مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: أسطورة ابن رشد التنويري

أسطورة ابن رشد التنويري



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :


فإن الكتاب العلمانيين والليبراليين وغيرهم من الزنادقة عندهم ضيق اطلاع ظاهر على ما ينقدون من التراث الإسلامي بل عامة نتاجهم الذي يسودون به الجرائد مبني على دراسات عصرية مأجورة أو استشراقية

وهناك قاعدة ينبغي أن تكون محل اتفاق بين العقلاء مهما اختلفوا وهي أنك إذا انتقدت شخصاً فلا تصوره في حال الانفراد وهو أصلاً ضمن إجماع أمة كاملة ، وأيضاً لا تختزل مقالاته ولا تذكرها دون أدلتها وأيضاً وهذا هو الأهم لا تنتحل من ليس لك بموافق ولا تكذب على مخالفك

فأيا كانت مقالة الشخص ثم ارتكب هذه المقالات كانت تلك سوأة في حقه عند عامة عقلاء بني آدم وكان في ذلك الدلالة الكافية على عدم إرادته للحق وعلى تحامله أو جهله المطبق الذي يجعله إلى مقام التعلم أحوج منه من مقام الحجاج والنقد

وقد رأيت عجباً من كتابات هؤلاء القوم في المجازفة واطلاق النتائج المضحكة وكنت قد تكلمت قديماً على دعواهم أن الغزالي حرم الرياضيات

وقد رأيت عدداً منهم ينتحل ابن رشد الفيلسوف فهناك جائزة ابن رشد التي لا تعطى إلا لزنديق

وبعضهم يقول ابن رشد التنويري الكبير ويجعله في مقابل ابن تيمية الإرهابي الدموي

وبعضهم يقول بأن العلماء التقليديين انتصروا حين أحرقت كتب ابن رشد وحصل الانتصار بذلك للغزالي

وهذا كله كلام تافه يقوله من لا يعرف حقيقة المقالات والخلاف بل وكيف تجري الدنيا

فأولاً ابن رشد كان فقيهاً مالكياً يحكم بالشرع بين الناس وهو متفق مع غيره على أن الشرع يجب التسليم له في أبواب الأحكام والحلال والحرام

وهذا مبني على أصل فلسفي وهو أن النفس النبوية أعلى من النفس الفلسفية وأنه كما أن النفس الحيوانية لا تدرك مقاصد النفس الفلسفية فالنفس الفلسفية لا تعي دقائق الحكمة في أمور النبوة وأنه لا بد للناس من نظام يحكمهم والفلاسفة لا يعارضون أهل الشرع في أمور الأحكام والسياسات بل يرون الشريعة من أكمل النواميس وإنما يخالفون في المسائل الغيبية ويدعون أن الأنبياء أخبروا بخلاف الصواب لمصلحة عقول العامة وهذا كفر محض

قال ابن تيمية في الجواب الصحيح :" لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ الْأُمَمِ عُقُولًا وَأَفْهَامًا وَأَتَمُّهُمْ مَعْرِفَةً وَبَيَانًا وَأَحْسَنُ قَصْدًا وَدِيَانَةً وَتَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ فِي النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ أُمَّةٌ أَكْمَلُ مِنْهُمْ وَلَا نَامُوسٌ أَكْمَلُ مِنَ النَّامُوسِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحُذَّاقُ الْفَلَاسِفَةِ مُعْتَرِفُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَعِ الْعَالِمَ نَامُوسٌ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ.
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَعَارِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِهَا فَإِنَّ النَّاسَ نَوْعَانِ:
أَهْلُ كِتَابٍ وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْهُنُودِ.
وَالْعِلْمُ يُنَالُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَا يُحَصَّلُ بِهِمَا وَبِوَحْيِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
وَلِهَذَا قِيلَ: الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ الْبَصَرُ، وَالنَّظَرُ، وَالْخَبَرُ: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ وَالْوَحْيُ: الْحِسُّ وَالْقِيَاسُ، وَالنُّبُوَّةُ.
فَأَهْلُ الْكِتَابِ امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ.
وَالْمُسْلِمُونَ حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا كَانَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ وَمَا اتَّصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَقْلِيَّاتِ الْأُمَمِ هَذَّبُوهُ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَنَفَوْا عَنْهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَضَمُّوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أُمَّةً قَبْلَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ مَعَ تَدَبُّرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ فَضْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ"

قَالَ ابْنُ سِينَا -: " اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَعْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ الْمُحَمَّدِيِّ

ولهذا صنف ابن رشد كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد على طريقة الفقهاء

قال ابن رشد في بداية المجتهد :" بَابٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ
وَالْمُرْتَدُّ إِذَا ظُفِرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ، وَهَلْ تُسْتَتَابُ قَبْلَ أَنْ تُقْتَلَ؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: تُقْتَلُ الْمَرْأَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْتَلُ، وَشَبَّهَهَا بِالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالْجُمْهُورُ اعْتَمَدُوا الْعُمُومَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ، وَشَذَّ قَوْمٌ، فَقَالُوا: تُقْتَلُ وَإِنْ رَاجَعَتِ الْإِسْلَامَ.
وَأَمَّا الِاسْتِتَابَةُ فَإِنَّ مَالِكًا شَرَطَ فِي قَتْلِهِ ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.
وَأَمَّا إِذَا حَارَبَ الْمُرْتَدُّ، ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ - فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحِرَابَةِ، وَلَا يُسْتَتَابُ، كَانَتْ حِرَابَتُهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ"

فالرجل هنا ينقل اتفاق على حد الردة في حق الرجل

وقال ابن رشد في بداية المجتهد :" وَالْحُدُودُ الْإِسْلَامِيَّةُ ثَلَاثَةٌ: رَجْمٌ، وَجَلْدٌ، وَتَغْرِيبٌ.
فَأَمَّا الثُّيَّبُ الْأَحْرَارُ
الْمُحْصَنُونَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حَدَّهُمُ الرَّجْمُ إِلَّا فِرْقَةً مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ حَدَّ كُلِّ زَانٍ الْجَلْدُ، وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ لِلرَّجْمِ؛ لِثُبُوتِ أَحَادِيثِ الرَّجْمِ، فَخَصَّصُوا الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ، أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الْآيَةَ"

فالرجل ينقل الاتفاق على الرجم والرجم حقيقة تاريخية قطعية فأحاديث الرجم رواها أكثر من عشرة أنفس من الصحابة كما أنه ثبت عن عموم الخلفاء العمل به ومئات مصادر الحديث والفقه والتفسير لم تترك فقيهاً متقدماً ولا متأخراً إلا ونقلت عنه القول بالرجم وهناك شخصيات معروفة ماتت بالرجم وهذه البينات تورث من اليقين أضعاف أضعاف ما تورثه هنبثة التطوريين التي أقنعت البعض أن أصله قرد أو ظن بعض الناس أن الأرض تدور بشكل قطعي ولكن استيلاء الهزيمة الفكرية على العقول يؤثر أكثر من ذلك

وقال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد :" وَأَمَّا مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ النِّكَايَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي الْأَمْوَالِ، أَوْ فِي النُّفُوسِ، أَوْ فِي الرِّقَابِ، أَعْنِي: الِاسْتِعْبَادَ وَالتَّمَلُّكَ.
فَأَمَّا النِّكَايَةُ الَّتِي هِيَ الِاسْتِعْبَادُ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِطَرِيقِ الْإِجْمَاعِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُشْرِكِينَ، أَعْنِي: ذُكْرَانَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ وَشُيُوخَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ صِغَارَهُمْ وَكِبَارَهُمْ إِلَّا الرُّهْبَانَ. فَإِنَّ قَوْمًا رَأَوْا أَنْ يُتْرَكُوا وَلَا يُؤْسَرُوا، بَلْ يُتْرَكُوا دُونَ أَنْ يُعْرَضَ إِلَيْهِمْ لَا بِقَتْلٍ وَلَا بِاسْتِعْبَادٍ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَذَرُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَيْهِ» . وَاتِّبَاعًا لِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي الْأُسَارَى فِي خِصَالٍ: مِنْهَا أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَعْبِدَهُمْ، وَمِنْهَا أَنْ يَقْتُلَهُمْ، وَمِنْهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَمِنْهَا أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَسِيرِ.
وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَتَعَارُضُ الْأَفْعَالِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] الْآيَةَ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ إِلَّا الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الْآيَةَ.
وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ أَفْضَلُ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ. وَأَمَّا هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَدَ قَتَلَ الْأُسَارَى فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، وَقَدْ مَنَّ وَاسْتَعْبَدَ النِّسَاءَ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْبِدْ أَحْرَارَ ذُكُورِ الْعَرَبِ، وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ عَلَى اسْتِعْبَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ.
فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ الْخَاصَّةَ بِفِعْلِ الْأُسَارَى نَاسِخَةً لِفِعْلِهِ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْلِ الْأَسِيرِ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَلُ بِالْأُسَارَى، بَلْ فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ حُكْمٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ، وَيَحُطُّ الْعُتْبَ الَّذِي وَقَعَ فِي تَرْكِ قَتْلِ أُسَارَى بَدْرٍ - قَالَ: بِجَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ."

فالرجل يرى الرق وقتل الأسير وأمور أخرى

واليوم تمنع كتب ابن تيمية مع أن ما يخافونه مما في كتب ابن تيمية موجود في جميع كتب المذاهب بل موجود عند الرافضة والزيدية والإباضية وغيرهم كلهم يرى الجهاد وتطبيق الحدود وأنه لا يجوز تولية المرأة وعامتهم يتكلم بتكفير بعض مخالفيه بل بعضهم يتكلم بتكفيرهم  كلهم

بل هذه أمور موجودة حتى في كتب اليهود والنصارى

وقد جمعت نصوصاً في حد ردة عند النصارى والحدود في الكتاب المقدس في مقالات مستقلة وكذلك ذكرت كلامهم عن المرأة في ردي على سهيلة زين العابدين

وذنب أهل السنة أنهم ما حرفوا وما بدلوا

فبقوا يظهرون دينهم في الوقت الذي سار فيه كثير من المنتسبين للإسلام على سنن أهل الكتاب في التحريف 

وابن رشد يدعو إلى عدم إظهار كلام الفلاسفة للعامة وتأويلاتهم 

قال ابن رشد في فصل المقال :"  ولهذا، يجب أن يصرح ويقال في الظاهر الذي الأشكال في كونه ظاهراً بنفسه للجميع وكون معرفة تأويله غير ممكن فيهم، انه متشابه لا يعلمه الا الله، وان الوقف يجب ههنا في قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله ".
وبمثل هذا يأتي الجواب ايضاً في السؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور، إلى فهمها، مثل قوله تعالى: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلاً ".
وأما المصرح بهذه التأويلات لغير اهلها فكافر لمكان دعائه الناس إلى الكفر. وهو ضد دعوى الشارع وبخاصة متى كانت تأويلات فاسدة في اصول الشريعة، كما عرض ذلك لقوم من أهل زماننا. فانا قد شهدنا منهم اقواماً ظنوا انهم د، تفلسفوا وانهم قد ادكوا بحكمتهم العبجيبة اشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه، اعني لا تقبل تأويلاً، وان الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور. فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سبباً لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة."


وقال أيضاً :"  وأما كثير من الصدر الأول فقد نقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهراً وباطناً، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه - مثل ما روى البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: " حدثوا الناس بما يعرفون. أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ""

وقد صرح ابن رشد بتكفير الأشعرية في فصل المقال أو طائفة منهم 

فإن قيل : فما الخلاف بين الغزالي وابن رشد وما سبب إحراق كتبه ؟

فيقال : الخلاف في قضايا غيبية أو ما يسمونها فلسفية وهي أن الغزالي كفر الفلاسفة بقولهم أن الله عز وجل لا يعلم بالجزئيات وقولهم أن البعث للأرواح دون الأجساد وقولهم بقدم الأفلاك

وأما ابن رشد فكان مائلاً للفلسفة ويحاول التلفيق بينها وبين الشريعة واستنكر هذا من الغزالي وهون من شأن الخلاف بين الفلاسفة والمتشرعين وادعى أن أقوال الفلاسفة لا تخالف الشرع

وهذا بحث لا يعيه العلمانيون ولا غيرهم فهو بحث فلسفي كما يقال هذا مع اتفاق الرجلين على وجوب تحكيم الشريعة

واللطيف أن ابن رشد قرطبي يعني أوروبي والغزالي طوسي فارسي فهذا في المغرب وذاك في المشرق ومع ذلك حصل بينهما سجال الغزالي متكلم وابن رشد فيلسوف وكلاهما على ضلال مبين وهناك طريقة ثالثة وهي طريقة أهل الحديث وقد كان الفلاسفة يتسلطون على المتكلمين ببعض ما يسلم به هؤلاء لهم وأما طريقة أهل الحديث فسالمة من التناقض ومعارضة الخصوم المجدية وقد بسط ابن تيمية هذا في درء تعارض العقل والنقل

فالشريعة الإسلامية كانت تحكم بقعة ضخمة من الأرض من المشرق على المغرب ممتدة على ثلاث قارات أوروبا وآسيا وافريقيا ولم تحكمها يوم أو يومين أو عام أو عامين بل قرابة الألف عام ويزيد

وهذا التنوع المكاني والزمني من أدل الدلائل لكل عاقل على صلاحيتها لكل زمان ومكان وما ظهر فيهم الوهن وتسلط الأعداء إلا بعد أن ولوا ظهورهم لها على أنه مر بالمسلمين نكبات وتحديات في التاريخ وقاموا منها كتسلط بابك الخرمي وثورة الزنج وحروب الردة والتتر والحروب الصليبية وغيرها كثير

ولا يوجد شريعة على وجه الأرض حكمت ما حكمت الشريعة الإسلامية زماناً ومكاناً وأثمرت ما أثمرت الشريعة الإسلامية على الناس في دنياهم وأديانهم والدخن ما كان يدخل إلا من جهة الإعراض عن الكتاب والسنة 

قال ابن تيمية في منهاج السنة :"  وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَمَعَادِ الْأَبْدَانِ مُظْهِرًا لِلْوَقْفِ وَمُسَوِّغًا لِلْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنُهُ إِلَى قَوْلِ سَلَفِهِ أَمْيَلُ. وَقَدْ رَدَّ عَلَى أَبِي حَامِدٍ فِي " تَهَافُتِ التَّهَافُتِ " رَدًّا أَخْطَأَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ مَعَ أَبِي حَامِدٍ، وَبَعْضُهُ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِينَا لَا مِنْ كَلَامِ سَلَفِهِ، وَجَعَلَ الْخَطَأَ فِيهِ مِنَ ابْنِ سِينَا، وَبَعْضُهُ اسْتَطَالَ فِيهِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ وَنَسَبَهُ فِيهِ إِلَى قِلَّةِ الْإِنْصَافِ؛ لِكَوْنِهِ بَنَاهُ عَلَى أُصُولٍ كَلَامِيَّةٍ فَاسِدَةٍ، مِثْلِ كَوْنِ الرَّبِّ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا بِسَبَبٍ وَلَا لِحِكْمَةٍ، وَكَوْنِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَبَعْضُهُ حَارَ فِيهِ جَمِيعًا لِاشْتِبَاهِ الْمَقَامِ"

فإن قيل : ما قصة حرق كتب ابن رشد إذن ؟

فيقال : ردود ابن رشد على الغزالي لا زالت موجودة وتهافت التهافت لا زال موجوداً !

وإنما هو أمر حصل من وشاية وشيت به ثم أعيد للكرامة

قال الذهبي في تاريخ الإسلام :" وامتُحِن بآخره، فاعتقله السّلطان يعقوب وأهانه، ثمّ أعاده إِلَى الكرامة فيما قيل، واستدعاه إِلَى مرّاكُش، وبها تُوُفّي فِي صَفَر، وقيل فِي ربيع الأوّل، وقد مات السّلطان بعده بِشَهْر"

والغزالي نفسه أحرق له إحياء علوم الدين وهذا الإحراق لم يمنع هذا الكتاب مع ما فيه من بلايا عظيمة من الانتشار بين الناس فيما بعد ، فحرق كتاب في مكان معين لا يعني أنه انقرض في ذلك الوقت وكتب ابن رشد كثير منها لا زال موجوداً وهذا ابن تيمية أحرق الكثير من كتبه ونودي في بعض البلدان من كان على اعتقاد ابن تيمية أهدر دمه ولا زالت كتبه موجودة ولهذا قلت بأن القوم لا يدرون كيف تسير الدنيا ففي ذلك الوقت كان البقعة الواسعة لبلدان الإسلام تجعل إعدام بعض الكتب المشهورة بفعل القوة ضرباً من المستحيل فأنت تحرقه في المشرق ويتداوله المغاربة خصوصاً مع اختلاف الأهواء والسلاطين

قال ابن الأبار الأندلسي في التكملة لكتاب الصلة :" وَولي قَضَاء قرطبة بعد أبي مُحَمَّد بن مغيث فحمدت سيرته وتأثلت لَهُ عِنْد الْمُلُوك وجاهة عَظِيمَة لم يصرفهَا فِي ترفيع حَال وَلَا جمع مَال إِنَّمَا قصرهَا على مصَالح أهل بَلَده خَاصَّة وَمَنَافع أهل الأندلس عَامَّة وَقد حدث وَسمع مِنْهُ أَبُو مُحَمَّد بْن حوط اللَّه وَأَبُو الْحسن سهل بن مَالك وَأَبُو الرّبيع بْن سَالم وَأَبُو بكر بن جهور وَأَبُو الْقَاسِم بن الطيلسان وَغَيرهم وامتحن بِأخرَة من عمره فاعتقله السُّلْطَان وأهانه ثمَّ عَاد فِيهِ إِلَى أجمل رَأْيه واستدعاه إِلَى حَضْرَة مراكش فَتوفي بهَا يَوْم الْخَمِيس التَّاسِع من صفر سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَقبل وَفَاة الْمَنْصُور الَّذِي نكبه بِشَهْر أَو نَحوه وَدفن بخارجها ثمَّ سيق إِلَى قرطبة فَدفن بهَا"

فالذي حصل له محنة يسيرة لها نظائر عن كثيرين ثم زالت

ولم أجد في أي من تراجمه ذكر لحرق كتبه !

ولابن رشد كتاب اسمه فصل المقال وكتاب آخر مناهج الأدلة قرر فيه مقالات الفلاسفة وهذه كتب مطبوعة فما الذي أعدم وأحرق ؟!

على أنني في شك أصلاً من حرق كتبه 

ونحن نرى حرق كتب أهل الباطل لمنع وصولها إلى أيدي ضعاف القلوب غير أن المراد هنا بيان أن إعدام بعضها بالكلية بعد انتشاره وتقصير الناس في دفعه جد متعذر وقريب من الاستحالة في بعض الحالات 

قال ابن فرحون في الديباج المذهب :" وله تآليف جليلة الفائدة منها كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه ذكر فيه أسباب الخلاف وعلل ووجه فأفاد وأمتع به ولا يعلم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقاً. وكتاب الكليات في الطب ومختصر المستصفى في الأصول وكتابه في العربية الذي وسمه بالضروري وغير ذلك تنيف على ستين تأليفاً"

الغرب إنما كان احتفاء بعضهم بكتب ابن رشد ناشئاً عن القرب الجغرافي ومن الغربيين من يفضل طريقة الغزالي خصوصاً وأن الغزالي أكثر تمرداً على الفلاسفة التقليديين بخلاف ابن رشد الذي كان مستسلماً لهم تماماً

وابن رشد صاحب العبارة الشهيرة :" لم يقل أحد في العلوم الإلهية قولا يعتد به، ولم يعصم أحد من الخطأ فيها، إلا من عصمه الله بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان وهم الأنبياء"

وابن رشد كان يقول بمهدوية ابن تومرت

والوارد أن ابن أبي عامر أحرق جميع كتب الفلاسفة والدهرية ولا خصوصية لابن رشد على أن ابن رشد فعلاً مال لمقالاتهم الفاسدة والتي ثبت فساد بعضها تجريبياً وما نقم عليه أحد الاشتغال بالطب أو الفلك أو نحوه

ومع الأسف كتبه الفلسفية وكتب ابن سينا والفارابي كلها موجودة إلى اليوم فذلك التضخيم السخيف الذي يتحدث عنه القوم لا وجود له بل إن التتر لما دخلوا بغداد فقد شيء كثير من كتب العلم وكان النصير الطوسي يحرق كتب العلم ويبقي على كتب التنجيم والفلسفة وهذه حركة معاكسة وهي أقوى من جهة القوم والأثر

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (13/207) :" وَكَانَ الطوسي مُنَجِّمًا لِهُولَاكُوَ اسْتَوْلَى عَلَى كُتُبِ النَّاسِ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ فَكَانَ كُتُبُ الْإِسْلَامِ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالرَّقَائِقِ يُعْدِمُهَا وَأَخَذَ كُتُبَ الطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فَهَذِهِ عِنْدَهُ هِيَ الْكُتُبُ الْمُعَظَّمَةُ"

فلماذا لم يصر جميع الناس فلاسفة وأطباء ومنجمين ؟!

وحتى قول المساكين أن الغزالي حرم الرياضيات وقد بينا أن هذا كذب فالغزالي ما هو رجل من ضمن أمة ضخمة وهو رجل مذهبي في مذهب واحد فيه الآلاف غيره وهناك أمور اتفق الفقهاء على تحريمها ولم تنقرض كالشعر الفاحش والمكوس والغش في التجارات وألوان الربا الخفية مما يعرفه الفقيه ويجهله العامي وغيرها كثير مما لو أطاع الناس فيه الفقهاء لحصل خير عظيم

فلو فرضنا أن الغزالي قال هذا فغيره كثير خالفوه والغزالي حمد الطب فلماذا لم يبق تقدم القوم في الطب ومدح الزهد فلماذا لم يصر كل الناس زهاداً أو يكون هذا غالباً في الناس

وليفطنوا إلى أن الطب ما ذمه أحد ولا الصناعات ولا صناعة الأسلحة بل كلها كان يحث عليها الفقهاء وغيرهم فلماذا تراجع الناس فيها بعد علو وسمو ؟

فالقوم يهرفون بما لا يعرفون ولا يدرون حقيقة الخلافيات بين الناس ولا يعرفون التاريخ وكيف تجري الأمور وبهذه النظرة السطحية يتحدثون اليوم عن مقومات الدولة الناجحة

وهذا مقال موجه لفئة معينة من الناس وإلا فلسنا حافلين لا بالغزالي ولا ابن رشد ولا نقدم على الطريقة السلفية شيئاً وكل حسن عندهم وجدناه عند السلف أظهر وبلا شائبة وعندهم وجدنا كثيراً منه  مشوباً بما يغطي على أكثر الحق ويذهب بهاءه

وهذا جزاء من يترك الكتاب والسنة ويقبل على غيرهما فما نزل القرآن إلا ليفصل في نزاعات الناس قبل نزوله في الغيبيات ومسائل الاجتماع والسياسية والاقتصاد والتي لا زالت محل نزاع الناس إلى اليوم والوحي جاء بالأمر على أكمل وجه فما أعجب حال الناس كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول

قال الله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)

قال ابن تيمية في درء التعارض :" فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها كما قال الشعبي ما ابتدع أحد بدعه إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن"

وقال في الجواب الصحيح :" وَالْمُسْلِمُونَ حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا كَانَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ وَمَا اتَّصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَقْلِيَّاتِ الْأُمَمِ هَذَّبُوهُ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَنَفَوْا عَنْهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَضَمُّوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أُمَّةً قَبْلَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ مَعَ تَدَبُّرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ فَضْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ."

وقال أيضاً كما في مجموع الفتاوى :" وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ"

وهذا بديهي جداً فكيف ينزل الله كتاباً ويجعله خاتماً ولا يجعل فيه الخير كله ، بل كيف يخلق الخلق ثم يودع فيهم غريزة التشوف إلى الأصلح والتي هي من أعظم البراهين الدالة على حكمته ورحمته فضلاً عن وجوده ثم لا يدلهم على الأصلح إذ ضلوا واختلفوا
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي