مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تقويم المعاصرين ( الحلقة الخامسة )

تقويم المعاصرين ( الحلقة الخامسة )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :



فهذه هي الحلقة الخامسة من حلقات تقويم المعاصرين ، وهي في مسائل القدر

واعلم رحمك الله أن هذا الباب من أصعب الأبواب وأكثرها استغلاقاً ، وقد زلت أقدام كبار كالحسن البصري ( وقد رجع ) ومكحول وقتادة وكلاهما حكي عنه الرجوع في هذا الباب فمن الناس من تزل قدمه لتعظيم الأمر والنهي أو ضيق الجواب على إيرادات الملاحدة والمنحلين

ومن الناس من يضله علم الكلام الخبيث ، ومنهم من يجتمع فيه الأمران والعصمة في اتباع الآثار

وهذا الباب والحمد لله هو أقل أبواب المعاصرين غلطاً فيما وقفت عليه

الباب الخامس : أخطاء المعاصرين في باب القدر

الخطأ الأول : نفي الحسن والقبح العقليين

ونفي الحسن والقبح العقليين وقع فيه كثير من المعاصرين متابعة للأشاعرة فمنهم سليم الهلالي وأبو المنذر المنياوي ومحمود الرضواني ومحمد الجيزاني

ولما كان الرضواني مذهبه ملفقاً وغلط على ابن تيمية في المسألة سأذكر ردودي عليه كأنموذج

قال الدكتور محمود الرضواني في كتابه البدعة الكبرى ص22 :" فهل مسألة الحكم بالحسن والقبح على الأشياء في الإسلام مرده إلى النص المنقول دون اعتبار للنظر المعقول؟

الجواب هنا يتعلق بفهمنا للأحكام الشرعية التكليفية ، فالواجب والمستحب والمكروه والمحرم ، تلك الأربعة السيادة فيها للنقل أو القرآن والسنة، النقل هنا هو الذي يحكم بحسن الأشياء وقبحها ، والعقل للنقل فيها يؤيده ويعضده ، ولن يجد عاقل في فطرته ما يخالف الأحكام التكليفية أو يعارض الشريعة الإسلامية .


أما إذا قدم العقل على النقل في الواجب والمستحب والمحرم والمكروه من الأحكام فسوف تظهر البدعة في الإسلام ، وسوف تتغير ملامح الشريعة وتصبح ألعوبة في يد المبتدع"

 إلى أن قال : "أما عن دور العقل في الإسلام ومجاله في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح والخير والشر فهذا مقصور على المباح فقط من الأحكام الشرعية ، فالقيادة والسيادة هنا للعقل ، والنقل يؤيده ويعضده ويعاونه ويساعده

 فقد روى مسلم في صحيحه في حديث رافع بن خديج :" قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ ، فَقَالَ : مَا تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَصْنَعُهُ ، قَالَ : لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ ، فَنَفَضَتْ ، أَوْ فَنَقَصَتْ ، قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ.


وهنا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المرجعية في الحكم بالحسن والقبح إلى عقولهم واجتهادهم وخبرتهم في الحياة أو خبرتهم في الحياة ، فآرائهم مقبولة في المباحات من أمور الدنيا دون بقية الأحكام".


أقول : هذا الكلام فيه فلسفة وخبط وتخليط وبيان ذلك من وجوه:


أولها: قوله أن المباح يرجع إلى اجتهادات الناس دون المكروه والمحرم يرد بأن يقال خبرة الناس وعقولهم إما أن تحكم لهذا الشيء بأنه نافع أو ضار فإذا حكمت لهذا الشيء بأنه نافع فساعتئذٍ يكون مباحاً عند الدكتور الرضواني، فماذا إذا حكمت خبرة الناس بأن هذا الشيء ضار، وفيه إتلاف للمال أو النفس أو غيرها من المفاسد، فما حكمه يا دكتور رضواني ؟ فلا مناص إلا أن يقول (مكروه) أو (محرم)، وساعتئذٍ يبطل تفريقه بين (المباح) و (المكروه) و (المحرم).


ثانيها: أن المذهب الذي اخترعه الرضواني مذهب حادث وفيه تلفيق بين مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة، فمذاهب الناس في التحسين والتقبيح كالآتي:


    الأول : أن حسن الأشياء وقبحها إنما يثبت بالعقل وهذا مذهب المعتزلة ، دون تفريق بين الأحكام التكليفية

    الثاني : أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع ، وأن الأحكام الشرعية غير معللة بعلل تثبت حسنها عند الأمر ، أو قبحها عند النهي عنها ، وهذا مذهب الأشاعرة بدون تفريق بين الأحكام التكليفية

    الثالث : أن حسن الأشياء وقبحها يثبت بالعقل والشرع معاً ، إذ لا تعارض بين العقل والنقل ، ولكن الثواب والعقاب متعلق بورود الشرع واستدلوا لذلك بذكر الحكم في عدد من الأوامر الشرعية كذكر العلة في تحريم الخمر والميسر



قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/42) وهو يعدد مقتضيات هذا القول القبيح :

" واستلزامه التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود ولا شيء من أنواع الكفر ولا السعي في الأرض بالفساد ولا تقبيح شيء من القبائح أصلا

وقد التزم النفاة ذلك وقالوا أن هذه الأشياء لم تقبح عقلا وإنما جهة قبحها السمع فقط

وانه لا فرق قبل السمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضد ذلك

ولا بين شكره بما يقدر عليه العبد وبين ضده ولا بين الصدق والكذب والعفة والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين من كل وجه

وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا يتكلف رده ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم

فأطبق أصحاب أبي حنيفة على خلافه وحكوه عن أبي حنيفة نصا

واختاره من أصحاب أحمد أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير ولم يقل أحد من متقدميهم بخلافه

ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة

واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير وبالغ في إثباته وبنى كتابه محاسن الشريعة عليه وأحسن فيه ما شاء

 وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجانى بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعرى القول بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد

وكذلك أبو القاسم الراغب وكذلك أبو عبد الله الحليمى وخلائق لا يحصون

وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين

إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهى لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها

فيجعل الأول ضابطا للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل فلو تساوت الأوصاف في نفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعات الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها".


وقال شيخ الإسلام في درء التعارض (4/ 332) :" وقوله تعالى : {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} حجة على الطائفتين

وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول

 ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون : إن عذابهم واقع، وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول، والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم".


وهناك نقولات أخرى في المسألة بسطتها في الرد على عبد الله رمضان موسى.


الوجه الثالث : قوله بأن المباح إنما يعرف بالعقل والشرع إنما تابع للعقل في الإباحة ينقضه أن علماء الأصول قسموا الإباحة إلى نوعين:

النوع الأول : إباحة شرعية ، وهي المستفادة من الأدلة الشرعية بخصوصها كإباحة لبس الحلي للنساء ، وإباحة الصيد لغير المحرم ، وغيرها

النوع الثاني : إباحة أصلية وهي المستفادة من قاعدة ( الأصل في الأشياء الإباحة ) ولم يرد نص بخصوصها، وهذا النوع التحقيق أنه يرجع إلى النوع الأول ، لأنه إنما استفيد من قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأْرْضِ جَمِيعًا).


وماذا يقول الدكتور الرضواني في النصوص الواردة في إباحة بعض الأشياء والنص على حلها، هل يكون النص الشرعي فيها تابعاً للعقل ؟!


وسبب خلط الرضواني هو أنه لم يفهم كلام أهل السنة فصار يلفق، وهذه عادةٌ فيه يعتد بعقله جداً، فيخترع المذاهب الملفقة التي يعتبرها هو تحقيقاً علمياً لم يسبق إليه


قال  محمود عبد الرزاق الرضواني  في منة القدير ص627:

 "فأراد ابن تيمية أن يبين أن الحسن والقبح شرعيان لا عقليان ، وحتى لو كانا عقليين فإن العقلاء يلومون العصاة على جرائمهم وسوء أفعالهم"

 هذا الذي ينسبه الرضواني لشيخ الإسلام هو مذهب الأشاعرة وليس مذهب شيخ الإسلام بل كان ينتقده بقوة؛ قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح (3/3):

"قد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها كحسن العدل والتوحيد والصدق وقبح الظلم والشرك والكذب هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالسمع

وإذا قيل أنه يعلم بالعقل فهل يعاقب منفعل ذلك قبل أن يأتيه رسول على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم

فقالت طائفة لا يعرف ذلك إلا بالشرع لا بالعقل وهذا قول نظار المجبرة كالجهم بن صفوان وأمثاله وهو قول أبي الحسن الأشعري وأتباعه من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأبي عبدالله بن حامد والقضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم وقيل بل قد يعلم حسن الأفعال".


فهنا شيخ الإسلام ينسب المذهب في أن الحسن والقبح شرعيان فقط إلى الأشاعرة الجبرية

 قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/42) وهو يعدد مقتضيات هذا القول القبيح :

" واستلزامه التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود ولا شيء من أنواع الكفر ولا السعي في الأرض بالفساد ولا تقبيح شيء من القبائح أصلا

وقد التزم النفاة ذلك وقالوا أن هذه الأشياء لم تقبح عقلا وإنما جهة قبحها السمع فقط وانه لا فرق قبل السمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضد ذلك ولا بين شكره بما يقدر عليه العبد وبين ضده ولا بين الصدق والكذب والعفة والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما

وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين من كل وجه وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا يتكلف رده ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم فأطبق أصحاب أبي حنيفة على خلافه وحكوه عن أبي حنيفة نصا

واختاره من أصحاب أحمد أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير ولم يقل أحد من متقدميهم بخلافه ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة

واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال الكبير وبالغ في إثباته وبنى كتابه محاسن الشريعة عليه وأحسن فيه ما شاء

وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجانى بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعرى القول بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد

وكذلك أبو القاسم الراغب وكذلك أبو عبد الله الحليمى وخلائق لا يحصون وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهى لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي فقط

وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها فيجعل الأول ضابطا للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل فلو تساوت الأوصاف في نفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعات الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها".


فنص ابن القيم على أن ابن عقيل إنما تابع الأشعري في هذه المسألة ، وأن نسبة هذا القول لمتقدمي الحنابلة باطلة، ومنهج أهل السنة أن الأمور حسنها وقبحها يعلم بالشرع والعقل وذلك أن الله عز وجل لا يأمر إلا لحكمة.


قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (6/611): "لْحُجَّةُ أَنَّهُمْ نَفَوْا التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّ وَجَعَلُوا أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِذَلِكَ تَعْظِيمَهُمْ لِلشَّرْعِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُ. وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ تَسَنُّنُهُمْ، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنُ فِعْلٍ وَلَا قُبْحُهُ، بَلْ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ حَادِثٌ فِي حُدُوثِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ مِنْهَا فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَهِيَ مُتَنَازِعَةٌ فِي ذَلِكَ".


وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/ 432) بعد أن تكلم على مذهب المعتزلة في المسألة :" وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فِي "مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ " فَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ:

 إن الْأَفْعَالَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى صِفَاتٍ هِيَ أَحْكَامٌ وَلَا عَلَى صِفَاتٍ هِيَ عِلَلٌ لِلْأَحْكَامِ بَلْ الْقَادِرُ أَمَرَ بِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِمَحْضِ الْإِرَادَةِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ.

 وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَيَنْهَى عَنْ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تُوصَفُ بِهَا الْأَحْكَامُ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ فَقَطْ وَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي نَفْسِهِ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَا الْمُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ.

 بَلْ إذَا قَالَ: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْهَاهُمْ وَيُحِلُّ لَهُمْ مَا يُحِلُّ لَهُمْ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ بَلْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالتَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لَا مَعْرُوفٌ وَلَا مُنْكَرٌ وَلَا طَيِّبٌ وَلَا خَبِيثٌ إلَّا أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يُلَائِمُ الطِّبَاعَ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عِنْدَهُمْ كَوْنَ الرَّبِّ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَرَ. فَهَذَا الْقَوْلُ وَلَوَازِمُهُ هُوَ أَيْضًا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ

 فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾

 كَمَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ وَقَالَ: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ وَقَالَ: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾

وَعَلَى قَوْلِ الْنُّفَاةِ: لَا فَرْقَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَبَيْنَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَيْسَ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ تَنْزِيهِهِ عَنْ الْآخَرِ وَهَذَا خِلَافُ الْمَنْصُوصِ وَالْمَعْقُولِ".


وقال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (1/214): "أما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لا يقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى: كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهم: كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من "مسائل الخلق والأمر" وجمهور الفقهاء يقولون بذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف من الفقهاء كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميم وأبي الخطاب وكأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام".


وقد ناقض الأشاعرة في هذا الباب المعتزلة والماتردية ، فذهبوا إلى إثبات الحسن والقبح العقليين ، ولكنهم غلوا فرأوا أن الحجة قائمة بدون إرسال الرسل ، وأن الثواب والعقاب يقعان وإن لم يتم إرسال الرسل لأن حسن التوحيد وقبح الشرك ثابتان بالعقل، والقول الوسط أن الحسن والقبح يثبتان في العقل والفطرة والشرع ، ولكن العقاب متعلق بورود الشرع.


فقول الرضواني أن شيخ الإسلام يرى أن الحسن والقبح شرعيان لا عقليان قول باطل النسبة إلى شيخ الإسلام ، والعادة أن مؤيدي الرضواني يقولون (الشيخ قصده كذا وقصده كذا) وكأن الناس لا يفهمون ويقال أن الكلام الذي ظاهره باطل يرد ولو كان قصد صاحبه حسناً ما دام ليس في ظاهر الكلام ما يدفع التوهم

وقد رأيت كثيراً من المعاصرين يحسنون الكلام في المسألة منهم ناصر الفهد في نقده للاعتصام والموافقات وهذا نقد قوي في مسائله

الخطأ الثاني : تقرير أن أفعال الله عز وجل غير معللة

وهذا وقع فيه عطية محمد سالم وحده تأثراً بالشراح الأشعرية ولعله بشيخه الشنقيطي فقد كان الشنقيطي في هذا الباب شديد الميل لأقوال الأشعرية

قال عطية محمد سالم في شرحه على الأربعين :" فيقول : ( إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ) أي: بعصيانكم وعدم استغفاركم ( ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) أي: إن استجبتم واستغفرتم، وكذلك هدايتكم لن تنفعني، وعدم هدايتكم لن تضرني! إذاً: تلك التكاليف كلها لمصلحة الإنسان، وهنا يمكن أن يقف الإنسان وقفة طويلة ويناقش المعتزلة في أن العبادات والأحكام غير معللة، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، وأن له أن يكلف الخلق بما شاء، وأرجو من طلبة العلم أن يبحثوا ويتقصوا ذلك، مع أنه ما من أمر أو نهي موجه للخلق إلا وفيه لهم جلب نفع أو دفع ضر، فإنه لا يوجد أمر واحد في كتاب الله أو نهي واحد لا يعود على المكلف بخير"


هنا يقرر أن أفعال الخالف غير معللة ولعل شخصاً سيفهم من كلامه العكس ولكن إذا علمت أن المعتزلة الذين يرد عليهم يعللون أفعال الخالق وتأملت في سياق كلامه علمت أنه يريد نفي التعليل ، ولكنه خصصه بنفي التعليل العائد على الله عز وجل وهذا مذهب المعتزلة


 فالناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال


الأول : نفي الحكمة والتعليل وهو قول الجهمية الأشعرية


الثاني : القول بحكمة تعود على المخلوقات لا الخالق وهو قول المعتزلة على أصلهم في نفي قيام الصفات بالرب


الثالث : وهو قول أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون الحكمة لله سبحانه وتعالى ، وهذه الحكمة تتضمن أمرين :

الأمر الأول: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها و يرضاها ، فهو يأمر بما يحب وينهى عما يكره

الأمر الثاني : حكمة تعود إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها ( مستفاد من بعض الأخوة )


قال ابن القيم في شفاء العليل ص186 :" فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده إلا هذا القول أو قول

الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون "




ويلاحظ أن عطية محمد سالم وشيخه محمد الأمين يوافقان الأشاعرة في عدد من مسائل القدر ، والسبب في ذلك النظر في كتب القوم في أصول الفقه فإنهم لا يذكرون إلا قولين قولهم وقول المعتزلة وربما ذكروا بعض أدلة أهل السنة في الرد على المعتزلة ثم جنحوا بالقاريء إلى الجبر


وبعض مقالات القوم قد يطلقها المرء ولا يعرف ما وراءها من البلاء فلا يخليه ذلك من المسؤولية إذ أن اللفظ المجمل الذي يحتمل حقاً وباطلاً إذا تكلم به المرء في مواطن العطب كان مستحقاً للوم فكيف إذا تكلم بألفاظهم الذي لا يستخدمونها إلا بالباطل


قال ابن تيمية _ رحمه الله _ في درء تعارض العقل والنقل (1/254) :" فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا نسبوه إلى البدعة أيضا وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة وردا باطلا بباطل

 ونظير هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب السنة هو وغيره في مسألة اللفظ ومسألة الجبر"


ويؤخذ على عطية محمد سالم موافقته لشيخه في مسألة شد الرحال والله المستعان

الخطأ الثالث : تزكية بعض شراح الأشعرية بأن عقيدته في القدر سلفية

وهذا وقع من محمد بن هادي المدخلي في رده على من يسميهم حدادية ودفاعه عن النووي ولا أدري فالنووي ما ترك شيئاً من عقيدة الأشعرية الجبرية ما قال به


قال النووي في رسالته الأصول والضوابط ص24 :" مَسْأَلَة


مَذْهَب اهل الْحق الايمان بِالْقدرِ واثباته وان جَمِيع الكائنات خَيرهَا وشرها بِقَضَاء الله تَعَالَى وَقدره

وَهُوَ مُرِيد لَهَا كلهَا

وَيكرهُ الْمعاصِي مَعَ انه مُرِيد لَهَا لحكمة يعلمهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

وَهل يُقَال انه يرضى الْمعاصِي ويحبها

فِيهِ مذهبان لاصحابنا الْمُتَكَلِّمين حَكَاهُمَا امام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره

قَالَ امام الْحَرَمَيْنِ فِي الارشاد مِمَّا اخْتلف اهل الْحق فِي اطلاقه وَمنع اطلاقه الْمحبَّة وَالرِّضَا

فَقَالَ بعض أَئِمَّتنَا لَا يُطلق القَوْل بَان الله تَعَالَى يحب الْمعاصِي ويرضاها لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر}

قَالَ وَمن حقق من أَئِمَّتنَا لم يلْتَفت الى تهويل الْمُعْتَزلَة لَهُ بل قَالَ الله تَعَالَى يُرِيد الْكفْر وَيُحِبهُ ويرضاه والارادة والمحبة وَالرِّضَا بِمَعْنى وَاحِد

قَالَ وَقَوله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} المُرَاد بِهِ الْعباد الموفقون للايمان وأضيفوا الى الله تَعَالَى تَشْرِيفًا لَهُم كَقَوْلِه تَعَالَى {يشرب بهَا عباد الله} أَي خواصهم لَا كلهم وَالله اعْلَم"


أقول : مذهب أهل الحق الذي عناه النووي هو مذهب أصحابه الجهمية الأشعرية الجبرية


وهذا المذهب في أن يحب الكفر والفسوق والعصيان فيه من الضلال وسوء الأدب مع رب العالمين الشيء العظيم


وذلك أن القوم جبرية ورثوا إمامهم الأول الجهم بن صفوان في هذا الباب ، لا يفرقون بين الإرادة الشرعية التي تستلزم المحبة ، والإرادة الكونية التي تستلزم الوقوع ولا تستلزم المحبة


وقد صرح ابن تيمية بأن قولهم يخالف دين الإسلام بالاضطرار


قال شيخ الإسلام في شرح الأصبهانية ص13 :" وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة قبل حدوث أقوال النفاة من الجهمية ونحوهم إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان وإنه يرضى هذا ولا يرضى هذا والجميع بمشيئته وقدرته والذين لم يفرقوا لهم تأويلات تارة يقولون لا يرضاه لعباده المؤمنين فهم يقولون لا يحب الإيمان والعمل الصالح ممن لم يفعله كما لم يرده ممن لم يفعله ويقولون إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ممن فعله كما أراده ممن فعله.

وفساد هذا القول مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام مع دلالة الكتاب والسنة وإجماع السلف على فساده وتأويلهم الثاني قالوا: لا يرضاه دينا كما يقولون لا يريده دينا ومعناه عندهم أنه لا يريد أن يثبت فاعله إذ جميع الموجودات والأفعال عندهم بالنسبة إليه سواء لا يحب منها شيئا دون شيء ولا يبغض منها شيئا دون شيء وقد بسط الكلام على فساد

هذا القول وتناقضه في مواضع أخر"


وقال في النبوات في ص287 :" وحقيقة هذا القول أنّ الله يُحبّ الكفر، والفسوق، والعصيان، ويرضاه. وهذا هو المشهور من قول الأشعريّ وأصحابه، وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وكذلك ذكر ابن عقيل أنّ أوّل من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعريّ وأصحابه، وهم قد يقولون لا يُحبّه ديناً، ولا يرضاه ديناً، كما يقولون: لا يريده ديناً؛ أي لا يريد أن يكون فاعله مأجوراً، وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات؛ فإنّها عندهم محبوبة له؛ إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة

شاملة لكل مخلوق؛ فكل مخلوق، فهو عندهم محبوب مرضيّ .

وجماهير المسلمين يعرفون أنّ هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل، وأنّ المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أنّ الله لا يُحبّ الشرك، ولا تكذيب الرسل، ولا يرضى ذلك، بل هو يُبغض ذلك ويمقته ويكرهه؛ كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرّمات، ثمّ قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَاْنَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوْهَاً}. وبسط هذه الأمور له مواضع أُخَر"


فقولهم هذا مخالف للمعلوم من الدين بالضرورة بل مخالف لما عليه اليهود والنصارى أيضاً


فهذا قول كفري كقولهم في إنكار العلو


وقد نص ابن تيمية على أن قولهم في القدر شر من قول المعتزلة


وهذا يبين عند التأمل فإنه لا يوجد في رواة الحديث من هو جبري فليس في الكتب من جبري مع وجود القدري والخارجي والمرجيء والشيعي


وذلك أن مذهب الجبرية إنما يعرف به أهل الانحلال ولهذا لا تجد عابداً في المتكلمين وإنما تجد ( دراويش ) وشيوخ طريقة


فمن اجتمع فيه التجهم والإرجاء والجبر كالأشاعرة فقد اجتمع فيه الشر كله


وهذا يبين لك وجهاً جديداً في حقيقة الخلاف مع الأشاعرة


وهو أن تعتقد في الأشعري أنه إلى جانب اعتقاده في القرآن اعتقاداً أربى فيه على المعتزلة ، واعتقاده في العلو اعتقاداً شراً من اعتقاد الجهمية ، فقد اعتقد في القدر عقيدة هي شر من عقيدة المعتزلة


فهل مثل هذا يكون إماماً أو سنياً أو محنة ؟


وهل من نشر مثل هذه العقائد الخطيرة في الأمة يقال أنه ( خدم الإسلام ) كذا بإطلاق


وماذا عن الضرر العظيم الذي سببه للناس جراء هذه العقائد الخبيثة وتخليدها في الكتب؟


ومن أنكر كفراً ثم لم يتبرأ من أهله فقد خالف طريقة الأنبياء في الإنكار وجاء إنكاره ضعيفاً لا يفي بالغرض بل يكون فيه متنفس لأهل الباطل


وليعلم أن ضلال الأشاعرة في باب القدر محصور في نقاط


الأولى : نفي التحسين والتقبيح العقليين


الثانية : نفي تأثير الأسباب


الثالثة : نفي قدرة العبد التي تسبق الفعل وتصريح الأشعري في الإبانة أن الكافر غير قادر على الإيمان


الرابعة : تصريحهم بأن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان وخلطهم بين الإرادة الكونية والشرعية


الخامسة : نفي الحكمة والتعليل وقد نص الإمام المجدد أن الوثنيين لا ينفون حكمة الله


وهذه الضلالات تجدها في كتب التفسير وشروح الحديث التي صنفها الأشاعرة ، وكثير منهم مع علمه بالحديث يقلد الجويني والغزالي في أمر العقيدة كما ترى في صنيع النووي السابق


وكثير مما صنفوه في الأصول لا يذكرون فيه إلا مقالة المعتزلة القدرية ومقالتهم أصحابهم الجبرية ولا يذكرون شيئاً من كلام أهل السنة


وإنك لترى شماطيط المتكلمين جنباً إلى جنب مع النصوص الشرعية والآثار السلفية ، ومما يزيد في غيظك أنه يرجح كلام المتكلمين في النهاية


والإنصاف أن يقال بأن الجاهل بالحديث أعذر من العالم به لا العكس الفاشي في مذهب الخلوف


ولا عذر لأحد من هؤلاء المتكلمين في تلك الضلالات العظيمة التي أعرضوا عن الكتاب والسنة واعتقدوها بنتاج عقولهم الفاسدة


قال العقيلي في الضعفاء :" عوف بن أبي جميلة الأعرابي حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا محمد بن أبي بحر المقدم قال : سمعت عمرو بن علي يقول : رأيت عبد الله بن المبارك يقول لجعفر بن سليمان : رأيت أيوب وابن عون ويونس فكيف لم تجالسهم وجالست عوفا ؟ والله ما رضي عوف ببدعة واحدة حتى كانت فيه بدعتان : كان قدريا وكان شيعيا حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : رأيت داود بن أبي هند يضرب عوفا الأعرابي يقول : ويلك يا قدري ، ويلك يا قدري حدثنا محمد بن أحمد قال : سمعت بندارا ، وهو يقرأ علينا حديث عوف فقال : يقولون : عوف ، والله لقد كان عوف قدريا رافضيا شيطان"


عوف هذا ثقة ثبت وروى سنة كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والكثير من أخبار الصالحين ولا شك أن في هذا خدمة للإسلام ومع ذلك يقال فيه هذا الكلام الشديد ،إذا استحضرت بأن بدعة الأشاعرة في نفي الصفات كفر في صفة العلو وحدها فكيف مع بقية الصفات وأن السلف تكلموا في تكفيرهم ما لم يتكلموا في تكفير غيرهم ، وإذا استحضرت أن مذهب الجبرية أخبث من مذهب القدرية


علمت حال الخلوف ومناقضة منهجهم لمنهج السلف مناقضة تامة توقعهم في هوة الابتداع السحيقة


وعوف ما صنف شيئاً في نصرة المذكورة ولا ناظر على ذلك وما خلد كتباً ينصر فيها شبهات القوم


ومن ظن أن السلف لم يخلفوا لنا ديناً نقتدي به ونفهمه حتى احتجنا إلى من تلطخ بضلالات المتكلمين الكبرى فقد أساء الظن بالله عز وجل ورد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله بأن خير الناس قرنه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

 تنبيه : بلغني أن هناك من يصف اعتقاد النووي في شرحه لمسلم في باب القدر أنه على طريقة أهل السنة
وهذا باطل لكل من نظر في الكتاب فإنه سار في ذلك على طريقة المتكلمين كما صنع في باب الصفات
قال النووي في شرح مسلم (7/327) :" قالَ الْمَازِرِيّ : وَهَذَا غَيْر مُسَلَّم لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُب عِلْم الْكَلَام أَنَّ لَا فَاعِل إِلَّا اللَّه تَعَالَى ، وَبَيَّنَّا فَسَاد الْقَوْل بِالطَّبَائِعِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُحْدِث لَا يَفْعَل فِي غَيْره شَيْئًا ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَطَل مَا قَالُوهُ"
ولم يعقب على هذا الكلام بشيء بل أقره وهذا جبر له قرون ( ولا فاعل إلا الله ) هو توحيد الجبرية كما يصفه ابن القيم
وقال أيضاً في (7/328) :" قَالَ الْمَازِرِيّ : وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْقَدْر الَّذِي يَقَع بِهِ السِّحْر ، وَلَهُمْ فِيهِ اِضْطِرَاب ، فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَزِيد تَأْثِيره عَلَى قَدْر التَّفْرِقَة بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِمَا يَكُون عِنْده ، وَتَهْوِيلًا بِهِ فِي حَقّنَا ، فَلَوْ وَقَعَ بِهِ أَعْظَم مِنْهُ لَذَكَرَهُ ، لِأَنَّ الْمَثَل لَا يُضْرَب عِنْد الْمُبَالَغَة إِلَّا بِأَعْلَى أَحْوَال الْمَذْكُور قَالَ : وَمَذْهَب الْأَشْعَرِيَّة أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَقَع بِهِ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عَقْلًا لِأَنَّهُ لَا فَاعِل إِلَّا اللَّه تَعَالَى ، وَمَا يَقَع مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَادَة أَجْرَاهَا اللَّه تَعَالَى ، وَلَا تَفْتَرِق الْأَفْعَال فِي ذَلِكَ"
قال ابن القيم في النونيةفالجبر يشهدك الذنوب جميعها ***مثل ارتعاش الشيخ ذي الرجفانلا فاعل أبدا ولا هو قادر*** كالميت أدرج داخل الأكفانوالأمر والنهي اللذان توجها*** فهما كأمر العبد بالطيران

وقال أيضاً في (1/131) :" وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الْأُمَّة وَهُوَ أَيْضًا مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين . وَلَمْ يُخَالِف فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْض الرَّافِضَة ، وَلَا يُعْتَدّ بِخِلَافِهِمْ كَمَا قَالَ الْإِمَام أَبُو الْمَعَالِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ : لَا يُكْتَرَث بِخِلَافِهِمْ فِي هَذَا ، فَقَدْ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَنْبُغ هَؤُلَاءِ . وَوُجُوبه بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ"
وقال هذا في التوبة أيضاً وغيرها وهذه طريقة الأشعرية الجبرية في نفي التحسين والتقبيح العقليين
وقال أيضاً في (9/230) :" قَدْ سَبَقَ مَرَّات بَيَان أَنَّ الظُّلْم مُسْتَحِيل فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى ، فَمَنْ عَذَّبَهُ بِذَنْبٍ أَوْ بِلَا ذَنْب فَذَلِكَ عَدْل مِنْهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى"
وهذه عقيدة الأشعرية بأن الظلم ممتنع في حق الله بمعنى أنه لو فعل الظلم لصار عدلاً لأنه هو فعله فلا فرق بين التوحيد والشرك سوى أن الله أمر بهذا ونهى عن هذا ، ولا فرق بين الزنا والنكاح إلا هذا
وقد قال الله تعالى : ( إن الله لا يأمر بالفحشاء )
فجعل علامة كذب المشركين على الله أنهم ينسبون له الفحشاء وهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء وعلى مذهب القوم يجوز عليه ذلك
والخبر الوارد في أن الله عز وجل لو عذب الجن والإنس لعذبهم غير ظالم ليس من هذا الباب بل بابه أنه سبحانه لو وضعت نعمه مقابل أعمال عباده فلا ينجو إلا من كافأ عمله نعم الله لما نجا أحد وهذا معنى الخبر ( لن يدخل الجنة أحد بعمله )
وهذا المذهب الأشعري لما تكلم به السفاريني أنكر عليه أئمة الدعوة
وقد بسط ابن القيم في مفتاح دار السعادة الكلام على هذه المسألة فليراجع فإنه نفيس
وقال النووي في شرح مسلم (1/243) :" فَلِهَذَا رَأَوْهُ مِنْ قِبَل مَا لَا يُطَاق . وَعِنْدَنَا أَنَّ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عَقْلًا ، وَاخْتُلِفَ هَلْ وَقَعَ التَّعَبُّد بِهِ فِي الشَّرِيعَة أَمْ لَا ؟ وَاَللَّه أَعْلَم"
وهذا مذهب الأشعرية الجبرية أيضاً
وقال النووي في شرح مسلم (8/116) :" وَهَذَا عَلَى أَصْل أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْعَبْد لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّه تَعَالَى ، وَيَسَّرَهُ لَهُ ، وَخَلَقَهُ لَهُ"
وهذا قد يظن الجاهل أنه كلام سليم ولكنه كلام جبرية فإن عندهم أن العاصي غير قادر على الطاعة والكافر غير قادر على الإسلام لأنه لم يقدر له ، وقد صرح الأشعري بهذا الجبر في الإبانة
وافتتان الناس بكلام هؤلاء الجبرية في القدر أكثر من افتتانهم بتجهمهم في مسائل الصفات لأن مسائل الصفات أوضح الواضحات ، وأما هذه فيكثرون فيها التلبيس
ومن ادعى في هذه المذاهب أنها مذاهب أهل السنة فقد وقع في الجبر من حيث لا يشعر ، وقد قدمت لك ذكر كلام النووي في الأصول والضوابط وهو جبر صريح.

الخطأ الرابع : موافقة ابن حجر في قوله ( لا جبر ولا قدر )

وهذه وقعت لمحمد الأمين الشنقيطي وحده

قال محمد الأمين الشنقيطي في العذب النمير في مجالس التفسير (2/525) :" فالحاصل أنه لا يقع شيء كائناً ما كان إلا بمشيئة الله وأنه لا جبر ولا قدر "


هذه العبارة قالها ابن حجر فاعترض عليها الشيخ ابن باز


جاء في كتاب التنبيه على المخالفات العقدية ص67 :" قال الحافظ 13/500: "والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر"اهـ.

ت: قال سماحة شيخنا: والمذهب الحق أن لا جبر ولا نفي للقدر. اهـ"


والصواب أن نفي الجبر أيضاً مخالف لعقيدة أهل السنة بل إن الجبر لفظ مجمل يحتمل حقاً وباطلاً ولهذا نقل الإمام ابن تيمية عن أئمة السلف لم يكونوا يطلقون إثباته ولا نفيه ك( اللفظ ) في القرآن


قال شيخ الإسلام كما في مجموعة الرسائل والمسائل (5/152) :" كذلك لفظ الجبر فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه. كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضاء والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبراً بهذا الاعتقاد، ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات كقول محمد بن كعب القرظي: الجبار الذي جبر العباد على ما أراد كما في الدعاء المأثور عن علي رضي الله عنه " جبار القلوب على فطراتها: شقيها وسعيدها " والجبر ثابت بهذا لتفسير.

فلما كان لفظ الجبر مجملاً نهى الأئمة عن إطلاق إثباته أو نفيه"


وقال أيضاً كما في مجموع الفتاوى (3/323) :" وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي لأن الزبيدي نفى الجبر والاوزاعي منع إطلاقه إذ هذا اللفظ يحتمل معنى صحيحا فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل كما ذكر الخلال ما ذكره عبدالله بن أحمد في كتاب السنة فقال ثنا  محمد بن بكار ثنا أبو معشر حدثنا يعلى عن محمد بن كعب أنه قال إنما سمى الجبار لأنه يجبر الخلق على ما أراد فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور وكان أحسن من نفيه وإن كان ظاهرا في المحتمل المعنى الفاسد خشية أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعا

 وهكذا يقال في نفي الطاقة على المأمور فإن إثبات الجبر في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة قال الخلال أنبأنا الميموني قال سمعت أبا عبدالله يعني أحمد بن حنبل يناظر خالد بن خداش يعني في القدر فذكروا رجلا فقال أبو عبدالله إنما أكره من هذا أن يقول أجبر الله وقال أنبأنا المروذي قلت لأبي عبدالله رجل يقول إن الله أجبر العباد فقال هكذا لا تقل وأنكر هذا وقال يضل من يشاء ويهدي من يشاء"


فالمنهج السليم استخدام الألفاظ الشرعية وأما الألفاظ المجملة فلا يطلق إثباتها ولا نفيها


والشيء بالشيء يذكر


قال محمد الأمين في مذكرته في أصول الفقه ص51 :" وأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة منعوا التكليف بما لا يطاق عقلاً "


قوله : ( بعض أهل السنة ) يوهم أن أكثرهم يقولون بجواز تكليف العبد ما لا يطيق عقلاً وهذا مذهب الأشاعرة ولم يقل به أحد من أهل السنة


قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (1/298) :". وعندأبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ، ثم تردد أصحابه [ أنه ] : هل وردبه الشرع أم لا ؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان ، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن ، [ وانه سيصلى ناراً ذات لهب ، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن .وهذا تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال . والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم بأنه مأمور] بأن يؤمن [ بأنه لا يؤمن ] ، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة ، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان ، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة . ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : نبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. مع عدم علمهم بذلك ، ولا للمصورين يوم القيامة :احيوا ما خلقتم، وأمثال ذلك - لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، بل هو خطاب تعجيز. وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، لأن تحميل ما لايطاق ليس تكليفاً ، بل يجوز أن يحمله جبلاً لا يطيقه فيموت . وقال ابن الأنباري: أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه ، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه .ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب ، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها .

ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة ، دون الممتنع لذاته ، لأن ذلك لا يتصور وجوده ، فلا يعقل الأمر به ،بخلاف هذا .

ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف مالا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه . وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده - بدعة في الشرع واللغة . فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه ! وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة - التي هي الاستطاعة وهي القدرة - لا تكون إلا مع الفعل ! فقالوا : كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة "


قلت : كلام ابن أبي العز هذا هو تلخيص جيد لكلام شيخ الإسلام في الفتاوى (8/293_ 298) ومما جاء في كلامه :" قد كتبنا فى غير هذا المو ضع ما قاله الأو زاعي و سفيان الثو ري و عبد الرحمن بن مهدي و أحمد بن حنبل و غيرهم من الأئمة من كراهة إطلاق الجبر و من منع إطلاق نفيه أيضا

و كذلك أيضا القول بتكليف ما لا يطاق لم تطلق الأئمة فيه و احدا من الطرفين قال أبو بكر عبد العزيز صاحب الخلال فى كتاب القدر الذي فى مقدمة كتاب المقنع له لم يبلغنا عن أبي عبد الله فى هذه المسألة قو ل فنتبعه و الناس فيه قد إختلفوا فقال قائلون بتكليف مالا يطاق و نفاه " وملخص كلام أن تكليف ما لا يطاق على قسمين


الأول : ما لا يقدر عليه لاستحالته إما لامتناعه في نفسه كالجمع بين الضدين أو امتناعه عادةً كالمشي على الوجه فهذا المستحيل لا يجوز إطلاق جواز وقوع التكليف به عقلاً


الثاني : ما لا يقدر عليه لا لامتناعه ولا لعجز المكلف عنه ولكن لاشتغال المحل بضده مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا بدعة في الشرع واللغة كما قال ابن أبي العز متابعاً لشيخ الإسلام _ فذكره هنا من باب التنزل _


فنسبة هذا القول لأهل السنة باطلة

الخطأ الخامس : القول بأن الله هو المؤثر على الحقيقة

وهذا وقع فيه محمد الأمين الشنقيطي وحده وتأثره بالأشعرية في مسائل القدر ظاهر

فقال محمد الأمين الشنقيطي في كتابه العذب النميز (3/1286) :" ونعطيكم نماذج وأمثلة على أن الله هو المؤثر حقيقة "


ثم قال بعد كلام له :" المؤثر في الحقيقة هو خالق السماوات والأرض "


هذه العبارات هي عبارات الأشعرية الجبرية الذين ينفون تأثير الأسباب ويعتقدون أن تأثيرها مجازي وأن الله هو الفاعل حقيقة وأن فعل المخلوقات صوري وهذا الجبر بعينه فعبارة محمد الأمين توهم مذهبهم إن لم تكن مذهبهم صراحة


قال ابن القيم في شفاء العليل :" وكذلك لفظ المؤثر لم يرد إطلاقه في أسماء الرب وقد وقع إطلاق الأثر والتأثير! على فعل العبد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال ابن عباس: "ما أثروا من خير أو شر فسمى ذلك آثارا لحصوله بتأثيرهم" ومن العجب أن المتكلمين يمتنعون من إطلاق التأثير والمؤثر على من أطلق عليه في القرآن والسنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة: "دياركم تكتب آثاركم" أي الزموا دياركم ويخصونه بمن لم يقع إطلاقه عليه في كتاب ولا سنة وإن استعمل في حقه الإيثار والاستئثار كما قال أخو يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} وفي الأثر: "إذا استأثر الله بشيء فاله عنه" وقال الناظم:

استأثر الله بالثناء وبالحمد وولى الملامة الرجلا

ولما كان التأثير تفعيلا من أثرت في كذا تأثير فأنا مؤثر لم يمتنع إطلاقه على العبد"


سبحان الله كلام ابن القيم هذا كأنه قرأ كلام الشنقيطي وصار يرد عليه الذي فيه المنع من إطلاق المؤثر على المخلوقات وإطلاقه التأثير على الخالق وأنه هو المؤثر حقيقة ولا شك أن الله يخلق أفعال العباد ولكن هذا لا ينفي إرادتهم ولا ينفي كون الأسباب مؤثرة


قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/13) :" الوجه الثاني أن يقال نقله عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل

بل جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء .

ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون أن لها تأثيرا لفظا ومعنى .

حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع "


وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/342) :" بل نؤمن بالمقدور ونصدق الشرع فنؤمن بقضاء الله وقدره وشرعه وأمره ولا نعارض بينهما فنبطل الأسباب المقدورة أو نقدح في الشريعة المنزلة كما فعله الطائفتان المنحرفتان فإحداهما بطلت ما قدره الله من الأسباب بما فهمته من الشرع وهذا من تقصيرها في الشرع والقدر والأخرى توصلت إلى القدح في الشرع وإبطاله بما تشاهده من تأثير الأسباب وإرتباطها بمسبباتها لما ظنت أن الشرع نفاها وكذبت بالشارع فالطائفتان جانيتان على الشرع لكن الموفقون المهديون آمنوا بقدر الله وشرعه ولم يعارضوا أحدهما بالآخر بل صدر منهما الآخر عندهم وقرره فكان الأمر تفصيلا للقدر وكاشفا عنه وحاكما عليه والا أصل للأمر ومنفذ له وشاهد له ومصدق له فلولا القدر لما وجد الأمر ولا تحقق "


وقال ابن القيم في شفاء العليل (1/158) :" وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها ولا رطوبة في الماء يروى بها وليس في الأجسام أصلا لا قوى ولا طبائع ولا في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة وان لم تكن هذه الأمور جحدا للضروريات فليس في العالم من جحد الضروريات وان كانت جحدا للضروريات بطل قولكم ان جمعا من العقلاء لايتفقون على ذلك والاقوال التي يجحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ماذكرناه فهم أجحد الناس لما يعلم بضرورة العقل"


وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/521) :" وهذه الأصول باطلة فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد و غيرها و دلت على ذلك الدلائل الكثيرة السمعية و العقلية و هذا متفق عليه بين سلف الأمة و أئمتها و هم مع ذلك يقولون أن العباد لهم قدرة و مشيئة و أنهم فاعلون لأفعالهم و يثبتون ما خلقه الله من الأسباب و ما خلق الله من الحكم "

وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (8/392) :" فَإِنَّ اعْتِقَادَ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ دُخُولٌ فِي الضَّلَالِ ، وَاعْتِقَادَ نَفْيِ أَثَرِهَا وَإِلْغَاؤُهُ رُكُوبُ الْمُحَالِ"


وأحسن من كلام الشنقيطي في العذب النمير كلامه في أضواء البيان حيث قال :" أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعاً لا ينافي التوكل على الله بحال؛ لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه . فهو متوكل على الله ، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر . ولو شاء الله تخلف تاثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف"


فهذا فيه إثبات تأثير وأن ذلك لا يكون إلا بمشيئة الله عز وجل وهذا هو الصواب وأما تسمية الله عز وجل ب( المؤثر ) فليست من تسميات السلف ولا يجوز وقوله ( المؤثر حقيقة ) بما يتضمن أن تأثير غيره مجازي وهذا عين الجبر وأيضاً لا يجوز


وكونه الخالق للتأثيرات وأن ما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن لا يجوز قولك ( هو المؤثر حقيقة ) فإنه هو سبحانه الخالق لأفعال العباد وما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن وقولهم ( هو الفاعل حقيقة ) من عبارات الجبرية المعروفة لينفوا اختيار العبد وإرادته ولهذا يقول ابن القيم أن توحيدهم ( لا فاعل إلا الله )


ومن أحسن ما قاله ابن تيمية في المسألة ما جاء في مجموع الفتاوى (8/485) :" ومذهب الفقهاء ان السبب له تأثير فى مسببه ليس علامة محضة وانما يقول انه علامة محضة طائفة من اهل الكلام الذين بنوا على قول جهم وقد يطلق ما يطلقونه طائفة من الفقهاء وجمهور من يطلق ذلك من الفقهاء يتناقضون تارة يقولون بقول السلف والائمة وتارة يقولون بقول هؤلاء"


والقول بأن الله هو المؤثر حقيقة متضمن للقول بأن تأثير الأسباب محض علامة يعني مجاز لا حقيقة له

الخطأ السادس : إقرار كلام الأشعرية في تكليف ما لا يطاق

وهذا وقع فيه إبراهيم الرحيلي في كتابه تجريد الاتباع ص102 حيث نقل كلام الشاطبي وأقره في هذه المسألة وهو عقد الأشعرية

قال الشاطبي في الموافقات (2/107) :" ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا " قلت : القول بجواز تكليف ما لا يطاق عقلاً هو قول الأشاعرة  نسبه لهم الزبيدي إتحاف السادة المتقين (2/182) وقبله ابن أبي العز في شرح الطحاوية وسيأتي ذكر كلامه

وكذلك القرطبي المفسر حيث قال في تفسيره (3/430) :" قال أبو الحسن الاشعري وجماعة من المتكلمين: تكليف ما لا يطاق جائز عقلا، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع "

ونصوصهم في ذلك كثيرة ، وقد بنى الأشاعرة قولهم في هذه المسألة على أصلهم في منع التعليل في أفعال الله عز وجل ومنع التحسين والتقبيح العقليين ومما تفرع على هذا الأصل قولهم بجواز تعذيب المطيعين ( عقلاً ) وإثابة الكفار (عقلاً ) ، وقد خالفهم في هذا كله أصحابهم الماتردية و قبلهم المعتزلة فهذه من المسائل التي شذ بها الأشاعرة عن جمهور ( العقلاء ) ، ويكفي في رد هذا القول أنه قول مبتدع لم يقل به أحدٌ من السلف بل هو من شماطيط المتكلمين المبنية على الأصول الفاسدة قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (1/298) :". وعندأبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ، ثم تردد أصحابه [ أنه ] : هل وردبه الشرع أم لا ؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان ، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن ، [ وانه سيصلى ناراً ذات لهب ، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن .وهذا تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال . والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم بأنه مأمور] بأن يؤمن [ بأنه لا يؤمن ] ، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة ، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان ، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة . ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : نبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. مع عدم علمهم بذلك ، ولا للمصورين يوم القيامة :احيوا ما خلقتم، وأمثال ذلك - لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، بل هو خطاب تعجيز. وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، لأن تحميل ما لايطاق ليس تكليفاً ، بل يجوز أن يحمله جبلاً لا يطيقه فيموت . وقال ابن الأنباري: أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه ، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه .ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب ، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها . ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة ، دون الممتنع لذاته ، لأن ذلك لا يتصور وجوده ، فلا يعقل الأمر به ،بخلاف هذا . ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف مالا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه . وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده - بدعة في الشرع واللغة . فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه ! وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة - التي هي الاستطاعة وهي القدرة - لا تكون إلا مع الفعل ! فقالوا : كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة " قلت : كلام ابن أبي العز هذا هو تلخيص جيد لكلام شيخ الإسلام في الفتاوى (8/293_ 298) ومما جاء في كلامه :" قد كتبنا فى غير هذا المو ضع ما قاله الأو زاعي و سفيان الثو ري و عبد الرحمن بن مهدي و أحمد بن حنبل و غيرهم من الأئمة من كراهة إطلاق الجبر و من منع إطلاق نفيه أيضا و كذلك أيضا القول بتكليف ما لا يطاق لم تطلق الأئمة فيه و احدا من الطرفين قال أبو بكر عبد العزيز صاحب الخلال فى كتاب القدر الذي فى مقدمة كتاب المقنع له لم يبلغنا عن أبي عبد الله فى هذه المسألة قول فنتبعه و الناس فيه قد إختلفوا فقال قائلون بتكليف مالا يطاق و نفاه " وملخص كلام أن تكليف ما لا يطاق على قسمين الأول : ما لا يقدر عليه لاستحالته إما لامتناعه في نفسه كالجمع بين الضدين أو امتناعه عادةً كالمشي على الوجه فهذا المستحيل لا يجوز إطلاق جواز وقوع التكليف به عقلاً الثاني : ما لا يقدر عليه لا لامتناعه ولا لعجز المكلف عنه ولكن لاشتغال المحل بضده مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا بدعة في الشرع واللغة كما قال ابن أبي العز متابعاً لشيخ الإسلام _ فذكره هنا من باب التنزل _

الخطأ السابع : إقرار كلام الأشعري في الجبر

وهذا وقع فيه غالب العواجي في كتابه الفرق المنتسبة للإسلام وكل من ينقل كلام الأشعري في المقالات دون تعقيب


قال غالب عواجي في كتابه الآنف الذكر وهو ينقل عقيدة أهل السنة عن الأشعري :" وقالوا _ يعني أهل السنة _ : إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله"


وهذا غلط على أهل السنة بل هو قول الجبرية


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/371) :" قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي " اسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ " هَلْ هِيَ مَعَ فِعْلِهِ أَمْ قَبْلَهُ ؟ وَجَعَلُوهَا قَوْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَقَوْمٌ جَعَلُوا الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَقَوْمٌ جَعَلُوا الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الْنُّفَاةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَجَعَلَ الْأَوَّلُونَ الْقُدْرَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا لِفِعْلِ وَاحِدٍ إذْ هِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَجَعَلَ الْآخَرُونَ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا صَالِحَةً لِلضِّدَّيْنِ وَلَا تُقَارِنُ الْفِعْلَ أَبَدًا وَالْقَدَرِيَّةُ أَكْثَرُ انْحِرَافًا ؛ فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ قُدْرَةً بِحَالِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْأَثَرِ لَا يُقَارِنُهُ بِحَالِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْأَمْرُ "


وقال شيخ الإسلام وهو ينقض قول الأشاعرة بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل ( يريدون بذلك أن العبد لا قدرة عنده وهو الجبر الصريح )

 كما في مجموع الفتاوى (8/480) :" بَلْ نُصُوصُهُمْ مُسْتَفِيضَةٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ إثْبَاتِ اسْتِطَاعَةٍ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وقَوْله تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } { وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مُسْتَطِيعٍ وَأَنَّ الْمُسْتَطِيعَ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا مَعَ مَعْصِيَتِهِ وَعَدَمِ فِعْلِهِ كَمَنْ اسْتَطَاعَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ الَّذِي اسْتَطَاعَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ لَا عَلَى تَرْكِ مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ . وَصَرَّحُوا بِمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْفِعْلِ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حِينَ الْفِعْلِ مُسْتَطِيعًا أَيْضًا عِنْدَهُمْ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَ الْفِعْلِ وَهُوَ حِينَ الْفِعْلِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا تَارِكًا فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَكُونُ إلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ ، كَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا بِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ كَقَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ بَلْ يَكُونُ مُسْتَطِيعًا قَبْلَ الْفِعْلِ وَحِينَ الْفِعْلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : الْعُلَمَاءُ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُهَا قَسْرًا . يُقَالُ لَهُ : لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَكَابِرِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنَّمَا يُصَرِّحُ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ وَلَيْسَ هُوَ لِأَهْلِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ بَلْ وَلَا جُمْهُورِهِمْ وَلَا أَئِمَّتِهِمْ بَلْ هُمْ عِنْدَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ "


فالقول الذي نسبه الأشعري لأهل السنة هو في الحقيقة عند السلف من البدع المنكرة وهو قول الجبرية

والجويني شنع على إمامه الأشعري في هذه المسألة وتهكم به وقال أن مذهبه لا يرتضيه عاقل


قال الزركشي في البحر المحيط (2/55) :" [ التَّنْبِيهُ ] الْأَوَّلُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَى الْقَوْلَ بِأَنَّ الْفِعْلَ حَالَ حُدُوثِهِ مَأْمُورٌ بِهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَذْهَبَ الشَّيْخِ فِي الْقُدْرَةِ _ يعني أبا الحسن الأشعري _ ، ثُمَّ قَالَ : وَمَذْهَبُهُ مُخْتَبَطٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .

ثُمَّ قَالَ : لَوْ سَلَّمَ مُسْلِمٌ لِأَبِي الْحَسَنِ مَا قَالَهُ فِي الْقُدْرَةِ جَدَلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ كَوْنُ الْحَادِثِ مَأْمُورًا ، هَذَا حَاصِلُهُ .

وَمَذْهَبُهُ فِي الْقُدْرَةِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ ، ثُمَّ أَلْزَمَ الشَّيْخُ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ .

ثُمَّ قَالَ : فَقَالَ فِي الْحَادِثِ : هَذَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْمُخَاطَبُ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَّجِهَ الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ طَلَبًا وَاقْتِضَاءً مَعَ حُصُولِهِ ، فَلَا يَرْضَى هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي لَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ "


وهذا يدل على أن الأشعري بقي جبرياً حتى بعد تحسنه في باب الصفات


وقال غالب عواجي في كتابه آنف الذكر وهو يعدد كتب عقيدة أهل السنة :" - الأشعري بعد رجوعه إلى مذهب السلف في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" والمقالات"


والأشعري لم يرجع إلى اعتقاد السلف بل بقي جبرياً في الإبانة ومقالات الإسلاميين كما بينته آنفاً

وكلام الأشعري هذا الذي نقدناه هنا قاله البغوي في تفسيره وهذا عقده

الخطأ الثامن : موافقة كلام المعتزلة في العلة الغائية

وهذا وقع فيه محمد هشام الطاهري ( أبو صلاح الأفغاني ) مع أنه صاحب فهم في مسائل العقيدة على ما حكي لي

وهذا ردي عليه وما كنت سميته آنذاك

فقد استمعت لبعض دكاترة العقيدة ممن تصدى لشرح العقيدة الأصبهانية تقريراً يقول بأن الله عز وجل خلق الخلق لا لعلة تعود عليه بل لعلة غائية ! فإنه سبحانه لم يكن ناقصاً واستكمل شيئاً بخلقه للخلق


وهذا كلام المعتزلة والله المستعان فالناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال


الأول : نفي الحكمة والتعليل وهو قول الجهمية الأشعرية


الثاني : القول بحكمة تعود على المخلوقات لا الخالق وهو قول المعتزلة على أصلهم في نفي قيام الصفات بالرب


الثالث : وهو قول أهل السنة والجماعة ، فهم يثبتون الحكمة لله سبحانه وتعالى ، وهذه الحكمة تتضمن أمرين :

الأمر الأول: حكمة تعود إليه سبحانه يحبها و يرضاها .

الأمر الثاني : حكمة تعود إلى عباده هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها ( مستفاد من بعض الأخوة )


قال ابن القيم في شفاء العليل ص186 :" فانظر كيف اعترف بأنه لا خلاص عن هذه الأسئلة إلا بتكذيب جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وإبطال جميع الكتب المنزلة من عند الله ومخالفة صريح العقل في أن خالق العالم سبحانه مريد مختار ما شاء كان بمشيئته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته وأنه ليس في الكون شيء حاصل بدون مشيئته البتة فأقر على نفسه أنه لا خلاص له في تلك الأسئلة إلا بالتزام طريقة أعداء الرسل والملل القائلين بأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ولا أوجد العالم بعد عدمه ولا يفنيه بعد إيجاده وصدور ما صدر عنه بغير اختياره ومشيئته فلم يكن مختارا مريدا للعالم وليس عنده إلا هذا القول أو قول

الجبرية منكري الأسباب والحكم والتعليل أو قول المعتزلة الذين أثبتوا حكمة لا ترجع إلى الفاعل وأوجبوا رعاية مصالح شبهوا فيها الخالق بالمخلوق وجعلوا له بعقولهم شريعة أوجبوا عليه فيها وحرموا وحجروا عليه فالأقوال الثلاثة تتردد في صدره وتتقاذف به أمواجها تقاذف السفينة إذا لعبت بها الرياح الشديدة والعاقل لا يرضى لنفسه بواحد من هذه الأقوال لمنافاتها العقل والنقل والفطرة والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة: "أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى" ونحن هكذا نقول بحمد الله ومنه القول الوسط الصواب لنا وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسول وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون وإليه منقادون وله ذاهبون"


فانظر كيف صرح بأن قول الدكتور المذكور هو قول المعتزلة


وأما قول شبهة نقص الرب


فقال ابن القيم في الجواب عليها :" أنه سبحانه إذا كان قادراً على تحصيل ذلك بدون الوسائط وهو قادر على تحصيله بها كان فعل النوعين أكمل وأبلغ في القدرة ، وأعظم في ملكه وربوبيته من كونه لا يفعل إلا بأحد النوعين ، والرب تعالى تتنوع أفعاله لكمال قدرته وحكمته وربوبيته ، فهو سبحانه قادر على تحصيل تلك الحكمة بواسطة إحداث مخلوق منفصل وبدون إحداثه ، بل ربما  يقوم به من أفعاله اللازمة وكلماته وثنائه على نفسه وحمده لنفسه ، فمحبوبه يحصل بهذا وبهذا ، وذلك أكمل ممن لا يحصل محبوبه إلا بأحد النوعين"


قد نفى الدكتور كل ما سوى العلة الغائية والله المستعان


قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (2/454) :" وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع في غير هذا الكتاب وبينا تعلق العبادة بالالهية فان الاله هو المعبود وتعلق الاستعانة بربوبيته فان رب العباد الذي يربهم وذلك يتضمن انه الخالق لكل ما فيهم ومنهم والالهية هي العلة الغائية والربوبية هي العلة الفاعلية والغائية هي المقصودة وهي علة فاعلية للعلة الفاعلية ولهذا قدم قوله اياك نعبد على قوله اياك نستعين وتوحيد الالهية يتضمن توحيد الربوبية فانه من لم يعبد الا الله يندرج في ذلك انه لم يقر بربوبية غيره بخلاف توحيد الربوبية فانه قد أقر به عامة المشركين في توحيد الالهية"


فأثبت الغائية ونظيرتها الفاعلية


وأخيراً أقول لهذا الدكتور قبل أن تتلفظ بهذا الكلام عن رب العالمين هل سألت نفسك ( من تكلم من السلف بهذا الكلام ) ؟


وما الحاجة إلى مثل هذه التفاصيل ، ولست في محل رد على أهل البدع تبين ما نفوه وما أثبتوه


فأثبت الحكمة كما أثبتها السلف ودع عنك الفضول


وكان الواجب عليه هو وأمثاله من المتصدرين العناية بآثار السلف وطريقتهم بدلاً من الخوض في هذه الأمور واستخدام الألفاظ المستوحشة والتي لا تعرف عند السلف 

الخطأ التاسع : إقرار كلام الأشعرية الجبرية في نفي تأثير الأسباب

وهذه وقع فيها الرضواني

قال  محمود الرضواني في ص643 من كتابه منة الرحمن هذا الكلام لأبي الوليد الباجي


قال الباجي :" قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ عِبَادِهِ مُؤْمِنًا بِهِ وَهُوَ مَنْ أَضَافَ الْمَطَرَ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَأَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ سَبَبٍ وَلَا تَأْثِيرٍ لِكَوْكَبٍ وَلَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُكَذِّبُ قُدْرَتَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَجْحَدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ وَأَنَّ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ أَصْبَحَ كَافِرًا بِهِ وَهُوَ مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَأَضَافَ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ وَجَعَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا وَلِلْكَوْكَبِ فِعْلًا"


أقول : الباجي أشعري والأشاعرة جبرية ينفون تأثير الأسباب بل ينفون الأسباب كلها ، وفي كلامه هذا نفثة جبرية ما تنبه لها الدكتور الرضواني


وهي قوله ( دُونَ سَبَبٍ وَلَا تَأْثِيرٍ لِكَوْكَبٍ وَلَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى)


والإشكال في قوله ( ولا لغيره ) فهذا يجري على أصول القوم في نفي الأسباب وتأثيرها فعندهم مثلاً السكين لا تقطع القاطع هو الله والقول بأن السكين سبب للقطع شرك ! ، وإنما هو صورة فقط والفاعل حقيقة هو الله عز وجل


وقد نص ابن القيم في شفاء العليل على أن المتكلمين الأشاعرة يقولون أن المطر لا سبب له !


قال ابن القيم في شفاء العليل (1/206) :

" ولا تستهن بأمر هذه المسألة فإن شأنها أعظم وخطرها أجل وفروعها كثيرة ومن فروعها أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله تعالى من المطر والنبات والحيوان والحر والبرد والليل والنهار والإهلال والإبدار والكسوف والإستسرار وحوادث الجو وحوادث الأرض انقسموا قسمين وصاروا طائفتين

فطائفة جعلت الموجب لذلك مجرد ما رأوه علة وسببا من الحركات الفلكية والقوى الطبيعية والنفوس والعقول فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد

وقابلهم طائفة من المتكلمين فلم يسببوا لذلك سببا إلا مجرد المشيئة والقدرة وأن الفاعل المختار يرجح مثلا على مثل بلا مرجح ولا سبب ولا حكمة ولا غاية يفعل لأجلها ونفوا الأسباب والقوى والطبائع والقرائن والحكم والغايات

حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم أن الفلك والرحا ونحوهما مما يدور متفكك دائما عند الدوران والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان وأن الألوان والمقادير والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات والقادر المختار يعيدها كل وقت

وأن ملوحة ماء البحر كل لحظة تعدم وتذهب ويعيدها القادر المختار كل ذلك بلا سبب ولا حكمة ولا علة غائية ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص من قول الفلاسفة أعداء الرسل إلا بذلك ورأى أعداء الرسل أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة إلا بالتزام أصول هؤلاء ولم يهتد الطائفتان للحق الذي لا يجوز غيره وهو انه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما يفعله بأسباب وحكم وغايات محمودة وقد أودع العالم من القوى والطبائع والغرائز والأسباب والمسببات ما به قام الخلق والأمر وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة إلا من خلى الفقه ناحية وتكلم بأصول النفاة فعادى فقهه أصول دينه "


والمنفي في الحديث تسبيب الكوكب لا أن اجتماع الغيم وتبخر ماء البحر سبب خلقه الله لنزول المطر ، وحتى من قال أن المطر من تحت العرش لم ينف هذا الحس المشاهد


وقد سوى الباجي بين السبب المثبت والسبب المنفي


قال الله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)


فهذه الرياح جعلها الله سبباً في نزول المطر وخلق فيها تأثيراً


وأما الجبرية فينفون الأسباب أو يثبتونها ثم ينفون تأثيرها



ولو لم يكن القاتل سبباً في موت المقتول لكان في الاقتصاص منه أو تحميله الدية ظلماً



قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/13) :" الوجه الثاني أن يقال نقله عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل بل جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية

وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء

ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون أن لها تأثيرا لفظا ومعنى حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية

 لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع "



وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/342) :" بل نؤمن بالمقدور ونصدق الشرع فنؤمن بقضاء الله وقدره وشرعه وأمره ولا نعارض بينهما فنبطل الأسباب المقدورة أو نقدح في الشريعة المنزلة

 كما فعله الطائفتان المنحرفتان فإحداهما بطلت ما قدره الله من الأسباب بما فهمته من الشرع وهذا من تقصيرها في الشرع والقدر

والأخرى توصلت إلى القدح في الشرع وإبطاله بما تشاهده من تأثير الأسباب وإرتباطها بمسبباتها لما ظنت أن الشرع نفاها وكذبت بالشارع

فالطائفتان جانيتان على الشرع لكن الموفقون المهديون آمنوا بقدر الله وشرعه ولم يعارضوا أحدهما بالآخر

 بل صدر منهما الآخر عندهم وقرره فكان الأمر تفصيلا للقدر وكاشفا عنه وحاكما عليه والا أصل للأمر ومنفذ له وشاهد له ومصدق له فلولا القدر لما وجد الأمر ولا تحقق "



وقال ابن القيم في شفاء العليل (1/158) :" وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها ولا رطوبة في الماء يروى بها وليس في الأجسام أصلا لا قوى ولا طبائع ولا في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة وان لم تكن هذه الأمور جحدا للضروريات فليس في العالم من جحد الضروريات وان كانت جحدا للضروريات بطل قولكم ان جمعا من العقلاء لايتفقون على ذلك والاقوال التي يجحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ماذكرناه فهم أجحد الناس لما يعلم بضرورة العقل"



وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (8/521) :" وهذه الأصول باطلة فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد و غيرها و دلت على ذلك الدلائل الكثيرة السمعية و العقلية و هذا متفق عليه بين سلف الأمة و أئمتها و هم مع ذلك يقولون أن العباد لهم قدرة و مشيئة و أنهم فاعلون لأفعالهم و يثبتون ما خلقه الله من الأسباب و ما خلق الله من الحكم "


رحم الله ابن القيم وشيخه جليا المسائل وفضحا أهل البدع


فإن قال قائل : ما داعي التنبيه على هذا ؟


فيقال : هذا سؤال جافٍ ! ، فالدكتور الرضواني متخصص في العقيدة والناس يأخذون كلامه على محمل التسليم وكتابه هذا في أصله محاضرات يجوب بها البلاد ويذيعها على قناته فلا أشك أن كثيراً من الناس سمعوا كلام الباجي هذا وربما اعتقدوه


وهذا يبين لك أنه ينبغي للمرء أن يعرف عمن ينقل في العقيدة وعمن لا ينقل وذلك بمعرفة عقائد الناس


وهذا يندرج تحت بياني السابق في تأثر الكثيرين بمسائل الأشاعرة من حيث لا يشعرون وقد جاء هذا التأثير بسبب الثقة الزائدة بعلماء القوم ، واعتياض كثيرين بكتب هؤلاء عن كتب السلف نتيجة لقواعد التمييع والله المستعان

والآن مع أخطاء المعاصرين في مسائل الإيمان وهي كثيرة وبعضها قتل بحثاً وفي هذه الحلقة ننبه على بعضها فحسب

الخطأ العاشر : استنكار وقوع المحو والإثبات في اللوح المحفوظ

وهذا وقع من عبد الرحمن السحيم في تعليقه على بعض القصص المكذوبة

والواقع أن ذلك المعنى ليس بالمستنكر جداً فقد ذكر شيخ الإسلام قولين لأهل السنة في دخول المحو والإثبات في اللوح المحفوظ مع الاتفاق على أن علم الله لا يتغير


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (14/488) :" فلهذا قال العلماء ان المحو والاثبات فى صحف الملائكة وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له مالم يكن عالما به فلا محو فيه ولا إثبات

 واما اللوح المحفوظ فهل فيه محو وإثبات على قولين والله سبحانه وتعالى أعلم"


قال الطبري في تفسيره 20481- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، حدثنا أبو حكيمة قال: سمعت أبَا عُثْمان النَّهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، وهو يطوف بالكعبة: اللهم إن كنت كتبتَني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليَّ الذّنب والشِّقوة فامحُني وأثبتني في أهل السّعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب.


وقال أيضاً 20484- حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك، عن هلال بن حميد، عن عبد الله بن عُكَيْم، عن عبد الله، أنه كان يقول: اللهم إن كُنْت كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب.


أقول : وهذا ثابت عن عمر وابن مسعود

الباب السادس : أخطاء المعاصرين في باب الإيمان والكفر والموقف من المخالفين

الخطأ الأول : دعوى رجوع ابن مسعود عن مذهبه في الاستثناء

وهذا ذكره الألباني في الضعيفة وقوى الخبر الوارد في ذلك وذكره رجل من أهل دماج في محاضرة له

قال الطبراني في مسند الشاميين 1443 - حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي ثنا هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد ثنا محمد بن عبد الله الشعيثي عن حرام بن حكيم ويونس بن مسيرة بن حلبس عن أبي مسلم الخولاني :

" أنه قدم العراق فجلس إلى رفقة فيها ابن مسعود فتذاكروا الإيمان فقلت أنا مؤمن فقال بن مسعود أتشهد أنك في الجنة فقلت لا أدري مما يحدث الليل والنهار فقال بن مسعود لو شهدت أني مؤمن لشهدت أني في الجنة قال أبو مسلم فقلت يا بن مسعود ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم على ثلاثة أصناف مؤمن السرير مؤمن العلانية كافر السرير كافر العلانية مؤمن العلانية كافر السريرة قال نعم قلت فمن أيهم أنت قال أنا مؤمن السريرة مؤمن العلانية قال أبو مسلم قلت وقد أنزل الله عز و جل هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن فمن أي الصنفين أنت قال أنا مؤمن قلت صلى الله على معاذ قال وماله قلت كان يقول اتقوا زلة الحكيم وهذ منك زلة يا ابن مسعود فقال أستغفر الله .


أقول : هذا السند ظاهره السلامة غير أن هشام بن عمار وهو إن كان من الثقات الكبار إلا أنه اختلط بآخره وصار يلقن فيتلقن وليس أحمد بن المعلى شيخ الطبراني من مشاهير تلاميذه ، حتى إن المزي لم يذكره فيهم في تهذيب الكمال


قال المزي في تهذيب الكمال (30/ 254) :" وَقَال عبد الرحمن بن أَبي حاتم: سمعت أبي يقول : هشام ابن عمار لما كبر تغير فكل ما دفع إليه قرأه ، وكلما لقن تلقن ، وكان قديما أصح ، كان يقرأ من كتابه. وسئل أبي عنه ، فقال : صدوق"


وقال المزي أيضاً :" قال أبو داود : وأبو أيوب ، يعني سُلَيْمان ابن بنت شرحبيل - خير منه ، يعني من هشام ، حدث هشام بأرجح من أربع مئة حديث ليس لها أصل مسندة كلها ، كان فضلك يدور على أحاديث أبي مسهر وغيره ، يلقنها هشام بن عمار. قال هشام بن عمار : حدثني ، قد روي فلا أبالي من حمل الخطأ "


أقول : وعليه لا يحتمل منه الإنفراد بهذه القصة الغريبة ، التي فيها ما يخالف المنقول عن ابن مسعود في كتب العقيدة كما سيأتي بيانه ، وأبو إدريس الخولاني لا يعرف بالرواية عن ابن مسعود ، وإنما يروي عن حذيفة ، ولو التقاه لحمل عنه كما حمل عن حذيفة


وقد رويت القصة من وجهٍ آخر مع ذكر مناظرٍ آخر !


قال ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان72 - حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن شهر بن حوشب ، عن الحارث بن عميرة الزبيري ، قال : وقع الطاعون بالشام ، فقام معاذ بحمص فخطبهم فقال : إن هذا الطاعون رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وموت الصالحين قبلكم ، اللهم اقسم لآل معاذ نصيبهم الأوفى منه . فلما نزل عن المنبر أتاه آت فقال : إن عبد الرحمن بن معاذ قد أصيب ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم انطلق نحوه فلما رآه عبد الرحمن مقبلا قال : يا أبة الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، قال : يا بني ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، قال : فمات آل معاذ إنسان إنسان ، حتى كان معاذ آخرهم ، فأصيب ، فأتاه الحارث بن عميرة الزبيدي يعوده ، قال : وغشي على معاذ غشية ، فأفاق معاذ والحارث يبكي ، فقال معاذ : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي على العلم الذي يدفن معك ، فقال : إن كنت طالب العلم لا محالة فاطلبه من عبد الله بن مسعود ، ومن عويمر أبي الدرداء ، ومن سلمان الفارسي ، وإياك وزلة العالم ، فقلت : وكيف لي أصلحك الله أن أعرفها ؟ قال : للحق نور يعرف به . قال : فمات معاذ رحمة الله عليه ، وخرج الحارث يريد عبد الله بن مسعود بالكوفة ، فانتهى إلى بابه ، فإذا على الباب نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود يتحدثون ، فجرى بينهم الحديث حتى قالوا : يا شامي ، أمؤمن أنت ؟ فقال : نعم ، قال : فقالوا : من أهل الجنة ؟ قال : إن لي ذنوبا وما أدري ما يصنع الله فيها ، ولو أعلم أنها غفرت لي لأنبأتكم أني من أهل الجنة ، قال : فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم عبد الله ، فقالوا : ألا تعجب من أخينا هذا الشامي ؟ يزعم أنه مؤمن ، ولا يزعم أنه من أهل الجنة ، فقال عبد الله : لو قلت إحداهما لأتبعتها الأخرى ، فقال الحارث : إنا لله وإنا إليه راجعون ، صلى الله على معاذ ، قال : ويحك ، ومن معاذ ؟ قال : معاذ بن جبل ، قال : وما ذاك ؟ قال : قال : إياك وزلة العالم ، فأحلف بالله أنها منك لزلة يا ابن مسعود ، وما الإيمان إلا أنا نؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والجنة والنار ، والبعث ، والميزان ، ولنا ذنوب ما ندري ما يصنع الله فيها ، فلو أنا نعلم أنها غفرت لقلنا : إنا من أهل الجنة . قال : فقال عبد الله : صدقت ، والله إن كانت مني لزلة ، صدقت والله إن كانت مني لزلة .


أقول : وهذا سند آخر ويعل تلك الرواية فإن فيها أن المناظر هو الحارث بن عميرة واسمه يزيد بن عميرة وتسميته ب( الحارث ) من أوهام الرواة كما نبه عليه البخاري


وقد يتبادر إلى الذهن إعلال هذا السند بشهر بن حوشب ، غير أن الذي يبدو أنه ليس بمحفوظٍ إلى شهر ، فإن فيه أبا معاوية الضرير وقد اضطرب في متنه وإسناده


قال المزي في ترجمة أبي معاوية من تهذيب الكمال :" وَقَال أيضا _ يعني أحمد _ : سمعت أبي يقول : أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفظها حفظا جيدا"


وقال أيضاً :" وَقَال ابن خراش: صدوق ، وهو في الأعمش ثقة ، وفي غيره فيه اضطراب "


وقال ابن عمار الشهيد في علل أحاديث مسلم ص72 :" وسمعت أبا جعفر الحضرمي يقول : سمعت ابن نمير يقول : (( كان أبو معاوية يضطرب فيما كان عن غير الأعمش ))


وسمعت الحسين بن إدريس يقول : سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول : (( أبو معاوية في حديث الأعمش حجة وفي غيره لا))"


وقال أبو داود كما سؤالات الآجري (1/295) :" أبو معاوية إذا جاز حديث الاعمش كثر خطؤه "


والوجه الثاني هو ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف


قال ابن أبي شيبة في المصنف 30968- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ قَالَ : حدَّثَنِي الرَّسُولُ الَّذِي سَأَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : أَسْأَلُك بِاللهِ أَتَعْلَمُ ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ثَلاثَةِ أَصْنَافٍ مُؤْمِنِ السَّرِيرَةِ وَمُؤْمِنِ الْعَلانِيَةِ ، وَكَافِرِ السَّرِيرَةِ كَافِرِ الْعَلانِيَةِ ، وَمُؤْمِنِ الْعَلانِيَةِ كَافِرِ السَّرِيرَةِ ، قَالَ : فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : اللَّهُمَّ نَعَمْ ، قَالَ : فَأَنْشُدُك بِاللهِ : مِنْ أَيِّهِمْ كُنْت ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ مُؤْمِنُ السَّرِيرَةِ مُؤْمِنُ الْعَلانِيَةِ ، أَنَا مُؤْمِنٌ ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : فَلَقِيت عَبْدَ اللهِ بْنَ مَعْقِلٍ ، فَقُلْتُ : إنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ يَعِيبُونَ عَلَيَّ أَنْ أَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَعْقِلٍ : لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْت إِنْ لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنًا .


فهذا إسنادٌ آخر وفيه علة الإبهام ، وبدون ذكر مناظرة ، وأبو معاوية لا يحتمل منه تعدد الأسانيد في مثل هذا لما ذكر منه من الاضطراب في غير حديث الأعمش ، ثم إنه مرجيء بل زعم بعضهم أنه زعيم المرجئة في الكوفة .


وقال أبو نعيم الأصبهاني في مسند أبي حنيفة ص44 :" حدثنا أبو محمد بن حيان ثنا احمد بن رستة ثنا محمد ابن المغيرة حدثنا الحكم بن أيوب عن زفر عن أبي حنيفة عن جواب التيمي عن الحارث بنسويد أن رجلا قال لمعاذ أوصني حين حضره الموت فقال اتق زلة العالموعليك بابن أم عبد فأتى ابن مسعود وكنا مع أصحابه ذات يوم فقال أنت قال نعم قال من أهل الجنة قال أرجو ذلك فلما جاء ابن مسعود قالأخبره الحسين فقال هلا سألتموه أمن أهل الجنة هو أم لا قالوا قدفعلنا بينما هو لذلك أخبره الرجل فقالوا هو ذا الرجل يا أبا عبد الرحمن فلما جاء ابن مسعود قال أمؤمن قال نعم قال أمن أهل الجنةقال أرجو ذلك ثم بكى فقال له عبد الله ما يبكيك قال أبكي لأن معاذ أبكي لأن معاذ قال اتق زلة العالم وذكر القصة "


أقول : وهذا لونٌ ثالث في اضطراب القصة ، و محمد بن المغيرة إن كان هو الأصبهاني ، فهو مجهول ، والحكم بن أيوب لم أجد له ترجمة ، وأبو حنيفة حاله في الحديث معروفة


قال الترمذي في العلل الكبير ص152 سمعت محمود بن غيلان يقول سمعت المقري يقول سمعت أبا حنيفة يقول عامة ما أحدثكم خطأ .


وشيخه التيمي اختلفوا فيه وهو مرجيء كبير !


قال ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان 22 - حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني لقيت ركبا فقلت : من أنتم ؟ قالوا : « نحن المؤمنون قال : فقال : ألا قالوا نحن من أهل الجنة » .


وهذا إسنادٌ صحيح ، وهو المحفوظ عن ابن مسعود



وقد ضعف الإمام أحمد هذه الرواية المروية عن ابن مسعود في الرجوع عن الاستثناء


قال الخلال في السنة 1067 - وأخبرني حامد بن أحمد ، أنه سمع الحسن بن محمد بن الحارث ، أنه سأل أبا عبد الله : يصح قول الحارث بن عميرة أن ابن مسعود رجع عن الاستثناء ، ؟ فقال : « لا يصح ، أصحابه يعني على الاستثناء » ، ثم قال : سمعت حجاجا ، عن شريك ، عن الأعمش ومغيرة ، عن أبي وائل : أن حائكا بلغه قول عبد الله ، قال : زلة عالم ، يعني حيث قال له : إن قالوا : إنا مؤمنون ، فقال : « ألا سألتموهم أفي الجنة هم ؟ » وأنكر أحمد قولي : رجع عن الاستثناء إنكارا شديدا ، وقال : « كذلك أصحابه ، يقولون بالاستثناء »


أقول : وتسمية الحارث بن عميرة ، يدل على أنهم لم يكونوا يعرفون رواية الخولاني لأنها من أوهام هشام بن عمار ، وأصحاب ابن مسعود هم شيوخ أهل الكوفة ، وما أحسن ما نكت به الدميري على أبي حنيفة في هذا الباب


قال صاحب مغني المحتاج (16/ 318) :" فَائِدَةٌ : لَا بِدَعَ وَلَا إشْكَالَ فِي الْعِبَارَةِ الْمَعْزُوَّةِ إلَى إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عُمَرَ ، وَصَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْكَارُهَا .

قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّهَا صَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ شَيْخُ شَيْخِ شَيْخِ شَيْخِهِ "


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة ص149 :" وأوجبه _ يعني الاستثناء _ كثير من أهل السنة ومن وجوهه وجهان حسنان

أحدهما :أن الإيمان الذي أوجبه الله على العبد من الامور الباطنة أو الظاهرة لا يتيقن أنه أتى بها على الوجه الذي أمر به كاملا بل قد يكون أخل ببعضه فيستثنى لذلك

والوجه الثاني ان المؤمن المطلق من علم الله أنه يوافى بالإيمان فأما الإيمان الذي تتعقبه الردة فهو باطل كالصوم والصلاة الذي يبطل قبل فراغه فلا يعلم العبد أنه مؤمن حتى يقضى جميع إيمانه وذلك إنما يكون بالموت

وهذا معنى ما يروى عن ابن مسعود أنه قيل له إن فلانا يقول إنه مؤمن قال فقولوا له أهو في الجنة فقال الله أعلم قال فهلا وكلت الاولى كما وكلت الثانية

وهذا الوجه تختاره طائفة من متكلمي أهل الحديث المائلين إلى الإرجاء كالأشعري وغيره ممن يقول بالاستثناء ولا يدخل الأعمال في مسمى الايمان فيجعل الاسثثناء يعود إلا إلى النوايا فقط"


وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 417) :" وأنكر أحمد بن حنبل حديث ابن عميرة أن عبد الله رجع عن الاستثناء فإن ابن مسعود لما قيل له إن قوما يقولون إنا مؤمنون فقال أفلا سألتوهم أفى الجنة هم وفى رواية أفلا قالوا نحن أهل الجنة وفى رواية قيل له إن هذا يزعم أنه مؤمن قال فاسألوه أفي الجنة هو أو في النار فسألوه فقال الله أعلم فقال له عبدالله فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار يروي عن عمر بن الخطاب من وجوه مرسلا من حديث قتادة ونعيم ابن أبي هند وغيرهما

والسؤال الذي تورده المرجئة على ابن مسعود ويقولون أن يزيد بن عميرة أورده عليه حتى رجع جعل هذا أن الإنسان يعلم حاله الآن وما يدري ماذا يموت عليه ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان والكافر من سبق في علم الله أنه كافر وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك وعلى هذا يجعلون الاستثناء وهذا أحد قولي الناس من أصحاب احمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه

ولكن أحمد وغيره من السلف لم يكن هذا مقصودهم وإنما مقصودهم أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات فقوله أنا مؤمن كقوله أنا ولي الله وأنا مؤمن تقي وأنا من الأبرارونحو ذلك وابن مسعود رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمنا وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموتفإن ابن مسعود أجل قدرا من هذا وإنما أراد سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال كأنه قال سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال فلما قال الله ورسوله أعلم قال أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية يقول هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك ولهذا صار الذين لا يرون الاستثناء لأجل الحال الحاضر بل للموافاة لا يقطعون بأن الله يقبل توبة تائب كما لا يقطعون بأن الله تعالى يعاقب مذنبا فإنهم لو قطعوا بقبول توبته لزمهم أن يقطعوا له الجنة وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار إلا من قطع له النص "


أقول : فكلام شيخ الإسلام يدل على كلام ابن مسعود ليس محمولاً على الموافاة ( وهي قولهم لا أدري على ماذا أموت ؟) ، وإنما هو محمول على حال المرء الآن فإنه إن شهد لنفسه أنه كامل الإيمان مقبول الحسنات مجانبٌ للسيئات ، كان شهادته هذه شهادةً لنفسه بالجنة .


وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 429) :" وأما الاستثناء فى الايمان بقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله فى فالناس فيه على ثلاثة أقوال منهم من يوجبه ومنهم من يحرمه ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين "


وقال أيضاً (7/ 439) :" وأما الموافاة فما علمت أحدا من السلف علل بها الاستثناء ولكن كثير من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من اصحاب احمد ومالك والشافعي وغيرهم كما يعلل بها نظارهم كأبي الحسن الأشعري واكثر أصحابه لكن ليس هذا قول سلف أصحاب الحديث "

الخطأ الثاني : تجويز أن يقول المرء ( أنا مؤمن ) وأن الاستثناء مستحب فحسب

الخطأ الثالث : قولهم أن الاستثناء على التبرك


فأما القول بأن الاستثناء مستحب وليس واجباً فيستفصل من قائله ما يريد


هل يريد أن الإنسان إذا سئل (أمؤمن أنت ) فهو مخير بين الإجابة ب( أنا مؤمن إن شاء الله ) أو ( أرجو أن كون مؤمناً ) أو ( أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) أو السكوت عن الإجابة أو القول ( أنا مسلم ) فهذا معنى صحيح ؟


 ولكن ينبغي الابتعاد عن الألفاظ المجملة


وإن كان يريد أنه يجوز للإنسان أن يقول ( أنا مؤمن ) بدون استثناء فهذا باطل وقد رده السلف الكرام


فإن قيل : ما وجه الإنكار ؟


قلت : سر الخلاف بين المرجئة وأهل السنة في مسألة الاستثناء هو قول حقيقة الفريقين في حقيقة الإيمان ، فالمرجئة يقولون بأن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ فقولك ( إن شاء الله ) شك والشك في بعض الإيمان شك فيه كله لأنه لا يتجزأ عندهم والشك كفر لهذا يذكرون في ألفاظ الردة في كتبهم الفقهية ( الحنفية ) قول القائل ( أنا مؤمن إن شاء الله )


وأما أهل السنة فالإيمان عندهم يتجزأ والعمل داخل في مسمىى الإيمان والاستثناء عندهم على العمل فإنهم لا يدرون قبل منهم أم لم يقبل


قال الخلال في السنة 1057: وَأَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , يَقُولُ : لاَ نَجِدُ بُدًّا مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ ؛ لأَنَّهُ إِذَا قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَدْ جَاءَ بِالْقَوْلِ , فَإِنَّمَا الاِسْتِثْنَاءُ بِالْعَمَلِ لاَ بِالْقَوْلِ.


ويريد بالقول الشهادتين وقول القلب وإلا فمن أقوال اللسان ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من العبادات القولية  وهذا لا يجزم المرء بإتيانه به على وجه مقبول منه


قال إسحاق بن راهوية في مسنده (3/671) : أخبرنا محمد بن أعين قال قال بن المبارك وذكر له الإيمان فقال قوم يقولون إيماننا مثل جبريل وميكائيل إما فيه زيادة إما فيه نقصان هو مثله سواء وجبريل ريما صار مثل الوضع من خوف الله تعالى وذكر أشباه ذلك قال فقيل له إن قوما يقولون إن سفيان الثوري حين كان يقول إن شاء الله كان ذاك منه شك .

فقال بن المبارك أترى سفيان كان يسبقني في وحدانية الرب أو في محمد صلى الله عليه وسلم إنما كان استثناءه في قبول إيمانه وما هو عند الله .

قال بن أعين قال بن المبارك والاستثناء ليس بشك ألا ترى إلى قول الله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين وعلم أنهم داخلون قال لو أن رجلا قال هذا نهار إن شاء الله ما كان شكا قال .

وقال شيبان لابن المبارك يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر ونحو هذا أمؤمن هو قال بن المبارك لا أخرجه من الإيمان فقال على كبر السن صرت مرجئا .

فقال له بن المبارك يا أبا عبد الله إن المرجئة لا تقبلني أنا أقول الإيمان يزيد المرجئة لا تقول ذلك والمرجئة تقول حسناتنا متقبلة وأنا لا أعلم تقبلت مني حسنة


وقد ثبت إنكار السلف على من قال ( أنا مؤمن ) ولم يستثنِ


قال أبو داود في سننه  4685 : حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ح وثنا إبراهيم بن بشار ثنا سفيان المعنى قالا ثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه

 : أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم بين الناس قسما فقلت أعط فلانا فإنه مؤمن قال " أومسلم ؟ إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي مننه مخافة أن يكب على وجهه "


موطن الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقره على شهادته لصاحبه بالإيمان وقال له ( أومسلم ) وهذا مما احتج به علماء أهل السنة على مشروعية الاستثناء وعلى التفريق بين الإسلام والإيمان ( وإن كان القول بالتسوية ) منسوباً لبعضهم وعلى أنه يستثنى في الإيمان ولا يستثنى في الإسلام ( وهذا الذي عليه عامة روايات أحمد )


وقال ابن أبي شيبة في الإيمان 22 : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال :

 جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني لقيت ركبا فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن المؤمنون.

 قال : فقال : ألا قالوا نحن من أهل الجنة .


وهذا إسناد صحيح وهذا إنكار من ابن مسعود على من يقول ( أنا مؤمن ) فكيف يقال أن ذلك يجوز أو مكروه فقط


بل قال عبد الرحمن بن مهدي ( أصل الإرجاء ترك الاستثناء )


قال الخلال في السنة 965: وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيٍّ النَّسَائِيُّ بِحِمْصَ قَالَ : سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ , يَقُولُ : قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَا مُؤْمِنٌ ؟

 قُلْتُ : مَا أَعْلَمُ رَجُلاً أَثِقُ بِهِ . قَالَ : لَمْ تَقُلْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا.

966: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : هَلْ عَلَيَّ فِي هَذَا شَيْءٌ , إِنْ قُلْتُ : أَنَا مُؤْمِنٌ ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لاَ تَقُلْ : أَنَا مُؤْمِنُ حَقًّا , وَلاَ الْبَتَّةَ , وَلاَ عِنْدَ اللَّهِ.

967: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : قِيلَ لِي مُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ هَلْ النَّاسُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ؟ فَغَضِبَ أَحْمَدُ , وَقَالَ : هَذَا كَلاَمُ الإِرْجَاءِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ.

968: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , أَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , وَزَادَ : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}.

969: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الأَشْعَثُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ , قَالَ يَحْيَى : وَكَانَ سُفْيَانُ يُنْكِرُ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ . قَالَ سُلَيْمَانُ : وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ , حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ : قَالَ سُفْيَانُ :

 النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ , نَرْجُو أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ , وَلاَ نَدْرِي مَا حَالُنَا عِنْدَ اللَّهِ.


وهذه كلها أخبار صحيحة إلى الإمام أحمد فكيف يقال بعد ذلك أن الإنسان يجوز أن يقول ( أنا مؤمن ) والاستثناء مستحب فقط ، أو إذا كان الإنسان يقصد حاله الآن فإنه يجوز له ترك الاستثناء .

ويا ليت شعري هل يجوز أن يشهد أن حسناته الآن متقبلة إن هذا إلا قول المرجئة


قال الخلال في السنة 974: أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : سَمِعْتُ إِسْحَاقَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ , قَالَ : الرَّجُلُ يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا ؟ قَالَ : هُوَ كَافِرٌ حَقًّا.

975: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ , قَالَ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , يَقُولُ : لاَ يُعْجِبُنَا أَنْ نَقُولَ : مُؤْمِنٌ حَقًّا , وَلاَ نُكَفِّرُ مَنْ قَالَهُ.


بل لما قال مسعر بترك الاستثناء مع قوله الإيمان قول وعمل  بدعوه ونسبوه إلى الإرجاء ، فجعله الخلال من المرجئة ، وكذا جعله ابن سعد مرجئاً وهجره الثوري


وقال أحمد ( أرجو ألا يكون مرجئاً ) ، وأحياناً قال ( هذا أسهل ) ولكنه نص على إرجائه في رواية ثابتة عنه


قال الخلال في السنة 994 : أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ، قَالَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، فَلَمْ يُجِبْ فِيهِ. قِيلَ: فَإِنَّ قَوْمًا، قَالُوا: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِثْلَنَا، فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: هَذَا تَفْسِيرُ مِسْعَرٍ وَعَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ، كَلَامُ الْمُرْجِئَةِ. قَالَ أَحْمَدُ: وَبَلَغَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ فَأَنْكَرَهُ.

 وَقَالَ:  لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَكَانَ يَكُونُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟


قال حرب في مسائله (3/1015) : وسمعت إسحاق أيضًا يقول: أول من تكلم بالإرجاء زعموا أن الحسن بن محمد بن الحنفية، ثم غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قومًا يقولون: من ترك المكتوبات، صوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها إنا لا نكفره يرجأ أمره إلى الله بعد إذ هو مقر فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم، ثم هم أصناف، منهم من يقول: نحن مؤمنون البتة، ولا يقول عند الله، ويرون الإيمان قولًا وعملًا، وهؤلاء أمثلهم، وقوم يقولون: الإيمان قول ويصدقه العمل، وليس العمل من الإيمان، ولكن العمل فريضة والإيمان هو القول، ويقولون: حسناتنا متقبلة، ونحن مؤمنون عند الله، وإيماننا وإيمان جبريل واحد. فهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث أنهم المرجئة التي لعنت على لسان الأنبياء.


قوله (فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم، ثم هم أصناف، منهم من يقول: نحن مؤمنون البتة، ولا يقول عند الله، ويرون الإيمان قولًا وعملًا، وهؤلاء أمثلهم) يريد به فرقة مسعر فصرح بأنهم مرجئة مع قولهم الإيمان قول وعمل لتركهم الاستثناء


وهنا تنبيه هام : القول بأن الاستثناء في الإيمان على جهة التبرك قول غير سليم ولو كان الأمر كذلك لما كان هناك خلاف حقيقي بيننا وبين المرجئة فإن الاسثتناء مأخذه التبرك لا الشك في كمال الإيمان

بمعنى أنك إذا قلت ( أنا مؤمن إن شاء الله ) وقصدت في الاستثناء التحقيق لا التعليق فقد وافقت قول ( أنا مؤمن حقاً ) في الحقيقة وإن خالفتهم في اللفظ


وإن كان مأخذ أهل السنة في الاستنثاء التبرك فقط لجاز أن يقول المرء ( أنا مسلم إن شاء الله ) وعامة أهل السنة يمنعون من ذلك وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أومسلم ) يدل على أنه لا يستثنى في الإسلام ، ومثله في الدلالة على المقصود قوله تعالى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)


وقد يكون التبرك مأخذاً تابعاً لا مأخذاً أصلياً فيقال ( يستثنى في الإيمان على العمل وتبركاً باسم الله ) أما جعله وحده المأخذ ففيه موافقة لقول المرجئة


وكذلك الاستثناء على الموافاة بمعنى ( لا أدري على ماذا أموت ) وهذا مأخذ الأشاعرة في استثنائهم لذا لم يكن مناقضاً لإرجائهم


ولو جاز الاستنثاء على الموافاة لجاز الاستثناء على الإسلام فتقول ( أنا مسلم إن شاء الله ) بمعنى لا أدري هل أموت على الإسلام أم لا


وقد وقع في كلام بعض أهل السنة كابن بطة ذكر الموافاة من مآخذ الاستنثاء تبعاً للمأخذ الأصلي لا جعله مأخذاً وحيداً كما يفعل الأشعرية الجهمية


وقول من يقول ( يجوز ترك الاستنثاء على ما مضى أو حكاية للإيمان الواقع ) فهذا قوله يوافق قول هؤلاء الذين يستثنون على الموافاة مع قولهم أنهم مؤمنون حقاً الآن


فإن قيل : قال البخاري في صحيحه 578 : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ


فسمتهن مؤمنات


وفي حديث الجارية ( اعتقها فإنها مؤمنة )


فالجواب : قد ورد خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الإنكار على من أطلق تلك اللفظة ، ولفظة ( اعتقها فإنها مؤمنة ) قد يراد بها أنها مؤمنة في أحكام الدنيا فتجزي في العتق كما قال سفيان (النَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ فِي الأَحْكَامِ وَالْمَوَارِيثِ , نَرْجُو أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ , وَلاَ نَدْرِي مَا حَالُنَا عِنْدَ اللَّهِ)


وقد يقال هذا النبي صلى الله عليه وسلم علم الأمر بالوحي ، وقد شكك الإمام أحمد بصحة لفظة ( فإنها مؤمنة )

وقال اللالكائي في السنة (4/370) :" سياق ما ذكر من كتاب الله وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين من بعدهم والعلماء الخالفين لهم في وجوب الاستثناء في الإيمان فأما الكتاب فقوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم  ، وقال تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله  ، وقال تعالى : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى  والمؤمنون يكونون في الجنة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل المقبرة : « إنا إن شاء الله بكم لاحقون »"


فصرح بالوجوب


فإن قيل : بعض استدلالاته والتي سبقه إليها الإمام أحمد وغيره في أمور وقع فيها الاستثناء على التحقيق لا التعليق


فيقال : لعل ذلك من باب إتمام الحجة على المرجئة والاستدلال من باب أولى فيقال إذا كان الاستثناء يقع على التحقيق وفي الأمور الواقعة جزماً فكيف بالأمور غير المتحققة الوقوع


الخطأ الثالث : وصف من ينكر تسمية الفاسق ( مؤمناً ) بالمعتزلي أو المتأثر بالمعتزلة

وهذا وقع من محمد أمان الجامي في رده على الحداد

ولم يرد في شيء من النصوص إطلاق اسم ( مؤمن ) على الفاسق الملي فضلاً عن المبتدع بل السلف كانوا يهابون ذلك بل يمنعون منه في العدل فضلاً عن الفاسق


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/238) :" وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إسْلَامًا بِلَا إيمَانٍ فِي قَوْله تَعَالَى {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ {عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَفِي رِوَايَةٍ قَسَمَ قَسْمًا وَتَرَكَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يُعْطَهُ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إلَيَّ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ما لَك عَنْ فُلَانٍ؟

 فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مُسْلِمًا.

 أَقُولُهَا ثَلَاثًا وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ} وَفِي رِوَايَةٍ: {فَضَرَبَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي وَقَالَ: أَقَتَّالٌ أَيْ سَعْدٌ} . فَهَذَا الْإِسْلَامُ الَّذِي نَفَى اللَّهُ عَنْ أَهْلِهِ دُخُولَ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ هُوَ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ إسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إسْلَامٌ يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِين وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ؛ وَهُوَ قَوْل حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَقَائِقِ.

قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت هِشَامًا يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ. وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ: قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: " الْإِيمَانُ " الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْعَمَلُ إلَّا أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا"


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 319) :" قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: وَاحْتَجُّوا بِإِنْكَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ .

فَقَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَجُلُّ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: {يَخْرُجُ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَإِنْ رَجَعَ رَجَعَ إلَيْهِ} وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: مُسْلِمٌ وَيَهَابَانِ: مُؤْمِنٌ؛ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الَّذِي حَدَّثَنَاهُ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ فضيل بْنِ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ} .

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً وَاسِعَةً وَهَذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغِيرَةً فِي وَسَطِ الْكَبِيرَةِ فَإِذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص}.

 حَدَّثَنَا بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ شريح بْنِ هَانِئٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجهني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العاص} .

وَذَكَرَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلَ

الْإِيمَانَ خَاصًّا وَالْإِسْلَامَ عَامًّا. قَالَ: فَلَنَا فِي هَؤُلَاءِ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ مَعَ مَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ اسْمَ الْمُؤْمِنِ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ وَمِدْحَةٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} وَقَالَ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وَقَالَ: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وَقَالَ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} "


قال شيخ الإسلام كما في أجوبة الاعتراضات المصرية ص143 :" ولهذا صحَّ عند السلف ومن اتبعهم أن يقال عن الفاسق الملّي: ليس بمؤمنٍ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق السارقُ حين يَسرِق وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمن»، ولا يكون ذلك نفيًا لجميع أجزاء إيمانِه، فإن الإيمان عندهم وإن كان مؤلَّفًا من أمورٍ واجبةٍ، فإذا انتفَى بعضُها انتفَى الإيمانُ الواجبُ الذي به يَستحقُّ الجنَّةَ وينجو من النار، ولم يَنتفِ جميعُ أجزاء الإيمان، بل قد يبقى معه بعض أجزائه التي ينجو بها من النار بعد دخولها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه «يَخرجُ من النار من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان»"


ولا أعلم في كلام السلف إطلاق كلمة ( مؤمن ) على الفاسق المعروف بفسقه أو المبتدع


قال الخلال في السنة 1259 : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَيْمُونِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا الْعَوَّامُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " الْإِيمَانُ نَزِهٌ: إِنْ زَنَى فَارَقَهُ الْإِيمَانُ، فَإِنْ لَامَ نَفْسَهُ وَرَاجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ "


وهذا إسناد صحيح إلى أبي هريرة ، فخص معاودة الإيمان بمن تاب وراجع وليس معنى هذا تكفير الزاني بل معناه أنه يخرج من الإيمان ويبقى في الإسلام

الخطأ الرابع : القول بأن تقسيم الناس إلى مسلم وكافر قول المرجئة

وهذا قال به محمود الحداد

قال في مقطع متى ينصر أخاه المسلم دقيقة 39 :" بل أزيدكم شيئاً عجيباً لو قلت أن الناس مسلمين وكفرة فقط فهذا أيضاً إرجاء .... لما قيل لأحمد رجل يقول هل الناس إلا مسلم أو كافر فقال هذا كلام المرجئة "

أقول : هنا هو لم يفهم كلام الإمام أحمد وجعله موافقاً للمعتزلة في إنكار تقسيم الناس إلى مسلم وكافر واختراعهم المنزلة بين منزلتين

والرواية ذكرها عن الإمام أحمد غير في لفظها من حيث لا يشعر فوقع الغلط

فالرواية في ( المؤمن ) وليست في ( المسلم ) وفرق بين الأمرين

قال الخلال في السنة 967- أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : قِيلَ لِي مُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ هَلْ النَّاسُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ؟ فَغَضِبَ أَحْمَدُ , وَقَالَ : هَذَا كَلاَمُ الإِرْجَاءِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ.

فالرواية في مبحث الاسثتناء وبترها لا يسوغ فإن المرجئة الذين لا يرون الاستثناء يعللون ذلك بأن الناس إما مؤمنين وإما كفار ، فإذا لم تقل عن نفسك ( مؤمن ) بالجزم فهو شاك وشاك كافر

وأما أهل السنة فمذهبهم جواز الاستثناء على العمل لأن حقيقة الإيمان مركبة ولا يدري المرء قبل منه أم لم يقبل ثم إنه لم يأتِ بالعمل كله ولا غاية لأعلى الإيمان

وعامة أهل السنة يغايرون بين قولهم ( مؤمن ) وقولهم ( مسلم )

فقولك ( أنا مسلم ) لا تستثني فيه عند العامة

وأما ( أنا مؤمن ) فيقع عليه الاستثناء

وقد قال الحداد كلمته هذه بعد أن أنكر تقسيم الناس إلى ( مؤمن وكافر ) ثم استدرك بقوله هذا حتى لا يقال هذا سبق لسان أو نحوه

فالإمام أحمد أنكر تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر بحيث يصير كل من ليس كافراً يشهد لنفسه بالإيمان ولا يستثني غير أنه لا ينكر تقسيم الناس إلى مسلم وكافر والإمام أحمد لا يرى الاستنثاء في الإسلام


الخطأ الخامس : قولهم (الناس مؤمنون وكفار لا ثالث لهما)

وهذه وقع فيها الطريفي

قول : هذا القول الذي قاله الطريفي وصفه الإمام أحمد بأنه قول المرجئة


وهذا قول ناشيء عن النظر لبعض الأدلة دون بعض


فالناس ثلاثة مسلم ومؤمن وكافر


والتسوية بين المسلم والمؤمن مطلقاً قول مردود


قال الخلال في السنة 967- أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ , قَالَ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : قِيلَ لِي مُؤْمِنٌ أَنْتَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ , عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ هَلْ النَّاسُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ؟ فَغَضِبَ أَحْمَدُ , وَقَالَ : هَذَا كَلاَمُ الإِرْجَاءِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ.

968- أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , أَنَّ الْفَضْلَ حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , وَزَادَ : {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}.


قال أبو داود في سننه  4685 - حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ح وثنا إبراهيم بن بشار ثنا سفيان المعنى قالا ثنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه

 : أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم بين الناس قسما فقلت أعط فلانا فإنه مؤمن قال " أومسلم ؟ إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي مننه مخافة أن يكب على وجهه "

 [ حدثنا أحمد بن حنبل قال ثنا عبد الرزاق قال ثنا معمر عن الزهري قال " فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل "


وهذا الحديث أصل في التفريق بين المسلم والمؤمن


وقال ابن تيمية في الأجوبة على الاعتراضات المصرية :" ولهذا صحَّ عند السلف ومن اتبعهم أن يقال عن الفاسق الملّي: ليس بمؤمنٍ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق السارقُ حين يَسرِق وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمن»، ولا يكون ذلك نفيًا لجميع أجزاء إيمانِه، فإن الإيمان عندهم وإن كان مؤلَّفًا من أمورٍ واجبةٍ، فإذا انتفَى بعضُها انتفَى الإيمانُ الواجبُ الذي به يَستحقُّ الجنَّةَ وينجو من النار، ولم يَنتفِ جميعُ أجزاء الإيمان، بل قد يبقى معه بعض أجزائه التي ينجو بها من النار بعد دخولها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه «يَخرجُ من النار من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان»"


ولو كان الناس مؤمن وكافر فقط لكان قول السلف في الفاسق الملي ( ليس بمؤمن ) تكفيراً له 


وقد قال الله تعالى : (  قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)


فنفى عنهم الإيمان وأثبت لهم الإسلام ولو كان الناس ليسوا مؤمن أو كافر لاقتضى هذا النفي تكفيرهم وثبوت الإسلام لهم يمنع من ذلك وبهذه الآية استدل الإمام أحمد على المراد هاهنا


فالخلاصة أن لا يجوز إطلاق أن الناس مؤمن وكافر ولا دلالة في الآية على ذلك فإن ذكر المؤمن والكافر لا ينفي وجود قسم ثالث ، وإنما هذا قول أهل الإرجاء كما صح عن الإمام أحمد ، وإنما يقال مسلم ومؤمن وكافر ولهذا إذا سئل المرء أمؤمن أنت لم يجز له ترك الاستثناء بحجة أنني إذا لم أشهد لنفسي بالإيمان فأنا كافر فالناس مؤمن وكافر ! وهذا كلام المرجئة


وقاعدة ( إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ) لا تصلح للتعقب على كلام الإمام أحمد أو غيره من السلف فإن الإيمان أعلى رتبة وقد ذكر ابن تيمية نفسه أن الفاسق الملي لا يقال عنه ( مؤمن ) وذكر عن السلف أنهم كانوان يقولون ( مسلم ) ويهابون ( مؤمن ) ولو كانت هذه القاعدة مبرراً لئن يستخدم الإيمان في مكان الإسلام والعكس في كل موطن لما كان لهذا الكلام معنى ولجاز ترك الاستثناء في الإيمان أو وجب في الإسلام ولا يوجبه أحد  

 الخطأ السادس : إقرار كلام المرجئة في أن العمل ثمرة

وهذه وقع فيها علي بن أحمد الرازحي

فقد أخرج علي بن أحمد الرازحي كتاب الأربعين النووية وعلق بتعليقات استفادها من بعض الشروح وفي بعضها أشعريات ولم ينبه عليها


فمن ذلك نقله قول النووي :" (وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَقَلُّهُ ثَمَرَةً"


وهذا أخذه النووي من عياض وهو قول المرجئة الذين لا يتفاضل عندهم الإيمان القلبي ويفسرون الزيادة والنقص بزيادة الثمرة ونقصها لا زيادة عين الإيمان ونقصانه


والنووي وإن قال بزيادة الإيمان ونقصانه فقد حصره بالتصديق وحصر الزيادة بالنظر في الآيات والتفكر بها فلم يجعل العمل سبباً لزيادة الإيمان ونقصانه في القلب وحصره في التصديق تجهم


قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (7/195) :" والمرجئة المتكلمون منهم والفقهاء منهم يقولون أن الأعمال قد تسمى إيمانا مجازا لأن العمل ثمرة الإيمان ومقتضاه ولأنها دليل عليه ويقولون قوله الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق مجاز"


وقال أيضاً كما في مجموع الفتاوى (7/204) :" ظنهم أن الإيمان الذى فى القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الإرتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا رجل فى قلبه من الإيمان مثل ما فى قلب أبى بكر وعمر وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ويزنى بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان يقولون هذا مؤمن تام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار"


فصرح بأن المرجئة يسمون العمل ثمرة وكلام عياض والنووي من هذا الباب فلم يعترفوا بنقصان الإيمان في القلب بترك المنكر بل جعلوا النقص في الثمرات التي يخرجونها من مسمى الإيمان أصلاً


وقد أساء علي الشحود في تعليقه على الحسبة لابن تيمية _ رحمه الله _ فنقل هذه الكلمة


وقد نبه ابن تيمية على أن هذه اللفظة مجملة وهم يستخدمونها في الباطل فقال كما في مجموع الفتاوى (7/363) :" وقول القائل الطاعات ثمرات التصديق الباطن يراد به شيئان يراد به أنها لوازم له فمتى وجد الايمان الباطن وجدت وهذا مذهب السلف وأهل السنة ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببا وقد يكون الايمان الباطن تاما كاملا وهى لم توجد وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم"


وقد استدل شيخ الإسلام بهذا الحديث عليهم في مسألة تفاضل الإيمان القلبي وعلاقته بالظاهر


وعياض أشعري في مسائل الإيمان وفقط خالف أصولهم في مسألة ساب الله عز وجل ورسوله فحمد له ابن تيمية ذلك



وأيضاً نقل الرازحي  في تعليقه على حديث الطهور شطر الإيمان قولهم :" المراد بالطهور الوضوء قيل معناه ينتهي تضعيف ثوابه إلى نصف أجر الإيمان "


ثم نقل أقوالاً أخرى ولم يرجح وهذا القول تأويل للحديث للهروب من القول بتجزؤ الإيمان فهذا تأويل المرجئة


هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي