الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فإن مما ابتليت به الأمة في هذا العصر ما يسمى ب( الديمقراطية ) ، وهي
نظام سياسي يعني حكم الشعب نفسه بنفسه دون النظر إلى أي شيء آخر ولو كان كتاب الله
عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
وفي طريقة تعيين أعضاء مجلس الشعب أو البرلمان يتم تأليه الأغلبية عن طريق
ما يسمى بالانتخابات فيجعل قولهم هو الصواب مطلقاً وهو ملزم للأقلية
قال الله تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )
وقال الله تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور )
وفي عملية الانتخابات يتم التسوية بين صوت المسلم وصوت الكافر وبين صوت
الرجل وصوت المرأة و بين صوت العدل وصوت الفاسق وبين صوت العالم وصوت الجاهل
ثم بعد أن يأتي مجلس بهذه الطريقة المسخ التي تخالف الشرع ، يكون هذا المجلس
حاكماً في كل شيء ولو كان فيه نص فيتم التصويت على الثوابت الشرعية
قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)
والتحاكم عند التصويت على هذه الثوابت لكثرة الأصوات لا للنصوص
قال الله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
ثم إذا تفضل أعضاء المجلس وصوتوا على موافقة الشريعة في هذا الحكم ، فإنه
حكم مؤقت فلو جاء مجلس آخر وبدى له إعادة النظر في هذا الحكم الشرعي وإلغائه لكان له
ذلك بشرط أن يتم ذلك وفق الآليات الديمقراطية !
أظن أخي المسلم قد استبان لك خطورة هذا النظام ومحادته لشرع الله عز وجل
، وما ظن أنه سيحصل للشرع من وراء هذا النظام إلا كظن من يحسب أنه سيجني من شجرة الحنظل
العنب !
وما أحسن قال الشيخ أحمد شاكر في الرد على الذين يسوون بين الشورى والديمقراطية
قال في عمدة التفسير (5/89) عند حديثه عن قول الله عز وجل: {أفغير الله
أبتغي حكما...} إلى قوله: {وهو أعلم بالمهتدين} : "هذه الآيات وما في معناها تدمغ
بالبطلان نوع الحكم الذي يخدعون به الناس ويسمونه الديمقراطية إذ هي حكم الأكثرية الموسومة
بالضلال هي حكم الدهماء والغوغاء"
وقال أيضاً في (1/ 383) من عمدة التفسير ط دار الوفاء :" وهذه الآية
( وشاورهم في الأمر ) ، والآية الأخرى ( وأمرهم شورى بينهم ) ، اتخذها اللاعبون بالدين
في هذا العصر من العلماء وغيرهم عدتهم في التضليل بالتأويل ليواطئوا ، صنع الإفرنج
في النظام الدستوري الذي يزعمونه ويخدعون الناس بتسميته ( النظام الديمقراطي ) ، فاصطنع
هؤلاء اللاعبون شعاراً من هاتين الآيتين يخدعون به الشعوب الإسلامية أو المنتسبة للإسلام
، يقولون كلمة حق يراد بها الباطل ، يقولون : الإسلام يأمر بالشورى ، ونحو ذلك من الألفاظ
، وحقاً إن الإسلام يأمر بالشورى ، ولكن أي شورى يأمر بها الإسلام ؟
إن الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت
فتوكل على الله ) ومعنى الآية واضحٌ صريح لا يحتاج إلى تفسير ، ولا يحتمل التأويل ،
فهو أمرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم لمن يكون ولي الأمر من بعده ، أن يستعرض آراء
أصحابه الذين يراهم موضع الرأي ، الذين هم أولو الأحلام والنهى في المسائل التي تكون
موضع تبادل الآراء وموضع الاجتهاد في التطبيق ، ثم يختار من بينها ما يراه حقاً أو
صواباً أو مصلحة فيعزم على إنفاذه غير متقيد برأي فريق معين ولا برأي عدد محدود ، لا
برأي أكثرية ولا برأي أقلية ، فإذا عزم توكل على الله وأنفذ العزم على ما ارتآه
ومن المفهوم البديهي الذي لا يحتاج إلى دليل أن الذين أمر الرسول صلى الله
عليه وسلم بمشاروتهم _ ويأتسي به من يلي الأمر من بعده _ هم الرجال الصالحون القائمون
على حدود الله المتقون المقيمون الصلاة ، المؤدون الزكاة المجاهدون في سبيل الله الذي
قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ) ، ليسوا
هم الملحدين ولا المحاربين لدين الله ولا الفجار الذين لا يتورعون عن منكر ولا الذين
يزعمون أن لهم أن يضعوا شرائع وقوانين تخالف دين الله وتهدم شريعة الإسلام وأولئك
_ من بين كافر وفاسق _ موضعهم الصحيح تحت السيف أو السوط لا موضع الاستشارة وتبادل
الآراء "
وإن البلاء أن يأتي منتسب للعلم ولا يكتفي أن يقول هذا أن النظام جائزٌ
حالياً للضرورة وحسب بل ويزعم أن الصحابة قد مارسوا ذلك وذلك كالداعية محمد بن عبد
الملك الزغبي الذي زعم أن الصحابة مارسوا الانتخاب مدعماً خيالاته بالاستدلال بحادثة
تولية عثمان وأن من فعله عبد الرحمن بن عوف هو انتخابات ! .
وأنه استفتى حتى النساء وجاء برواية
افترعها من عقله زعم فيها أن عبد الرحمن بن عوف وقف على المنبر وقال للناس من تختارون
والجواب على هذا الاستدلال من وجوه
أولها : هل جعل عبد الرحمن بن عوف الأغلبية معياراً مطلقاً كأصحاب الديمقراطية
؟
الجواب : لا وإنما اعتبر إجماع أخيار الناس على عثمان
ثانيها : ما ورد أن عبد الرحمن بن عوف استشار النساء لا يصح وليس له أصل
يعتمد عليه ولو صح فلا شك انه لم يستفت الفاسقات ولا قليلات العقل ، ثم إن الرواية
فيها أنهن سألهن وهن في خدورهن وهذا يناقض ما يحصل اليوم في الانتخابات الديمقراطية
من خروج النساء والمزاحمة للرجال
وقد نقل الجويني الإجماع على أن النساء لا مدخل لهن في اختيار الإمام
قال في (غياث الأمم من التياه الظلم : ص80-81) : « والآن نبدأ بتفصيل صفات
أهل العقد والاختيار ، فليقع البداية بمحل الإجماع في صفة أهل الاختيار ، ثم ينعطف
على مواضع الاجتهاد والظنون ، فما نعلمه قطعاً أنَّ النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام
وعقد الإمامة ، فإنهن ما رُوجِعن قط ، ولو اسْتُشِير في هذا الأمر امرأة لكان أحرى
النساء وأجدرهن بهذا الأمر فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ، ثم نسوة رسول الله ص ، أمهات
المؤمنين ، ونحن بابتداء الأذهان نعلم أنه ما كان لهن في هذا المجال مخاض في منقرض
العصور ومَكَرّ الدهور »( مستفاد من بعض الأخوة )
فاعجب ممن ينتسب للعلم والفتيا ويعتمد على رواية منكرة تخالف الإجماع ،
ولا ينجيه من الانتقاد أن ذكرها بعض أهل العلم فلم يستدلوا بها على ما استدل من الأحوال
المخالفة للإجماع وهم يزعمون أنهم لا يقلدون
ثالثها : أن في الرواية الضعيفة أن عبد الرحمن بن عوف استشار حتى الصبيان
في الكتاتيب فهل يرى الزغبي أن الصبيان لهم الحق في الانتخاب ؟!
أم أنه سيخالف رواية عبد الرحمن بن عوف ويوافق الديمقراطية
رابعها : أن هذه العملية التي حصلت في زمن الصحابة تناقض الديمقراطية مناقضة
صريحة فإن عمر لم يفتح باب الترشيح لكل من أراد ذلك وإنما اختار جماعة بناءً على أن
كلهم من قريش وأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض وهذا الحصر يناقض الديمقراطية
ثم إنه ترك الأمر لعبد الرحمن بن عوف وما ألزمه باستشارة الناس ولو بدا له أن يخالف
مشورة الناس لأمر رآه لفعل ذلك
خامسها : أن أمر الخلافة أمرٌ مختص بجميع المسلمين فلماذا يسأل عبد الرحمن
بن عوف أهل المدينة فقط ، هذه قمة المناقضة للديمقراطية ، والسبب في ذلك أنه يرى أن
أهل المدينة هم خير الناس وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم ينزلون الأمور منازلها
فقد كان رضي الله عنه أنه ما ينبغي الكلام في أمر الخلافة أمام رعاع الناس والأعراب
لأن في مخاطبتهم بذلك فتنة لهم
قال البخاري في صحيحه 6830 : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لَوْ رَأَيْتَ
رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَاللَّهِ
مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ
قَالَ إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ
النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ
تَقُومُ فِي النَّاسِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا
عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا
فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ
فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا
فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا
فتأمل مشورته على عمر بألا يتكلم في أمر الخلافة في الموسم وأنه إنما ينبغي
أن يتكلم في دار الخلافة بين فقهاء الناس بهذا الأمر فما أبعد عن هذا عن حكم الدهماء
( الديمقراطية )
وقد يقول قائل : نحن في شهر الصيام وأنت ترد على هذا الرجل
فيقال : إنما يكدر الصيام المعاصي ، وأما القربات من بذل النصح للمسلمين
وتعليمهم أمر دينهم وتبصيرهم بالخطر المحيط بهم فذلك مما يرجى أجره ، وقد قاتل الصحابة
في رمضان على تنزيل القرآن وما أحوجنا أن ننافح عن تأويله كما نافح أولئك الأوائل عن
تنزيله
قال ابن أبي الدنيا في الصمت 234 : حدثني محمد ، حدثنا مروان بن معاوية
، عن زائدة بن قدامة قال : قلت لمنصور بن المعتمر : إذا كنت صائما أنال من السلطان
؟ قال : لا .
. قلت : فأنال من أصحاب الأهواء ؟ قال : نعم .
وقال المروذي في العلل 143 : سَأَلته - يعني أحمد ابن حنبل - عَن بشر بن
حَرْب فَقَالَ نَحن صِيَام وَضَعفه.
فما امتنع الإمام أحمد عن تضعيف الراوي مع أنه كان صائماً إذ أن هذا من
النصيحة للمسلمين
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم