مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: نقض شبهة سخيفة حول صحيح البخاري ...

نقض شبهة سخيفة حول صحيح البخاري ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

فإن بعض الجهلة ممن يتبع كل محدث غره دعوى نقد التراث ، ويتكلم أحدهم وكأن هذا التراث كتبه ثلاثة أشخاص قبل مائتي ألف سنة !

لا أنه تراث اشترك فيه تصنيفاً وتنقيحاً عشرات العلماء في عشرات البلدان على مدى قرون

وقد أولع الجهلة بالكلام على الإمام البخاري رحمه الله تعالى وصحيحه ، ظناً منهم أن إسقاط البخاري يعني إسقاط السنة وهنا عدة معلومات يجهلها كثيرون

الأولى : أنه لا يوجد حديث في صحيح البخاري فقط ، فلا يوجد حديث في البخاري إلا وهو موجود في مصادر أعلى أو مقارنة بمثل المخرج وكل مشتغل في الحديث يعلم هذه المعلومة جيداً ولهذا قال ابن تيمية انطلاقاً ما معناه أنه لو لم يخلق الله البخاري ومسلماً لما ضر الإسلام في شيء

الثانية : أن المذاهب الفقهية كمذاهب الكوفيين أهل الحديث منهم كسفيان وأضرابه وأهل الرأي منهم كأبي حنيفة ومذاهب المدنيين كربيعة ومالك ومذاهب الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرها كمذهب الأوزاعي الشامي ومذهب الليث بن سعد المصري كلها استقرت قبل ميلاد البخاري فضلاً عن تصنيفه للصحيح وكلها كانت تعتمد أحاديث

الثالثة : أن هناك عشرات التصانيف التي جمعت الحديث قبل البخاري كتصانيف مالك وسفيان الثوري وابن عيينة ووكيع وابن المبارك والحميدي وإسحاق وأحمد ابن حنبل ( وهؤلاء الثلاثة شيوخ البخاري ) وغيرهم كثير

فلو أراد شخص أن يجمع الأحاديث التي خرجها هؤلاء واتفق عليها أولئك الفقهاء لتمكن من ذلك 

الرابعة : أن البخاري كان في عصر له فيه أقران كثر وقد حصلت بينهم منازعات وما طعن أحد في الصحيح ككل كما يفعل السفهاء اليوم

وإذا قارنا بين حجم صحيح البخاري وحجم تفسير الطبري مثلاً لوجدنا أن الطبري روى في تفسير سورة البقرة فقط 6500 حديث وأثر يعني ما يعادل ثلاثة أرباع صحيح البخاري ، والبخاري اشترط المرفوع والصحيح فقط


الشبهة التافهة مفادها أن البخاري كيف استطاع أن يجمع ستمائة ألف حديث في ستة عشر سنة

والجواب عليها من وجوه كثيرة

أولها : أن عدد أحاديث صحيح البخاري بدون المكرر  2761 حديثاً فقط !

فإن قلت : ما بال خبر الستمائة ألف حديث ؟

فيقال : قال الخطيب في تاريخه كتب إلي علي بن أبي حامد الأصبهاني يذكر أن أبا أحمد محمد بن محمد بن مكي الجرجاني حدثهم، قَالَ: سمعت السعداني، يقول: سمعت بعض أصحابنا، يقول: قَالَ محمد بن إسماعيل: أخرجت هذا الكتاب يعني الصحيح من زهاء ست مائة ألف حديث.

يعني الكلام أنني انتقيته من ستمائة ألف حديث
والسؤال هنا : هل هذه رواية ثابتة حتى تعتمد ؟ ولو صحت هل لها توجيه ؟

أولاً يلاحظ أن في سندها مبهم لا يعرف

ثانياً : القاضي الجرجاني ذكر تلميذه أبو نعيم أنهم ضعفوه وإن كان مثله يحتمل في الآثار ولكنني أكلم متعنتين فأتعنت مثلهم وقد يغلط في العدد

ثالثاً : السعداني هذا ما عرفته

ولاحظ الهوى كيف أنهم يطعنون في المسند الصحيح الذي توبع عليه البخاري بخبر كهذا

طيب ما معنى كلمة الإمام البخاري

معناها على طريقة المحدثين في العد فقد يكون عددها باعتبار شيوخه فالحديث الذي سمعه من شيخين يعده حديثين وهذه طريقة معلومة عندهم وكلمة حديث عندهم لا تعني المرفوع بالضرورة بل يذكر فيها الموقوف والمقطوع والبخاري في صحيحه فتاوى صحابة وتابعين معلقة بلا إسناد

أما ذكر الستة عشر سنة فمن كيسه فالبخاري بدأ بطلب الحديث وهو في العاشرة من عمره ويقال أنه بدأ تصنيف الصحيح وهو في الثانية والعشرين من عمره واستمر ستة عشر عاماً يعني المجموع ثمانية وعشرين عاماً وكونه بدأ بالتصنيف وهو الثانية والعشرين ليس معناه أنه توقف عن طلب الحديث فليس بالضرورة أن تكون هذه الستمائة ألف ماثلة أمامه وقت تصنيف الصحيح

قال الزركشي 1 / 178 : (( قيل : إنه أراد المبالغة في الكثرة ، وهذا ضعيف ، بل أراد التحديد ، وقد نقل عن غيره من الحفّاظ ما هو أكثر من ذلك ، وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد به تعدد الطرق والأسانيد .
والثاني : أن مراده بالأحاديث ما هو أعمّ من المرفوع والموقوف وأقاويل السلف ، وعلى هذا حمل البيهقي – في مناقب أحمد – قول أحمد : (( صحّ من الحديث سبع مئة ألف )) ، على أنه أراد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاويل الصحابة والتابعين ، فإن قلت : قد قال : ومئتي ألف غير صحيح ، فما فائدة حفظه
لذلك ؟ قُلْت : التمييز بينهما
قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء 13/68
وقال صالح بن محمد جزرة: سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى الرازي مئة ألف حديث ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مئة ألف.
فقلت: له بلغني أنك تحفظ مئة ألف حديث تقدر أن تملي علي ألف حديث من حفظ ؟ قال: لا ، ولكن إذا القي علي عرفت. اهـ .
وهذا نص جليل يبين شيئا من المتشابه في كلامهم .
وقال الخطيب البغدادي 2/9
قرأت على الحسين بن محمد أخي الخلال عن عبد الرحمن بن محمد الإدريسي قال حدثني محمد بن حمّ قال نبأنا محمد بن يوسف الفربري قال نبأنا محمد بن أبي حاتم قال قلت: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل تحفظ جميع ما أدخلت في المصنف؟
قال: لا يخفى على جميع ما فيه.
  .

وأنا أدعي أنه يمكنه جمع هذا وأكثر منه بأقل من هذا

فهذا يسير جداً آنذاك لأن هناك ما يسمى بإجازة الكتب فالبخاري لم يقل أنه سمع هذه الستمائة ألف حديث كلها بل قد يجلس عند إسحاق بن راهوية مثلاً فيريه فينظر في مسند إسحاق بن راهوية كاملاً وقد يكون ثلاثين ألف حديث أو أكثر بكثير وربما يقرأه عليه أو يقرأ جزءاً منه فيجيزه إسحاق بالباقي ويدفع إليه إسحاق ما سمعه من كتب ابن المبارك مثلاً والتي يحفظها البخاري من قبل بلوغ العشرين ويقول اروها عني فبهذه الطريقة قد يجمع عدداً هائلاً من شيخ واحد في وقت وجيز بالإجازة

والمحدثون كان الرجل منهم يحفظ حديث حماد بن سلمة كله ولأنه سمعه من عدد من تلاميذه يصير يضبطه ويميزه تماماً فيذهب إلى بعض تلاميذه الآخرين ويسأله عندك حديث كذا وكذا فيجيب بالإيجاب أو النفي ، أو يدفع كتابه للمحدث فينظر ويميز الأحاديث التي رواها عن حماد

والمتسع الزمني مع النهم والنشاط يمكن جمع معظم هذه بل كلها مسموعة

فالذي ينظر في عدد تصانيف ابن تيمية وابن الجوزي والسيوطي وغيرهم كثير يدرك هذا فلهم مؤلفات بالمئات وبعضها فقط مجلدات ضخمة

قال الخطيب في تاريخه أَخْبَرَنَا أَبُو سعد الماليني، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الله بْن عدي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ثابت، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن حمدون، قَالَ: سمعتُ أَحْمَد بْن عُقبة، قَالَ: سألتُ يَحْيَى بْن معين: كم كتبت من الحديث يا أَبَا زكريا؟ قَالَ: كتبتُ بيدي هذه ست مائة ألف حديث، قَالَ أَحْمَد: وإني أظنّ أنَّ المحدِّثين قد كَتَبوا لَهُ بأيديهم ست مائة ألف، وست مائة ألف

قول أحمد كتبوا له يعني كتبوا له حديثهم ونظر فيه ويحيى بن معين هو شيخ البخاري أيضاً فلو دفع للبخاري خلاصة طلب الحديث عشرات السنين ونظر فيه البخاري وانتقى منه صحيحه وخرج أحاديثه بأسانيده مما رآه في كتب ابن معين وكان له به إسناد لكان معقولاً

فإن قيل : إذا كان للبخاري أسانيد لهذه الأخبار فلماذا يطالع كل هذا العدد من الروايات للتأكد من الأخبار

فيقال : هذا لمنهج المحدثين في النقد فمثلاً يكون عند البخاري حديث يرويه عقيل عن الزهري عن أنس وهذا إسناد صحيح ولكنه يخشى أن يكون عقيلاً خولف

فينظر في كتاب محدث ثقة واثنين وثلاثة وأربعة فيجد أنهم رووا متابعات لعقيل عن الزهري بمثل السند من حديث معمر والليث وغيرهم فيطمئن قلبه فيخرج الحديث لذا بقي ستة عشر عاماً يجمع الصحيح مع قلة عدد الأحاديث التي رواها في الصحيح مع الترتيب والتبويب

والخلاصة أن هذه روايات تاريخية آحادية لا يمكن أن تدفع أنه لا يوجد حديث في صحيح البخاري إلا وخرجه الأئمة قبله وعامتها أفتى بها الفقهاء أو لم يستنكرها أحد فموتوا بغيظكم هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي