مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تقويم المعاصرين ( الحلقة الحادية عشر )

تقويم المعاصرين ( الحلقة الحادية عشر )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :



فهذه حلقة جديدة من سلسلة تقويم المعاصرين

الخطأ الحادي والخمسون : الخلط بين الترك والامتناع

وهذا وقع فيه عماد فراج في رده على الحجي حيث قال :" لم يفرق الصديق رضي الله عنه؛ بين الصلاة والزكاة.

قال أبو عبيد: "والمصدق لهذا؛ جهاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة؛ كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء؛ لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها"اهـ (الإيمان ص 17)

وقال ابن تيمية: "والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال؛ بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: (والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)؛ فجعل المبيح للقتال مجرد المنع؛ لا جحد وجوبها; وقد روي: أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب؛ لكن بخلوا بها. ومع هذا؛ فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة، وهي: قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة. وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم: أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره؛ حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله"اهـ (الدرر السنية 10/178)

رابعاً: ذكر غير واحد؛ الإجماع على كفر تارك الزكاة.

قال أبو يعلى: "وأيضاً فإنه إجماع الصحابة، وذلك أنهم نسبوا الكفر إلى مانع الزكاة، وقاتلوه، وحكموا عليه بالردة، ولم يفعلوا مثل ذلك بمن ظهرت منه الكبائر، ولو كان الجميع كفاراً؛ لسووا بين الجميع"اهـ (مسائل الإيمان 330)

وقال الجصاص: "وقد كان أبو بكر رضي الله عنه؛ قاتل مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين؛ أحدهما: الكفر، والآخر: منع الزكاة. وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة، ومن أدائها؛ فانتظموا به معنيين؛ أحدهما: الامتناع من قبول أمر الله تعالى، وذلك كفر. والآخر: الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام؛ فكان قتاله إياهم للأمرين جميعاً. ولذلك قال: (لو منعوني عقالاً - وفي بعض الأخبار عناقاً - مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه). فإنما قلنا: إنهم كانوا كفاراً ممتنعين من قبول فرض الزكاة؛ لأن الصحابة سموهم أهل الردة، وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا هذا، وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم، ولو لم يكونوا مرتدين؛ لما سار فيهم هذه السيرة، وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول، ولا من بعدهم من المسلمين"اهـ (أحكام القرآن 2/193)

وقال: "وفي هذه الآية (أي آية النساء) دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم, وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع عن أداء الزكاة، وقتلهم وسبي ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم وحكمه؛ فليس من أهل الإيمان"اهـ (أحكام القرآن 2/268)"

إنما هذا البحث في الممتنع لا التارك وفرق بينهما

فالممتنع من يترك ويقاتل على هذا الترك ، وفي هذا لا فرق بين الزكاة والصيام والحج أو أي شعيرة ظاهرة إذا تركها قوم وقاتلوا عليها

ولهذا اتفق أهل العلم أن كل شعيرة ظاهرة إذا تركت قوتل عليها لا فرق في ذلك بين الزكاة وغيرها

ولو كان ثمة إجماع على كفر تارك الزكاة بمجرد الترك لما خفي ذلك على أحمد في أكثر رواياته ولما خفي على الشافعي

وحتى الحميدي وابن المديني يذكران في عقائدهما كفر تارك الصلاة ولا يذكران الزكاة

نعم القول بتكفير تارك الزكاة قول قوي وهو قول ابن مسعود فيما يظهر وإليه أميل غير أن مسألة الامتناع تختلف عن الترك

لهذا الروايات عن أحمد لا تختلف في تكفير الطائفة الممتنعة وأكثر الروايات عنه في عدم تكفير تارك الزكاة ولا يكفر إلا تارك الصلاة

فهناك فرق بين الترك المجرد والترك مع القتال أو العرض على السيف فالثاني يسمى امتناعاً

وحتى الطائفة الممتنعة في ترك الزكاة نازع الشافعي في كفرها وذكرنا كلامه آنفاً ، والصواب أن تكفيرها هو المتعين وهو قول الصحابة والشافعي قامت له شبهة علمية وقد ذكر دليله في كتاب الأم وقدمنا ذكر كلامه

وحتى الباحثين المعاصرين يميزون الفرق بين المسألتين

الخطأ الثاني والخمسون : اعتماد كلام الذهبي وابن عبد البر في مسألة كلام الأقران

الذهبي وابن عبد البر هذان الرجلان من أوسع المتأخرين في مسألة كلام الأقران

وهذه المسألة فرح بها أهل الرأي خاصة كأبي الحسنات اللكنوي والتهانوي وأبي غدة ليدافعوا عن إمامهم أبي حنيفة ويتهموا الإسلام بالجور

والعجيب أنهم يجرحون رواة أسانيد مثالب أبي حنيفة بكلام من يردون كلامهم في أبي حنيفة أو نظرائهم

وقد أعجبني تعليق أبو المعاطي النوري ( وهو رجل ظاهري ) ومن معه في موسوعتهم في الجرح والتعديل حين علقوا على مثل هذا الخطل بقول معناه

أن أبا حنيفة اتفق على جرحه أربع طبقات من المحدثين الطبقة الأولى طبقة سفيان الثوري ومالك ومن معهم

والطبقة الثانية طبقة ابن المبارك والشافعي ومن معهم

والطبقة الثالثة طبقة أحمد ومن معه

والطبقة الرابعة طبقة البخاري ومسلم والنسائي وأبو حاتم وأبو زرعة ومن معهم

وهؤلاء كلهم حفاظ وفيهم الفقيه وفيهم الزاهد العابد فهل كل هؤلاء حسدوا أبا حنيفة الذي لا يحفظ ثلاثين حديثاً ؟!

وهذا كلام مفحم غاية

والآن إلى الكلام على الذهبي وابن عبد البر ولنبدأ بالذهبي لأن الخطب فيه أعظم

تلخيص حال الذهبي أنه رجل فيه حماس بالجملة لعقيدة السلف في الصفات وعنده تمكن ونظر في علم الحديث وكلف بتراجم الصالحين

غير أنه عند الكلام على تفاصيل العقيدة تراه فيه ضعفاً وكلامه في قولهم ( بذاته ) وأثر مجاهد وخلطه بين التفويض والإثبات في مواطن معلومة من السير وذكره للدعاء عند القبور وشد الرحال والتوسل وكلامه في الوقف واللفظ كل هذا يدل على أنه مخالف لطريقة شيخه ابن تيمية بقوة

كما أنه في جسارة ظاهرة على الصحابة ، وفيه عادة في التعليق على يعن له التعليق عليه دون مراعاة لمكانة المتعقب وفي كثير من الأحيان تكون هذه التعليقات بلا روية ، فمثال ذلك تعليقه على مناظرة الشيباني والشافعي في المفاضلة بين مالك وأبي حنيفة فاتفق الرجلان على أن مالكاً أعلم من أبي حنيفة في القرآن فعلق الذهبي بأن الإنصاف أن يقال هما في علم القرآن سواء! ولا أدري أيظن أنه سينصف أبا حنيفة أكثر من صاحبه الشيباني وعلم القرآن عليه أوجه قراءاته والآثار في تفسيره وفضل مالك على أبي حنيفة في هذا ظاهر فلا تكاد تجد شيئاً لأبي حنيفة في كتب التفسير وأما مالك فروى عنه ابن وهب شيئاً كثيراً في التفسير

وله تعليقات كثيرة جيدة على بعض المواطن خصوصاً في كلام المتأخرين كما أنه حريص على ذكر عقيدة أي شخص عقيدته في الصفات تخالف الأشعرية السائدة في عصرهم

وهو كثير الدفاع بحق وبغير حق حتى أن الأمر يخرج عن حد الاعتدال في كثرة دفاعه بل يدافع لمجرد الدفاع لدرجة أنه ربما نفى الشيء عن الشخص في أول الترجمة وشنع على من ينسب له ذلك ثم تجده يثبته في أواخر الترجمة كما حصل في يحيى بن أكثم

وربما تراه في أول الترجمة يذكر كلاماً في الثناء على الشخص تتعجب منه ، ثم إذا ذكر أحواله كاد يحكم عليه بالزندقة

وخذ عينة من تعليقاته العجيبة

جاء في السير (15/465) :" قَالَ السَّيْف: سَمِعْتُ ابْنَ نُقْطَةَ يَقُوْلُ: قِيْلَ لابْنِ الأَخْضَرِ: إلَّا تُجيب عَنْ بَعْض أَوهَام ابْن الجَوْزِيّ? قَالَ: إِنَّمَا يُتَتَبَّع عَلَى مَنْ قل غلطه، فأما هذا، فأوهامه كثيرة.
ثُمَّ قَالَ السَّيْفُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً يُعتَمَدُ عَلَيْهِ فِي دِيْنِهِ وَعِلْمِهِ وَعَقْلِهِ رَاضياً عَنْهُ.
قُلْتُ: إِذَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلاَ اعْتِبَار بِهِم"

أقول : الرجل إنما ذكر من يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله وهؤلاء يؤمن تحاملهم وأنتم شهداء الله في الرجل ولو سرنا على كلام الذهبي هذا لهان أمر الجرح والتعديل جداً

ويشتد الذهبي في أمر الحديث ما لا يشتد في أمر العقيدة

وقال في ترجمة عبد المغيث بن زهير الحربي :" 5255- عبد المغيث 1:
ابن زهير بن زهير بن علوي، الشيخ الإمام المحدث، الزاهد الصَّالِحُ، المُتَّبَعُ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ، أَبُو العِزِّ بنُ أَبِي حَرْبٍ، البَغْدَادِيُّ الحَرْبِيُّ"

فانظر إلى هذا الثناء العظيم في أول الترجمة

ثم قال الذهبي :" وَلعَبْد المُغِيْثِ غلطَات تَدُلُّ عَلَى قلّة عِلْمه: قَالَ مرَّةً: مُسْلِم بن يَسَارٍ صَحَابِيّ، وَصحّح حَدِيْثَ الاستلقَاء، وَهُوَ مُنْكَر، فَقِيْلَ لَهُ فِي ذلك، فقال: إِذَا رددنَاهُ، كَانَ فِيْهِ إِزرَاء عَلَى مَنْ رَوَاهُ! وَقَدْ حفرَ لَهُ قَبْراً بِقُرْبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ دِمَشْقَ تَاجراً بِمَالٍ لِسَعْدِ الخَيْرِ، فَحَدَّثَ بِهَا، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي "تَارِيْخِهِ"

فكيف يكون إماماً محدثاً ثم قليل العلم أيضاً ؟!

وقد كتب الأخ عادل آل حمدان نقداً على بعض ما في السير وبيان لما فيه والحقيقة في الكتاب شيء كثير يتعقب

وكتب عليه الأخ مأمون ذيلاً

قال مأمون :" [ملحق بمقال:] بعض مخالفات الذهبي في كتابه السير وغيره من كتبه

فيما يلي ملحقٌ بما سبق ذكره من المخالفات التي وقع فيها الذهبي في كتابه السير وغيره من كتبه (وتجده هنا) ولم يذكرها مؤلف "الاحتجاج" مع التعليق على بعضها وبيان وجه الغلط فيها:

1- تصحيحه إسلام تارك عمل الجوارح والذي انعقد إجماع السلف على كفره:
جاء في مختصره لكتاب الإيمان الكبير لابن تيمية ص١٧٥:
فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مما أمر به من الصلاة والصوم والحج ويفعل كل محرم أمكنه وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يرتكب ذلك كله إلا لعدم الإيمان. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.

قال الذهبي في الحاشية معلقاً: «قد يكون غاليا في الإرجاء فآل به إلى فعل ذلك وهو مسلم!».

وهذا الكلام صريح في تصحيح إسلام تارك عمل الجوارح والذي انعقد إجماع السلف على كفره.

(أما الإجماع ، فهو ما نقله الشافعي رحمه الله ، عن الصحابة والتابعين:
قال: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون : الإيمان قول وعمل ونية لا بجزيء واحد من الثلاث إلا بالآخر".
[شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 5/956 ، مجموع الفتاوى 7/209]

ولا يتم الاستدلال بهذا الإجماع على المطلوب إلا ببيان المراد بالعمل في قول الشافعي : قول وعمل ونية ، وقبل ذلك أشير الى ثبوت هذا الاجماع عنه رحمه الله .

أولا : ثبوت هذا الإجماع :
قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد اهل السنة والجماعة 5/956:
"قال الشافعي رحمه الله في كتاب الأم في باب النية في الصلاة: نحتج بأن لا تجزيء صلاة إلا بنية لحديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) ثم قال :
وكان الإجماع من الصحابة والتابعين .... " الخ .

وهكذا نقله شيخ الاسلام أيضا عن كتاب الأم .
فهذا نقل عن كتاب ، لا يحتاج إلى بحث في الإسناد .
وكون هذا النص ليس موجودا الآن في كتاب الأم كما قال محقق كتاب اللالكائي ، لا يعني عدم وجوده فيه في عصر اللالكائي ، وعصر شيخ الإسلام ، بل لو كان مفقودا في زمن شيخ الإسلام لأحال في نقله على الللاكائي ، كما يفعل ذلك كثيرا في كتبه رحمه الله.
بل هذا الإجماع الذي يحكيه الشافعي ذكره الرازي عنه واستشكله :
قال شيخ الإسلام ( 7/511) :
"وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين ، حيث قالوا : الإيمان قول وعمل ، وقالوا مع ذلك : لا يزول بزوال بعض الأعمال!
حتى ان ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضا في ذلك ، فإن الشافعي كان من أئمة السنة ، وله في الرد على المرجئة كلام مشهور ، وقد ذكر في كتاب الطهارة من " الأم " إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على قول أهل السنة ، فلما صنف ابن الخطيب تصنيفا فيه ، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي استشكل قول الشافعي ورآه متناقضا" اهـ

فثبوت هذا الإجماع عن الشافعي رحمه الله لا شك فيه ، وهو ثابت عن غيره أيضا ، وهو قولهم : الإيمان قول وعمل ، لكن ما نقله الشافعي يبين منزلة عمل الجوارح ، وأن الأجزاء الأخرى لا تنفع بدونه.

وقد أشار الى هذا الإجماع ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (1/104 ت : شعيب الارناؤوط).

ثانيا : ما المقصود بالعمل في هذا الاجماع ؟
والجواب : المقصود بذلك عمل الجوارح جزما ، وبيان ذلك بأمرين :
الأول :
أن قوله "ونية" إشارة الى عمل القلب ، فتعين حمل قوله "وعمل" على عمل الجوارح . كما أن قوله "قول" شامل لقول اللسان وقول القلب .
والنية هي الإخلاص وهو عمل القلب ، وتمثيل الأئمة لعمل القلب بالنية أو الإخلاص أمر شائع مشهور ، وتأمل هذا النقل عن الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام (224هـ) في كتابه الإيمان ص 9،10 لترى استعماله لنفس عبارة الشافعي ، مع التعبير عن النية بالإخلاص ، وعن العمل بعمل الجوارح ، في حكاية قول أهل السنة:
قال: "اعلم رحمك الله أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين :
فقالت إحداهما : الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب
وشهادة الالسنة
وعمل الجوارح .
وقالت الفرقة الأخرى : بل الإيمان بالقلوب والألسنة فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر وليست من الإيمان . وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين ، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان :
بالنية
والقول
والعمل ،جميعا ، وينفيان ما قالت الأخرى " انتهى .

وهنا عبر الإمام أبو عبيد عن حقيقة مذهب أهل السنة بتعبيرين:
الأخير منهما هو تعبير الشافعي رحمه الله ،
فدل على أن العمل : هو عمل الجوارح
وأن النية : هي الإخلاص ، وهو من عمل القلب .

وانظر في التمثيل لعمل القلب بالنية :
الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص46 حيث قال: "عمل القلب : نيته وإخلاصه"
و معارج القبول 2/589 .

الأمر الثاني :
الذي يدل على أن العمل هنا هو عمل الجوارح :
أن من العلماء من حكى الاجماع بلفظ قريب من لفظ الشافعي وصرح بأن العمل هو عمل الجوارح :
قال الإمام الآجري في الشريعة ص 125(ط.دار الكتب العلمية ، ت: محمد بن الحسن إسماعيل) بعد ذكر المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء :
وهو في الطبعة المحققة للدكتور الدميجي 2/686:
"بل نقول – والحمد لله – قولا يوافق الكتاب والسنة وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم وقد تقدم ذكرنا لهم : ان الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح ، لا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة ، لا يجزي بعضها عن بعض ، والحمد لله على ذلك " انتهى .

ولتمام الفائدة أنقل إجماعا آخر حكاه الآجري أيضا:

قال ص 102 ( 2/611 ت: الدميجي ) :
"قال محمد بن الحسين : اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم : أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق ، وهو تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح .
ثم اعلموا أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا ،
ولا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح ،
فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا .
دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين " .

ودفعا لما قد يتوهمه البعض ، ومنعا لتطويل النقاش بغير فائدة أقول : وقفت على من حاول تأويل قول الشافعي – ومثله قول الآجري هنا - : " لا يجزي "
وأقول : تأمل جيدا قوله (لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا).

يظهر لك جليا أن الإجزاء هنا بمعنى الصحة والقبول ، إذ لا يصح الايمان مع ترك قول اللسان بإجماع اهل السنة!

وقوله بعد ذلك : "لا تنفعه" صريح في اثبات المطلوب .

وقال الآجري في إيضاح الإجماع الذي حكاه : ص 103 ( 2/614 ت: الدميجي ) :
"فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق الايمان بجوارحه : مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ،
ورضي من نفسه بالمعرفة والقول : لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعـــــــــه المعرفة والقول ، وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه ، وبالله تعالى التوفيق " انتهى كلام الآجري.

وقال أيضا في كتابه الاربعين حديثا ، المطبوع مع الشريعة ص 422:
"اعلموا رحمنا الله واياكم ان الذي عليه علماء المسلمين واجب على جميع الخلق : وهو تصديق القلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح . ثم إنه لا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجوارح . فإذا اكتملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا ، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين ... ولا ينفع القول اذا لم يكن القلب مصدقا بما ينطق به اللسان مع القلب ...
وإنما الإيمان بما فرض الله على الجوارح تصديقا لما أمر الله به القلب ، ونطق به اللسان ، لقوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) وقال عز وجل ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ,
وفي غير موضع من القرآن ، ومثله فرض الحج وفرض الجهاد على البدن بجميع الجوارح . والاعمال بالجوارح تصديق عن الايمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه هذه ، ومن رضي لنفسه بالمعرفة دون القول والعمل لم يكن مؤمنا .
ومن لم يعتقد المعرفة والقول كان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه [كذا ]
وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لايمانه ، فاعلم ذلك .
هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا ،
فمن قال غير هذا فهو مرجيء خبيث ، فاحذره على دينك ، والدليل عليه قوله عز وجل {وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} "   انتهى كلام الآجري رحمه الله).

[الكلام من قوله: أما الإجماع  .. إلى آخره منقول من مقال بعنوان (تحرير المقال في مسألة ترك عمل الجوارح)].

وقال أبو عبد الله ابن بطة في الإبانة 2/760:
(باب بيان الإيمان وفرضه وأنه : تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات لا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث .
قال الشيخ : اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه وبكل ما جاءت به السنة ،
وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا
وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرضه من الأعمال
لا تجزيء واحدة من هذه إلا بصاحبتها .
ولا يكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمنا بقلبه ، مقرا بلسانه ، عاملا مجتهدا بجوارحه .
ثم لا يكون أيضا مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله ، متبعا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله.
وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن ومضت به السنة ، وأجمع عليه علماء الأمة).

وقال أيضا 2/ 779:
(واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح .
وقرن القول بالعمل ، والنية بالإخلاص حتى صار اسم الإيمان مشتملا على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها عن بعض ، ولا ينفع بعضها دون بعض ، حتى صار الإيمان قولا باللسان ، وعملا بالجوارح ، ومعرفة بالقلب ، خلافا لقول المرجئة الضالة الذين زاغت قلوبهم وتلاعبت الشياطين بعقولهم .
وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه ، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته).

وقال في 2/795:
(قال الشيخ : فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل ، وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذبا وخارجا من الإيمان.
وأن الله لا يقبل قولا إلا بعمل ، ولا عملا إلا بقول).

وهذا الاستطراد في بيان هذه المسألة لأهميتها وكثرة من خبط فيها ونسب إلى السلف خلاف ما تكلموا به وأجمعوا عليه والله المستعان.

2- إطلاقه لعبارات سيئة في حق بعض الصحابة عليهم رضوان الله أجمعين:
أ- نقل قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأبي ذر رضي الله عنه: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم). وقال: "فهذا محمول على ضعف الرأي؛ فإنه لو ولي مال يتيم لأنفقه كله في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيراً".اهـ (السير 2/75).

ب- وقال في ترجمة مروان بن الحكم: "وكان أبوه قد طرده النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلى الطائف؛ ثم أقدمه عثمان إلى المدينة؛ لأنه عمه".اهـ (السير 3/477).

ج- وقال في ترجمة أبي سفيان حرب رضي الله عنه: "تداركه الله بالإسلام يوم الفتح؛ فأسلم شبه مكره خائف؛ ثم بعد أيام صلح إسلامه، وكان من دهاة العرب ومن أهل الرأي والشرف فيهم؛ فشهد حنيناً، وأعطاه صهره رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم مئة من الإبل، وأربعين أوقية من الدراهم يتألفه بذلك؛ ففرغ عن عبادة هبل، ومال إلى الإسلام".اهـ (السير 2/106).

د- وقال في حق عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه: "كانت أم المؤمنين من أكرم أهل زمانها ولها في السخاء أخبار، وكان ابن الزبير بخلاف ذلك".اهـ (السير 2/198).

هـ- وقال في ترجمة طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه: "الذي كان منه في حق عثمان: تمغفل، وتأليب فعله باجتهاد؛ ثم تغير عندما شاهد مصرع عثمان".اهـ (السير 1/35).

قال الإمام أحمد رحمه الله: «من تنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينطوي إلا على بلية، وله خبيئة سوء، إذا قصد إلى خير الناس، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وقال:
«فالنبي عليه السلام قد نهى عن ذكر أصحابه وأن ينتقص أحد منهم، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون بعده من أصحابه. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبأ بذلك، فالاقتداء برسول الله والكف عن ذكر أصحابه فيما شجر بينهم والترحم عليهم , ونقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرضى بمن رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد موته. قال الله تبارك وتعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة: 134]».
[وينظر السنة للخلال 2/431 وما بعدها والشريعة للآجري 5/2485 وما بعدها]

3- تهوينه من شأن بدعة الجهمية المكفرة التي كفّر بها السلف جماعة من أهل البدع منهم المريسي:
قال في ترجمة بشر المريسي: "ومن كفر ببدعة - وإن جلت - ليس هو مثل الكافر الأصلي، ولا اليهودي، والمجوسي؛ أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله، واليوم الآخر، وصام، وصلى، وحج، وزكى - وإن ارتكب العظائم، وضل، وابتدع - كمن عاند الرسول، وعبد الوثن، ونبذ الشرائع، وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها".اهـ (10/202).

قال المحقق في الحاشية: هذا كلام صادر عن إنصاف وتعقل وعلم، فرحم الله المؤلف رحمة واسعة، فإنه يتوخى دائما جانب الإنصاف في التراجم، وقلما تجد من يقاربه في ذلك.اهـ

ولا غرو أن يغتبط المحقق بهذا الكلام إذ هو موافق لهواه في التلطف مع أسلافه من الجهمية والدفاع عنهم والاعتذار لهم.

أما قوله: عن بدعة المريسي (وهي التجهم) ليست مثل كفر اليهود فصواب, بل هي أشد كفراً وقوله أفحش وأقبح من قولهم!

قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: «إنا نستجيز أن نحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستجيز أن نحكي كلام الجهمية».
[رواه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/111 والدارمي في الرد على الجهمية ص29 وغيرهما]
قال الدارمي رحمه الله عقبه: وصدق ابن المبارك، إن من كلامهم في تعطيل صفات الله تعالى ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى.

وقال سعيد بن عامر رحمه الله: «الجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى، قد اجتمعت اليهود والنصارى، وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء ».
[خلق أفعال العباد للبخاري 2/17 والسنة لعبد الله (وليس في المطبوع منه) والرد على الجهمية لابن أبي حاتم كما في درء التعارض 6/261]

وقال علي بن عاصم رحمه الله: «إن الذين قالوا إن لله ولدا أكفر من الذين قالوا: إن الله لا يتكلم ... ».
[الإبانة لابن بطة 2/106 وخلق أفعال العباد 2/19 وغيرهما]

وقال البخاري رحمه الله : «نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم».
[خلق أفعال العباد 2/24]

وقال البخاري رحمه الله: «ما أبالي صليت خلف الجهمي الرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم».
[المصدر السابق 2/33]

وقال أبو عبيد رحمه الله: «ومن قال هذا (أي التأويل والتعطيل) فليس شيء من الكفر إلا وهو دونه، ومن قال هذا فقد قال على الله ما لم يقله اليهود والنصارى ومذهبه التعطيل للخالق».
[المصدر السابق 2/34]

وقال الدارمي رحمه الله في النقض 299: (فافهم أيها المريسي أنك تأولت في يدي الله، أفحش مما تأولت اليهود ..).
وقال ص724: (لقد سببتم الله بأقبح ما سبه اليهود).

وأما تكفير المريسي فقد أجمع عليه السلف.
انظر السنة لعبد الله بن أحمد (باب: ما حفظت في جهم وبشر المريسي) 1/167, والسنة للخلال (باب: ذكر بشر المريسي) 5/99, وأسماء من حكم عليه بذلك عند اللالكائي 3/425, وانظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/61/3516.

4- قوله بزيارة القبور والتبرك بها وأن الدعاء عندها مستجاب!
أ- قال في ترجمة أبي بكر أحمد بن لال: "والدعاء عند قبره مستجاب".اهـ (السير 17/76).

ب- وقال في ترجمة ابن زيرك: "وقبره يزار، ويتبرك به".اهـ (السير 18/434).

5- تعقبه لكبار أئمة السلف وأهل السنة فيما اتفقوا على القول به والإنكار على من خالفهم فيها ومن ذلك:
قال: "لا يعجبني قوله استقر؛ بل أقول كما قال مالك الإمام: الاستواء معلوم".اهـ (العلو ص262).

تفسير الاستواء بالاستقرار تفسير صحيح جاء عن غير واحد من أهل العلم من السلف والخلف وإليك ذكرهم:
1-ابن عباس رضي الله عنهما (84هـ) [الأسماء والصفات للبيهقي 873]
2-مجاهد (103هـ) [مختصر الصواعق 2/143]
3ـ-الكلبي [تفسير البغوي 2/165 ونقله في العلو ص261]
4- مقاتل [تفسير البغوي 2/165 ونقله في العلو ص261]
5ـ-عبد الله بن المبارك (181هـ) [مجموع الفتاوى 5/591 وقال: ومن تابعه من أهل العلم وهم كثير]
6-ابن قتيبة (276هـ) [تأويل مختلف الحديث ص171]
7-ابن عبد البر (463هـ) [التمهيد 7/129]
8ـ-أبو أحمد القصاب الكرجي في عقيدته التي كتبها للقادر بالله وجمع الناس عليها وذلك في صدر المائة الخامسة وأمر باستتابة من خرج عنها من معتزلي ورافضي وخارجي ومما قال فيها: .. خلق العرش لا لحاجة إليه فاستوى عليه استواء استقرار كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق.اهـ [العلو للذهبي 2/1303]
9-أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي (532هـ) قال في كتابه "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول":
وإذا تقرر أن تأويل الصحابة مقبول فتأويل ابن عباس أولى بالاتباع والقبول فإنه البحر العباب وبالتأويل أعلم الأصحاب فإذا صح عنه تأويل الاستواء بالاستقرار وضعنا له الحد بالإيمان والتصديق وعرفنا من الاستقرار ما عرفناه من الاستواء وقلنا إنه ليس باستقرار يتعقب تعباً واضطراباً بل هو كيف شاء وكما يشاء والكيف فيه مجهول والإيمان به واجب كما نقول في الاستواء سواء.اهـ [بيان تلبيس الجهمية 7/403]
10- ابن تيمية (728هـ) [الفتاوى 5/519 وبيان تلبيس الجهمية 6/104 و8/304]
11- ابن القيم (751هـ) :
وقد جمع في النونية 2/361 هذه المعاني فقال:
فلهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار ... تقع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو أربع ... وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن
-وقال في مختصر الصواعق 1/380: أن استواء الشيء على غيره يتضمن استقراره وثباته وتمكنه عليه كما قال تعالى في السفينة: {واستوت على الجودي} [هود: 44] أي رست عليه واستقرت على ظهره.اهـ
12- عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1285ه) حيث قال كما في الدرر السنية 3/215:
إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل، قاتلهم الله أنى يؤفكون.اهـ

وصدق الشيخ رحمه الله فليس للذهبي سلف في إنكاره هذه اللفظة إلا المعطلة:
انظر شرح ابن بطال 10/447 والمفهم للقرطبي 1/436 والفتح لابن حجر 7/156 و13/416 وشرح العيني 25/111.

[وهذه النقول والإحالات جميعها مستفادة من مقدمة التحقيق لكتاب إثبات الحد للدشتي ت.عادل حمدان]

6- لينه مع أهل البدع في تراجمه لهم, ومن ذلك:
أ) نقل عن سبط ابن الجوزي في كتاب رياض الأفهام؛ سب الغزالي لعمر رضي الله عنه؛ في كتابه (سر العالمين وكشف ما في الدارين) حيث قال في حديث (من كنت مولاه، فعلي مولاه): إن عمر قال لعلي: بخ بخ؛ أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قال الغزالي: وهذا تسليم ورضى؛ ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حباً للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة ونهيها؛ فحملهم على الخلاف، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. ثم قال – أي الذهبي -: "وما أدري ما عذره في هذا؟ والظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق؛ فإن الرجل من بحور العلم!".اهـ (السير 19/328).

ب) وقال في ترجمة يزيد البسطامي: "سلطان العارفين".اهـ (السير 12/86).
وقال: "وجاء عنه - يقصد البسطامي - أشياء مشكلة لا مساغ لها؛ الشأن في ثبوتها عنه، أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر، والغيبة والمحو؛ فيطوى، ولا يحتج بها؛ إذ ظاهرها إلحاد؛ مثل: سبحاني. وما في الجبة إلا الله. ما النار؛ لأستندن إليها غداً، وأقول: اجعلني فداء لأهلها، وإلا بلعتها. ما الجنة؟ لعبة صبيان، ومراد أهل الدنيا. ما المحدثون؟ إن خاطبهم رجل عن رجل؛ فقد خاطبنا القلب عن الرب. وقال في اليهود: ما هؤلاء؟ هبهم لي؛ أي شيء هؤلاء حتى تعذبهم؟".اهـ (السير 13/88).

ج) ومن لينه مع أهل البدع من المعطلة بل ودفاعه عنهم واعتذاره لهم وتحامله على أهل السنة قوله في الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه: "وأسوأ شيء قاله: أنه ضلل العلماء الحاضرين، وأنه على الحق، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء؛ رحم الله الجميع وغفر لهم؛ فما قصدهم إلا تعظيم الباري عز وجل من الطرفين، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه؛ الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف؛ رضي الله عنهم".اهـ (السير 21/464).

7- تهوينه من شأن الإرجاء والمرجئة:
وقال: "وقد كان على الإرجاء عدد كثير من علماء الأمة، فهلا عد مذهباً! وهو قولهم: أنا مؤمن حقا عند الله الساعة، مع اعترافهم بأنهم لا يدرون بما يموت عليه المسلم من كفر أو إيمان، وهذه قولة خفيفة".اهـ (السير 9/436).

8- لبسه خرقة التصوف البدعية:
وقال ترجمة السهروردي: "وكان تام المروءة؛ كبير النفس؛ ليس للمال عنده قدر؛ لقد حصل له ألوف كثيرة فلم يدخر شيئاً، ومات ولم يخلف كفناً، وكان مليح الخلق والخلق؛ متواضعا؛ كامل الأوصاف الجميلة؛ قرأت عليه كثيراً وصحبته مدة،وكان صدوقاً، نبيلاً؛ صنف في التصوف كتاباً شرح فيه أحوال القوم، وحدث به مراراً .. ألبسني خرق التصوف؛ شيخنا المحدث الزاهد ضياء الدين عيسى بن يحيى الأنصاري بالقاهرة، وقال: ألبسنيها الشيخ شهاب الدين السهروردي بمكة عن عمه أبي النجيب".اهـ (السير 22/376-377).
وقال في تاريخ الإسلام 15/843 عن شيخه عيسى بن يحيى: وكان مليح القراءة للحديث، حسن المعرفة، كبير الحرمة، ألبسني الخرقة وذكر لي أنّه لبسها بمكة من الشَّيْخ شهاب الدِّين السُّهْرَوَرْديّ، وأنشدني فِي ذَلِكَ أبياتًا حسنة.

[وينظر في حكم لبسها وإلباسها مجموع الفتاوى 11/85 و11/510 ومجموعة الرسائل والمسائل 1/147 ومنهاج السنة 8/47]

وختاماً ينبغي أن أنوه أن كل ما في هذا المقال من نقول استفدتها من غير واحد من الإخوة فجزاهم الله خيراً وليس لي إلا أن جمعتها في موضع واحد رجاء أن ينتفع بها من يقرؤها"

وقال الأخ مأمون أيضاً :" بعض مخالفات الذهبي في كتابه السير وغيره من كتبه

للذهبي في سيره وغيرها من كتبه كثير من المخالفات قد نبه عليها العلماء ومن أعظمها:
1- القول بجواز التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وشد الرحل إليه.
قال في السير 4/484: (من زاره - صلوات الله عليه - وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر، أو فعل ما لا يشرع، فهذا فعل حسناً وسيئاً، فيعلم برفق، والله غفور رحيم.
فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم، والصياح وتقبيل الجدران، وكثرة البكاء، إلا وهو محب لله ولرسوله، فحبه المعيار والفارق بين أهل الجنة وأهل النار، فزيارة قبره من أفضل القرب، وشد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء، لئن سلمنا أنه غير مأذون فيه لعموم قوله - صلوات الله عليه -: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
فشد الرحال إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم-مستلزم لشد الرحل إلى مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلى حجرته إلا بعد الدخول إلى مسجده).

وقال في معجم شيوخه 1/73: (سئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله، فلم ير بذلك بأسا! ... فإن قيل: فهلا فعل ذلك الصحابة؟ قيل: لأنهم عاينوه حيا وتملوا به وقبلوا يده وكادوا يقتتلون على وضوئه واقتسموا شعره المطهر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل ... وهذه الأمور لا يحركها من المسلم إلا فرط حبه للنبي صلى الله عليه وسلم ... ألا ترى الصحابة في فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: «لا» فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير، لا سجود عبادة .. وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلا، بل يكون عاصيا فليعرف أن هذا منهي عنه، وكذلك الصلاة إلى القبر).

قلت: ما نقله عن الإمام أحمد من جواز مس وتقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم غير صحيح عنه وقد توارد على مثل هذا النقل غير واحد ممن يجيز شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك بالقبور وأهل العلم يردون هذا النقل ويضعفونه.
ومن ذلك قال الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله في تعقبه على ابن حجر العسقلاني في نقله عن الإمام أحمد جواز تقبيل المنبر والقبر فقال:
(أما ما نقله عن الإمام أحمد رحمه الله من أنه لم ير باساً بتقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبره فهذا لا صحة له بل هذا مما يقطع بكذبه لأنه رحمه الله كان شديد التحري في الاتباع والبعد عن الابتداع ولكن لجلالته وإمامته في الدين وكونه مرضي عند الموافق والمخالف وحجة فيما يفعله لسعة اطلاعه واتباعه للسنن وكثيراً ما يروج بعض المبتدعين بدعهم بنسبتها إليه أو لغيره من الأئمة المقتدى بهم).

قلت: وفي كلام الذهبي هذا كثير من المخالفات لعقيدة أهل السنة والجماعة وهذه من المسائل التي نص الذهبي على أنه يخالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية! فقال في ترجمته لابن تيمية: (مع أني مخالف له في مسائل أصلية وفرعية!) فهذه بعض مسائل الأصول التي خالفه فيها وكذلك ما سيأتي.

قال ابن تيمية في جامع المسائل (المجموعة الثالثة/ ص45) :
(وكذلك التمسح بالقبور - كاستلامها باليد وتقبيلها بالفم- منهي عنه باتفاق المسلمين، حتى إنهم قالوا فيمن زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا يستلمه بيده ولا يقبله بفمه).
وانظر مجموع الفتاوى 27/136.

وقال في اقتضاء الصراط المستقيم 2/270: (ولم يرخصوا في التمسح بقبره).

2- قول الذهبي: إن الدعاء عند قبور الأولياء والصالحين مستجاب!
-فقال في السير 9/343 معلقاً على قول بعضهم: (قبر معروف [يعني الكرخي] الترياق المجرب). قال: (يريد إجابة دعاء المضطر عنده لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء ..).
-وقال في ترجمة نفيسة بنت الحسن 10/107: (والدعاء مستجاب عند قبرها بل وعند قبور الأنبياء والصالحين وفي المساجد وعرفة ومزدلفة وفي السفر المباح وفي الصلاة ..). إلخ.
-وقال في 17/77: (والدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والأولياء وفي سائر البقاع ..).
-وفي ترجمة ابن فورك الأشعري 17/215 قال: (قال عبد الغافر في "سياق التاريخ": الأستاذ أبو بكر قبره بالحيرة يستسقى به).
قلت: هذا من الشرك ولم يتعقبه بشيء!

3- تعقبه لكبار أئمة السلف وأهل السنة فيما اتفقوا على القول به والإنكار على من خالفهم فيها ومن أمثلة ذلك:
أ) إنكاره عليهم زيادة لفظة (بذاته) في النزول والمجيء وغيرها.
قال 20/331: (وكذا قوله: {وجاء ربك} [الفجر: 22] ، ونحوه، فنقول: جاء، وينزل وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت، ولا نتفاصح على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعبارات مبتدعة).
وقد تقدم (ص121) كلام الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله في هذه المسألة.

ب) إنكاره على أئمة أهل السنة إثباتهم الحد لله تعالى واعتبار ذلك من فضول الكلام المنهي عنه وأن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
فقال 20/86: (الصواب الكف عن إطلاق ذلك إذ لم يأت فيه نص ولو فرضنا أن المعنى صحيح ..). وانظر 16/87.
قلت بل الصواب فيه مع أئمة أهل السنة وقد ذكرتهم بأسمائهم (ص121,122).

4-لينه مع أهل البدع في تراجمه لهم. ومن ذلك:
أ) قال 8/301 في ترجمة عبد الوارث بن سعيد: (وكان عالماً مجوداً من فصحاء أهل زمانه ومن أهل الدين والورع إلا أنه قدري مبتدع!)

ب) في ترجمة عمرو بن عبيد القدري الذي لعنه الإمام مالك رحمه الله وكفره الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السنة قال 6/104: (الزاهد العابد القدري).

جـ) وقال في 15/576: ابن أبي دارم الإمام الحافظ الفاضل التميمي الكوفي الشيعي! ... كان موصوفاً بالحفظ والمعرفة إلا أنه يترفض قد ألف في الحط على بعض الصحابة! وهو مع ذلك ليس بثقة في النقل!)
قلت: ومع ذلك وصفه بالإمامة والفضل والمعرفة!

د) قال في 17/588 في ترجمة علي بن حسين بن موسى: (العلامة الشريف المرتضى نقيب العلوية ... وكان من الأذكياء الأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد - نسأل الله العفو).
قلت: ومع ذلك وصفه بأنه من الأولياء الأذكياء.

ه) وقال في 21/160 وهو يتكلم عن عن صاحب الطريقة الرفاعية: (الرفاعي الإمام القدوة العابد الزاهد شيخ العارفين!!)

و) وقال في 19/539: (ابن تومرت الشيخ الإمام الفقيه الأصولي الزاهد، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت البربري، المصمودي ، الهرغي، الخارج بالمغرب، المدعي أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم المهدي ... ذا هيبة ووقار، وجلالة ومعاملة وتأله، انتفع به خلق، واهتدوا في الجملة، وملكوا المدائن، وقهروا الملوك ..).
قلت: أطال في ترجمته وذكر فيها كثيراً من مخازيه التي تتنافى أن يصفه معها بأنه: (الشيخ) (الإمام) (الزاهد) (ذا هيبة وتأله انتفع به خلق)! إلى آخر تلك المدائح.

ثم قارن بين هذه الترجمة وبين ترجمة ابن القيم لهذا الرجل حتى ترى الفارق.
قال ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف ص153:
(أما مهدي المغاربة محمد بن تومرت فإنه رجل كذاب ظالم متغلب بالباطل ملك بالظلم والتغلب والتحيل فقتل النفوس وأباح حريم المسلمين وسبى ذراريهم وأخذ أموالهم وكان شرا على الملة من الحجاج بن يوسف بكثير.
وكان يودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء يأمرهم أن يقولوا للناس إنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ثم يردم عليهم ليلا لئلا يكذبوه بعد ذلك وسمي أصحابه الجهمية الموحدين نفاة صفات الرب وكلامه وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ورؤية المؤمنين له بالأبصار يوم القيامة واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم والإيمان وتسمى بالمهدي المعصوم).

ز) وقال في 19/322: (الغزالي الشيخ الإمام البحر حجة الإسلام أعجوبة الزمان ..) ثم قال بعد هذا الثناء العاطر: (... لم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل! وحبب إليه إدمان النظر في كتاب: "رسائل إخوان الصفا"! وهو داء عضال وجرب مرد وسم قتال ولولا أن أبا حامد من كبار الأذذكياء وخيار المخلصين لتلف!!).
ثم سرد كثيراً من أقواله الكفرية التي أخذت عليه ثم قال الذهبي: (الغزالي إمام كبير وما من شرط العالم أنه لا يخطئ)!
قلت: وهل من شرط العالم أن لا يكفر ولا يبتدع ولو وقع في الكفر والبدعة فمن أين له هذه العصمة؟ وانظر إلى موقف السلف من أئمة أهل البدع الذين كفروهم وبدعوهم تجد كثيراً منهم قد كانوا من أهل العلم ولكنهم لما خالفوا السنة والاعتقاد سقطوا ولم يبالوا بهم.

والأعجب من هذا كله: أن يعده من المجددين للدين في القرن الخامس الهجري! كما في السير 14/203 فهل يكون من المجددين مع قوله فيه: (لم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية وحبب إليه إدمان النظر في كتاب: "رسائل إخوان الصفا" .. إلخ).

قلت: قد كان ابن تيمية يعد الغزالي في كثير من كتبه جاهلاً بآثار السلف ليس له معرفة ولا تمييز بين الحديث الصحيح من الحديث الواهي المكذوب وكتب الغزالي أصدق شاهد على ذلك فإن فيها العجائب وهو يعد في علم حديث النبي صلى الله عليه وسلم من العوام.
انظر "مجموع الفتاوى" 4/71 وانظر في هذا الكتاب (ص176 و245 و298).

وقد تعقب الشيخ سليمان بن حمدان السيوطي في جعله للغزالي مجدداً فقال: (وقد خلط السيوطي في نظمه على عادته في التخليط في كلامه فإن بعض من ذكرهم قد أحدثوا في الدين أصولاً مبتدعة تنافي الدين فضلاً عن أن يكونوا مجددين .. فالغزالي خاض مع الفلاسفة وألف كتابه: "تهافت الفلاسفة" في الرد عليهم  ولكنه وقع فيما وقعوا فيه فلا للإسلام نصر ولا لأعدائه كسر). [ملاحظاتي حال مطالعاتي ص46].

وقال الذهبي عن "الإحياء": (أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً نافعاً).

قلت: قارن بين قوله: (فيه خير كثير) وبين قول الطرطوشي: (شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض أكثر كذباً منه ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني "رسائل إخوان الصفا" وهم قوم يرون النبوة مكتسبة وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق ...).
ثم ذهب الطرطوشي إلى القول بإحراق كتاب "الإحياء" حتى لا يتأثر أحد بسمومه ولا يعتقد أحد صحة ما فيه من الضلال. انظر السير 19/334.
وقال عياض: ( .. ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها فامتثل ذلك ..). السير 19/327.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن فيمن قرأ على الناس كتاب "الإحياء":
( .. وأسمعتهم ما في "الإحياء" من التحريفات الجائرة والتأويلات الضالة الخاسرة والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين والفلسفة في أصل الدين .. وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين وكسا الفلسفة لحاء الشريعة .. بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة وسماها كثير منهم: إماتة علوم الدين ..). إلخ.

حـ) وقال 15/426: (الكرخي الشيخ الإمام الزاهد مفتي العراق شيخ الحنفية! وكان من العلماء العباد .. ووقع في النفوس ومن كبار تلامذته أبو بكر الرازي! وكان رأساً في الاعتزال الله يسامحه!).

ط) وقال في 20/151: (الزمخشري العلامة كبير المعتزلة .. وكان داعية إلى الاعتزال الله يسامحه).
قلت: كذا وصفه بالعلامة ثم دعا الله بأن يسامحه على اعتزاله وتعديه على الله تعالى بإنكار صفاته والقول بخلق القرآن وغيرها من ضلالاته.
ثم قارن بين هذا الدعاء وبين قوله في أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه:
قال: في 3/133: (غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً منه بكثير  وأفضل وأصلح فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله .. وله هنات وأمور والله الموعد)!
وليته تلطف مع هذا الصحابي الجليل وقال: (الله يسامحه) كما قال في الزمخشري إمام المعتزلة!

ي) وقال 18/176: (ثابت بن أسلم العلامة أبو الحسن الحلبي فقيه الشيعة ... فرحم الله هذا المبتدع! الذي ذب عن الملة والأمر لله).

قال ابن تيمية في "المنهاج" 2/93: (وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي وهؤلاء المعروفون في الأمة بقول الحق وأنه لا تأخذهم في الله لومة لائم ليس فيهم رافضي كيف والرافضي من جنس المنافقين مذهبه التقية).

قلت: ولم يرض السبكي الأشعري هذا المنهج من شيخه الذهبي في جمعه بين من رماهم بالبدعة بأنه صاحب دين وورع! كما في ترجمة ابن فورك الأشعري في "طبقات الشافعية" 4/133 فقد قال: (قال شيخنا الذهبي: كان ابن فورك رجلاً صالحا. ثم قال: وكان مع دينه صاحب فلتة وبدعة.
قال السبكي: وأما قول الذهبي: (إنه مع دينه صاحب فلتة وبدعة) فكلام متهافت فإنه يشهد بالصلاح والدين لمن يُقضى عليه بالبدعة! ثم ليت شعري ما الذي يعني بالفلتة؟ إن كانت قيامه في الحق كما نعتقد نحن فيه فتلك من الدين وإن كانت في الباطل فهي تنافي الدين).

قلت: ومع مدحه لأئمة أهل البدع كان يغمز أئمة أهل السنة في شدتهم لمن وقع ببدعة.
ففي ترجمة علي بن الجعد 10/465: (قال العقيلي: قلت لعبد الله بن أحمد: لِمَ لَمْ تكتب عن علي بن الجعد؟ قال: نهاني أبي أن أذهب إليه وكان يبلغه عنه أنه يتناول الصحابة.
وقال فيه مسلم: هو ثقة لكنه جهمي.
وقلت: ولهذا منع أحمد بن حنبل ولديه من السماع منه.
وقد كان طائفة من المحدثين يتنطعون في من له هفوة صغيرة تخالف السنة وإلا فعلي إمام كبير حجة).

قلت: فهل من وصف بالجهمية أو بالطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال فيه: (له هفوة صغيرة)؟! بل ويوصف من حذر من الأخذ عنه بأنه متنطع!
قلت: ولم يقتصر الأمر على الثناء على أئمة أهل البدع والدعاة منهم بل تعدى إلى الثناء على أهل الغناء والرقص.

ك) فقال 10/187 في ترجمة علية بنت المهدي وأخت الرشيد .. العباسية أديبة شاعرة عارفة بالغناء والموسيقى! رخيمة الصوت! ذات عفة! وتقوى! ومناقب).
قلت: كيف تجتمع التقوى والعفة مع الغناء والموسيقى؟!

5- التوسع في اعتبار كثير من طعون أهل السنة في مخالفيهم في الاعتقاد أنه من باب الطعن في الأقران الذي يطوى ولا يقرأ.
ومن أمثلة ذلك:
- طعن الإمام أحمد في هشام بن عمار لما تكلم في مسألة اللفظ وقال: (لفظ جبريل ومحمد بالقرآن مخلوق). فقال أحمد: (أعرفه طياشاً قاتله الله .. وقال: هذا قد تجهم).
وأنكر عليه الإمام أحمد رحمه الله قوله كذلك: (الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه). فقال: هذا جهمي, الله تجلى للجبال وهو يقول تجلى لخلقه بخلقه! إن صلوا خلفه فليعيدوا الصلاة).

فقال الذهبي في الميزان 4/304 معلقاً على ما وقع بين الإمام أحمد وهشام بن عمار: (وما زال العلماء الأقران يتكلم بعضهم في بعض بحسب اجتهادهم وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم).

- ومن ذلك قوله كذلك 17/462: (وقد كان أبو عبد الله بن منده يقذع في المقال في أبي نعيم لمكان الاعتقاد المتنازع فيه بين الحنابلة وأصحاب ابي الحسن [يعني الأشعري] ونال أبو نعيم أيضاً من أبي عبد الله في تاريخه وقد عرف وهن كلام الأقران المتنافسين بعضهم في بعض).

وعلى ذلك سار في كثير من تراجم أهل البدع الذين تكلم فيهم أهل السنة من أجل بدعهم الاعتقادية فاعتبره من كلام الأقران الذي يطوى ولا يقرأ!

6- تهوينه من شأن الإرجاء والمرجئة واعتبار الخلاف بينهم وبين أهل السنة خلافاً لفظياً فقط!
فقال 5/233: (إرجاء الفقهاء وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان ويقولون الإيمان الإقرار باللسان ويقين في القلب والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله).

قال الشيخ ابن باز رحمه الله في تعليقه على "شرح الطحاوية": (وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً بل هو لفظي ومعنوي ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة والله المستعان).

ومن تهوينه كذلك من بدعة الإرجاء والمرجئة: مطالبته بترك التحامل على المرجئة وترك تبديعهم والتحذير منهم لأن بعض من انتسب إلى العلم كان منهم فهو يقول معلقاً على قول السليماني: (كان من المرجئة: مسعر وحماد بن أبي سليمان والنعمان وعمرو بن مرة وعبد العزيز بن أبي رواد وأبو معاوية وعمرو بن ذر .. وسرد جماعة).
قال الذهبي في الميزان 4/99: ولا عبرة بقول السليماني ... ثم ذكره وقال: (الإرجاء مذهب لعدة من جلة العلماء لا ينبغي التحامل على قائله)!
قلت: كيف وقد أجمع السلف على ذم الإرجاء والمرجئة وحذروا منهم ومن مجالستهم واعتبروا الإرجاء بدعة من أصول البدع والتي هي: (الإرجاء والخروج والقدر والشيعة).

قال الآجري في "الشريعة" 2/676: (باب في المرجئة وسوء مذاهبهم عند العلماء).
وذكر فيه إجماع السلف على ذمهم ومن ذلك قول الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه يعني: الإرجاء.
وقول النخعي: المرجئة أخوف عندي على الإسلام من عدتهم من الأزارقة يعني: الخوارج.
وقد عقد أئمة أهل السنة في مصنفاتهم في الاعتقاد الأبواب الكثيرة في ذم الإرجاء والتحذير منه ومن أئمتهم.

قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 7/507 وهو يتكلم عن أئمة المرجئة: (السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم وتغليظ القول فيهم).

قلت: هذه التنبيهات على بعض ما في "سير أعلام النبلاء"! وغيرها من مصنفات الذهبي من الأخطاء التي نبه عليها أهل العلم ومن هذه الأخطاء وغيرها يتبين سبب قول الشيخ ابن باز رحمه الله لما سئل عنه فقال فيه: (الذهبي ليس من أهل الفقه الذهبي ما هو من أهل البصيرة الذهبي عالم من علماء الوسط يعتني بمصطلح الحديث فقط لا يعتمد به في الشريعة). [شريط "الدمعة البازية" آخر الوجه الثاني].
وهناك الكثير من أقوال الذهبي تحتاج على بسط وتعليق ليس هاهنا مكان بسطها والله أعلم"

أما أنا فلي مع الذهبي صولات وجولات فأهمها ما كتبت في مقالي نقد مجازفات ابن جماعة في التجهم

فبعد ذكري لتجهمات ابن جماعة وطعنه في الأئمة

قلت :" وقد فرح بكتاب ابن جماعة هذا الجهمي المعاصر وهبي سليمان غاوجي الذي يثني على تحقيق السقاف لكتاب العلو للذهبي مع ما فيه من طعن في عبد الله بن سلام والإمام البخاري بل ومتقدمي الأشعرية لإثباتهم العلو


وكتاب ابن جماعة هذا يصدق عليه ما قال أبو حاتم في كتاب يوسف بن خالد السمتي

قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (9/231) :" سمعت أَبي، وسألته عن يوسف بن خالد السمتي، فقال: أنكرت قول يَحيَى بن مَعين فيه أَنه زنديق، حتى حمل إلي كتاب قد وضعه في التجهم بابا بابا ينكر الميزان في القيامة، فعلمت أَن يَحيَى بن مَعين كان لا يتكلم إلا علَى بصيرة وفهم، قلتُ: ما حاله؟ قال: ذاهب الحديث"


ومع حال ابن جماعة هذا قال فيه الذهبي في العبر في خبر من غبر (1/ 293) :" ومات قاضي القضاة شيخ الإسلام بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة الكناني الحموي، صاحب التصانيف في ليلة العشرين من جمادى الأولى، وله أربع وتسعون سنة وشهر. حدث عن شيخ الشيوخ، وابن عزون، والنجيب، والرضي بن البرهان، والرشيد العطار، وابن أبي اليسر، وعدة. وعني بالرواية، ومهر في التفسير والفقه، وشارك في فنون. وكان ذا دين، وتعبد، ونزاهة، وجمد في القضاء. أضر بأخرة وانقطع للطاعة"


فانظر كيف يصف هذا الجهمي المجازف ب(شيخ الإسلام )


وليست هذه بأول واحدة للذهبي فقد عد أبا حامد الغزالي مجدداً مع ما علم منه من التعطيل والقبورية والجهل بعلم الحديث ، وذكر عنه المناوي في فيض القدير أنه عد الرازي في المجددين والله المستعان


وقد كان السلف يعظمون النكير على من يثني على أهل البدع ويعدون ذلك هدماً للإسلام وخروجاً عن السنة


ومما يؤخذ على الذهبي قوله في ابن خلكان كما في تاريخ الإسلام :" وكان إماماً ، فاضلاً ، بارعاً ، متفنناً ، عارفاً بالمذهب ، حسن الفتاوى ، جيد القريحة ، بصيراً بالعربية ، علامةً في الأدب والشعر وأيام الناس ، كثير الاطلاع ، حلو المذاكرة ، وافر الحرمة ، من سَروات الناس "


وابن خلكان من نظر في تاريخه الذي يثني عليه الذهبي وهو وفيات الأعيان وجد طعناً كثيراً في معاوية بن أبي سفيان حتى اعترف بذلك المحقق إحسان عباس

ووجد ثناءً ملفتاً على المعتزلة

واتهاماً لجعفر الصادق بأنه كان يعلم الكيمياء ( هي آنذاك ضرب من السحر )

ثم ابن خلكان كان متهماً بأمر الصبيان بل له قصائد في ذلك

قال الصفدي في الوافي بالوفيات :" وكان له ميلٌ إلى بعض أولاد الملوك وله فيه الأشعار الرائقة، يقال إنه أول يوم جاء إليه بسط له الطرحة وقال: ما عندي أعز من هذه، طأ عليها، ولما فشا أمرهما وعله به أهله منعوه الركوب فقال:

يا سادتي إني قنعت وحقكم ... في حبكم منكم بأيسر مطلب

إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتم هجري وفرط تجنبي

لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب

لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من ألمٍ إذا لم تركب

لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ ... لولاك لم يك حملها من مذهبي

قسماً بوجهك وهو بدرٌ طالعٌ ... وبليل طرتك التي كالغيهب

وبقامةٍ لك كالقضيب ركبت في ... أخطارها في الحب أصعب مركب

وبطيب مبسمك الشهي البارد ال ... عذب النمير اللؤلؤي الأشب

لو لم أكن في رتبة أرعى لها ال ... عهد القديم صيانةً للمنصب

لهتكت ستري في هواك ولذ لي ... خلع العذار ولو ألحّ مؤنبي

لكن خشيت بأن تقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي

فارحم فديتك حرقةً قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي

لا تفضحن محبك الصبّ الذي ... جرّعته في الحبّ أكدر مشرب"


فانظر يحلف بغير الله ويتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم على محبوبه وهذا مع كونه بدعة فيه استهانة عظيمة بمقام النبي صلى الله عليه وسلم فهل يصلح في هذا أن يقال أنه (كان إماماً ، فاضلاً) وهل يصح أن يقال ( كان وافر الحرمة ) وأي حرمة ترك لنفسه بعد هذه القصيدة ولها نظائر كثيرة ذكرها الصفدي بعدها


بل إن الذهبي تجاوز ذلك إلى مدح علي بن عبد الكافي السبكي القبوري الذي كان يطعن في شيخ الإسلام ويجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتجهم ويكفر أهل السنة القائلين بالإثبات كما يظهر من كتابه السيف الصقيل


قال السبكي الابن في طبقات الشافعية الكبرى (9/65) :" وأنشدنا لنفسه وأرسلها معي إلى الوالد رحمه الله وهي فيما أراه آخر شعر قاله لأن ذلك كان في مرض موته قبل موته بيومين أو ثلاثة

( تقي الدين يا قاضي الممالك *** ومن نحن العبيد وأنت مالك )

( بلغت المجد في دين ودنيا *** ونلت من العلوم مدى كمالك )

( ففي الأحكام أقضانا علي *** وفي الخدام مع أنس بن مالك )

( وكابن معين في حفظ ونقد *** وفي الفتيا كسفيان ومالك )

( وفخر الدين في جدل وبحث *** وفي النحو المبرد وابن مالك )

( وتسكن عند رضوان قريبا *** كما زحزحت عن نيران مالك )

( تشفع في أناس في فراء *** لتكسوهم ولو من رأس مالك )

( لتعطي في اليمين كتاب خير *** ولا تعطي كتابك في شمالك )

وذكر بعد هذا أبياتا على هذا النمط تتعلق بمدحي لم أذكرها وختمها بقوله

( وللذهبي إدلال الموالي *** على المولى كحلمك واحتمالك )"


أقول : هذه قصيدة خبيثة وإن قالها الذهبي إذ كيف يشهد لهذا الجهمي القبوري بالجنة ، فلو كان موحداً سنياً لكانت الشهادة له من الضلال المبين فكيف بهذا الجهمي القبوري داعية التجهم والقبورية

وكيف يشبهه بابن معين وسفيان ولا يساوي غبار نعالهم


ثم يتناقض ويشبهه بالرازي ابن الخطيب الذي صنف كتاباً بالسحر والرازي على كفره كان ذكياً وأما السبكي فجمع بين الكفر والبلادة ، واقرأ الصارم المنكي يأتيك الخبر


وتشبيه المرء بالرازي ذم له لا مدحة


ومن أقبح ما تقف عليه من كلام الذهبي قوله في السير (20/ 45) :" غُلاَةُ المُعْتَزِلَةِ، وَغُلاَة الشِّيْعَة، وَغُلاَة الحَنَابِلَة، وَغُلاَة الأَشَاعِرَةِ، وَغلاَة المُرْجِئَة، وَغُلاَة الجَهْمِيَّة، وَغُلاَة الكَرَّامِيَّة قَدْ مَاجت بِهِم الدُّنْيَا، وَكثرُوا، وَفِيهِم أَذكيَاءُ وَعُبَّاد وَعُلَمَاء، نَسْأَلُ اللهَ العفوَ وَالمَغْفِرَة لأَهْل التَّوحيد، وَنبرَأُ إِلَى اللهِ مِنَ الهَوَى وَالبِدَع، وَنُحبُّ السُّنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَنُحِبُّ العَالِمَ عَلَى مَا فِيْهِ مِنَ الاتِّبَاعِ وَالصِّفَاتِ الحمِيدَة، وَلاَ نُحبُّ مَا ابْتدعَ فِيْهِ بتَأْوِيْلٍ سَائِغٍ، وَإِنَّمَا العِبرَةُ بِكَثْرَةِ المَحَاسِنِ"



أقول : غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية كفار باتفاق ولا يعدون من أهل العلم بل علماء الكلام زنادقة كما قال الإمام أحمد


قال البخاري في الجهمية والرافضة :" نَظَرْتُ فِي كَلاَمِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَضَلَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ ، وَإِنِّي لَأَسْتَجْهِلُ مَنْ لاَ يُكَفِّرُهُمْ إِلاَّ مَنْ لاَ يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ"


فكيف بمن يقول أن فيهم علماءً وعباداً ؟!


قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1110 - حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن ثنا إبراهيم بن بكر ، قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خواز منداد المصري المالكي في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف قال مالك : « لا تجوز الإجارة في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم ، وذكر كتبا ثم قال : وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم ، وتفسخ الإجارة في ذلك ، وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك » وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك : لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال : أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادة في الإسلام ويهجر ويؤدب على بدعته ، فإن تمادى عليها استتيب منها « قال أبو عمر : » ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه.


وقال ابن قدامة في تحريم النظر في كتب الكلام ص42 :" وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر أجمع أهل الْفِقْه والْآثَار من جَمِيع أهل الْأَمْصَار أَن أهل الْكَلَام أهل بدع وزيغ لَا يعدون عِنْد الْجَمِيع فِي طَبَقَات الْعلمَاء وَإِنَّمَا الْعلمَاء أهل الْأَثر والمتفقه فِيهِ"


وقد خرق الذهبي هذا الإجماع في الغلاة من أهل البدع والله المستعان


ونحواً من قول الذهبي هذا في الخطورة قول ابن دقيق العيد في الإحكام (3/44) :" وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّكْفِيرِ وَسَبَبِهِ ، حَتَّى صُنِّفَ فِيهِ مُفْرَدًا ، وَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ النَّظَرُ فِي هَذَا : أَنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ : هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَا ؟ فَمَنْ أَكْفَرَ الْمُبْتَدِعَةَ قَالَ : إنَّ مَآلَ الْمَذْهَبِ مَذْهَبٌ فَيَقُولُ : الْمُجَسِّمَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ عَبَدُوا جِسْمًا ، وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُمْ عَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ كَفَرَ ، وَيَقُولُ : الْمُعْتَزِلَةُ كُفَّارٌ ؛ لِأَنَّهُمْ - وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِأَحْكَامِ الصِّفَاتِ - فَقَدْ أَنْكَرُوا الصِّفَاتِ وَيَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ إنْكَارُ أَحْكَامِهَا ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَحْكَامَهَا فَهُوَ كَافِرٌ .

وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ تَنْسِبُ الْكُفْرَ إلَى غَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْمَآلِ .

وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، إلَّا بِإِنْكَارِ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ عَنْ صَاحِبِهَا ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلشَّرْعِ ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْقَوَاطِعِ مَأْخَذًا لِلتَّكْفِيرِ وَإِنَّمَا مَأْخَذُهُ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ السَّمْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ طَرِيقًا وَدَلَالَةً "


فهو هنا يميل إلى عدم تكفير المعتزلة مخالفاً لإجماع السلف الذي كفروهم كما نقله ابن القيم في الصواعق بل إنهم كفروا من لم يكفرهم


قال عبد الله بن أحمد في السنة 19 : حدثني غياث بن جعفر ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، يقول : « القرآن كلام الله عز وجل ، من قال : مخلوق ، فهو كافر ، ومن شك في كفره فهو كافر »


ونقل حرب في عقيدته الإجماع أن من لم يكفر الجهمية فهو مثلهم وعرف الجهمية بالقائلين بخلق القرآن وهذه مقالة أهل الاعتزال أيضاً


وأفتى عبد الوهاب الوراق بترك الصلاة خلف من لا يكفر الجهمية


وابن دقيق العيد أشعري متعصب نقده شيخ الإسلام في الأصبهانية وهو الآخر مسه طائف من سخاء الذهبي في الألقاب فلقبه ب( شيخ الإسلام )


ومن أسوأ ما تقف عليه للذهبي قوله في السير (12/ 177) :" قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بنَ صَالِحٍ عَمَّنْ قَالَ: القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ، وَلاَ يَقُوْلُ: مَخْلُوْقٌ، وَلاَ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، فَقَالَ:

هَذَا شَاكٌّ، وَالشَّاكُّ كَافِرٌ  .

قُلْتُ: بَلْ هَذَا سَاكِتٌ، وَمَنْ سَكَتَ تَوَرُّعاً لاَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ قَوْلٌ، وَمَنْ سَكَتَ شَاكّاً مُزْرِياً عَلَى السَّلَفِ، فَهَذَا مُبْتَدِعٌ"

أقول يرد على كلام الذهبي أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات والأحمق فقط  من يتورع عن القول بأن الله ( غير مخلوق )


قال ابن بطة في الإبانة 2099 : حدثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف قال : حدثنا أبو يحيى الساجي ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن سميع الهلالي ، قال : سمعت عبيد الله بن معاذ ، يقول : « لو علم الواقفة أن ربهم غير مخلوق ، لما وقفوا »


والذهبي قد خالف إجماع مع الواقفة


قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/172) :" شاهين بْن السميذع أَبُو سلمة العبدي نقل عَنْ إمامنا أشياء:

منها ما قرأته بخط أبي حفص البرمكي قال: قرأت عَلَى أبي مردك حدثك عَلِيّ بْن سعيد الخفاف حَدَّثَنَا شاهين بْن السميذع قَالَ: سمعت أبا عَبْدِ اللَّهِ أحمد بن حنبل يقول الواقفة شر من الجهمية ومن قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر قَالَ: وسمعت أبا عَبْد اللَّهِ يقول إِسْحَاق بْن إسرائيل واقفي مشئوم


 وسالت أبا عَبْد اللَّهِ عمن يقول أنا أقف فِي القرآن تورعًا قَالَ: ذاك شاك فِي الدين إجماع العلماء والأئمة المتقدمين عَلَى إن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق هذا الدين الذي أدركت عليه الشيوخ وأدرك من كان قبلهم عَلَى هذا"


وكلام أحمد هذا فيه رد على الذهبي وتأمل كيف أن الذهبي اكتفى بتبديع الواقفي شاكاً والواجب تكفيره بل إن جماعة من السلف شددوا النكير على من لم يكفره


قال الخطيب في تاريخ بغداد (8/351) : أخبرنا أَبُو بَكْرٍ البرقاني، قَالَ: قرأت عَلَى بشر بن أَحْمَد الإسفراييني، قَالَ لكم أَبُو سُلَيْمَان داود بن الْحُسَيْن البيهقي: بلغني أن الحلواني الْحَسَن بن عَلِيّ، قَالَ: إني لا أكفر من وقف فِي القرآن، فتركوا علمه.


قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سألت سَلَمَة بن شبيب عَنْ علم الحلواني، قَالَ: يرمى فِي الحش، قَالَ أَبُو سَلَمَة: من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر.


وهذا إسناد صحيح وهذا الذي قاله الحلواني قاله الذهبي أيضاً والله المستعان


وقال الذهبي في السير (17/ 589) في الشريف المرتضى :" وَكَانَ مِنَ الأَذكيَاء الأَوْلِيَاء، المُتَبَحِّرين فِي الكَلاَم وَالاعتزَالِ، وَالأَدبِ وَالشِّعْرِ، لَكِنَّهُ إِمَامِيٌّ جَلْدٌ - نَسْأَلُ اللهَ الْعَفو –"


فانظر كيف يشهد له بالولاية مع إقراره برافضيته واعتزاله ، وتذكر معي نص البخاري في استجهال من لا يكفرهم فكيف بمن يشهد لهم بالولاية بل لشياطينهم وطواغيتهم بذلك

وقد نص ابن تيمية في منهاج السنة في نص من ألين نصوصه على أن علماء الرافضة منافقون


وقال الذهبي في السير (18/ 176) :" 92 - ثَابِتُ بنُ أَسْلَمَ أَبُو الحَسَنِ الحَلَبِيُّ *

العَلاَّمَةُ أَبُو الحَسَنِ الحَلَبِيُّ، فَقِيْهُ الشِّيْعَةِ، وَنَحْوِيُّ حَلَبَ، وَمِنْ كِبَارِ تَلاَمِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي الصَّلاَحِ.

تصدَّر لِلإِفَادَة، وَلَهُ مصَنّف فِي كشف عُوَار الإِسْمَاعِيليَّة وَبَدْءِ دعوتِهم، وَأَنَّهَا عَلَى المخَارِيق، فَأَخَذَهُ دَاعِي القَوْم، وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ، فَصَلَبَهُ المُسْتنصر  ، فَلاَ رَضِيَ اللهُ عَمَّنْ قَتله، وَأُحرقت لِذَلِكَ خِزَانَةُ الكُتُب بِحَلَب، وَكَانَ فِيْهَا عَشْرَةُ آلاَف مجلدَة، فَرَحِمَ الله هَذَا المُبْتَدِع الَّذِي ذَبَّ عَنِ المِلَّة، وَالأَمْرُ للهِ"


فانظر كيف يترحم على عالم من علماء الرافضة

وقال الذهبي في " الميزان " 1 / 111 في ترجمة أبي نعيم صاحب " الحلية ": وكلام الاقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الاعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم (لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم)


أقول : فانظر كيف أنه لم يستثنِ حتى الصديقين والشهداء والصحابة الكرام مع ظلم أقرانهم وهذا عجيب ولا ينبغي لأحد أن يدعيه ، والذي كان بين ابن مندة وأبي نعيم خلاف في مسألة عقدية وهي مسألة اللفظ وهي مسألة تكلم فيها الكبار وبدعوا المخالفين بل وكفروهم فالخلاف حقيقي وليس مصطنعاً من أجل المنافسة والتحاسد


وطريقة الذهبي كانت محل نقد من الكثيرين فصنف ابن عبد الهادي ما أخذ على تصانيف أبي عبد الله الذهبي ( ذكر ذلك ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة )


وقال ابن كثير في البداية والنهاية (10/ 23) :" والذي يظهر أن هذا لا يصح عنه، فإنه كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كما قدمنا من قتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الالحاد، وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لان صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيع، وقد اغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره"


والواقع أن الذهبي ربما علم برفضه ومدحه بالحفظ وغيره وهذا كثير في كتابه السير والله المستعان


وانتقد السبكي على الذهبي تبديعه لابن فورك ووصفه إياه بالعلم والفضل وأن الأمرين لا يجتمعان وصدق السبكي وهو كذوب


وقال مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال معرضاً بالذهبي (7/251) :" وزعم بعض المصنفين من المتأخرين أن ابن حبان لم يسبق بالتفرقة بينهما، وهما واحد انتهى كلامه. وما أدري من أي أمر به أعجب، أمن قوله: لم يسبق وقد أسلفنا قول جماعة بالتفرقة، أومن قوله هما واحد بالمسترخى.

لو قالها أحمد بن حنبل لاستدل على ذلك ما يوضحه اللهم إلا إن كان نزل نفسه فوق منزلة أحمد فإنا لله وإنا إليه راجعون

هكذا تذهب العلوم إذا ما كان رأس الأقوام ذا دعوا"


فإذا اجتمع عندنا عدم إكفار الذهبي للجهمية والواقفة والمعتزلة ، ووصفه لابن جماعة وابن دقيق بمشيخة الإسلام ، ووصفه للغزالي والرازي بالتجديد ، وقصيدته في امتداح السبكي ، ووصفه للشريف المرتضى بالولاية ولابن خلكان بالإمامة وغيرهم كثير من الأهواء والبدع


ذلك مع ما ثبت عليه من المخالفات في باب توحيد الألوهية بل وفي باب الأسماء والصفات أيضاً


وقوله في شيخ الإسلام ( أخالفه في مسائل أصولية وفرعية ) ، وكلامه في بعض الصحابة كالوليد بن عقبة ، ومعاوية بن أبي سفيان وعيينة بن حصن بل وطلحة بن عبيد الله حيث قال فيه في السير (1/35) :" الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي حَقِّ عُثْمَانَ تَمَغْفُلٌ وَتَأْليبٌ، فَعَلَهُ بِاجْتِهَادٍ، ثُمَّ تَغَيَّرَ عِنْدَمَا شَاهَدَ مَصْرَعَ عُثْمَانَ، فَنَدِمَ عَلَى تَرْكِ نُصْرَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَكَانَ طَلْحَةُ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ عَلِيّاً، أَرْهَقَهُ قَتَلَةُ عُثْمَانَ، وَأَحْضَرُوهُ حَتَّى بَايَعَ"


مع أمور أخرى ليس هذا محل بسطها كان من المتعين في شأنه إعادة النظر في تلك المكانة العلمية التي يحتلها اليوم ، واقتداء بعض الناس به في إطراء أهل البدع وتسمية ذلك إنصافاً ، وألا ينصح طالب العلم المبتديء أو غير المتمكن بالنظر في سير أعلام النبلاء لكثرة المواطن المشكلة والمنتقدة فيه خصوصاً فيما يتعلق بأمر الصحابة والفتن ، وما يتعلق بالتعامل مع أهل البدع


وما ينبغي أن يوضع في رتبة واحدة مع ابن القيم وشيخ الإسلام وابن عبد الهادي بل لا شك أنهم غير راضين عن ثنائه على الجهمية القبورية الذين آذوهم بالباطل"

وقد تذمر محمد الريمي الملقب بالإمام من ثناء الذهبي وابن حجر على الهادي الجهمي الرافضي الذي سفك دماء أهل السنة ولا زالت قبته في صعدة

وللذهبي أمور كثيرة غير هذه وهو لا يفهم مسألة القرآن كما ينبغي حتى أنه لا يعرف قول السالمية ولا يستحضره

وله جزء في اتباع السنن فيه أعاجيب في أمور الفرق

فجعل كلام هذا الرجل حاكماً على تصرفات السلف غلط كبير

وأما ابن عبد البر فهذا الرجل مذهبه في التفضيل أنه لا يفضل أحداً من الصحابة على أحد وارتكب لذلك أموراً حتى يثبته كما أنه في الصفات الفعلية على عقيدة الكلابية مع نقله الاتفاق على ترك التأويل !

وتقدم نقد كلامه في أثر مجاهد

وله توسع عجيب غريب في أمر كلام الأقران حتى ظلم أئمة في هذا

وقد قلت في كتابي في أبي حنيفة :" كثيراً ما يعتمد المدافعون عن أبي حنيفة على بعض ما قال ابن عبد البر في كتابه الانتقاء والذي احتفى به عبد الفتاح أبو غدة ، ويهملون ما ذكره من الاتفاق على تبديعه

ومناقشة ابن عبد البر فيما أورد يطول ، وقد تقدم الكلام على نقاط مفصلية في البحث ، ولكن لا بد من الإشارة إلى بعض المواطن

الأول : أن ابن عبد البر شيعي وقد ظهر هذا المسلك في كتبه حتى إنه جازف وادعى أن خبر ابن عمر في المفاضلة بين الصحابة خلاف الإجماع !

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (7/373) :" وَهُوَ يَرْوِي فِي الْأَرْبَعِينَ أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً، بَلْ مَوْضُوعَةً عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، كَقَوْلِهِ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ، وَالْقَاسِطِينَ، وَالْمَارِقِينَ لَكِنَّ تَشَيُّعَهُ، وَتَشَيُّعَ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ كَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَمْثَالِهِمَا لَا يَبْلُغُ إِلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَا يُعْرَفُ فِي عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَيْهِمَا"

وقد انتقد ابن الصلاح ابن عبد البر على توسعه في ذكر مثالب الصحابة في كتابه الاستيعاب

قال ابن الصلاح في مقدمته ص64 :" هذا علم كبير قد ألف الناس فيه كتبا كثيرة، ومن أجلها وأكثرها فوائد " كتاب الاستيعاب " لأبن عبد البر، لولا ما شانه به من أيراد كثيرأ ممل شجر بين الصحابة، وحكاياته عن الإخباريين لا المحدثين. وغالب على الإخباريين والإكثار والتخليط فيما يروونه"

فليته صان لسانه عن الصحابة أو اعتذر لهم كما اعتذر لأبي حنيفة

قال الأخ حمود الكثيري في بحثه في الدفاع عن الوليد بن عقبة بن أبي معيط :" ولا يفوتني أن أعلق على بعض ما ورد في كلام بعض أهل السير في شأن الوليد رضي الله عنه:
قال ابن عبد البر في ترجمة الوليد بن أبي عقبة في استيعابه:
وله أخبار فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله وقبح أفعاله، غفر الله لنا وله، فلقد كان من رجال قريش ظرفا وحلما وشجاعة وأدبا، وكان من الشعراء المطبوعين، وكان الأصمعي وأبو عبيدة وابن الكلبي وغيرهم يقولون: كان الوليد بن عقبة فاسقا شريب خمر، وكان شاعرا كريما تجاوز الله عنا وعنه
ثم قال:أخباره في شرب الخمر ومنادمته أبا زبيد الطائي مشهورة كثيرة، يسمج بنا ذكرها هنا
أقول: لو أن ابن عبد البر دقق في هذه الأخبار ومحصها وتفحصها لم يستسهل أن ينطق في حق صحابي من أصحاب رسول الله بمثل هذا الكلام السيء
أعلى أخبار الأصمعي وأبي عبيدة والكلبي نعتمد في الكلام في عدالة رجل مسلم لم يدركوه فكيف إن كان هذا المسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وإن تعجب فاعجب من ابن عبد البر حيث اعتمد على أخبار واهيات في ترجمة الوليد رضي الله عنه وقال كلاماً يضيق الصدر منه ولم يسع حتى في الكشف عن أسانيد هذه الأخبار وليته لم يثقل كتابه بها فهي وإن ثبتت لا حاجة لنا بها، وفي الوقت نفسه يدفع في صدر ما ورد في حق أبي حنيفة كما في "الانتقاء" ويلمح إلى أنه محسود ويذكر ما ثبت عن السلف في الطعن فيه بصيغة التمريض !فتأمل
وقد أحسن الحافظ ابن حجر حين قال في ترجمة الوليد في تهذيبه:
"وقد طول الشيخ (أي ابن الجوزي) ترجمته ولا طائل فيها من كتاب ابن عبد البر ، وفيها خطأ وشناعة، والرجل فقد ثبتت صحبته، وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى، والصواب السكوت، والله تعالى أعلم"
وقد انتقد ابن الصلاح كتاب ابن عبد البر "الاستيعاب" بسبب مثل هذه الأمور فقال كما في مقدمته(1/395):
معرفة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:
هذا علم كبير قد ألف الناس فيه كتبا كثيرة ، ومن أجلها وأكثرها فوائد كتاب " الاستيعاب " لابن عبد البر لولا ما شانه به من إيراده كثيرا مما شجر بين الصحابة وحكاياته عن الأخباريين لا المحدثين. وغالب على الأخباريين الإكثار والتخليط فيما يروونه."اهـ كلامه "

الثاني : أن ابن عبد البر له دفاعات غريبة عن بعض المجروحين

كذكره في جامع بيان العلم وفضله في فصل تحاسد العلماء كلام مالك في ابن سمعان مع أن ابن سمعان متروك اتفاقاً

وقوله في جامع بيان العلم وفضله (3/ 412) :" وأظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني ، حدثني الحارث وكان أحد الكذابين ولم يبن من الحارث"
والحارث هو الأعور الرافضي الكذاب يدافع عنه ابن عبد البر ويزعم أن الشعبي ظلمه

وقوله في عبد الله بن محمد بن عقيل  :" هو أوثق من كل من تكلم فيه انتهى "
وعلق ابن حجر على كلمته هذه بقوله ( هذا إفراط )

وممن تكلم في ابن عقيل مالك وسفيان بن عيينة وعدد كبير من الأئمة ، فكيف يكون أوثق من كل من تكلم فيه هذه مجازفة

ومثلها قوله أن ابا حنيفة محسود ، ويا ليت شعري حسدوه على ماذا وماذا وجدوا عنده مما فقدوا حتى يحسدونه ، وأغلظ كلمات قيلت في أبي حنيفة هي التي قالها سفيان ومالك والأوزاعي وحماد بن سلمة وشعبة ومن يتهم هؤلاء بالحسد أحمق يؤذي نفسه بحماقته ، وإذا كان حسدهم يحملهم على كلمات مثل
( كاد الدين كاد الدين )
( ما ولد في الإسلام أشأم منه )
و ( لعن الله أبا حنيفة )
فهؤلاء عدالتهم ساقطة! وبلغوا في الفجور مبلغاً عتياً !

ونزه الله أئمة الإسلام عن مثل هذا الاتهام الخطير
ومثله قوله في أبي جعفر الرازي  :" عندهم ثقة عالم بتفسير القرآن"

والرازي ضعفه كثيرون

وابن عبد البر نفسه أثبت على أبي حنيفة رد الأخبار برأيه
قال ابن عبد البر في الاستذكار (8/19) :" رد أبو حنيفة هذه الآثار برأيه وقال لا بأس بشرب الخليطين من الأشربة البسر والتمر والزبيب والتمر وكل ما لو طبخ على الانفراد حل كذلك إذا طبخ مع غيره وهو قول أبي يوسف الآخر"


والآن إلى نقد بعض كلامهم في موضوع الأقران

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/ 275) :"أَبُو سَلَمَةَ المِنْقَرِيُّ: حَدَّثَنَا أَبَانٌ العَطَّارُ، قَالَ:

 ذُكِرَ يَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيْرٍ عِنْدَ قَتَادَةَ، فَقَالَ: مَتَى كَانَ العِلْمُ فِي السَّمَّاكِيْنَ؟!

فَذُكِرَ قَتَادَةُ عِنْدَ يَحْيَى، فَقَالَ: لاَ يَزَالُ أَهْلُ البَصْرَةِ بِشَرٍّ مَا كَانَ فِيْهِم قَتَادَةُ

 قُلْتُ: كَلاَمُ الأَقْرَانِ يُطْوَى وَلاَ يُرْوَى، فَإِنْ ذُكِرَ، تَأَمَّلَهُ المُحَدِّثُ، فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مُتَابعاً، وَإِلاَّ أَعرَضَ عَنْهُ".


أقول : هذه الكلمة من الذهبي أخذها كثيرون مسلمةً ، والواقع أن الأمر خطير فيحيى بن أبي كثير وقتادة من الستة الذين عليهم مدار الإسناد، فالكلام عنهم ينبغي أن يكون بتحفظ:


فأولاً : هل فعلاً صح هذا الكلام ؟

وثانياً : هل هو كلام أقران داعيه الحسد والمنافسة ، أم له مقدمات شرعية معتبرة ؟!



أما عن الصحة فلا يصح !


قال البغوي في الجعديات 884 : حدثنا محمد بن هارون الحربي ، نا موسى بن إسماعيل ، نا أبان العطار قال : ذكر يحيى بن أبي كثير عند قتادة ، فقال : «متى كان العلم في السماكين؟»

 هذا إسناد ظاهره الصحة غير أن محمد بن هارون الحربي قد خولف في السند.


قال البغوي في الجعديات 883 : حدثنا أحمد بن منصور ، نا أبو سلمة قال : نا جبير بن دينار قال : سمعت ابن أبي كثير يقول : لا يزال أهل البصرة بشر ما أبقى الله فيهم قتادة

 وكان قتادة يقول : متى كان العلم في السماكين ؟

 قال أبو سلمة : يعرض بيحيى بن أبي كثير . يعني كان أهل بيته سماكين.


وقال ابن أبي خيثمة في تاريخه 1257 : حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيلَ, قَالَ: سَمِعْتُ جُبَيْر بن دينار, يقول: سَمِعْتُ قَتَادَة يَقُولُ: متى كَانَ العلم فِي السَّمَّاكِين - يَعْنِي: يَحْيَى بْن أبي كثير

فالخبر خبر جبير بن دينار وليس خبر أبان العطار.


ومن هو جبير بن دينار ؟


الجواب : هو مجهول ليس له إلا هذا الخبر في الكتب ! ، فمثله لا يعتمد على خبره ولا يبنى عليه تلك القصور والعوالي التي بناها كثيرون في مسألة كلام الأقران.


ثم إن داعي المنافسة يكاد يكون منتفياً بين قتادة ويحيى بن أبي كثير فإن يحيى إمام أهل اليمامة ، وقتادة في البصرة والتباعد القطري مظنة اندفاع الحسد

 وهما عالمان ورعان يبعد أن يتكلما بكلام فيه هذه الجفوة بغير مقدمات شرعية.


فإن قلت : إن صح الخبر فما توجيهه ؟


فيقال : توجيهه أن قتادة بن دعامة اتهم بالقدر ، والذي يبدو أنه قال به ثم نزع عنه ، لأن الموجود في تفسيره يدل على إثبات القدر

 قال الطبري في تفسيره حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة( الْجَبَّارُ ) قال: جَبَرَ خلقه على ما يشاء.


وهذا تفسير يناقض قول القدرية ، ولا يعل بأن معمراً ضعيف الرواية عن قتادة فإنه لم يكن يحفظ الأسانيد ، واما كلام قتادة فكأنما كان ينقش في صدره


وقال ابن بطة في الإبانة 1780 - حدثنا أبو بكر محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبد الله بن الصباح العطار ، قال : حدثنا سعيد بن عامر ، عن جويرية بن أسماء ، عن سعيد بن أبي عروبة أن رجلا جاء إلى قتادة ، فقال :   يا أبا الخطاب ما تقول في القدر ؟ فقال :  رأي العرب أعجب إليك أم رأي العجم ؟

 قال : رأي العرب ، قال : إن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر ، ثم أنشده بيتا من شعر.


وقال البيهقي في القضاء والقدر 488 : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه ، أنا محمد بن يونس ، نا سعيد بن عامر ، أنا جويرية بن أسماء ، عن سعيد بن أبي عروبة ، قال : سألت قتادة عن القدر قال : «تسألني عن رأي العرب والعجم ، إن العرب في جاهليتها وإسلامها كانت تثبت القدر ، وأنشدني في ذلك بيت شعر : ما كان قطعي هول كل تنوفة إلا كتاب قد خلا مسطور».


قال البخاري في خلق أفعال العباد 326- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، قال : حدثنا حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ ابن زَيْد النُّمَيْرِيِّ ، عَنِ الْحَسَنِ.

327- وَقَالَ هَمَّامٌ ، عَنْ قَتَادَةَ : كَانَتِ الْعَرَبُ تُثْبِتُ الْقَدَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلاَمِ.



وأخرج ابن أبي حاتم بإسناده الصحيح عن قتادة قوله (وما يضل به إلا الفاسقين) فسقوا فأضلهم الله على فسقهم، وصح من أوجه أخرى قوله بالقدر.


وقول القطان فيه شديد فإنه أظهر أنه كان رأساً ولا يتابع على ذلك ، بل أثبت له القول بالقدر لم يذكره بالسيادة في القدرية ، والظاهر أنه قال به ثم رجع لوجود إثبات القدر في تفسيره الذي رواه صغار تلاميذه وكبارهم.


فإذا كان الأمر كذلك فيكون قد صح عند يحيى بن أبي كثير أن قتادة قال بالقدر ، وقتادة عالم بالحديث والفقه والتفسير بل وأيام العرب ، فيتوسل بعلومه هذه إلى نشر قول القدرية فقال يحيى بن أبي كثير كلمته تلك حمية على العقيدة وليس لداعي المنافسة كما أظهر ابن عبد البر وتابعه الذهبي.


وقد نبه الذهبي تبيهاً مهماً غفل عنه عامة من يذكر كلامه هذا وهو قوله: (فَإِنْ وَجَدَ لَهُ مُتَابعاً، وَإِلاَّ أَعرَضَ عَنْهُ)، فهو ينص على أن كلام الأقران إذا وجد له متابع فإنه يقبل

 والذهبي نفسه قد ذكر متابعاً ليحيى بن أبي كثير فقد قال في ترجمة قتادة :"قَالَ حَنْظَلَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ: كُنْتُ أَرَى طَاوُوْساً إِذَا أَتَاهُ قَتَادَةُ، يَفِرُّ، قَالَ: وَكَانَ قَتَادَةُ يُتَهَّمُ بِالقَدَرِ".


فالذي جعل طاوساً يفر هو الذي جعل يحيى يقول كلمته تلك إن صحت ، وأما كلام قتادة فلا يستبعد أن يدافع الواقع في البدعة عن نفسه بالباطل ، وينتقص من يبين حاله من أهل السنة، والحمد لله لم يصح الخبر ، وصح عن قتادة إثبات القدر.


والواقع أن ابن عبد البر والذهبي قد توسعاً جداً في مسألة كلام الأقران

 وقد عقد ابن عبد البر لذلك فصلاً في جامع بيان العلم وفضله ، وأساء حيث بدأه بكلام بعض الصحابة ببعض ! ، وعامة الفصل فيه نظر، ولم يستفد منه إلا المفتونين من الروافض وأهل التميع ، وقد حمل كل كلمة قالها إمام حمية على كلام الأقران الناشيء عن الحسد والمنافسة فما أحسن.


فمن ذلك ما روى ابن أبي خيثمة في تاريخه 2747- حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن أبي ذئب، عَنِ الزُّهْرِيّ، قَالَ: ما رأيت قوما أنقض لعرى الإسلام من أهل مَكَّة، ولا رأيت قوما أشبه بالنصارى من السائبة - يعني: الرافضة.



حمل ابن عبد البر هذه الكلمة على كلام الأقران ، وتعقب الزهري بوجود علماء أفاضل في أهل مكة، والحق أن كلمة الزهري لها توجيه حسن، وهو أن الزهري لما ذهب إلى مكة رآهم يتعاملون بربا الفضل ( الصرف ) ، ومتعة النساء اتباعاً لفتيا ابن عباس التي حكي تراجعه عنها.



فلما رآهم على ما يراه زناً ورباً ، ويتشبثون بزلة عالم قال فيهم تلك الكلمة ، لقوة فتنتهم للناس خصوصاً مع كونهم أهل الحرم والناس يفدون إليهم من كل الأقطار ، فقال كلمته تلك حمية لله ولدينه ، لا لداعي الحسد والمنافسة غفرانك اللهم!


وقد قال ابن عبد البر نفسه في التمهيد (10/115) :" وقد كان العلماء قديما وحديثا يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة والصرف ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم في النبيذ الشديدويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء".



فهل خرج الزهري عن سنن أهل العلم ؟!



وأما كون أهل مكة فيهم علماء فمعلوم أن نصوص المدح والذم لا تنزل على الأعيان بل تنزل على الأغلب ، فمن ذلك فضائل اليمن والشام ، وما قيل في ذم أهل العراق

 وهنا لفتة مهمة : لم يتهم أحد الزهري بالغلو في الجرح ، مع قوله لتلك الكلمة الغليظة ، وذلك لكونهم يعلمون علم اليقين أنه قالها ديانة ، وتأمل كيف أن الخلاف فقهي وهم متبعون لعالم ومع ذلك أغلظ فيهم القول لما كانت الأدلة واضحة في المسألة.



و ابن عبد البر - ايضاً- ما أنصف أبا زكريا يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل ، وتوسل إلى انتقاصه بشتى الوسائل، فاتهمه بالغلو في الجرح ناسباً له عدة أقوال لا تصح عنه ، بل لم ينقلها أحد غيره:



منها قوله : "وقد كان ابن معين عفا الله عنه يطلق في أعراض الثقات الأئمة لسانه بأشياء أنكرت عليه

 منها قوله : كان عبد الملك بن مروان أبخر الفم وكان رجل سوء

 ومنها قوله : كان أبو عثمان النهدي شرطيا

وفيها قوله في الزهري : إنه ولي الخراج لبعض بني أمية وإنه فقد مرة مالا فاتهم به غلاما له فضربه فمات من ضربه ، وذكر كلاما خشنا في قتله على ذلك غلامه تركت ذكره ؛ لأنه لا يليق بمثله

ومنها قوله في الأوزاعي : إنه كان من الجند ، وقال في موضع آخر من ذلك الكتاب يكتب عن أحد من الجند ولا كرامة

 وقال : حديث الأوزاعي عن الزهري ويحيى بن أبي كثير ليس بثبت

 ومنها قوله في طاوس : إنه كان شيعيا ، ذكر هذا كله محمد بن الحسين الموصلي الحافظ في الأخبار التي في آخر كتابه في الضعفاء عن الغلابي عن ابن معين ، وقد رواه مفترقا جماعة عن ابن معين منهم عباس الدوري وغيره".


أقول : محمد بن الحسين الموصلي الذي نقل كل هذا عن الغلابي عن يحيى بن معين مجروح

 قال الذهبي في ميزان الإعتدال (5/ 437) : "محمد بن الحسين أبو الفتح بن يزيد الأزدي الموصلي الحافظ . حدث عن أبي يعلى الموصلي والباغندي ، وطبقتهما . وجمع وصنف . وله كتاب كبير في الجرح والضعفاء ، عليه فيه مؤاخذات . حدث عنه أبو إسحاق البرمكى ، وجماعة . ضعفه البرقاني . وقال أبو النجيب عبد الغفار الارموى : رأيت أهل الموصل يوهون أبا الفتح ، ولا يعدونه شيئا . وقال الخطيب: في حديثه مناكير ، وكان حافظا ، ألف في علوم الحديث".


ثم قال ابن عبد البر : " وقد رواه مفترقا جماعة عن ابن معين منهم عباس الدوري وغيره".


وهذه تواريخ يحيى بن معين بيد أيدينا ليس فيها حرف مما ذكر ابن عبد البر ! ، ولا يعقل أن تكون كلها لم تصل إلينا كاملة ، ولا يعقل أيضاً أن يكون ابن عبد البر وحده الذي وقف عليها فلم ينقل أحد هذا الكلام عن ابن معين إلا هذا الحافظ المغربي !


بل إن بعض النقولات تخالف الوارد عن يحيى بن معين في بعض تواريخه فقد نقل عن يحيى أنه قال في الأوزاعي :"إنه كان من الجند ، وقال في موضع آخر من ذلك الكتاب يكتب عن أحد من الجند ولا كرامة حديث الأوزاعي عن الزهري ويحيى بن أبي كثير ليس بثبت".


وَقَال الدوري عن ابن مَعِين : يقال إنه أخذ الكتاب من الزبيدي كتاب الزُّهْرِيّ وسمعه من الزُّهْرِيّ (تاريخه : 2 / 353).

وَقَال الدوري أيضا عن يحيى : قد سمع الأَوزاعِيّ من الحكم بن عتيبة (تاريخه : 2 / 354).

وَقَال أيضا عن يحيى : الاوازعي في العرض يقول : قرأت وقرئ ، وفي المناولة يتدين به ولا يحدث به (تاريخه : 2 / 354).

 وَقَال الدوري عَنه : ليس أحد في يحيى بن أَبي كثير مثل هشام الدستوائي والأَوزاعِيّ ، وعلي بن المبارك بعد هؤلاء (تاريخه : الترجمة 3825).


وجاء في تاريخ الدارمي ما يلي :" 22 - وسألته عن الأوزاعي ما حاله في الزهري فقال ثقة "

وهذا خلاف المنقول هنا، ولو صح هذا فليس بضاره فإن الأئمة يضعفون في بعض ما يروون والمرجع في ذلك لأئمة الجرح والتعديل وابن معين من أئمتهم

 وأما عبد الملك بن مروان فقوله :" أبخر الفم " إن صح فلا يضره إذ لم يتفرد بذلك فقد قال العجلي هذه الكلمة في ترتيب الثقات (2/ 23).


وقد ترجم الذهبي لعبد الملك بن مروان في الميزان وذكر في ثلبه ما ذكر فليس الإمام ابن معين - إن صح عنه هذا - وحده في هذا الباب ، والذي قال ان عبد الملك في فمه بخر هو العجلي صاحب الثقات.


وأما القول في الزهري وطاوس والنهدي فنريد الوقوف عليه بسندٍ صحيح عن الإمام

 فأما الزهري فكان يوقره جداً وَقَال عَباس الدُّورِيُّ عن يحيى بن مَعِين : هذه الاحاديث التي يرويها الزُّهْرِيّ عَن أبي حميد ، رأيتها في كتاب ابن المبارك ، عن يونس ، عَن أبي حميد سمعها يونس من أبي حميد.

 قلت ليحيى : فلعل الزُّهْرِيّ سمعها من أبي حميد ؟ قال : لا وَقَال عنه ايضا : لم يسمع الزُّهْرِيّ من عُمَر بن سعد شيئا. وَقَال عَنه : الزُّهْرِيّ أثبت في عروة من هشام بن عروة. (تاريخه : 2 / 538 - 539).


وَقَال الدارمي قلت له (يعنى يحيى بن مَعِين) : الزُّهْرِيّ أحب إليك في سَعِيد بن المُسَيَّب أو قتادة ؟ فقال : كلاهما. قلت فهما أحب إليك أو يحيى بن سَعِيد ؟ فقال : كل ثقة (تاريخه ، الترجمتان 16 ، 17).

 وَقَال : قلت ليحيى : هشام بن عروة أحب إليك عَن أبيه ، أو الزُّهْرِيّ عنه ؟ فقال : كلاهما ولم يفضل. (تاريخه الترجمة 750).

 وَقَال ابن طهمان عَنه : والزُّهْرِيّ صحيح الحديث ثقة. (الترجمة 336).

 وَقَال ابن الجنيد عَنه : منصور عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أحب إلي من هشام بن عروة ، عَن أبيه عن عائشة. قيل له : فالزُّهْرِيّ ، عن عروة عن عائشة ؟

 قال : هما سواء ومنصور أحب إلي ، لان الزُّهْرِيّ كان سلطانيا. (سؤالاته ، الترجمة 364).


وَقَال ابن محرز : سمعت يحيى وقيل له : أيما أحب إليك الزُّهْرِيّ عن الاعرج ، أو أبو الزناد عن الاعرج ؟

 قال : الزُّهْرِيّ أحب إلي وأبو الزناد ثقة وكم روى الزُّهْرِيّ عن الاعرج ، أو أبو الزناد عن الاعرج ؟

قال : الزُّهْرِيّ أحب إلي وأبو الزناد ثقة وكم روى الزُّهْرِيّ عن الاعرج. (الترجمة 582).


أقول : وقول ابن معين في الزهري :" كان سلطانياً " سائرٌ على قواعد جماعة من أهل الزهد والنسك في كراهية مداخلة السلطان ، وقد كان الزهري شرطياً عند بني أمية ، ويحيى بن معين ما ذكر هذا إلا في باب المقارنة


 قال شيخ الإسلام في الإستقامة ص202 :" هذا وابن شهاب كان فيه من مداخلة الملوك وقبول جوائزهم ما لا يحبه أهل الزهد والنسك والله يختص كل قوم بما يختاره فأولئك النساك رووا هذا الأثر ليفرقوا بين العمل المشروع المأمور به وما ليس بمشروع مأمور به".


وأما طاووس؛ فقال المزي في تهذيب الكمال (13/ 362) :" وَقَال عثمان بن سَعِيد الدارمي : قلت ليحيى بن مَعِين : طاووس أحب إليك ، أم سَعِيد بن جبير ؟ قال : ثقات. ولم يخير"

 وأين ما نقل عن يحيى من ثلبه؟


بل الذي قال في طاوس أنه شيعي هو سفيان الثوري كما روى ابن أبي خيثمة في تاريخه ! واعتمده ابن قتية في عيون الأخبار ، وهذا يبين لك مبلغ ابن عبد البر من الإنصاف!


وأما أبو عثمان النهدي فإن قال فيه ابن معين :" كان شرطياً " فليس جرحاً صريحاً ، بل هو حكاية حال

 وما زلت أطلب التوثيق

 وجاء في تاريخ الدوري ما يلي (2/91) :" ثنا العباس قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد السلام أبو طالب قال رأيت أبا عثمان النهدي شرطيا".


أقول : فابن معين لا ناقة له ولا جمل والذي ساق الخبر عباس الدوري تلميذه من غير طريقه على عادة الأئمة في الزيادة على كتب شيوخهم كما فعل عبد الله بن أحمد في مسند أبيه ، والربيع بن سليمان المرادي في كتاب الأم ، والخبر كما ترى حكاية بإسناد لم يقلها من عند نفسه.


ثم من الذي أنكر على ابن معين هذه المقالات؟


ثم ابن عبد البر لم يكتف بالطعن في يحيى في أمر الجرح والتعديل حتى انتقل إلى الفقه، فقال في جامع بيان العلم وفضله :

"صدق أحمد بن حنبل رحمه الله ، إن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي رحمه الله

 وقد حكي عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمم فلم يعرفها حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، نا قاسم بن أصبغ ، نا أحمد بن زهير قال : سئل يحيى بن معين وأنا حاضر ، عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها فقال : سل عن هذا أهل العلم

ولقد أحسن أكثم بن صيفي في قوله : "ويل لعالم أمر من جاهله ، من جهل شيئا عاداه ، ومن أحب شيئا استعبده".


وهذا الكلام ظاهر جداً في الطعن في يحيى بن معين ، وما ذكره عنه منقبة له فإذا كان جهل مسألة في التيمم فليس يضر العالم أن يجهل مسألة في الفقه ومن الذي أحاط بالعلم كله.


قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله :" 623 - وذكر الحسين بن سعيد في كتابه ( المغرب عن المغرب ) ، ثنا عبد الله بن سعيد بن محمد الحداد ، عن أبيه قال : سمعت سحنون يقول : قال عبد الرحمن بن القاسم ، لمالك : ما أعلم أحدا أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال له مالك : « وبم ذلك ؟ » قال : بك ، فقال : « أنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي ؟ "


أقول : سبحان الله !


الإمام مالك يشهد على نفسه أنه لا يعرف كتاباً كاملاً في الفقه فيعتبر ابن عبد البر ذلك منقبةً ، وابن معين يجهل مسألة ( لم يعينها ) في باب معين فيعتبرها مثلبة!


وأما مسألة المرأة التي اختارت نفسه ، فما الضير على ابن معين إذا أحال على أهل العلم وهذه سنة كان يتبعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

 قال الدارمي في مسنده 135 - أخبرنا أبو نعيم ثنا سفيان عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود ان أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا ود ان أخاه كفاه الفتيا


 وهذه المسألة المذكورة فيها للصحابة ثلاثة أقوال!


فمنهم من يراها طلقة بائنة ، ومنهم يراها واحدة رجعية ، ومنهم من يراها ثلاثاً

 فما الضير على ابن معين إذا توقف في هذه المسألة وأحال على غيره

 و ابن عبد البر له جهد في شرح أحاديث السنة ، غير أنه تعرض لبعض الأئمة بما اضطرني اضطراراً إلى الجواب عنه،وعسى الله عز وجا أن ييسر تتبع كلامه في مسألة كلام الأقران هو والذهبي ومناقشته تفصيلياً وفرز الصواب عن الخطأ.

قال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه حدثني أحمد بن صالح قال: قلت لابن وهب: ما كان مالك يقول في ابن سمعان ؟ قال: لا يقبل قول بعضهم في بعض.

قال ابن وهب: قلت لابن سمعان: من عبد الله بن عبد الرحمن الذي رويت عنه ؟ قال: لقيته في البحر.


هذه الكلمة نقلها  ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله في باب كلام الأقران بعضهم في بعض الذي يطوى ولا يروى



وليس من الإنصاف جعل كلام مالك في ابن سمعان من كلام الأقران إذ أنه حق وقد تابعه عليه عامة الأئمة



وابن سمعان اسمه عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان وإليك كلام أهل العلم فيه لتعلم أن مالكاً ما ظلمه ولا تحامل عليه



و قال يحيى بن بكير : قال هشام بن عروة فيه ، و ذاك أنه حدث عنه بأحاديث : والله ما حدثته بها ، و لقد كذب على .
و قال أبو بكر المروذى ، عن أحمد بن حنبل : كان متروك الحديث .
و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه : إنما كان يعرف بالمدينة بالصلاة ،
و لم يكن يعرف بالحديث .
و قال : الشاميون أروى الناس عنه .
و قال فى موضع آخر عن أبيه : سمعت إبراهيم بن سعد يحلف بالله لقد كان ابن سمعان
يكذب .
و قال فى موضع آخر : ذكروا ابن سمعان عند إبراهيم بن سعد ، فقال : والله ما رأيته فى حلقة من حلق الفقه قط . و لقد أخبرنى ابن أخى الزهرى ، و سألته هل رأيته عند عمك ابن شهاب الزهرى ؟ فقال : والله ما رأيته قط .
و قال عباس الدورى ، عن يحيى بن معين : ضعيف الحديث .
و قال معاوية بن صالح ، عن يحيى : ليس حديثه بشىء .
و قال أحمد بن سعد بن أبى مريم ، عن يحيى : ليس بثقة .
و قال عبيد بن محمد الكشورى : سألت أبا مصعب ، عن ابن سمعان ، فقال : كان مرمدا
، و سألت يحيى بن معين عنه ، فقال : كان كذابا .
و قال أبو بكر بن أبى أويس : كنت جالسا عند ابن سمعان ، فوجدته يحدث ، فانتهى
إلى حديث لشهر بن حوشب ، فقال : حدثنى شهر بن جوست ، فقلت : من هذا ؟ فقال : بعض العجم من أهل خراسان قدموا علينا . فقلت : لعلك تريد شهر بن حوشب ؟ فسكت .
فذكرت ذلك لأبى معشر ، فقال : أما سماعى من المشيخة ، فأيام كنت أضرب بالإبرة
فى حانوت أستاذى ، كنت أرش الحانوت و أكنسه فكان يجلس إليه محمد بن كعب ،
و محمد بن قيس ، و سعيد المقبرى ، فسمعت منهم مشافهة ، و أما ابن سمعان فإنما
أخذ كتبه من الداوين و الصحف .
و قال على ابن المدينى ، و عمرو بن على : ضعيف الحديث جدا .



فهذا يدل على أن كلمة مالك فيه حق لا تدفع بحال ، وذكرها في باب كلام الأقران غلط


وقد أورد  ابن عبد البر في هذا الباب قصة منكرة يتهم فيها إبراهيم النخعي الشعبي بأنه لم يسمع من مسروق ، ونكارة القصة بينة لأن الشعبي يروي عن مسروق بنزول فقد أدرك عائشة وابن مسعود ومع ذلك يروي عنهما بواسطة مسروق فلو كان مدعياً السماع من أحد كذباً لادعاه من الصحابة الذين أدركهم

بل إنه أدرك علياً ورآه ومع ذلك يروي عنه بواسطة الحارث الكذاب ، فهذا برهان على أن الشعبي من أبعد الناس عن التدليس فضلاً عما أشنع منه ، ولو كان النخعي متهماً إياه ظلماً بشيء لاتهمه بأمر أظهر من هذا

والمعروف أن الشعبي كان يحب النخعي ويوقره

قال ابن سعد في الطبقات (6/ 284) : قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية ومحمد بن عبد الله الأنصاري قالا: حدثنا بن عون قال: أتيت الشعبي بعد موت إبراهيم فقال لي: أكنت فيمن شهد دفن إبراهيم؟ فالتويت عليه فقال: والله ما ترك بعده مثله. قلت: بالكوفة؟ قال: لا بالكوفة ولا بالبصرة ولا بالشام ولا بكذا ولا بكذا.
زاد محمد بن عبد الله: ولا بالحجاز.
قال: أخبرنا محمد بن الفضيل بن غزوان الضبي عن بن أبجر قال: أخبرت الشعبي بموت إبراهيم فقال: احمد الله أما إنه لم يخلف خلفه مثله، قال: وهو ميتا أفقه منه حيا.
قال: أخبرنا جرير بن عبد الحميد الضبي عن مغيرة عن الشعبي قال: إبراهيم ميتا أفقه منه حيا.

وهذه أسانيد قوية

و قال ابن عبد البر فى كتاب جماع بيان العلم " له لما حكى عن إبراهيم ما قال في الشعبي : أظن الشعبى عوقب بقوله فى الحارث كذاب ، و لم يبن من الحارث كذبه ، و إنما نقم عليه إفراطه فى حب على .

أقول : إنا لله وإنا راجعون أما إن الشعبي قد صدق وبر ونصح والنخعي نفسه يتهم الحارث

قال مسلم في مقدمة صحيحه مسلم بن الحجاج . قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا جرير ، عن حمزة الزيات ، قال : سمع مرة الهمدانى من الحارث شيئا ، زاد غيره : فأنكره ، فقال له : اقعد بالباب ، قال : فدخل مرة ، و أخذ سيفه ، قال : و أحس الحارث بالشر فذهب .
و به ، قال : حدثنى حجاج بن الشاعر ، قال : حدثنى أحمد و هو ابن يونس ، قال : حدثنا زائدة ، عن منصور و المغيرة ، عن إبراهيم : أن الحارث اتهم .

و قال أبو معاوية الضرير ، عن محمد بن شيبة الضبى ، عن أبى إسحاق : زعم الحارث الأعور و كان كذابا .
و قال أبو بكر بن أبى خيثمة : قال أبو بكر بن عياش : لم يكن الحارث بأرضاهم كان
غيره أرضى منه ، و كانوا يقولون : إنه صاحب كتب كذاب .
و قال يوسف بن موسى ، عن جرير : كان الحارث الأعور زيف

و قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجانى : سألت على ابن المدينى عن عاصم و الحارث ،
فقال : يا أبا إسحاق ، مثلك يسأل عن ذا ! الحارث كذاب .
و قال أبو بكر بن أبى خيثمة : سمعت أبى يقول : الحارث الأعور كذاب .
و قال أيضا : قيل ليحيى بن معين : الحارث صاحب على ؟ فقال : ضعيف .

فليس الشعبي وحده في هذا الباب، وقد قال الذهبي في السير لما ترجم للحارث (4/152) :" هُوَ العَلاَّمَةُ، الإِمَامُ، أَبُو زُهَيْرٍ الحَارِثُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ كَعْبِ بنِ أَسَدٍ الهَمْدَانِيُّ، الكُوْفِيُّ، صَاحِبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُوْدٍ.
كَانَ فَقِيْهاً، كَثِيْرَ العِلْمِ، عَلَى لِيْنٍ فِي حَدِيْثِهِ"

وقال أيضاً :" قَدْ كَانَ الحَارِثُ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، وَمِنَ الشِّيْعَةِ الأُوَلِ" ، ورافضي متهم بالكذب هذه الألقاب كبار عليه
وبقي التنبيه على توسع الذهبي في أخبار الملوك وفضائحهم


قال السخاوي في الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ وهو يعلل عدم ذكره لمثالب الملوك ص48 :
" ذكر أناس من الملوك والأكابر يضاف إليهم شرب الخمر ، وفعل الفواحش مما تصحيحه عنهم عزيز ، وهو متردد بين إشاعة الفاحشة إن صح ، أو القذف إن لم يصح ، سيما ويتضمن التهوين على أبناء جنسهم فيما هم فيه من الزلل "

أقول : هذا تنبيه جيد جداً من السخاوي أهمله كثير من المؤرخين الذين أطنبوا في ذكر مثالب الملوك وأخبار الشعراء والفجرة حتى ترجم بعضهم لبعض ملوك الكفرة كنجنكيز خان

وذكر بعض نهايات الملوك الذين اشتهروا بالجور للعبرة لا إشكال فيه ولكن البحث في ذكر بعض أحوالهم الخاصة مما يكون في العادة مما شغف الناس بنسبته إلى ملوكهم

وبعض المشتغلين بالعلم يصنف في أخبار العشق وبعضهم يصنف في أخبار النساء فيذكر المرأة عالية النسب ويسمي أباها وقومها ثم يذكر عنها ما لا يسر بأسانيد مظلمة لا يعرف فيها أحد ، حتى بلغ ببعضهم الوقيعة في أخت عمر بن عبد العزيز ، وهؤلاء أخذهم زهو العلم وحب التصنيف وحملهم على ما لا يليق بما معهم من العلم

ولو لم يكن في ذكر الأمور سوى الإشغال عن أخبار الصالحين لكان كفى وخلطها بأخبار الصالحين قبيح

وأخبار الصالحين لجمعها فوائد منها أن الإنسان يعالج العجب في نفسه إن كان عنده شيء من الصلاح إذا رأى صلاح السلف ، ومنها أنه يسعى للاقتداء فكم من عمل صالح لم نكن نتصور لضعف همتنا في الحق أن يفعله أحد فلما نظرنا في تراجم وجدناهم يفعلون ما هو أعلى ، ومن ذلك أنك تحبهم والمرء مع أحب لأنه إذا أحب اقتدى

قال أبو داود في مسائله عن أحمد (1/283) : وسمعت أحمد قال سمعت ابن عيينة يقول كان يقال تنزل الرحمة عند ذكر الصالحين.

وقد حبب القراءة في التواريخ إلى نفوس العامة فإنك إذا ذكرت أفعال الفساق استأنسوا بها كما ذكر السخاوي ، بل العجب ما يفعله من أنه يطري الرجل في بداية الترجمة ثم يذكر عنه أموراً تسوء فباجتماع الاطراء وذكر المساويء يهون أمر تلك المساويء في نفوس الناس

ومن أعظم ما غلط به بعض المؤرخين الولوج فيما شجر بين الصحابة وذكر كل ما يتفق في تراجمهم بدون مراعاة كون هذا الرجل صحابياً يجب أن يحفظ مقامه ، وقد انتقد ابن الصلاح في مقدمته على ابن عبد البر ذكره ما شجر بين الصحابة في الاستيعاب ، وأمر الإمام أحمد بحرق كل كتاب فيه ذكر أحاديث ما شجر بين الصحابة

ولو جاز ذكر ما شجر بين الصحابة بين أهل العلم لما جاز ذكره للعامة ، فإنهم لا يفهمون الأمر على وجهه وهم إلى تعلم ما يجب من الحلال والحرام أحوج منهم إلى الخوض في هذه الأمور الخطيرة عليهم
وقد نبه على هذا المعنى الآجري في الشريعة

وقد كان عمر بن الخطاب كما في مسند الدارمي ينهى الصحابة أن يحدثوا الناس بالمغازي لئلا يليهم عن الحلال والحرام فكيف بما شجر بين الصحابة

وقال الآجري في الشريعة معلقاً على قصة عمر مع صبيغ :" لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب عن هذه المسألة ، ولكن لما تأدى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه علم أنه مفتون ، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه ، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به ، وتطلب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به ، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه"

فكيف لو رأى من اشتغل بما شجر بين الصحابة وبأخبار الملوك وغيرها عن العقيدة الصحيحة والحلال والحرام أو رام إشغال الناس عن ذلك

وبعض من يصنف في أخبار العشاق أو أخبار النساء ويذكر الفواحش والمجون في كتبه ، تراه هو في نفسه ليس على اعتقاد سليم بل بعضهم صنف كتباً ينتصر فيها لمذاهب الجهمية ، فلو أشغل نفسه بطلب الحق في أمر المعتقد لكان خيراً له من الاشتغال بكثير من مسائل الأحكام فضلاً عن السير والمغازي فضلاً عن المجون وأخبار النساء

وبعضهم على توسعه في الكلام في الفقه تقع له أوهام عجيبة وقبيحة في الكلام على الأحاديث والرواة ، ولا شك أن شغله بتلك الأمور أثر على تحصيله في علم الحديث الشريف فوقع منه ما وقع

ومما يؤخذ على بعض المؤرخين التوسع في المدح حتى صار الأمر ديدناً فشمل حتى أهل البدع ومع كان هذا هدي السلف حتى أنك في بعض الكتب لو فتحت ترجمة ابن عربي الكافر الزنديق لرأيت في أولها ثناءاً ، وإن كان بعد ذلك يتم نقده

وأئمة السلف ما رأيت أحداً منهم ترجم لسفيان الثوري أو الحسن البصري فقال ( الإمام القدوة مفتي الأنام شيخ الإسلام الفقيه المحدث الكذا الكذا )

مع أنهم لو قالوها لكان المذكورون لها أهلاً

حتى ظهرت بعض الألقاب الغريبة مثل ( خاتمة الحفاظ ) و ( حسنة الأيام )

وهدي السلف الاقتصاد في المدح والقدح

ومن الطريف أنه لما كان من طريقة المتأخرين الثناء على شيوخهم أو من تأخر بأعظم مما أثنى به الناس على السلف في وقتهم ترى كثيراً منهم إذا روى الحديث بإسناده يقول ( حدثنا الإمام الحافظ شيخ الوقت فلان ) حتى إذا وصل بسنده إلى الطبقات المتقدمة أخلاها من الألقاب فيقول ( الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم )

فلا يفوز أحد من هؤلاء بما فيهم الصحابي بتلك الألقاب التي فاز بها شيخه ، والأولى والأدب أنك إذا ذكرت من تأخر مع السلف ألا تزيد من تأخر ألقاباً لا تذكرها عن السلف فهم أفضل ولا شك
 فكيف إذا كان من تأخر في عقيدته كلام أصلاً ؟!

فترى بعض الأخوة يقول ( وهذا قول الحسن وابن سيرين ومالك وأحمد في رواية وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام السيوطي )! مثلاً

وابن تيمية - رحمه الله - ما عليه في الاعتقاد كلام غير أنني أعني السيوطي والله المستعان

والخلاصة أنه ليس كل شيء فعله المشاهير في القرون المتأخرة علينا تلقيه بالقبول فإنك ربما لو بحثت وجدت من أنكره عليه ، زيادة أنك ينبغي أن تعرض كل من جاء بعد السلف على هديهم فما وافق فخذ به وما خالف فدع ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها

وينبغي إبعاد طلبة العلم عن هذا الضرب من التصانيف ( أي الذي فيه ذكر ما سبق من الأمور المنتقدة ) ، وقد رأيت بعض من ينتسب للعلم يقيم دورة في بعض مقدمات العلوم ينصح كل طالب علم بقراءة كتاب من هذا النوع وفي الدورة نفسها قال لبعض الشباب ( مشايخنا لا ينصحون بقراءة كتب ابن القيم للمبتديء )! 

وليعلم أن السخاوي ليس مرضي الطريقة في العقيدة ولا في طريقة التأريخ وله في شيخ الإسلام كلام سوء غير أنه هنا أصاب الحق

وقد تذمر بعض المعاصرين من طريقة الذهبي

وقال   محمد بن مانع كما تعليقاته على كتب الكوثري ص208 :" اعلم أن ابن رجب في أول ترجمته للطوفي قال : إنه فاضل صالح ، والعجب من ابن رجب كيف يصفه بالصلاح ، ثم بالنفاق في وقت واحد "


أقول : ابن رجب كان محتفظاً جداً في ألفاظه وهذه كبوة جواد فيما يبدو


وقال  مقبل الوادعي في رجال الحاكم ص14 :" قد يذكر الحافظ الذهبي رحمه الله بعض المحدثين الصوفية ويثني عليهم ويصفهم بأوصاف ضخمة، فأنقل كلامه كما هو غير مقتنع به، فإن التصوف مبتدع، ولقد أحسن الإمام الشافعي إذ يقول: لو أن رجلا تصوف في أول النهار لما جاء آخره إلا وهو أبله. أو بهذا المعنى، ذكره ابن الجوزي في مقدمة " صفة الصفوة ".

وقال مروان بن محمد الطاطري: ثلاثة لا يؤتمنون: الصوفي، والقصاص، ومبتدع يرد على المبتدعة. ذكره عنه القاضي عياض في " ترتيب المدارك " في ترجمة مروان بن محمد.

فالحافظ الذهبي رحمه الله يطلق العبارات الضخمة على المبتدعة وإليك مثال على ذلك، في " السير " (ج 11 ص 546) يثني على الجاحظ وهو عمرو بن بحر فيقول: العلامة المتبحر ذو الفنون!

وفي " لسان الميزان " للحافظ ابن حجر ما يدل على كفره، فمثل هذا ما يعظم ولا كرامة. وهكذا الصوفية المبتدعة لا يستحقون التعظيم وإن كانوا بين مستقل في البدع ومستكثر"


أقول : الوادعي نفسه يبالغ في مدح ابن حزم وأضرابه كالشوكاني وهم اهل ضلالات كبرى بل تأثر ببعض أقوالهم غير أن كلامه هنا حسن




وقال  ربيع بن هادي المدخلي في إبطال مزاعم أبي الحسن في المجمل والمفصل ص7 :" انظر هذا التأييد القوي من الذهبي على تساهله ، يقول عن يعقوب بن شيبة ومن معه من الواقفة إنه قد خالفهم ألف إمام بل أئمة السلف والخلف على نفي الخليقة عن القرآن، وتكفير الجهمية ، نسأل الله السلامة في الدين"


لعل وصفه  للذهبي  بالتساهل لهذا الاعتبار ، على أن الذهبي قد أروى الغليل في كثير من المبتدعة في الميزان والسير ، ولكنه في الوقت نفسه أطرى الكثير من أهل البدع بل له قصيدة سيئة في مدح السبكي بل عد الغزالي من المجددين في أمور أخرى يطول بسطها


ويقال أيضاً للمدخلي أن منكري العلو أشد من الواقفة أعني بهم ابن حجر والنووي وأضرابهم 

تنبيه : كلام ابن عبد البر في مسألة اللفظ تخبيط والظاهر لتأثره بالكلابية وقد نسب قول اللفظية لعدد ممن هم برآء منه مما يدل على عدم ضبطه للمسألة نهائياً فنسبه لأبي ثور فاعتماد الجهلة عليه غلط

الخطأ الثالث والخمسون : تكفير المصر على المعصية إصراراً لفظياً

وهذا وقع فيه الحويني هداه الله

قال - هداه الله -: [ أما الرجل المُصِرّ على المعصية ، وهو يعلم أنها معصية ، فهذا مستحل ، هذا مستحل ، وهذا كفره ظاهر ، كأن يقول: الرّبا أنا أعلم أنه حرام لكنني سآكله ، والزنا حرام لكنني سأفعله ، هذا مستحّل واضح الاستحلال فيه ، فلا شك في كفر مثل هذا الرجل ] أهـ....
المصدر: آخر شريط [شروط العمل الصالح]

ب- وقال مبرراً لقوله السابق: [أيها الإخوة : بعض من لم يحسن الفهم ، مع ما أراه من القرائن الظاهرة من سوء القصد ، أشاعوا عني مقالةً ما اعتقدتها بقلبي يومًا من الأيام ، ولا تلفظ بها لساني ولا في الخلوات ، فضلاً عن هذه المشاهد.
هذه المقالة الفاجرة ، الآثمة ، تقول: إنني أكفر المسلمين بالكبيرة !
فأنا أنشد طلاب العلم الذين يسمعونني منذ قُرابة خمسٍ وعشرين سنة ، وأنا أخطب على المنابر ، هل سمعوا مني في يوم من الأيام أنني قلت : إن فاعل الكبيرة كافر ؟!
فو الله ما اعتقدتها يومًا من الأيام ، حتى وأنا حَدَث في الطلب.
إنما غرهم عبارة سمعوها ، مع ما أراه من القرائن الظاهرة من سوء القصد،سمعوا مقالة لي هي :
أنني قلت: [ إن المُصِر مستحل ]. ثم ضربت مثلاً فقلت : [ لوقال رجلٌ: إن الله - عز وجل - حرّم الربا ، ولكني آكله ، فهذا كافر لا إشكال في كفره . هذه العبارة التي قلتها قالوا : المصر مستحل !! وهذا لم يقل به أحد. ]
أنا ما تكلمت عن من هو المصر ، وما ورد في كلامي أصلاً تعريف المصر ، لكن إذا كان الكلام مجملاً [ وهو ده بقى كلام أهل العلم ] ، إذا ورد كلامٌ مجمل ، ثم ورد بعده مَثَل ، فينبغي أن نرد الكلام المجمل للمثل ، لأن الأمثال من باب المبيِن ، الأمثال ليست من [بابة] الإجمال ، إنما هي مبينة ، ولذلك يضربها الله - عز وجل - لتبيين الكلام.
قال عمرو بن مُرة: [ إذا سمعت مثلاً ضربه الله - عز وجل - فلم أفهمه ، بكيت على نفسي ، لأن الله عز وجل يقول : [وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَ الِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ] فكل الأمثال من باب المبين , فأنا إذا قلت: [ إن المصر مستحل ] وهذا كلام مجمل ، ثم قلت : مثال ، حتى أبين معنى الكلام السابق ، إذا قال رجل: [ إن الله حرم الربا ، أو حرم الزنا ، أو حرم العقوق ، أو حرم أي شيء .. لكني أفعله ] فهذا واضح أن هذا كفر إباء ، إنه يأبى ، لكن ماقلت من هو المصر ، فحينئذ أبين ، برغم أن الصورة في غاية الجلاء ، وفي غايةالوضوح.
المصر : ليس هو الذي يفعل الذنب ويكرره ، ولو مرارًا , إن تكرير الذنب لايدل على الإصرار]
المصدر :[من موقعه الرسمي] .
* قلت : ولي مع كلامه وقفات:
الوقفة الأولى : يصر -هداه الله- على أن من يقول : [الربا حرام ولكني سآكله] فهذا كافر ولا يجعل هذا مصراً ثم يبريء نفسه ويأتي السذج من بعده ويقولون [الشيخ لا يكفر !] وهذا هو عين التكفير.
فالإصرار ليس فقط إصراراً عملياً بل إصرارٌ قولي أيضاً.
وقولالقائل :[أنا أعلم أن الربا حرام ولكني سآكله] ليس لفظاً لا يحتمل إلا معنىً واحداً بل يحتمل عدة معاني.
فيحتمل أن يقول ذلك حكايةً لحاله وأنه غلبت عليه شهوته.

ويا ليت شعري لسان حال العصاة كلهم أنهم يقولون :[أنا أعلم أن هذا حرام ولكني سأفعله]
والحويني فتح باباً للخوارج بأن يقولوا [لسان الحال أبلغ من لسان المقال] ويكفروا الناس.
والقاعدة في مسائل الكفر والإيمان أن من ثبت إسلامه بيقين لا يزول عنه بشك.


الوقفة الثانية : لقد غير كلامه فاستبدل لفظ الإستحلال بلفظ الإباء وفرقٌ علمي دقيق بينهما
فالإستحلال ردٌ للخبر والإستكبار والإباء معاندة للأمر كما هو شأن إبليس.
والعمدة في تكفيرالمستكبر حال إبليس لعنه الله.
فهل من يقول : أنا أعلم أن الربا حرام ولكني سآكله ، كحال إبليس الذي عاند الأمر الذي جاءه واعتبره ظالماً له ؟!!

* قال ابن أبي شيبة[28863]حدثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال :
[غزونا أرض الروم ومعنا حذيفة وعلينا رجل من قريش فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم فقال لأشربنها وان كانت محرمة ولأشربن على رغم من أرغمها] .
قلت: هذا إسناد صحيح وجاء في سنن سعيد بن منصور [ 2501 ] أن هذا الأمير هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو صحابي.
وهذه الصورة التي وقعت من الوليد هي عينها التي يكفر بها الحويني

الخطأ الرابع والخمسون : تكفير تارك الجهاد مطلقاً

وهذا وقع فيه حمود عقلا الشعيبي كما في كتاب سيرته لعبد الرحمن الهرفي


قال الإمام مسلم [ ح5040] - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ الأَنْطَاكِىُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ وُهَيْبٍ الْمَكِّىِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ سُمَىٍّ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- [ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ. قَالَ ابْنُ سَهْمٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : فَنُرَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم.]
فقوله [على شعبة من نفاق] ولم يقل على [ نفاق خالص] فتأمل ! ، وقد ترك كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع القتال في غزوة تبوك أفكانوا كفاراً بذلك ؟!

وفرق بين هذه الحال وحال من رأى نبياً سيقتل أمام عينه ويستطيع الدفع عنه ولم يفعل فهذا لا يكون إلا مع الكفر كما ذكر ذلك ابن تيمية في الإيمان

الخطأ الخامس والخمسون : اعتبار هجران الفساق أو الشدة عليهم في الإنكار غلواً مطلقاً وكذا في أهل البدع

قال محمد حسان في كتابه أحداث النهاية ص344 :

" سلم على كل مسلم أخي المسلم ، وأنت يا أختاه سلمي على أختك المسلمة ، تقولين : هذه الأخت على معصية أقول لك ذكريها بالله تبارك وتعالى ، تقولين إنها دخلت المسجد بزي غير منضبط شرعاً ، أقول لك ذكريها بالله تبارك وتعالى بكلمة رقيقة مهذبة جميلة ، وأنت يا أخي الحبيب لا تقل : هذا الرجل مبتدع أو مقصر وتقف مكتفاً لا بل ذكره بالله عز وجل بأسلوب رقراق مهذب جميل "


أقول : هذه قاعدة نصحح ولا نجرح بعينها


وهجر الفاسق والمبتدع طريقة شرعية في الإصلاح استفادها أهل العلم من عدة نصوص:

 منها هجر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك وصاحبيه لما تخلفا عن غزوة تبوك


قال البخاري في صحيحه : بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.


وقال البخاري في الأدب المفرد 1018: حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، وَمُعَلَّى، وَعَارِمٌ، قَالُوا: حَدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْفَاسِقِ حُرْمَةٌ.


وجاء في جامع المسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 122) :" مسألة

هل يجوزُ غيبةُ تاركِ الصلاةِ أم لا؟

الجواب

الحمد لله، إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز، ويَنبغي أن يُشاعَ ذلك عنه ويُهْجَر حتى يُصلي، وأمَّا مع القدرة فيجِبُ أن يُستَتابَ، فإن تابَ وإلا قُتِل"


وهذا مشروع باتفاق أهل العلم عند توفر شروطه وانتفاء موانعه


وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/1009) :" وبإسناده عن عبد الله بن محمد بن الفضل الصيداوي قال قال أحمد بن حنبل إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه قال النبي أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم"


وقد ورد في الحديث أن المرء مع من أحب فمن يحب أن يكون مع المبتدع يوم القيامة


وقال الآجري في الشريعة 191 : حدثنا جعفر بن محمد الصندلي قال : حدثنا الفضل بن زياد قال حدثنا أبو طالب قال : سألت أبا عبد الله عمن أمسك فقال : لا أقول : ليس هو مخلوقا ، إذا لقيني في الطريق وسلم علي ، أسلم عليه ؟

 قال : لا تسلم عليه ؟ ولا تكلمه ، كيف يعرفه الناس إذا سلمت عليه ؟

 وكيف يعرف هو أنك منكر عليه ؟ فإذا لم تسلم عليه عرف الذل ، وعرف أنك أنكرت عليه ، وعرفه الناس.


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول (6/40) :

" ويوضح ذلك أنا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب ولا نقر واحدا منهم ولا من غيرهم على زنى ولا سرقة ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود وقد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة والأرض مملوءة من المشركين وهم في عافية وقد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرات والأرض تلفظه في كل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراكم هذا لتعتبروا" ولهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر والإعراض والجلد وغير ذلك بما لا يعاقب به الكافر الذمي مع أن ذلك أحسن حالا عند الله وعندنا من الكافر"


قال الخلال في السنة 1704:  أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ , قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو ثَابِتٍ الْخَطَّابُ , قَالَ :

 كُنْتُ أَنَا وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عُمَرَ جَالِسًا , فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ جَهْمِيٌّ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ جَهْمِيٌّ , فَسَلَّمَ عَلَيْنَا , فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ السَّلاَمَ , وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عُمَرَ .

 فَقَالَ لِي إِسْحَاقُ : تَرُدُّ عَلَى جَهْمِيٍّ السَّلاَمَ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : أَلَيْسَ أَرُدُّ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ؟

 قَالَ : تَرْضَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ .

 قَالَ : فَغَدَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , فَأَخْبَرْتُهُ بِالْخَبَرِ , فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ , تَرُدُّ عَلَى جَهْمِيٍّ ؟

 فَقُلْتُ : أَلَيْسَ أَرُدُّ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ؟

 فَقَالَ : الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمَا.


وهذا الأثر في سنده جهالة غير أن معناه مستقيم


وقال ابن حجر في الفتح (10/497) :" قال الطبري: قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي، وقد استشكل كون هجران الفاسق أو المبتدع مشروعًا ولا يشرع هجران الكافر، وهو أشد جرمًا منهما لكونهم من أهل التوحيد في الجملة. وأجاب ابن بطال: بأن لله أحكامًا فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لأمره فيها، فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه. وأجاب غيره: بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان، فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر لاسيما إذا كان حربيًا، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم فإنه ينزجر بذلك غالبًا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها"


وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (23/ 354) :" وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ فَإِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ لَكِنْ إنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا لَا يُرَتَّبُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُهُ حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أُثِرَ ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ ذَنْبِهِ . فَمِثْلُ هَذَا إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَفُتْ الْمَأْمُومَ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ"


وقد نقل غير واحد الإجماع على هجران أهل البدع كابن قدامة والصابوني وأبو يعلى والبغوي وابن عبد البر وشيخ الإسلام وغيرهم كثير بل قطع غير واحد من الأئمة بوجوب ذلك

وذلك متأكد في دعاة البدعة وأصحاب البدع المكفرة وأما البقية فعلى التفصيل الذي ذكرناه آنفاً عن ابن تيمية وجمع كلام السلف في الحلقة التاسعة فيما أذكر


والنصوص في ذلك كثيرة جداً معروفة لطلبة العلم والمراد هنا التنبيه


وإيجابه الرفق في نصح المتبرجة ليس لازماً


قال أحمد في مسنده 7083 : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْقِتْبَانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ هِلَالٍ الصَّدَفِيَّ، وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولَانِ: سَمِعْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي رِجَالٌ يَرْكَبُونَ عَلَى سُرُوجٍ، كَأَشْبَاهِ الرِّحَالِ، يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِمْ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ، الْعَنُوهُنَّ، فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ، لَوْ كَانَتْ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَخَدَمْنَ نِسَاؤُكُمْ نِسَاءَهُمْ، كَمَا يَخْدِمْنَكُمْ نِسَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ .


وهذا الحديث فيه ضعف عندي لحال عبد الله بن عياش غير أن  الألباني يحسنه وعهدي بمحمد حسان أنه يقلد  الألباني فتأمل قوله ( العنوهن فإنهن ملعونات ) واللعن ليس كلمة رقراقة لطيفة


وأما جعله نصح أهل البدع دائماً بلطف فهذا غلط وخلاف طريقة السلف في التعامل معهم وأنهم كان يشتدون عليهم ويعتبرون الشدة منقبة ، والنصوص التي استفاد منها السلف الشدة مع أهل البدع كثيرة معروفة لدى طلبة العلم والمراد هنا التنبيه


فمن ذلك حديث ( بئس خطيب القوم أنت )


وقول عمر ( قاتل الله سمرة )


وقول ابن عباس في نوف ( كذب عدو الله )


وغيرها من النصوص مع من هم ليسوا من أهل البدع فكيف بأهل البدع وعلى هذا دأب السلف رضوان الله عليهم في تعاملهم مع أهل البدع

والشدة في محلها واللين في محله بحسب الحال وممن الأصل معهم الشدة المجاهرون إلا منا جاهر بشيء عامة الناس يجاهرون به ورجي خيره

الخطأ السادس والخمسون : قياس معاملة الكافر على معاملة المبتدع مطلقاً ، وهذا غلط فإن هناك من الأمور ما تشرع مع المبتدع ولا تصلح مع الكافر والعكس

وهذا مقال لي قديم في المسألة

:" فقد اشتهر بين عدد من طلبة العلم قياس التعامل مع أهل البدع على التعامل مع المشركين أو أهل الذمة ، فيقولون مثلاً ( إذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم دعوة اليهودية فلا تثريب علينا أن نقبل دعوة المبتدع )


والحق أن هذا فيه نظر ، وأن المبتدع والفاسق يعاقبان بما لا يعاقب به الكافر في باب الهجر ، وقد قرر ذلك غير واحد


قال ابن حجر في شرح البخاري  (17/ 247) :

" وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : قِصَّة كَعْب بْن مَالِك أَصْل فِي هِجْرَان أَهْل الْمَعَاصِي ، وَقَدْ اِسْتُشْكِلَ كَوْن هِجْرَان الْفَاسِق أَوْ الْمُبْتَدِع مَشْرُوعًا وَلَا يُشْرَع هِجْرَان الْكَافِر وَهُوَ أَشَدُّ جُرْمًا مِنْهُمَا لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَهْل التَّوْحِيد فِي الْجُمْلَة .

 وَأَجَابَ اِبْن بَطَّال بِأَنَّ لِلَّهِ أَحْكَامًا فِيهَا مَصَالِح لِلْعِبَادِ وَهُوَ أَعْلَم بِشَأْنِهَا وَعَلَيْهِمْ التَّسْلِيم لِأَمْرِهِ فِيهَا ، فَجَنَحَ إِلَى أَنَّهُ تَعَبُّد لَا يُعْقَل مَعْنَاهُ .

 وَأَجَابَ غَيْره بِأَنَّ الْهِجْرَان عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ : الْهِجْرَان بِالْقَلْبِ ، وَالْهِجْرَان بِاللِّسَانِ . فَهِجْرَان الْكَافِر بِالْقَلْبِ وَبِتَرْكِ التَّوَدُّد وَالتَّعَاوُن وَالتَّنَاصُر ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا وَإِنَّمَا لَمْ يُشْرَع هِجْرَانه بِالْكَلَامِ لِعَدَمِ اِرْتِدَاعه بِذَلِكَ عَنْ كُفْره ، بِخِلَافِ الْعَاصِي الْمُسْلِم فَإِنَّهُ يَنْزَجِر بِذَلِكَ غَالِبًا ، وَيَشْتَرِك كُلّ مِنْ الْكَافِر وَالْعَاصِي فِي مَشْرُوعِيَّة مُكَالَمَته بِالدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَة ، وَالْأَمْر الْمَعْرُوف وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ، وَإِنَّمَا الْمَشْرُوع تَرْك الْمُكَالَمَة بِالْمُوَادَّةِ وَنَحْوهَا "


فصرح هو ومن قبله من الشراح أن الفاسق والمبتدع يهجران والكافر لا يهجر في الغالب


وصرح بهذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في الصارم المسلول (6/40) :" ويوضح ذلك أنا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب ولا نقر واحدا منهم ولا من غيرهم على زنى ولا سرقة ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود وقد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة والأرض مملوءة من المشركين وهم في عافية وقد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرات والأرض تلفظه في كل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراكم هذا لتعتبروا" ولهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر والإعراض والجلد وغير ذلك بما لا يعاقب به الكافر الذمي مع أن ذلك أحسن حالا عند الله وعندنا من الكافر"


قال الخلال في السنة 1704: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ , قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو ثَابِتٍ الْخَطَّابُ , قَالَ :

 كُنْتُ أَنَا وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عُمَرَ جَالِسًا , فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ جَهْمِيٌّ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ جَهْمِيٌّ , فَسَلَّمَ عَلَيْنَا , فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ السَّلاَمَ , وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عُمَرَ , فَقَالَ لِي إِسْحَاقُ : تَرُدُّ عَلَى جَهْمِيٍّ السَّلاَمَ ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : أَلَيْسَ أَرُدُّ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ؟ قَالَ : تَرْضَى بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : فَغَدَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , فَأَخْبَرْتُهُ بِالْخَبَرِ , فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ , تَرُدُّ عَلَى جَهْمِيٍّ ؟ فَقُلْتُ : أَلَيْسَ أَرُدُّ عَلَى الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ؟ فَقَالَ : الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمَا.


وهذا الأثر في سنده جهالة غير أن معناه مستقيم مع العلم أن الجهمية كفار غير أن تعليل أحمد يشمل كل أهل البدع وإن لم يكونوا كالجهمية


وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/323) :" فَصْلٌ ( فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّوْلَةِ ) .

قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ الْبَلْخِيّ دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ ، فَجَاءَهُ رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ .

فَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ : يُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ قَالَ : إنَّ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ لَا يَدْعُونَ إلَى أَدْيَانِهِمْ ، وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ دَاعِيَةٌ .

عَزَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إلَى مَنَاقِبِ الْبَيْهَقِيّ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَقَالَ : فَالنَّهْيُ عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالدَّاعِيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْأُمَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ .

وَفِي جَامِعِ الْخِلَالِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ أَصْحَابَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ ، وَأَهْلُ الْبِدَع وَالْأَهْوَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ .

فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَعْظَمَ الضَّرَرِ عَلَى الدِّينِ وَالْمُسْلِمِينَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَرُّوذِيِّ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، فَأَذِنَ فَجَاءَ أَرْبَعَةُ رُسُلِ الْمُتَوَكِّلَ يَسْأَلُونَهُ فَقَالُوا : الْجَهْمِيَّةُ يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا أَوْلَى أَمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَلَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى أُمُورِ السُّلْطَانِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ، وَأَمَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسَلَّطُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَكُونُوا تَحْتِ أَيْدِيهمْ ، قَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ السَّلَفُ .

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرُّوذِيُّ أَيُسْتَعَانُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمَا مُشْرِكَانِ ، وَلَا يُسْتَعَانُ بِالْجَهْمِيِّ ؟ قَالَ : يَا بُنَيَّ يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَأُولَئِكَ لَا يَغْتَرُّ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ "


وهذا الفقه العميق لم يدركه أولئك القائسون لأهل البدع على الكفار في باب التعامل



تنبيه : تقدم في نصوص بعض أهل العلم أن العاصي يهجر ، ويريد بالعاصي المجاهر بالكبائر


قال البخاري في صحيحه : بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى وَقَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.


وقال البخاري في الأدب المفرد 1018: حَدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، وَمُعَلَّى، وَعَارِمٌ، قَالُوا: حَدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْفَاسِقِ حُرْمَةٌ.


وهذا مشروع باتفاق أهل العلم إن لم يمنع منه مانع  ، من هذا تعلم غلط من يطلق ( السلفي لا يهجر ) كذا بإطلاق ، ولا بد من التفصيل فإذا كان فاسقاً وكانت المصلحة في هجره هجر


وهذا ليس فتحاً لباب التنافر والتباغض بل ينبغي وجود النصيحة ومراعاة المصلحة ومراعاة المصلحة لا تعني دائماً الاحجام عن الهجر بل في كثير من الأحيان تكون المصلحة في الإقدام على هذا ، وما ينبغي هجر هذه العقوبة الشرعية التي دلت عليها النصوص وادعى بعض أهل العلم وجوبها


ومن أمثلة الفساق من ينشر الكذب في وسائل التواصل الاجتماعي على السلفيين أو يحدث به في المجالس


قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا )


ومن أمثلة الفساق من يكتب بعدة أسماء ليوهم مخالفه أنه عدة أشخاص وأن مخالفيه كثر ويؤيد نفسه بنفسه



قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم ص428 :" فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين وأشد .

نعم، هؤلاء يقرون على دينهم المبتدع، والمنسوخ، مستسرين به، والمسلم لا يقر على مبتدع ولا منسوخ، لا سرا ولا علانية"


وقال ابن القيم في زاد المعاد (2/ 388) :" وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الرّدّ عَلَيْهِمْ فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ وَهُوَ الصّوَابُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجِبُ الرّدّ عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَوْلَى ، وَالصّوَابُ الْأَوّلُ وَالْفَرْقُ أَنّا مَأْمُورُونَ بِهَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ تَعْزِيرًا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الذّمّةِ "

الخطأ السابع والخمسون : اعتبار لعن أهل البدع غلو مطلقاً

وهذه طريقة محمد إسماعيل المقدم والعجيب أن ابن تيمية ينقل خلافاً والألباني يرجح جواز اللعن للمعين وهذا ما ألزمهم به الحداد

وهذا مقال لي قديم في المسألة :" فهذه خمسة أوجه في الدلالة على أن المبتدع ملعون


الوجه الأول : قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)



والمبتدع يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم كما نص على ذلك أبو قلابة الجرمي


قال الهروي في ذم الكلام 839 : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا الصَّغَانِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أهل ضَلَالَة ولاأرى مَصِيرَهُمْ إِلَّا إِلَى النَّارِ فَجَرِّبْهُمْ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَنْتَحِلُ رَأْيًا أَوْ قَالَ قَوْلًا فَيَتَنَاهَى بِهِ إِلَّا يَرَوْنَ السَّيْفَ وَإِنَّ النِّفَاقَ كَانَ ضُرُوبًا ثُمَّ تَلَا {وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ الله} {وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي} {وَمِنْهُم من يَلْمِزك} فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا فِي الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا وَاجْتَمَعُوا فِي السَّيْفِ

ثُمَّ قَالَ أَيُّوبُ (كَانَ وَاللَّهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَوِي الْأَلْبَابِ)


وقال الطبري في تفسيره (20/ 332) : حدثني محمد بن سعد القرشي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سلمة بن الحجاج، عن عكرمة قال: الذين يؤذون الله ورسوله هم أصحاب التصاوير.


وهذا إسناد قوي والمصور يحاول مضاهاة الله في خلقه والمبتدع يحاول مضاهاة الله عز وجل في أمره فكلاهما مستوجب للعنة


الوجه الثاني : أن المبتدع شر من المصور



قال البخاري في صحيحه 5954 : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مِنْهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ وَقَالَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ


وقال البخاري في صحيحه 7559 : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً


أقول : قد قال الله عز وجل ( ألا له الخلق والأمر ) ففصل بين الخلق والأمر الذي هو كلامه وليس من خلقه ، ولا شك أن كلام الله عز وجل أعظم من خلق الله عز وجل ، فإذا كانت هذه عقوبة من يضاهي خلق الله وهم المصورون ، فكيف بمن ضاهى بأمر الله عز وجل ونهيه وأحدث في دينه وهم أهل البدع ؟


لا شك أن حاله أشنع


قال الشاطبي في الاعتصام (1/68) :" وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي لِلشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرَائِعَ وَأَلْزَمَ الْخَلْقَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِهَا، وَصَارَ هُوَ الْمُنْفَرِدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّشْرِيعُ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْخَلْقِ لَمْ تُنَزَّلِ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِيجَ إلى بعث الرسل عليهم السلام.

فهذا الَّذِي ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ قَدْ صيَّر نفسه نظيراً ومضاهياً، حَيْثُ شرَّع مَعَ الشَّارِعِ، وَفَتَحَ لِلِاخْتِلَافِ بَابًا، وَرَدَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي الِانْفِرَادِ بِالتَّشْرِيعِ، وَكَفَى بذلك شراً "


الوجه الثالث : أن المبتدع كاتم وزيادة



وقال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ )


وهذه الآية تنطبق على أهل البدع من باب أولى

 قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/363 ) :" قال الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس "


الوجه الرابع : أنه يؤوي محدثاً


قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد ص156 :" قوله: "ولعن الله من آوى محدثًا". أما "آوى" بفتح الهمزة ممدودة أي: ضم إليه وحمى، وقال أبو السعادات: يقال: أويت إلى المنْزل وآويت غيري وأويته، وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وقال الأزهري: هي لغة فصيحة.

وأما "محدثًا" فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها، ولم ينكر عليه، فقد آواه. قلت: الظاهر أنه على الرواية الأولى يعم المعنيين، لأن المحدث أعم من أن يكون بجناية أو ببدعة في الدين، بل المحدث بالبدعة في الدين شر من المحدث بالجناية، فإيواؤه أعظم إثمًا، ولهذا عده ابن القيم في كتاب "الكبائر" وقال: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر، كانت الكبيرة أعظم"


فإذا كان من يؤوي محدثاً ملعوناً فكيف بالمحدث نفسه


وقال  ابن عثيمين في القول المفيد :" "من آوى محدثا": أي: ضمه إليه وحماه، والإحداث: يشمل الإحداث في الدين، كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة، وغيرهم.

والإحداث في الأمر: أي في شؤون الأمة، كالجرائم وشبهها، فمن آوى محدثا، فهو ملعون، وكذا من ناصرهم، لأن الإيواء أن تأويه لكف الأذى عنه، فمن ناصره، فهو أشد وأعظم. والمحدث أشد منه; لأنه إذا كان إيواؤه سببا للعنة، فإن نفس فعله جرم أعظم.

ففيه التحذير من البدع والإحداث في الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "، وظاهر الحديث: ولو كان أمرا يسيرا"


وقال الشاطبي في الاعتصام (1/96) :" وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيفَةِ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا; فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» ".

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سِيَاقِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ حَدَثٍ أُحْدِثَ فِيهَا مِمَّا يُنَافِي الشَّرْعَ، وَالْبِدَعُ مِنْ أَقْبَحِ الْحَدَثِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةٍ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا بِحَوْلِ اللَّهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَدِينَةِ ; فَغَيْرُهَا أَيْضًا يَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى"


وقال الهروي في ذم الكلام 1357 - أخبرنا محمد بن موسى، ثنا الأصم، ثنا محمد بن إسحاق [الصغاني]، ثنا الحسن بن موسى الأشيب؛ قال: سمعت المبارك بن فضالة، [ثنا]؛ قال: سمعت والله الحسن يذكر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((من أحدث حدثاً؛ فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو أوى محدثً؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)).

فقالوا للحسن: ما الحدث؟ فقال: أصحاب الفتن [وأهل] الأهواء كلهم يحدثون)).


الوجه الخامس : أنه مغيرون لدين الله عز وجل


قال البخاري في صحيحه 4886 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ فَجَاءَتْ فَقَالَتْ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ فَقَالَ وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ قَالَ لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } قَالَتْ بَلَى قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ قَالَتْ فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ قَالَ فَاذْهَبِي فَانْظُرِي فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا فَقَالَ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتُهَا


فجعل علة لعنهن أنهن ( مغيرات لخلق الله عز وجل ) فكيف بالمغير المبدل لدين الله عز وجل وشرعه الشريف"

والمتأمل لحال السلف لا يجدهم يلعنون كل من وقع في بدعة أو يلتزمون ذلك بل كانوا يلعنون رؤوساً علم عظيم ضررهم أو أناساً ظهرت منابذتهم الجلية للسنة

وهذا غالب أحوالهم وإلا هناك ما يند كلعن رجاء بن حيوة لمكحول

الخطأ الثامن والخمسون : إنكار التعزير بعقوبة السجن لأهل البدع مطلقاً

فقد رأيت بحثاً لبعضهم ينكر فيه مشروعية التعزير بالسجن ، وهذا بحث يغلب الدافع النفسي عند الباحث

 وما ينبغي للباحث إذا كان له هوى في المسألة أن يبحثها أصلاً فضلاً عن أن يتكلف لي أعناق الأدلة من أجل المسألة التي في رأسه


والحق أن تعزير ( من يستحق ) بالسجن أمرٌ أجمع عليه الفقهاء ولا تختلف المذاهب الفقهية على جواز استبدال التغريب بالسجن وقد اتخذ عمر السجن وما أنكر عليه أحد



قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (15/ 136) :" وهذا معنى الحبس فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه فى السجن بل المراد منعه من التصرف المعتاد والنبى صلى الله عليه و سلم لم يكن له حبس ولا لأبي بكر بل أول من اتخذ السجن عمر وكان النبى يسلم الغريم إلى غريمه ويقول ما فعل أسيرك فيجعله أسيرا معه حتى يقضيه حقه وهذا هو المطلوب من الحبس"




قال البخاري في صحيحه بَاب الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَرَمِ وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَلَى أَنَّ عُمَرَ إِنْ رَضِيَ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُ مِائَةِ دِينَارٍ وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ


2423 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ


فالبخاري يرى السجن ويرى الحبس ويستدل لذلك



قال ابن حجر في شرح البخاري (7/313) :" وَصَلَه عَبْد الرَّزَّاق وَابْن أَبِي شَيْبَة وَالْبَيْهَقِيّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن فَرُّوخ بِهِ ، وَلَيْسَ لِنَافِع بْن عَبْد الْحَارِث وَلَا لِصَفْوَان بْن أُمِّيَّة فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاسْتَشْكَلَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّرْدِيدِ فِي هَذَا الْبَيْعِ حَيْثُ قَالَ " إِنْ رَضِيَ عُمَر فَالْبَيْع بَيْعه ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلِصَفْوَان أَرْبَعُمِائَة " وَوَجَّهَهُ اِبْن الْمُنِير بِأَنَّ الْعُهْدَةَ فِي ثَمَن الْمَبِيع عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ ا ه"



قال عبد الله بن أحمد في مسائله عن أحمد 1590 - حَدثنَا سَأَلت ابي عَن رجل ابتدع بِدعَة يَدْعُو اليها وَله دعاة عَلَيْهَا هَل ترى ان يحبس

قَالَ نعم ارى ان يحبس وتكف بدعته عَن الْمُسلمين


فهذا نص لأحمد في مسألة حبس المبتدع ، ولا أعلم له مخالفاً



وقال الشاطبي في الاعتصام (1/226) :" فَخَرَجَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنْوَاعٌ:

أَحَدُهَا: الْإِرْشَادُ، وَالتَّعْلِيمُ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ ; كَمَسْأَلَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ

حِينَ ذَهَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ، فَكَلَّمَهُمْ، حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَمَسْأَلَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ غَيْلَانَ، وَشِبْهُ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: الْهُجْرَانُ، وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ; حَسْبَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي هُجْرَانِهِمْ لِمَنْ تَلَبَّسَ بِبِدْعَةٍ، وَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِصَّةِ صَبِيغٍ.

وَالثَّالِثُ: كَمَا غَرَّبَ عُمَرُ صَبِيغًا، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ السَّجْنُ، وَهُوَ:

الرَّابِعُ: كَمَا سَجَنُوا الْحَلَّاجَ قَبْلَ قَتْلِهِ سِنِينَ عِدَّةً.

وَالْخَامِسُ: ذِكْرُهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِشَاعَةُ بِدْعَتِهِمْ ; كَيْ يُحْذَرُوا; وَلِئَلَّا يُغْتَرَّ بِكَلَامِهِمْ; كَمَا جَاءَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ.

السَّادِسُ: الْقَتْلُ إِذَا نَاصَبُوا الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ ; كَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَوَارِجَ وَغَيْرُهُ مِنْ خُلَفَاءِ السُّنَّةِ.

وَالسَّابِعُ: الْقَتْلُ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا مِنَ الِاسْتِتَابَةِ، وَهُوَ قَدْ أَظْهَرَ بِدْعَتَهُ، وَأَمَّا مَنْ أَسَرَّهَا وَكَانَتْ كُفْرًا أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ; فَالْقَتْلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ، وَهُوَ الثَّامِنُ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النِّفَاقِ، كَالزَّنَادِقَةِ.

وَالتَّاسِعُ: تَكْفِيرُ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كُفْرِهِ ; كَمَا إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ صَرِيحَةً فِي الْكُفْرِ; كَالْإِبَاحِيَّةِ، وَالْقَائِلِينَ بِالْحُلُولِ; كَالْبَاطِنِيَّةِ، أَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ، فَذَهَبَ الْمُجْتَهِدُ إِلَى التَّكْفِيرِ; كَابْنِ الطَّيِّبِ فِي تَكْفِيرِهِ جُمْلَةً مِنَ الْفِرَقِ، فَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ:

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرِثُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلَا يُغَسَّلُونَ إِذَا مَاتُوا، وَلَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ"



فذكر التعزير بالسجن




وهذا لا يعني إقرار السجن بالظلم ، ولا إقرار تعذيب امريء مسلم ، غير أن وجود بعض الممارسات الخاطئة لا يعني إنكار الفعل المشروع كردة فعل


ويبنغي أن ينظر في مسألة جعل المجرمين مع بعضهم البعض في سجن واحد يتعلم بعضهم من بعض

وليعلم أنه لا يوجد اليوم سجن على الاستقامة بل يسجنون أهل التدين والزنادقة يسرحون ويمرحون هذا هو الحال في معظم البلدان

ولكن سوء التطبيق لا ينفي أصل المسألة الصواب

الخطأ التاسع والخمسون : تجويز التبليغ على أهل البدع مطلقاً ولو علم أنهم في السجن سيظلمون ويتجاوز الحد في تعذيبهم

حتى أنني بلغني عن بعضهم _ ولست متأكداً _ قوله بالتبليغ على من يسميهم ب( الحزبيين ) في بلاد الكفار الغربيين !

قال الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يُسْتَعَانُ عَلَى مَنْ يَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ بِالسُّلْطَانِ؟ قَالَ: " لَا، يَأْخُذُونَ مِنْهُ الشَّيْءَ وَيَسْتَتِيبُونَهُ. ثُمَّ قَالَ: جَارٌ لَنَا حَبَسَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَمَاتَ فِي السِّجْنِ. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ قِصَّةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ "
فَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ خَلَّادٍ، يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَجَاءَ الْفَضْلُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَنَا: «لَا تُجَالِسُوهُ، حَبَسَ رَجُلًا فِي السِّجْنِ، مَا يُؤْمِنُكَ أَنْ يَقَعَ السِّجْنُ عَلَيْهِ، قُمْ، فَأَخْرِجْهُ»

وهذا الذي هجر فيه ابن عيينة يفتي به بعضهم بل ويشمتون في مخالفيهم إذا صار فيهم قتل من ومجازر من أناس ديمقراطيين

فكيف تعتقد إسلام مخالفك ثم تفرح بالإسراف في قتله وهو أعزل وقتل نسائه أو الاعتداء عليهن

قال ابن أبي شيبة في المصنف 30686 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَهُوَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: «مَنْ أَنْتَ؟» , فَقَالَ: ابْنُ أُخْتِكَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ , قَالَ: «صَاحِبُ الْعِرَاقِ؟» , قَالَ: نَعَمْ , جِئْتُكَ لِأَسْأَلَكَ عَنْ قَوْمٍ خَلَعُوا الطَّاعَةَ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَحَثَوَا الْأَمْوَالَ فَقُوتِلُوا فَغُلِبُوا فَدَخَلُوا قَصْرًا فَتَحَصَّنُوا فِيهِ ثُمَّ سَأَلُوا الْأَمَانَ فَأُعْطُوهُ ثُمَّ قُتِلُوا ; قَالَ: «وَكَمِ الْعِدَّةُ؟» قَالَ: خَمْسَةُ آلَافٍ , قَالَ: فَسَبَّحَ ابْنُ عُمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ: «وَاللَّهِ يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ , لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مَاشِيَةً لِلزُّبَيْرِ فَذَبَحَ مِنْهَا فِي غَدَاةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ أَكُنْتَ تَرَاهُ مُسْرِفًا؟» قَالَ: نَعَمْ , قَالَ: «فَتَرَاهُ إِسْرَافًا فِي بَهَائِمَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ , وَتَسْتَحِلُّهُ مِمَّنْ هَلَّلَ اللَّهَ يَوْمًا وَاحِدًا؟»


وقال أيضاً فَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ خَلَّادٍ، يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَجَاءَ الْفَضْلُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَنَا: «لَا تُجَالِسُوهُ، حَبَسَ رَجُلًا فِي السِّجْنِ، مَا يُؤْمِنُكَ أَنْ يَقَعَ السِّجْنُ عَلَيْهِ، قُمْ، فَأَخْرِجْهُ»

هذا إلا إذا كان هذا المخالف سيستحل دماءً محرمة فهنا تدرأ المفسدة الأعظم بالأدنى

الخطأ الستون : دعوى الاتفاق على ترك الترحم على أهل البدع ولو بغير التزام ولو سراً وإن لم تكن بدعتهم مكفرة وهذه طريقة محمود الحداد وتبعه عليها غيره

قال ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/201) : أبو القاسم بن السمرقندي أنبأنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله بن عمر أنبأنا أبو الحسين بن بشران أنبأنا عثمان بن احمد نبأنا حنبل بن إسحاق نبأنا هارون بن معروف نبأنا ضمرة نبأنا ابن شوذب عن اشعث الحداني قال رأيت الحجاج في منامي بحال سيئة قلت يا أبا محمد ما صنع بك ربك قال ما قتلت احدا قتلة إلا قتلني بها قلت ثم مه قال ثم أمر بي إلى النار قلت ثم مه قال أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله قال فكان ابن سيرين يقول إني لأرجو له قال فبلغ ذلك الحسن قال فقال الحسن أما والله ليخلفن الله عز وجل رجاءه فيه يعني ابن سيرين


وهذا إسناد قوي


وذكرته مع تكفير كثير من الناس للحجاج لقوله بتحريف القرآن وبلايا أخرى لبيان أن ابن سيرين قد رجا له المغفرة وإن خفي من حال الحجاج ما يدخله في زمرة الكفار فلا يخفى ما يدخله في زمرة المبتدعة فقد كان ناصبياً خبيثاً


وهذا أعلى ما وقفت عليه في الترحم على صاحب بدعة فرجاء المغفرة بمنزلة الترحم ، وهذا لمن بدعته ليست مكفرة أو كانت من النوع يكفر فيه بعض المتلبسين دون بعض ، وهذا غير راتب بحيث كلما ذكر ذكروا ذلك


وفي الباب قول سفيان في ابن أبي رواد ( إنني لأرى الصلاة على من هو شر منه )


والصلاة بابها وباب الترحم واحد


وبعضهم يستدل بترك شعبة الاستغفار لابن أبي عياش


وهذا وقع فعلاً ولكن ليس لأجل بدعة وإنما لأجل الزجر من أنه كان يروي المناكير دون تحرز وإلا فقد ثبت أن شعبة صلى عليه


قال البغوي في الجعديات 38 -: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي رِزْمَةَ قَالَ: نا عَبْدَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: «لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا صَلَّيْتُ عَلَى أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ»


وفي الباب ما قال عبد الله بن أحمد في العلل 2942 - حَدثنِي أَبُو سعيد الْأَشَج قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن بشير قَالَ حَدثنَا مسعر قَالَ سَمِعت عبد الْملك بن ميسرَة وَنحن فِي جَنَازَة عَمْرو بن مرّة وَهُوَ يَقُول إِنِّي لأحسبه خير أهل الأَرْض


وعمرو بن مرة مرجيء لم يكن داعية وكان شديد العبادة ومثله يغتر به بعض الناس وعبد الملك بن ميسرة ما زنوه ببدعة ، ومن طريق عبد الله روى أبو نعيم الخبر في الحلية وتابع عبد الله أبو القاسم البغوي في الجعديات


وورد عن السلف ما يدل على المنع من الترحم على أهل البدع


وأشهر ذلك غضب سفيان ممن ترحم على زفر أمامه


والذي يظهر أن هذا لا يخالف السابق فمأخذه إما تكفير أهل الرأي وذلك لقولهم بالحيل


وقد ورد عن يزيد بن هارون ما يدل على تكفير الحسن بن زياد اللؤلؤي ولا فرق بينه وبين زفر


قال العقيلي في الضعفاء حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: قُلْتُ لِيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: مَا تَقُولُ فِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ؟ فَقَالَ: أَوَمُسْلِمٌ هُوَ؟


وكلام مالك في أبي حنيفة يشير إلى هذا المعنى بل هو صريح وكذا كلام ابن المبارك في أبي يوسف وأمره بإعادة الصلاة خلفه


وكذا استغفار بعض المحدثين من الترحم على ابن المديني فقد قال ابن الجنيد لابن معين أنهم يرونه مرتداً ومعلوم توبة ابن المديني


واختار ابن تيمية أن المبتدع يترحم عليه فيه السر ويترك ذلك في العلن


ويبدو أن الأمر كصلاة الجنازة عليه والتزام ترحم راتب في حقه خصوصاً إذا كان داعية لا يصلح ، وأما صاحب البدعة المكفرة فلا مطلقاً


وهذا ما توصلت إليه في هذه المسألة



ثم أفادني بعض الأخوة بهذا الأثر

جاء في الجعديات 1901 - قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: «إِنِّي لَأَدْعُو لِلسُّلْطَانِ، وَأَدْعُو لِأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَذْكُرَ إِلَّا مَا فِيهِمْ»

وهذا يشمل الدعاء لهم أحياء وأمواتاً


هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي