه غيري وكيف يمكن أن يتقى الله في هذه القضية

قال البخاري في صحيحه 1471 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ.

وهذا الحديث يعالج سبباً من أسباب البطالة في بعض البلدان وهو الأنفة عن بعض الأعمال الشريفة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي