الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
قال ابن فورك الأشعري في تفسيره :" ومن
زعم أن الصّمد بمعنى المصمت فقد جهل الله لأن المصمت هو المتضاغط الأجزاء وهذا
تشبيه وكفر بالله"
أقول : تفسير الصمد بالذي لا جوف له وهو
معنى المصمت هو تفسير عامة السلف !
والرمي بالتشبيه شبهة جهمية حمقاء لو
طردناها لكفرناه بإثباته للسمع والبصر والقدرة وغيرها
واللطيف أن صاحبه الاسفرائيني أبي المظفر الأشعري اختار هذا التفسير وحمله على التجهم فقال في كتابه التبصير الذي حققه
الحبشي كمال الحوت :" قد جَاءَ إِيضَاح اللُّغَة فِي تَفْسِيره أَن الصَّمد هُوَ
الَّذِي لَا جَوف لَهُ وَهَذَا يتَضَمَّن نفي النِّهَايَة وَنفي الْحَد والجهة
وَنفي كَونه جسما أَو جوهرا لِأَن من اتّصف بِشَيْء من تِلْكَ الْأَوْصَاف لم
يسْتَحل اتصافه بالتركيب وَوُجُود الْجوف لَهُ وتقرر بِهَذِهِ الْجُمْلَة وجوب
الْمعرفَة بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات والتمييز بَين الْحق وَالْبَاطِل وَمن لم
يتَحَقَّق لَهُ معرفَة نفي صفة الْبَاطِل لم يتَحَقَّق لَهُ معرفَة إِثْبَات صفة
الْمعرفَة بِالْحَقِّ"
وقال أيضاً :" وَهُوَ قَوْله {الله
الصَّمد} والصمد فِي اللُّغَة على مَعْنيين أَحدهمَا أَنه لَا جَوف لَهُ وَهَذَا
يُوجب أَن لَا يكون جسما وَلَا جوهرا لِأَن مَا لَا يكون بِهَذِهِ الصّفة جَازَ
أَن يكون لَهُ جَوف وَالْمعْنَى الثَّانِي للصمد هُوَ السَّيِّد الَّذِي يرجع
إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج وَهَذَا يتَضَمَّن إِثْبَات كل صفة لولاها لم يَصح
مِنْهُ الْفِعْل كَمَا نذكرهُ فِيمَا بعد لِأَن من لَا تصح مِنْهُ الْأَفْعَال
الْمُخْتَلفَة لم يَصح الرُّجُوع إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج المتباينة وَقد جمع
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة بَين صِفَات النَّفْي
وَالْإِثْبَات"
فكأنه يرد على صاحبه ابن فورك
وقال الزجاج وهو جهمي أيضاً في اشتقاق
الأسماء :" ويقال: «صمدت صمده» أي: قصدت قصده. وقال عكرمة ومجاهد: هو الذي لا
جوف له. وروي عن ابن عباس أنه قال: هو الذي ليس بأجوف وكأنه ذهب إلى نفي التجسيم
والتحديد عند جل وعز فتكون الدال على هذا التقدير مبدلة من تاء في تقدير العربية"
وقال الأصبهاني في بيان الحجة :" وفيه
توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. وقال الأعمش عن شقيق أبي وائل: {الصَّمَدُ} السيد
الذي قد انتهى سُؤْدُدُهُ، وقال الحسن أيضا: {الصَّمَدُ} الحي القيوم الذي لا زوال
له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له،
وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: {الصَّمَدُ} المُصْمَتُ الذي لا جوف له، قال أبو
القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكُلُّ هذه صحيحةٌ، وهي صفات ربنا عز وجل"
وقال الطبري في تفسيره حَدَّثَنَا ابْنُ
بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] : «الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا
جَوْفَ لَهُ» حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ،
عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ سَوَاءٌ
وهذا إسناد صحيح لمجاهد كله أئمة فهذا
إمام المفسرين مجاهد يفتي بهذا الذي يعده ابن فورك تشبيهاً
وقال الطبري أيضاً حَدَّثَنِي الْحَارِثُ،
قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ: {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] : «الْمُصْمَتُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ
جَوْفٌ»قَالَ: ثنا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ،
قَالَ: أَرْسَلَنِي مُجَاهِدٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَسْأَلْهُ عَنِ {الصَّمَدِ}
[الإخلاص: 2] ؟ فَقَالَ: «الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ»
وقال أيضاً حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ،
قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثنا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ
الْحَسَنِ، قَالَ: {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] : «الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ»
وقال أيضاً حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ،
وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ
الضَّحَّاكِ، قَالَ: {الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] : «الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ»
وروي هذا التفسير عن عكرمة أيضاً
وقال الماوردي في المعتزلي في تفسيره :"
أحدها: أن الصمد المصمت الذي لا جوف له , قاله الحسن وعكرمه والضحاك وابن جبير , قال
الشاعر:
(شِهابُ حُروب لا تَزالُ جيادُه ... عوابسَ
يعْلُكْنَ الشكيمَ المُصَمّدا)"
وقد تكلم ابن تيمية في بيان التلبيس بكلام
طويل حسن غاية الحسن في هذه المسألة وكان مما قاله :" وأما قول القائل إن
الصمد المصمت الذي هو شيء واحد فهذا يقوله المثبت ويقوله النافي فإن كونه لا يتبعض
مُجمل يراد به أنه لا ينفصل منه شيء وهو التفسير المأثور عن السلف ويراد به الذي
لا يُعلم منه شيء دون شيء وهو مراد نفاة الجسم وكذلك نفي التركيب مجمل يقوله
المثبت والنافي فإن التركيب يراد به التركيب المعروف في اللغة وهو أن يكون قد ركب
الشيء والشيء كما قال الله تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار
8] والله عز وجل مقدس عن أن يكون ركَّبه مركِّب أو أن تكون ذاته كانت أجزاء متفرقة
فاجتمعت وتركبت ويراد بالتركيب أنه لا يُعلم منه شيء دون شيء فنفاة الصفات من
الفلاسفة والمعتزلة يقولون ثبوت الوجه واليدين تركيب وهؤلاء يقولون ثبوت الوجه
واليدين تركيب وعدد ومعلوم أن هذا الاسم لا ينفي هذا المعنى وإنما ينفي الأول لأن
الصمد يتضمن معنى الاجتماع وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه هو الصمد بصيغة الحصر ليبين
أنه الكامل في الصمدية المستحق لها على الحقيقة والكمال دون غيره إذ كل ما سواه
يقبل التفريق والتبعيض وهو سبحانه الصمد الذي يجب له ذلك ويمتنع عليه ضد ذلك من
الافتراق وأما كون الصمد يتضمن معنى الاجتماع وأنه مصمت ونحو ذلك يقتضي تعدد
الصفات إذ الاجتماع لا يكون إلاَّ فيما له عدد فلو لم يكن منه وله صفات تقتضي
التعدد لامتنع أن يقال له صمد أو مصمت أو يكون التصمد يقتضي معنى الاجتماع فاسم
الصمد بأي شيء فُسر يوجب وجود صفات واجتماعها له والدليل على ذلك أن غاية ما
يفسرونه به من نفي الصفات أنه هو المصمود إليه كما قال القرطبي الخلق كلهم متوجهون
إلى الله ومجتمعون بجملتهم في قضاء حوائجهم وطلبها من الله فهو الصمد على الإطلاق
والقائم بسد مفاقر الخلق فيقال كون الخلق يقصدونه ويسألونه هذا أمر حسي إذ القصد
والسؤال قائم بهم فهو لا يستحق الاسم بمجرد فعل غيره بحيث لو قدر أنهم لم يسألوه
لم يكن صمدًا بل لابد أن يقال هو المستحق لذلك في نفسه كما تقدم عن الحليمي وغيره
وأيضًا فإن كونهم يقصدونه ويحتاجون إليه يقتضي أمرًا ثبوتيًّا في ذاته لأن الأمور
العدمية تمتنع أن تكون مقصودة أو قاضية للحوائج فعلم أن كونه صمدًا بمعنى مقصود
مصمود إليه يقتضي ثبوت أمور وجودية بها يستحق أن يكون صمدًا وبها أمكن أن يكون
مقصودًا معطيًا وليس ذلك لـ ـمجرد موجود وإلاَّ لوجب أن يكون كل موجود هو الصمد
ولا لمجرد أمر يتصف به المخلوق لأنه لو كان هو الصمد لمعنى يقوم بالمخلوق لكان
المخلوق هو الصمد أيضًا وقد بينا أن قوله هو الصمد يبين أنه المستحق لهذا الاسم
على الكمال والحقيقة وأيضًا فلو فرض أنه صمد وغيره صمد فغيره لم يكن صمدًا إلاَّ
بأمور وجودية أيضًا فهو أحق بأن لا يكون صمدًا إلاَّ بأمور وجودية لا عدمية إذ هو
أحق بالكمال من كل موجود فعلم أن الصمدية توجب أمورًا وجودية على غاية الكمال
ولهذا فسر الصمد بأنه الكامل في كل شيء كما قيل العظيم الذي كمل في عظمته والحليم
الذي كمل في حلمه والغني الذي كمل في غناه والجبار الذي كمل في جبروته والعالم
الذي كمل في علمه والحكيم الذي كمل في حكمته وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد
وهو الله تعالى هذه صفته التي لا تنبغي إلاَّ له وقد تقدم ذكر ذلك في تفسير
الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ومعلوم أن هذه صفات متعددة ونفاة الصفات
يسمون ذلك تركيبًا وأجزاء ويقولون إن البارئ منزه عن التركيب والأجزاء ونحو ذلك
فعلم أن الاسم يدل على ثبوت ما ينفونه وكذلك من قال إنه لا يُرى بعضه دون بعض أو
لا يحجب العباد عنه حُجُب ونحو ذلك لأن ذلك عنده تجسيم وتركيب"
إلى آخر كلام الشيخ رحمه الله
وأنا أذكر هذا وأؤكد عليه لأبين حماقة
هؤلاء الجهمية الذين تحمر لهم أنوف فانظر إلى ابن فورك وهو يكفر بمقالة اتفق
المفسرون على نقلها عن أعيان السلف ثم يغضب بعضهم إذا حكمنا عليهم بالحكم الذي
يستحقون
وابن فورك هذا للحاكم عليه اطراء عظيم
والنووي لا يذكره إلا بالإمام وبنى على كلامه الكلام في النبوات في بستان العارفين
واعلم أن هؤلاء أمثال ابن فورك شر من الخوارج فالخوارج بالمعصية التي هي خطأ باتفاق ولا يكفرون إلا بالكبيرة دون الصغيرة وإن كان منهم من كفر علياً بالتحكيم الذي هو خير وصلح ، وأما هؤلاء فيكفرون بالحق والطاعة والأخذ بظواهر النصوص وتفاسير السلف فإذا أضيف إلى ذلك كون هذا التفسير ثابت عن أعيان المفسرين الذين اتفق الكل عليهم وكل من كتب في التفسير من محدث أو متكلم أو صاحب رأي يذكر كلامهم كان ذلك المنتهى في الضلال وكثير ممن يتباكى من تكفير أهل السنة لعدد من مخالفيهم يغض الطرف عن تكفير المخالفين لأهل السنة بأمور مقتضاها تكفير التابعين والصحابة ولو كان منصفين لذموا هذا أيضاً
واعلم أن هؤلاء أمثال ابن فورك شر من الخوارج فالخوارج بالمعصية التي هي خطأ باتفاق ولا يكفرون إلا بالكبيرة دون الصغيرة وإن كان منهم من كفر علياً بالتحكيم الذي هو خير وصلح ، وأما هؤلاء فيكفرون بالحق والطاعة والأخذ بظواهر النصوص وتفاسير السلف فإذا أضيف إلى ذلك كون هذا التفسير ثابت عن أعيان المفسرين الذين اتفق الكل عليهم وكل من كتب في التفسير من محدث أو متكلم أو صاحب رأي يذكر كلامهم كان ذلك المنتهى في الضلال وكثير ممن يتباكى من تكفير أهل السنة لعدد من مخالفيهم يغض الطرف عن تكفير المخالفين لأهل السنة بأمور مقتضاها تكفير التابعين والصحابة ولو كان منصفين لذموا هذا أيضاً
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم