الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فقد ذهب بعض المعاصرين إلى أن فعل حاطب بن أبي بلتعة حين أفشى سر النبي
ﷺ للمشركين كفرٌ أكبر وأن النبي ﷺ عذره لجهله، وهذه الدعوى قولٌ حادث خلاف الإجماع وتقرير ذلك في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: بيان أن فعل حاطب جاسوسية ، وهذا أظهر من أن يوضح.
النقطة الثانية: بيان اتفاق العلماء على أن الجاسوس لا يكفر بمجرد الجاسوسية
، بل اتفق الأوائل على أنه لا يقتل حداً.
النقطة الثالثة: احتجاج جماعة من أهل العلم بحديث حاطب على حكمٍ عام مما
يدل أنهم لا يرون قصته حادثة عين كما يزعم البعض.
أما النقطة الأولى: فقد بوب البخاري على حديث حاطب في كتاب الجهاد (باب
الجاسوس)، وبوب أبو داود على حديث حاطب (باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلماً) وفيه أن
أبا داود يرى أن المسلم لا يكفر بمجرد الجاسوسية.
وأما النقطة الثانية والثالثة:
فقال الشافعي في الأم
(4/264): "لا يحل دم من ثبتت له حرمة الاسلام إلا أن يقتل أو يزنى بعد إحصان أو
يكفر كفرا بينا بعد إيمان ثم يثبت على الكفر
وليس الدلالة على عورة مسلم ولا
تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غرة ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين
بكفر بين
فقلت للشافعي: أقلت هذا خبرا أم
قياسا؟ قال قلته بما لا يسع مسلما علمه عندي أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد الاستدلال
بالكتاب فقيل للشافعي فذكر السنة فيه
قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن
عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد عن عبيدالله بن أبى رافع قال سمعت عليا يقول بعثنا
رسول الله ﷺ أنا والمقداد والزبير فقال
انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظغينة معها كتاب فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا نحن
بالظعينة فقلنا لها أخرجي الكتاب فقالت ما معى كتاب
فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين
الثياب فأخرجته من عقاصها
فأتينا به رسول الله ﷺ فإذا فيه
(من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين ممن بمكة) يخبر ببعض أمر النبي ﷺ قال (ما هذا يا حاطب؟)
قال لا تعجل على يا رسول الله
إنى كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات
يحمون بها قراباتهم ولم يكن لى بمكه قرابة فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا والله
ما فعلته شكا في ديني ولا رضا لا كفر بعد الاسلام
فقال رسول الله ﷺ (إنه قد صدق)
فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي ﷺ (إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله عزوجل قد اطلع على أهل بدر فقال
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، قال فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
أولياء﴾
(قال الشافعي) رحمه الله تعالى:
"في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون لانه لما
كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكا في الاسلام وأنه
فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الاسلام
واحتمل المعنى الاقبح كان القول قوله فيما احتمل فعله وحكم رسول الله ﷺ فيه بأن لم يقتله ولم يستعمل عليه الاغلب ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم
في الظاهر من هذا لان أمر رسول الله ﷺ مباين في
عظمته لجميع الآدميين بعده فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله ﷺ
ورسول الله ﷺ يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه الاغلب مما يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولا
كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه قيل للشافعي
أفرأيت إن قال قائل إن رسول الله ﷺ قال قد صدق إنما تركه لمعرفته بصدقة لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره
فيقال له قد علم رسول الله ﷺ أن المنافقين كاذبون وحقن دماءهم بالظاهر فلو كان حكم النبي ﷺ في حاطب بالعلم بصدقه كان حكمه على المنافقين القتل بالعلم بكذبهم
ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر وتولى الله عزوجل منهم السرائر ولئلا يكون
لحاكم بعده أن يدع حكما له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية وكل ما حكم به رسول الله
ﷺ فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصا أو عن جماعة المسلمين
الذين لا يمكن فيهم أن يجعلوا له سنة
أو يكون ذلك موجودا في كتاب الله عزوجل قلت للشافعي أفتأمر الامام إذا
وجد مثل هذا بعقوبة من فعله أم تركه كما ترك النبي ﷺ؟ فقال الشافعي إن العقوبات غير الحدود فأما الحدود فلا تعطل بحال وأما
العقوبات فللامام تركها على الاجتهاد
وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال
(تجافوا لذوى الهيئات) وقد قيل في الحديث ما لم يكن حد) فإذا كان هذا من الرجل ذى الهيئة
بجهالة كما كان هذا من حاطب بجهالة وكان غير متهم أحببت أن يتجافى له وإذا كان من غير
ذى الهيئة كان للامام - والله تعالى أعلم - تعزيره
وقد كان النبي ﷺ في أول الاسلام
يردد المعترف بالزنا فترك ذلك من أمر النبي ﷺ، لجهالته يعنى المعترف بما عليه وقد ترك النبي ﷺ عقوبة من غل في سبيل الله
فقلت للشافعي أرأيت الذى يكتب
بعورة المسلمين أو يخبر عنهم بأنهم أرادوا بالعدو شيئا ليحذروه من المستأمن والموادع
أو يمضى إلا بلاد العدو مخبرا عنهم قال يعزر هوءلاء ويحبسون عقوبة وليس هذا بنقض للعهد
يحل سبيهم وأموالهم ودماءهم وإذا صار منهم واحد إلى بلاد العدو
فقالوا: لم نر بهذا نقضا للعهد
فليس بنقض للعهد ويعزر ويحبس قلت للشافعي أرأيت الرهبان إذا دلوا على عورة المسلمين؟
قال يعاقبون وينزلون من الصوامع ويكون من عقوبتهم إخراجهم من أرض الاسلام
فيخيرون بين أن يعطوا الجزية ويقيموا بدار الاسلام أو يتركوا يرجعون فإن عادوا أودعهم
السجن وعاقبهم مع السجن
قلت للشافعي أفرأيت إن أعانوهم بالسلاح والكراع أو المال أهو كدلالتهم
على عورة المسلمين؟
قال إن كنت تريد في أن هذا لا
يحل دماءهم فنعم وبعض هذا أعظم من بعض ويعاقبون بما وصفت أو أكثر ولا يبلغ بهم قتل
ولاحد ولا سبي
فقلت للشافعي فما الذى يحل دماءهم؟
قال إن قاتل أحد من غير أهل الاسلام
راهب أو ذمى أو مستأمن مع أهل الحرب حل قتله وسباؤه وسبى ذريته وأخذ ماله فأما ما دون
القتال فيعاقبون بما وصفت ولا يقتلون ولا تغنم أموالهم ولا يسبون".
قلت : مذهب الإمام الشافعي الذي فهمه أصحابه من الكلام عدم قتل الجاسوس
مما يدل على أن الجاسوسية عنده ليست كفراً، وتأمل كيف أن الإمام الشافعي احتج لمذهبه
بحديث حاطب مما يدل على أن حديث حاطب عنده عام وليس حادثة عين، هذا كلام الشافعي وإليك
كلام شيخه الإمام مالك.
قال في التاج والإكليل : "سئل مالك عن الجاسوس من المسلمين يؤخذ وقد
كاتب الروم وأخبرهم خبر المسلمين فقال : ما سمعت فيه بشيء وأرى فيه اجتهاد الإمام.
اللخمي : قول مالك هذا أحسن.
وقال ابن القاسم : أرى أن تضرب عنقه.
ابن رشد : قول ابن القاسم هذا صحيح لأنه أضر من المحارب".
قلت : فتأمل كيف أرجع الأمر إلى اجتهاد الإمام مما يدل على أن الجاسوسية
عنده ليست كفراً
ومن قال من المالكية بقتله قال
بذلك تعزيراً لا حداً، بدليل ما قال صاحب تبصرة الأحكام من المالكية :" مسألة
: وإذا قلنا : إنه يجوز للحاكم أن يجاوز الحدود في التعزير ، فهل يجوز أن يبلغ بالتعزير
القتل أو لا ؟
فيه خلاف ، وعندنا يجوز قتل الجاسوس
المسلم إذا كان يتجسس بالعدو وإليه ذهب بعض الحنابلة ، وأما الداعية إلى البدعة المفرق
لجماعة المسلمين فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل".
قلت : تأمل قوله (يجوز قتل الجاسوس) يدل على أن ذلك من باب التعزير ولو
كان حداً لقال (يجب قتل الجاسوس)
قال شيخ الإسلام (35/405) :
"أحدها وهو أحسنها وهو قول طائفة من أصحاب الشافعى وأحمد وغيرهما
أنه لا يبلغ فى التعزير فى كل جريمة الحد المقدر فيها وإن زاد على حد مقدر فى غيرها
فيجوز التعزير فى المباشرة المحرمة وفى السرقة من غير حرز بالضرب الذى يزيد على حد
القذف ولا يبلغ بذلك الرجم والقطع.
القول الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود إما أربعين وإما ثمانين
وهو قول كثير من أصحاب الشافعى وأحمد وأبى حنيفة.
والقول الثالث: أن لا يزاد فى التعزير على عشرة أسواط وهو أحد الأقوال
فى مذهب أحمد وغيره.
وعلى القول الأول هل يجوز أن يبلغ بها القتل مثل قتل الجاسوس المسلم فى
ذلك قولان أحدهما قد يبلغ بها القتل فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة وهو
قول مالك وبعض أصحاب أحمد كابن عقيل
وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعى
وأحمد فى قتل الداعية إلى البدع ومن لا يزول فساده إلا بالقتل وكذلك مذهب مالك قتل
الداعية إلى البدع كالقدرية ونحوهم، و القول الثاني أنه لا يقتل الجاسوس وهو مذهب أبى
حنيفة والشافعى والقاضى أبى يعلى من أصحاب أحمد والمنصوص عن أحمد التوقف فى المسألة".
قلت : فانظر كيف نقل قولين عن السلف في قتل الجاسوس لا ثالث لهما:
الأول: عدم قتله.
الثاني: قتله تعزيراً ، ولو كان كفراً لكان قتله ردةً لا تعزيراً، وتأمل
كيف أن إمام أهل السنة توقف في المسألة ولو كانت الجاسوسية للعدو كفراً أكبر ما توقف
الإمام.
وقال شيخ الإسلام في السياسة الشرعية ص151: "وأما مالك وغيره فحكى
عنه : أن من الجرائم ما يبلغ به القتل ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم
إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد يتوقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة كالقاضي
أبي يعلى".
قلت : هذا النص كسابقه.
وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة(6/175): "والتعزير بالقتل إذا لم
تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهاديةكقتل الجاسوس المسلم للعلماء فيه قولان معروفان وهما
قولان في مذهب أحمد أحدهما يجوز قتله وهو مذهب مالك واختيار ابن عقيل والثاني لا يجوز
قتله وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وغيره".
قال ابن القيم في زاد المعاد (3/371): "وفيها : جواز قتل الجاسوس
وإن كان مسلما لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله ﷺ قتل حاطب بن أبي بلتعة لما بعث يخبر أهل مكة بالخبر ولم يقل رسول الله
ﷺ: لا يحل قتله إنه مسلم بل قال : [وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل
بدر فقال : اعملوا ما شئتم]
فأجاب بأن فيه مانعا من قتله وهو
شهوده بدرا وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع وهذا
مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يقتل وهو ظاهر مذهب
أحمد والفريقان يحتجون بقصة حاطبوالصحيح : أن قتله راجع إلى رأي الإمام فإن رأى في
قتله مصلحة للمسلمين قتله وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه والله أعلم".
قلت: رجح ابن القيم جواز قتله إذا رأى الإمام ذلك ، ولو كان حداً أو ردةً
لما علقه بإذن الإمام.
وقال ابن القيم في الطرق الحكمية ص358 : "ومالك يرى تعزير الجاسوس
المسلم بالقتل ووافقه بعض أصحاب أحمد ويرى أيضا هو وجماعة من أصحاب أحمد والشافعي قتل
الداعية إلى البدعة".
قال ابن رجب في جامع العلوم (1/129) :" قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس
للكفار على المسلمين وقد توقف فيه أحمد وأباح قتله طائفة من أصحاب مالك وابن عقيل من
أصحابنا ومن المالكية من قال إن تكرر ذلك منه أبيح قتله واستدل من أباح قتله بقول النبي
ﷺ في حق حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتاب إلى أهل مكة يخبرهم بسير النبي
ﷺ إليهم ويأمرهم فاستأذن عمر في قتله فقال إنه شهد بدرا فلم يقل إنه لم
يأت بما يبيح دمه وإنما علل بوجود مانع من قتله وهو شهوده بدرا ومغفرة الله لأهل بدر
وهذا المانع منتف في حق من بعده".
قلت : تأمل تعبيرهم عن قتل الجاسوس ب( الجواز ) ، مما يدل على أن قتله
إنما يقع تعزيراً لا حداً ولو كان حداً لكان واجباً ، وتأمل تعليلهم لعدم قتل حاطب
بأنه شهد بدراً ، ولم يعللوه بالجهل كما يفعل بعض المعاصرين ولو كان الحكم حداً لم
تدرأ البدرية الحد لأنه حق الله وإنما هو تعزير.
قال ابن حجر في الفتح (8/ 635): "قال وفيه نزلت هذه الآية وكذا أخرجه
مسلم عن بن أبي عمر وعمرو الناقد وكذا أخرجه الطبري عن عبيد بن إسماعيل والفضل بن الصباح
والنسائي عن محمد بن منصور كلهم عن سفيان واستدل باستئذان عمر على قتل حاطب لمشروعية
قتل الجاسوس ولو كان مسلما وهو قول مالك ومن وافقه ووجه الدلالة أنه ﷺ أقر عمر على إرادة القتل لولا المانع وبين المانع هو كون حاطب شهد بدرا
وهذا منتف في غير حاطب فلو كان الإسلام مانعا من قتله لما علل بأخص منه".
قال ابن حجر في الفتح (12/310) : "وفيه هتك ستر الجاسوس وقد استدل
به من يرى قتله من المالكية لأستئذان عمر في قتله ولم يرده النبي ﷺ عن ذلك الا لكونه من أهل بدر ومنهم من قيده بأن يتكرر ذلك منه والمعروف
عن مالك يجتهد فيه الامام وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه
وقال الشافعية والأكثر يعزر وإن كان من أهل الهيئات يعفى عنه وكذا قال الأوزاعي وأبو
حنيفة يوجع عقوبة ويطال حبسه وفيه العفو عن زلة ذوي الهيئة وأجاب الطبري عن قصة حاطب
واحتجاج من احتج بأنه انما صفح عنه لما أطلعه الله عليه من صدقه في اعتذاره فلا يكون
غيره كذلك قال القرطبي وهو ظن خطأ لأن أحكام الله في عباده إنما تجري على ما ظهر منهم
وقد أخبر الله تعالى نبيه عن المنافقين الذين كانوا بحضرته ولم يبح له قتلهم مع ذلك
لاظهارهم الإسلام وكذلك الحكم في كل من أظهر الإسلام تجري عليه أحكام الإسلام وفيه
من أعلام النبوة اطلاع الله نبيه على قصة حاطب مع المرأة كما تقدم بيانه من الروايات
في ذلك وفيه إشارة الكبير على الامام بما يظهر له من الرأي العائد نفعه على المسلمين".
قلت: تأمل نقل الطحاوي الإجماع على عدم قتل الجاسوس وهذا الإجماع يصح على
تخريجين:
الأول : أنه أراد الإجماع على أنه لا يقتل حداً.
الثاني : أنه أراد إجماع الأوائل ولم يعتد بمن خالفهم ممن بعدهم وهذا صنيع
ابن بطال.
وقال ابن بطال في شرح البخاري(9/214) : "واختلف الفقهاء فى المسلم
يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، فقال مالك: ما فيه شيء وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال
أبو حنيفة والأوزاعى: يوجع عقوبة، ويطال حبسه. وقال الشافعى: إن كان ذا هيئة عفا الإمام
عنه، واحتج بهذا الحديث أن النبي ﷺ لم يعاقب
حاطبا، وإن كان غير ذى هيئة عذره الإمام؛ لأنه لا يحل دم أحد إلا بكفر بعد إيمان أو
زنا بعد إحصان أو قتل نفس.
وقال ابن القاسم فى العتبية: يضرب عنقه؛ لأنه لا تعرف توبته.
وهو قول سحنون، وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن الماجشون: إن
كان نادرا من فعله، ولم يكن من أهل الطعن على الإسلام، فلينكل لغيره، وإن كان معتادا
لذلك فليقتل، ومن قال بقتل الجاسوس المسلم فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين من العلماء،
فلا وجه لقول".
قلت : لم يعتد ابن بطال بمن خالف من المالكية وأفتى بقتل الجاسوس لأنه
يرى هذا القول حادث مخالف لقول الأوائل الذين نقل الطحاوي اتفاقهم والله أعلم بحقيقة
الأمر.
قال القرطبي في تفسيره (18/52) : "الرابعة: من كثر تطلعه على عورات
المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي
واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين
الخامسة - إذا قلنا لا يكون بذلك كافراً فهل يقتل بذلك حدا أم لا ؟ اختلف الناس فيه،
فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الامام.
وقال عبد الملك: إذا كانت عادته تلك قتل، لأنه جاسوس، وقد قال مالك بقتل
الجاسوس - وهو صحيح
لاضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الارض.
ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا لان حاطبا أخذ في أول فعله.
والله أعلم".
قلت : الثابت عن مالك التوقف ورواية أخرى في القتل تعزيراً وأما القتل
حداً فتفرد القرطبي بنقله عن مالك
قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح
ثلاثة الأصول ص13 :
"ولهذا ضبطها العلماء بأن
قالوا تنقسم المولاة إلى قسمين:
الأول : التولِّي.
الثاني : الموالاة.
الموالاة باسمها العام تنقسم: إلى التولي وإلى موالاة.
أما التولِّي فهو الذي جاء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾
تولاه توليا؛ التولي معناه محبة
الشرك وأهل الشرك، محبة الكفر وأهل الكفر، أو نصرة الكفار على أهل الإيمان، قاصدا ظهور
الكفر على الإسلام، بهذا الضابط يتضح معنى التولي.
والتولي -كما ذكرتُ لكم- تولِّي الكفار والمشركين كفر أكبر، وإذا كان من
مسلم فهي ردة.
ما معنى التولِّي؟ معناه محبة الشرك وأهل الشرك (لاحظ الواو)؛ يعني يحبّ
الشرك وأهل الشرك جميعا مجتمعة، أو أن لا يحب الشرك ولكن ينصرُ المشركَ على المسلم
قاصدا ظهور الشرك على الإسلام، هذا الكفر الأكبر الذي إذا فعله مسلم صار رِدَّة في
حقه والعياذ بالله.
القسم الثاني الموالاة: والموالاة المحرّمة من جنس محبة المشركين والكفار،
لأجل دنياهم، أو لأجل قراباتهم، أو لنحو ذلك، وضابطه أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا،
ولا يكون معها نصرة؛ لأنه إذا كان معها نصرة على مسلم بقصد ظهور الشرك على الإسلام
صار توليا، وهو في القسم المُكَفِّر، فإن أحب المشرك والكافر لدنيا، وصار معه نوع موالاة،
معه لأجل الدنيا، فهذا محرم ومعصية، وليس كفرا.
دليل ذلك قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة:1]،
قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: أثبت الله جل وعلا في هذه الآية أنه حصل ممن ناداهم
باسم الإيمان اتخاذ المشركين والكفار أولياء بإلقاء المودة لهم.
وذلك كما جاء في الصحيحين وفي التفسير في قصة حاطب المعروفة حيث إنه أرسل
بخبر رسول الله r -وهذه عظيمة من العظائم- للمشركين لكي يأخذوا حِذْرهم
من رسول الله r، فلما كُشِفَ الأمر، قال عمر رضي الله عنه للنبي
عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق. قال النبي عليه الصلاة
والسلام لعمر: «أتركه يا عمر، يا حاطب ما حملك على هذا؟» فدل على اعتبار القصد؛ لأنه
إن كان قصد ظهور الشرك على الإسلام، وظهور المشركين على المسلمين، فهذا يكون نفاقا
وكفرا، وإن كان له مقصد آخر فله حكمه. قال عليه الصلاة والسلام -مستبينا الأمر- «ما
حملك يا حاطب على هذا؟» قال: يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة الشرك وكراهة
الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يحمي بها ماله في مكة، وليس لي يدٌ أحمي
بها مالي في مكة، فأردتُ أن يكون لي بذلك يد أحمي بها مالي في مكة. فقال النبي عليه
الصلاة والسلام: صدقكم. الله جل وعلا قال في بيان ما فعل حاطب ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ
فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[الممتحنة:1]،يعني حاطبا، ففِعْلُه ضلال. وما منع
النبي عليه الصلاة والسلام من إرسال عمر أو ترك عمر إلا أنّ حاطبا لم يخرج من الإسلام
بما فعل، ولهذا جاء في رواية أخرى قال: «إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما
شئتم لقد غَفَرْتُ لكم». قال العلماء: لعلمه جل وعلا بأنهم يموتون ويبقون على الإسلام.
دلت هذه الآية وهي قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة:1]،
مع بيان سبب نزولها من قصة حاطب، أنّ إلقاء المودة للكافر لا يسلب اسم الإيمان؛ لأنّ
الله ناداهم باسم الإيمان، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مع إثباته جل وعلا
أنهم ألقَوا المودّة".
قال الشيخ ابن عثيمين في شرح البخاري (8/ 47): "ومن فوائد هذا الحديث
أنه يجوز قتل الجاسوس المسلم فإذا علمنا أن هذا الرجل جاسوس لعدونا فإنه يجوز قتله
بل قد يجب أن يقتل".
ثم قال: "إذا رأى ولي الأمر أن المصلحة في عدم قتله فلا بأس".
قلت : الشيخ يرى أن قتله تعزيراً بدليل إرجاع ذلك لاجتهاد الإمام.
وأما كلام شيخ الإسلام الذي لم يحسن البعض فهمه
قال شيخ الإسلام كما في مجموع
الفتاوى (3/283):
"وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال
عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي
ﷺ أنه قد شهد بدرا وما يدريك أن الله قد اطلع أهل بدل فقال اعملوا ما شئتم
فقد غفرت لكم وهذا في الصحيحين وفيها أيضا من حديث الإفك أن أسيد بن الحضير قال لسعد
بن عبادة أنك منافق تجادل عن المنافقين واختصم الفريقان فأصلح النبي ﷺ بينهم فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم إنك منافق ولم يكفر النبي
لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة".
قلت: شيخ الإسلام يعني أن عمر متأول في تكفيره لحاطب حيث قال :" دعني
أضرب عنق هذا المنافق " ولهذا لم يثرب عليه، ولا يعترض علينا بأن الجاسوس إذا
استحل أو جحد يكفر ، إذ أن جميع الذنوب هكذا ولا خصوصية للجاسوسية بذلك.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة
البغض)، ويقول أيضاً: (... وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة ، منها ما
يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات) الدرر
صـ 8/342.
قلت: فهذا فيه الفرق بين صور الموالاة ومنه التولي المخرج من الملة وهو
المتضمن لحب دين الكفار وغير ذلك، وعلى هذا يحمل أقوال العلماء التي فهم من ظاهرها
التكفير ، وإلا فلا تكون أقوالهم حجةً على الإجماع المنعقد والذي قام عليه الدليل فما
زال الفقهاء يبحثون مسألة (الجاسوس المسلم) وهو معينٌ للكفار ولا شك وحديث حاطب حجةٌ
دامغة لمن أحدث خلافاً في المسألة.
وقد نقلت في المقال الأصل كلام الشيخ صالح آل الشيخ في التفريق بين الموالاة
والتولي؛ قال الشيخ سليمان بن سحمان في إرشاد الطالب إلى أهم المطالب :
"وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر
كفر ، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما
في الأسماء والأحكام ، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان
بالمصحف وبين من سرق أو زنى أو شرب أو انتهب أو صدر منه نوع من موالاة (الكفار) كما
جرى لحاطب فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام أو سوى بين شعب الكفر في ذلك
فهو مخالف للكتاب والسنة خارج عن سبيل سلف الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء
وقد تبين لك مما قدمناه من كلام
ابن القيم وكلام شيخنا الشيخ عبد اللطيف من أن الكفر كفران ، وإن الفسق فسقان ، والشرك
شركان والظلم ظلمان ، والنفاق نفاقان على ما ذكراه من التفصيل وقررا عليه من الأدلة
من الكتاب والسنة
وذكرا أن هذا التفصيل هو قول الصحابة
الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة
إلا عنهم ، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر
وقضوا على أصحابها بالخلود في النار وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا
، وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى ، والقول الوسط الذي في المذاهب
كالإسلام في الملل".
وقال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ في أصول وضوابط في التكفير:
وتأمل: قصة حاطب بن أبي بلتعه، وما فيها من الفوائد، فإنه هاجر إلى الله
ورسوله، وجاهد في سبيله، لكن حدث منه: أنه كتب بسر رسول الله ﷺ إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله ﷺ ومسيره لجهادهم، ليتخذ بذلك يداً عندهم، تحمي أهله، وماله بمكة، فنزل
الوحي بخبره، وكان قد أعطى الكتاب: ظعينة، جعلته في شعرها، فأرسل رسول الله ﷺ علياً، والزبير، في طلب الظعينة، وأخبرهما، أنهما يجدانها في روضة: خاخ،
فكان ذلك، وتهدداها، حتى أخرجت الكتاب من صفائرها، فأتي به رسول الله ﷺ.
فدعا حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: "ما هذا"؟ فقال : يا رسول
الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي
عند القوم يد، أحمي بها أهلي، ومالي، فقال ﷺ: "صدقكم، خلوا سبيله" واستأذن عمر، في قتله، فقال: دعني أضرب
عنق هذا المنافق، قال: " وما يدريك، أن الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا
ما شئتم، فقد غفرت لكم " وأنزل الله في ذلك، صدر سورة الممتحنة، فقال : ﴿يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء﴾ الآيات.
فدخل حاطب في المخاطبة، باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه،
وله خصوص السبب، الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة، ما يُشعر: أن فعل حاطب
نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك، قد ضل سواء السبيل، لكن قوله:
" صدقكم، خلوا سبيله " ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، وإذا كان مؤمناً بالله
ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب؛ وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي، ولو كفر، لما قال : خلوا سبيله.
ولا يقال، قوله ﷺ: "ما
يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " هو المانع
من تكفيره، لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من إلحاق الكفر وأحكامه ؛
فإن الكفر : يهدم ما قبله، لقوله تعالى : ﴿ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله﴾[المائدة
:5] وقوله : ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾[الأنعام:88] والكفر، محبط للحسنات
والإيمان، بالإجماع؛ فلا يظن هذا.
وأما قوله تعالى : ﴿ومن يتولهم منكم فإنه منهم﴾[ المائدة:51] وقوله :
﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله﴾[المجادلة:22]
وقوله : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين
أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين﴾، فقد فسرته السنة،
وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة".
وقال شيخ الإسلام متحدثاً عن التتار وهو يكفرهم كما في مجموع الفتاوى
(28/552 ): "وَأَيْضًا لَا يُقَاتِلُ مَعَهُمْ - غَيْرُ مُكْرَهٍ - إلَّا فَاسِقٌ
أَوْ مُبْتَدِعٌ أَوْ زِنْدِيقٌ".
قال شيخ الإسلام: "وَقَدْ تَحْصُلُ -يعني الموادة التي هي من الموالاة-
لِلرَّجُلِ لرحم أو حاجة , فتكون ذنبا ينقص به إيمانه , ولا يكون به كافرا , كما حصل
من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي , وأنزل الله فيه: ﴿يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة﴾، وقال أيضا عن فعل
حاطب :"فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين , كما صدر عن حاطب التجسس
لقريش مع أنها ذنوب ومعاصي يجب على صاحبها أن يتوب , وهي بمنزلة عصيان أمر النبي ﷺ".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "تكفير من بان له أن التوحيد هو دين
الله ورسوله ثم أبغضه ونفر الناس عنه. وجاهد من صدق الرسول فيه ومن عرف الشرك وأن رسول
الله ﷺ بعث بإنكاره وأقر بذلك ليلا
ونهاراً ثم مدحه وحسنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم، وأما ما
ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة
فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن الله ورسوله". الرسائل الشخصية
3/25.
وقال العلامة سليمان بن عبد الله آل الشيخ في رسالة أوثق عرى الإيمان:
"قال سليمان بن عبد الله :" و ليس بأعظم من قصة حاطب بن أبي
بلتعة، لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير رسول الله ﷺ.
فهذا جس من حاطب، وقد تنازع العلماء في قتل الجاسوس المسلم، و لم يكن ذلك
دليل على جواز مكاتبة المشركين بأسرار المسلمين.
كذلك حديث مالك: لا يدل على أن مجالسة المنافقين، ونصيحتهم أمر جائز، لكن
يقال و الله أعلم: هذا ذنب كفر بشهوده بدراً ؛ كما كفر ذنب حاطب بذلك
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم