مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: فائدة في الرد على نفاة القياس من قصة زكريا ومريم

فائدة في الرد على نفاة القياس من قصة زكريا ومريم



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال الله تعالى : (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

قال الطبري في تفسيره :" وأما قوله:"هنالك دعا زكريا ربه"، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها = (1) ومعاينته عندَها الثمرة الرّطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندَها في الأرض = (1) طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخلِّيها من الناس ما رَزَقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العاداتُ في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غيرُ الأمر الجاريةُ به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرّيةً طيبة.
وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:-
6940 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك = يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف = قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [سورة مريم: 4-6] ، = وقوله: (2) (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) = وقال: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [سورة الأنبياء: 89] .
6941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل:"هنالك دعا زكريا ربه"، قال: فذلك حين دعا"

أقول : في هذه الآية وتفسيرها إثبات ظاهر للقياس الذي ينكره مبتدعة الظاهرية

فهنا نبي الله زكريا اعتبر أفعال الله ببعضها البعض ورأى أن وقوع الكرامة لمريم يعني أن ذلك جائز وقوعه له على سبيل الآية

وهذا قياس ظاهر

وإن من أغرب المقالات التي ما كاد المرء يظن أن يتكلم بها عاقل

القول بأن أسماء الله أعلام فحسب بمعنى أن معنى القدير كمعنى الرؤوف الرحيم إنما تدل على إله واحد فحسب

والقول بنفي الحكمة والتعليل في الشريعة والنظر في باب المعاملات واتساق الشريعة وظهور مقاصدها يكفي في بيان هذا أحسن البيان

وقد وقع في الأمرين الجهمي ابن حزم مع فرط ذكائه غير أن الأمر توفيق

وقد شنع عليه ابن تيمية تشنيعاً شديداً في شرح الأصبهانية وفي الانتصار لأهل الأثر

ووصف كلامه بالقرمطة وصدق رحمه الله

وابن حزم كان يتبع طريقة الملاحدة حيث يأتي إلى بعض الأحكام التي ربما تخفى علتها على عموم الخلق ويقول بأنها خلاف القياس فهذا دال على  أنه لا حكمة ولا تعليل

ويترك عشرات الأحكام التي يظهر فيها لأبلد العامة أثر الحكمة والتعليل

كشأن الملحد الذي يأتي إلى عضو في الجسم لا يعرف وظيفته ويستدل بذلك على عدم وجود الخالق ويترك مئات البراهين في جسده على أثر الصنعة ووجود الغائية والحكمة والتعليل بل تفكيره نفسه دليل على عكس مقصوده ، على أن بحث هؤلاء القوم نكسة فلسفية فالحكمة والتعليل ينفيهما كثير من أهل الأديان مع إثبات وجود الخالق ويستدلون لذلك تارة بالفطرة وتارة بالآيات التي يسمونها معجزات وتارة ببراهين كلامية وتارة بالذوق ومعرفة وجود الله ضرورة فطرية إنكارها حال شاذة كما يوجد المجنون في بني آدم والمعتوه ومن يبغض والديه أو بلده

وكشأن الغلاة الذين يأتون إلى بعض الأئمة الذين قضوا أعمارهم في مجاهدة الجهمية والقبورية ويتركون كل ردودهم وعباراتهم الشديدة وما لاقوه معهم من المحن ويأتي بعبارات يسيرة لينة قيلت على سبيل التألف أو حتى الزلة أو أي شيء آخر وبثناء على بعض أفرادهم على جهة المقارنة بنظرائه ويظهرون هذه فحسب وينسفون كل ذلك الجهاد ويظهرونه على أنه مميع

وأمثلة ابن حزم نقضها ابن القيم في كتابيه إعلام الموقعين وشفاء العليل فجزاه الله خيراً

ويا ليت شعري هل ضرب الأمثال في القرآن إلا إثبات للحكمة والتعليل ، فإن أبى نفاة الحكمة والتعليل من ثم القياس إلا اعتبار ذلك في الأمر الكوني دون الشرعي

فإنه يقال لهم : ثبوته في الأمر الشرعي المتعلق بمصالح العباد أولى وأولى ، وكل الاعتراضات التي توردونها على اعتبار الحكمة والتعليل في الأمر الشرعي ترد عليكم في الأمر الكوني

وليعلم أن الأشاعرة يوافقون ابن حزم في نفي الحكمة والتعليل غير أنهم يتناقضون ولا ينفون القياس

والفتنة في الأشاعرة كانت أعظم منها في المعتزلة

لأن الأشاعرة يظهرون تعظيم الصحابة وتعظيم السنة في كثير من أحيانهم ويعظمون أئمة أهل السنة كمالك والشافعي وأحمد ، ويذمون أئمة الجهمية كالجهم والمريسي

بخلاف المعتزلة

ثم إن الأشاعرة مع هذا يدسون مقالات الجهمية الأولى بغير ألفاظهم في العديد من الأبواب ويخلطونها بمقالات أهل الحديث ويضموننها في ردودهم على المعتزلة

فتجد الأشعري يسرد الأدلة على إثبات القدر كما يسردها أي سني ثم ينفث لك نفثة جبرية خفية في وسط الكلام

ولهذا لم يكشفهم إلا آحاد من حذاق الأذكياء الموفقين في الأزمنة المتأخرة وعلى رأسهم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى

الذي لم يكتف بمقارعتهم في باب الصفات كما كان ديدن بالحنابلة بل بين أقوالهم الفاسدة في الإيمان والقدر والتي في حقيقتها هي أقوال جهم مال الناس إليها لأنهم وضعوها في مقابل أقوال المعتزلة وللناس ميل لهم في مقابل المعتزلة لما يظهرونه من تعظيم الصحابة وأئمة أهل السنة وغيروا ألفاظها القديمة بمكر بالغ

ثم إنه بين تناقضهم على أصولهم ومناقضتهم لمتقدميهم

فابن تيمية كان لا يسمي الجويني وأضرابه أشاعرة لأنهم يخالفون الأشعري في كل أطواره فالأوائل من الأشاعرة كانوا يثبتون الصفات الذاتية وعباراتهم في الجبر وغيرها فيها خفاء حتى أن كثيراً من الناس لما نظروا في الإبانة والرسالة إلى أهل الثغر والمقالات ظنوها اعتقادات سلفية لأنه ينسبها لأهل الحديث عموماً ولأحمد ابن حنبل خصوصاً وشركه في ذلك بعض كلابية الحنابلة ثم لأن عباراته خفية على من لم يكن له خبرة وممارسة

ولهذا كان كثير من الناس يعد الأشاعرة الأوائل أهل سنة _ وليسوا كذلك _ في مقابل المعتزلة والرافضة لما يظهرونه من موافقة مشهور مذاهب أهل الحديث في مسائل السمع والطاعة والصحابة ومجملات من أبواب المعتقد الأخرى

وأما المتأخرون كالجويني ومن تبعه فهؤلاء تجهمهم غاية في الظهور

قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية :" قال الحفيد فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ماعرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى بالأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة"

فهذا تصريح من ابن رشد أن أكثر الناس في زمنه كانوا يظنون بأن السنة هي عقيدة الأشعرية وأن ما خالفها ابتداع أو كفر

وقال أيضاً مفرقاً بين المتقدمين ومن تبع الجويني منهم :" فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهم فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية وأخذوا لوازمها وكان أبو المعالي الجويني كثير المطالعة لكتب أبي هاشم بن أبي علي الجبائي وكان من أذكياء العالم وكان هو وأبو الحسن الأشعري كلاهما تلميذًا لأبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع إلى مذهب الأثبات الذين يثبتون الصفات والقدر ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار ولا يكفرون أحدًا من أهل الإيمان بذنب ولا يرون القتال في الفتنة فناقض المعتزلة في أصولهم الخمس التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة التي يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما أبو هاشم فكان على هذه الأصول مع أبيه وإٍِن كان يخالفه في كثير من المسائل وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية ويسلمون لهم نفي علو الله على العرش وهذا عكس الواجب ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم حتى يقول قائلهم من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله أو نحو هذا الكلام ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف"

وقال ابن تيمية في الانتصار لأهل لأثر معلقاً على حديث ابن مسعود ( على كل سبيل منها شيطان ) ص 108 :" وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وأن كلاً منهم له سبيل يخرج عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى "

وحديث السبل هذا شاهد قوي لحديث الافتراق من جهة المعنى وفاتني ذكره في شواهد حديث الافتراق

وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (8/487) :" وكلام أولئك خير من كلام هؤلاء الذين جمعوا إلى تعطيل أولئك إلحاد الفلاسفة مع أن أولئك لم يظهروا كل ما في قلوبهم للأئمة فالجهمية لم تكن تظهر لهم لا داخل العالم ولا خارجه وإنما أظهروا أنه في كل مكان فالأئمة استعظموا ما أظهروه فكيف ما أبطنوه والذي أبطنه أولئك هو خير من قول الملاحدة الذين جمعوا بين أقوال الجهمية والفلاسفة الدهرية وقد كان الثقة يحدث عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه لما رأى قوله إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين لعنه على ذلك وقال هذا تعطيل الإسلام"

وكلام ابن تيمية بعد هذا يستحق الافراد وأنا يطيب نقل غرر كلامه في نقد القوم في كل مناسبة تعرض لأن هذا الرجل يظلم من فريقين

وقال أيضاً في بيان التلبيس (5/312_313) :" فإذا عرف أن هذا القول الذي يقولونه من أنه ليس فوق العرش ولا فوق العالم لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها أهل القرون الثلاثة الفاضلة بل نطقوا بنقيض ذلك كما هو معروف في موضعه تبين لهم أنهم ضلال مخالفون لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المؤمنين السابقين ومن علم أن قولهم مخالف لذلك واتبعه كَفَرَ كما كَفَّرهم السلف والأئمة"

وقال أيضاً في بيان التلبيس :" وهو لازم الجهمية الذين يقولون إن الله عز وجل ليس فوق العرش بل هو في كل مكان من أن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه في النهاية كما هو في البداية من أن صاحب السلوك إلى الله بالطريق المستقيم مائل خارج عن المقصود صاحب خيال إليه غايته فله من وإلى يسير من شيء إلى شيء والحائر الذي يدور ولا يبرح ولا يذهب إلى شيء غير ما هو فيه فله الوجود الأتم وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم وأن الدعوة إلى الله ليست إلى هويته بل إلى نسب وإضافات إليه هي التي جعلها هذا أسماء فإن هؤلاء الاتحادية وإن كانوا جهمية فلهم فروع أقوال انفردوا بها عن غيرهم من الجهمية ولكن نذكر ما يلزم غيرهم من الجهمية فهذه المقالات ونحوها لا تخلو إما أن يقال هي حق وهي معنى القرآن كما ذكره هذا أو لا أما الأول فإنه من أظهر الأمور كفراً وضلالاً وتحريفاً واتحاداً وتعطيلاً فكل من فيه أدنى إيمان وعَلِمَ وفَهِمَ مقصودهم يعلم علماً ضروريًّا أن الذي قالوه هو من أعظم الأقوال منافاة لما جاءت به الرسل وان الله أمر أن يسأل أن يهدينا الصراط المستقيم ومدح الصراط المستقيم في غير موضع وذم الحائر كما في قوله تعالى قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ [الأنعام 71] وأن الله بعث الرسل بالدعوة إليه نفسه وأن ذلك ليس بمكر بالعباد بل هدى لهم وأنه ليس المدعو في ابتداء إجابة الرسل كما يكون إذا انتهى إلى ربه أو لاقاه وأن من عبد الأصنام أو شيئا م المخلوقات فهو كافر مشرك باتفاق الرسل كما قال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) [الزخرف 45] وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء 25] وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل 36] وعلى قول الاتحادية ما ثم طاغوت إذ كل معبود فعابده إنما عبد الله عندهم ومن المعلوم بأعظم الضرورات أن عُبّاد يغوث ويعوق ونسرا وسائر الأوثان لم يكونوا عابدين لله وكانوا مشركين أعداءً لله لم يكونوا من أولياء الله وهذا وأمثاله كثير وليس هذا موضع بسطه فهؤلاء الجهمية النفاة إما أن يوافقوا هؤلاء أو ى فإن وافقوهم كان كفرهم أظهر من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب وكان جحدهم للمعارف الكثيرة الضرورية أعظم من جحد السوفسطائية وإن خالفوهم وهو قولهم قيل لهم إذا قلتم إن الله لا يتقرب إليه نفسه أحد ولا يدعى إليه نفسه أحد وليس بين العبد وبينه نفسه طريق مستقيم ولا مستدير وأنه لا يذهب إليه نفسه أحد وإنما ذلك كله عندكم يعود إلى بعض مقدوراته ومخلوقاته مثل ما يخلقه مما يرحم به العباد فإليها يذهب وإليها يسير فإذا قلتم هذا لم يكن لكم طريق إلى إفساد قول أولئك الاتحادية إذ قولكم من جنس قولهم إلا أنهم توسعوا في ذلك"

وقال أيضاً وهو يتكلم عن الرازي وأضرابه :" وقد علم أن هؤلاء الملاحدة الجهمية وسائر أتباعهم فيهم من النفاق أعظم مما يوجد في أكثر أهل الأهواء وفيهم من صفات المنافقين بقدر ذلك من السخرية والاستهزاء والخديعة ونحو ذلك فالله تعالى يجازيهم على أعمالهم جزاءً وفاقاً وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) [فصلت] فيما يأمر به ويشرعه وفيما يقدره ويتوعد به وهذا يتقرر بالوجه العاشر وهو أن هؤلاء الجهمية فيهم من استعمال الألفاظ المجملة وإفهام الناس خلاف ما في نفوسهم ما لا يوجد في غيرهم من أهل الأرض والرافضة يشركونهم في ذلك لكن هؤلاء أعظم كفراً ونفاقاً فلهذا قال عبد الرحمن بن مهدي هما ملّتان الجهمية والرافضة ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال البخاري ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف اليهودي والنصراني ولا يُسلَّم عليهم ولايعادون ولايناكحون ولايشهدون ولاتأكل ذبائحهم وهذا مشروح في غير هذا الموضع فإن الجهمية قدحوا في حقيقة التوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله والرافضةُ حقيقةُ قولهم قدحٌ في الأصل الثاني وهو شهادة أن محمداً رسول الله فإذا جمع الإنسان بين الرفض والتجهم يقرب حينئذ إلى الملاحدة القرامطة الباطنية الذين هم أعظم أهل الأرض نفاقاً وكتماناً لما في أنفسهم وإظهاراً لخلاف ما يعتقدونه ومخاطبة للناس بالألفاظ المجملة التي يفهمون الناس منها ما لا يقصدونه هم ولفرط ضلالهم يجعلون الأنبياء كذلك زعماً منهم أن هذا هو الكمال الذي لا كمال بعده وهؤلاء الملاحدة هم الذين ينفون عن الله النقيضين جميعاً وينفون أسماء هـ الحسنى"

بل قال الشيخ عن الأشعرية الرازية صراحة :" ولكن المقصود الجهمية الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما سواه فإن هؤلاء يستعملون من الألفاظ المجملة التي يعنون بها ما لا يفهمونه الناس ما لا يحصيه إلا الله وذلك في الألفاظ الشرعية التي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله إذا أظهروا الإيمان بها وفي الألفاظ التي يثبتونها هم لبيان ما يجب في أصول الدين وصفات الله تعالى فيوهمون الناس أنهم لاينفون عن الله إلا ما قد يظهر أنه نقص
وعي وهم ينفون بها أموراً لو فهمها الناس لكفَّروهم"

تأمل قوله ( لو فهمها الناس لكفروهم ) وهو يتكلم عن الجهمية الذين يحرمون ما يحرم الإسلام فهو لا يتكلم عن القرامطة وإنما عن الرازي وأضرابه

وهذا هو معنى ما ذكرته آنفاً من أنهم يأخذون عقائد الجهمية الأولى ويغيرون ألفاظها ويموهون مع إظهارهم التعظيم لأئمة أهل السنة والذم للجهمية للأولى لذا يصفهم الشيخ بالنفاق وأنهم أعظم تقية من الرافضة وهذا تدقيق حسن منه فتجد جبر الجهم مغلفاً بعبارات ك ( منزه عن الأغراض ) و( لا حسن ولا قبح إلا بالشرع ) و ( القدرة لا تكون إلا مقارنة للفعل )

ويظهرون إرجاءهم بصورة ذم الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب وقد علم نفرة الناس لهذه المذاهب وشدة الصحابة على الخوارج ومن تبعهم من أئمة الإسلام 

وقد كان ابن تيمية للمتكلمين كالشافعي لأهل الرأي 

وكثير من المعاصرين ممن يسهل العبارة في هؤلاء لا يعي أقوالهم ولا خطورتها ولا مداركها في حقيقة الأمر وهذا جهل مؤذي لذا تأثر بعدد من مقالاتهم خلق من المعاصرين كما شرحته سلسلتي ( تقويم المعاصرين ) 

وهنا إلحاق بمقالي (  سألني أحدهم عن نفاة القياس والإجماع فأجبت بما يلي :
هؤلاء جاءوا بشبهة البراهمة على الأديان فالبراهمة قالوا بأن ما دام الأمور يثبت حسنها وقبحها بالعقل فلا داعي للرسل وتلقى النظام هذه الشبهة منهم وألقاها على الإجماع والقياس ويجابون بأن الأمور على أقسام منها ما يظهر لكل عقل حسنه وقبحه ومنه ما يخالف فيه بعض الغالطين ومنه من لا يعرفه إلا الخاصة ومنه ما لا يعلم مصلحته إلا الله وكذا يجاب هؤلاء فيقال القرآن بنصه فيه محكم ومتشابه وقد أرشد للسنة ولكن ليس كل أحد يستطيع أن يفهم عامة المسائل بل هناك مسائل يعلمها الخاصة من العلماء ويتفقون عليها بفتاوى صحابة وبإلحاقات وبنصوص عندهم ترجح لهم أن ما يخالفها ضعيف والله عز وجل قال في القرآن (فاعتبروا يا أولي الأبصار ) وهذا نص واضح في الاعتبار والقياس أن اتفاق الحال يقتضي اتفاق الحكم ثم يقال أن الصحابة والتابعين اختلفوا في الفقه فلولا أن هناك أمورا خفيت على بعضهم فقال بالاجتهاد ما حصل هذا الخلاف ثم إننا نجد هذا النافي نفسه يعتد برواياتهم للسنة بل ويعتد بجرحهم وتعديلهم وينبغي أن يكونوا على مذهبه مشركين أو مشرعين مع الله هذا يا أخي كشبهة الخوارج مع علي التي رد عليها ابن عباس وتأمل استدلال ابن عباس بآية ( يحكم به ذوا عدل منكم ) وهذا الحكم إنما هو قياس ! فنرى أشبه الحيوانات الأنسية بالصيد ونحكم به على الصائد المحرم ثم إنك تجد في القرآن أن داود حكم وسليمان حكم فقال الله ( ففهمناها سليمان ) وفي السنة أن سليمان حكم بالصواب وداود اجتهد فإذا كان نبي يجتهد ويكون حكم غيره أصوب من حكمه وهو نبي مثله فهذا أولى بالفقهاء ولهذا قال الحسن أنه لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا والنبي صلى الله عليه وسلم قال إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر .ومعلوم أن الخطأ هنا القياس والا فالكتاب والسنة لا يخطئان فإن قلت : ربما يكون أخطأ في فهم الكتاب والسنة أو قال بعام خصص قلنا هنا تشهد على نفسك بضرورة الإجماع فإنه دليل على عصمة الفهم وقطع لدابر الاحداث والأفهام الجديدة)
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي