مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: وقفة مع أثر النضر بن شميل في تعريف المرجئة ...

وقفة مع أثر النضر بن شميل في تعريف المرجئة ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
          
             
بلغني أن بعض الناس ممن لا يكفر الرافضة الغالية أو يفرق فيهم بين الإطلاق والتعيين وبعض أصناف الجهمية ثم يرى إرجاء غيره فقط يستدل بأثر النضر بن شميل في تعريف المرجئة ، وحقيقة ينبغي أن يجمع الباب ليفهم

قال ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/ 301) : أخبرنا أبو الحسين بن أبي الحديد أنا جدي أبو عبد الله أنا أبو المعمر المسدد بن علي بن عبد الله بن العباس بن أبي السجيس الحمصي قدم علينا نا أبو بكر محمد بن سليمان بن يوسف الربعي نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي ثابت العطار نا أبو عبد الله السجستاني مستملي أبي أمية عن أبي داود المصاحفي سليمان بن سلم قال سمعت النضر بن شميل يقول :
 دخلت على المأمون فقال لي كيف أصبحت يا نضر قال قلت بخير يا أمير المؤمنين قال تدري ما الإرجاء
 قال قلت دين يوافق الملوك يصيبون به من دنياهم وينقص من دينهم

أقول : هذا الأثر في سنده جهالة مستحكمة ونكارة في متنه

أما الجهالة فأبو عبد الله السجستاني مستملي أبي أمية مجهول لم أرَ له رواية أخرى ، وكذلك المسدد بن علي بن عبد الله هذا مجهول

وأما نكارة المتن فلأن الإرجاء يهون على العصاة معاصيهم سواءً كانوا ملوكاً أو سوقة ، وأشهر المرجئة كانوا يرون السيف فكيف يحب الملوك دينهم، وإنما يحب الملوك أهل الرأي منهم لأنهم أهل حيل وتلاعب وعامة من يحتج بهذا الأثر يعظم أهل الرأي منهم !


وقال أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام 825 : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا الصَّغَانِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ :
 إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أهل ضَلَالَة ولاأرى مَصِيرَهُمْ إِلَّا إِلَى النَّارِ فَجَرِّبْهُمْ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَنْتَحِلُ رَأْيًا أَوْ قَالَ قَوْلًا فَيَتَنَاهَى بِهِ إِلَّا يَرَوْنَ السَّيْفَ .
وَإِنَّ النِّفَاقَ كَانَ ضُرُوبًا ثُمَّ تَلَا {وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ الله} {وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي} {وَمِنْهُم من يَلْمِزك} فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا فِي الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا وَاجْتَمَعُوا فِي السَّيْفِ


وفي "عقيدة السلف أصحاب الحديث" (109) لأبي عثمان الصابوني – بسنده- إلى أحمد بن سعيد الرِّباطيِّ، أنَّه قال: قال لي عبد الله بن طاهر: ( يا أحمد! أنّكم تبغضون هؤلاء القوم [ أي: المرجئة ] جهلاً !
 وأنا أبغضهم عن معرفة؛ إنّهم لا يرون للسلطان طاعة ...) ( مستفاد من أحد الإخوة )

وقال الآجري في الشريعة 1986 : وحدثنا الفريابي قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا سعيد بن عامر قال : حدثنا سلام بن أبي مطيع قال : كان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ، ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف

وقال العقيلي في الضعفاء 6123: حَدثنا الفَضل بن عَبد الله، قال: حَدثنا مُحمد بن أَبي رجاء المِصّيصي، قال: سمعتُ وكيع بن الجَراح، وسُئِل عن أَبي حَنيفَة قال: كان مُرجِئًا يَرَى السَّيفَ.

وقال أيضاً 6127: حَدثنا عَبد الله بن أَحمد، قال: حَدثنا مُحمد بن سَهل بن عَسكَر، قال: حَدثنا أَبو صالح الفَراءُ، قال: سمعتُ أَبا إِسحاق الفَزاري، يقول: كان أَبو حَنيفَة مُرجِئًا يَرَى السَّيفَ.

هذا الوجه الأول من استدلالهم بهذا الأثر ، وإن صح حمل على أن المترفين عموماً يحبون دين المرجئة لما فيه من تهوين شأن المعاصي وقولهم الإيمان لا ينقص بالمعصية

وهذا أبو يوسف كان مرجئاً مع السلطان خلافاً لشيخه 

الوجه الثاني : الملوك في زمن النضر بن شميل كانوا يحكمون الشريعة ، فهو لا يريد أن المرجئة لا يكفرون
وأهل السنة يكفرون فصار الملوك يحبون المرجئة كما يريد اليوم فإن ملوكهم آنذاك كانوا مسلمين ، ومحل اتفاق بين الناس المنتسبين للسنة أن الحاكم المسلم لا يخرج إلا أن يكفر ومن قال هذا لا يقال عنه مرجيء

وهذا النضر نفسه يجلس مع ملك من أفجر الملوك وينادمه ، والمأمون كفره الإمام أحمد بعد إظهاره للقول بخلق القرآن

قال الخلال في السنة 1708: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو طَالِبٍ , قَالَ : قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إِنَّهُمْ مَرُّوا بِطَرَسُوسَ بِقَبْرِ رَجُلٍ , فَقَالَ أَهْلُ طَرَسُوسَ : الْكَافِرُ , لاَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
 فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : نَعَمْ , فَلاَ رَحِمَهُ اللَّهُ , هَذَا الَّذِي أَسَّسَ هَذَا , وَجَاءَ بِهَذَا.

وهذا الرجل هو المأمون كما شرحته في مقال مستقل

الوجه الثالث : قد جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة آمرة بالسمع والطاعة للأئمة وإن جاروا ، وعليها أئمة الإسلام الذين كانوا ينكرون على المرجئة إرجاءهم

قال ابن أبي عاصم في [السنة] [909] حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية، حدثنا صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد، قال: قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم:
 ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه.

وقال ابن أبي شيبة في المصنف [38462] حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: آمُرُ أَمِيرِي بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: إِنْ خِفْت أَنْ يَقْتُلَك فَلاَ تُؤَنِّبَ الإِمَامَ، فَإِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.

وقال أيضاً [38461] حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، قَالَ: حدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَنْهَى أَمِيرِي عَنْ مَعْصِيَةٍ، قَالَ: لاَ تَكُونُ فِتْنَةٌ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ أَمَرَنِي بِمَعْصِيَةٍ، قَالَ: فَحِينَئِذٍ.

وقال الخلال في السنة [54] أخبرنا محمد، قال: أنبأ وكيع، عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: قال لي عمر:
يا أبا أمية، إني لا أدري، لعلي لا ألقاك بعد عامي هذا، فإن أمر عليك عبد حبشي مجدع، فاسمع له وأطع، وإن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن أراد أمرا ينقص دينك، فقل: سمعا وطاعة، دمي دون ديني، ولا تفارق الجماعة.
وقال الإمام أحمد في مسنده [19434]: ثنا أبو النضر ثنا الحشرج بن نباته العبسي كوفي حدثني سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه قال لي من أنت فقلت أنا سعيد بن جمهان قال فما فعل والدك قال قلت قتلته الأزارقة قال لعن الله الأزارقة لعن الله الأزارقة حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إنهم كلاب النار قال قلت الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها قال بلى الخوارج كلها قال قلت فان السلطان يظلم الناس ويفعل بهم قال فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم عليك بالسواد الأعظم إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه.
أقول: انظر كيف تكلم الصحابي عن الطريقة الأثرية في نصح الولاة في معرض ذمه للخوارج لعلمه أن الخروج يبدأ باللسان.

وقد ثبت عن جماعة من السلف تأنيب الولاة على ظلمهم وبشدة وذلك حصل على غير وجه التهييج وانظر أخبارهم في كتاب أخبار الشيوخ للمروذي 
وقال البخاري [3267] حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قِيلَ لِأُسَامَةَ:
لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ قَالَ إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلَا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ.

وقال حميد بن زنجويه في الأموال [38]:أنا عبد الله بن يوسف، أنا عبد الله بن سالم الحمصي، أنا سعيد الطائي، قال: سمعت أبا إدريس الخولاني، وهو يقص في زمان عبد الملك، يقول: إياكم والطعن على الأئمة؛ فإن الطعن عليهم هي الحالقة، حالقة الدين ليس حالقة الشعر، إلا أن الطعانين هم الخائبون، وشرار الأشرار.
أقول: إسناده صحيح، وأبو إدريس تابعي كبير فقيه، وتأمل إيراد ابن زنجويه لهذا الأثر، في كتاب الأموال، لعلمه أن عامة ما ينقمه العامة على ولاتهم يتعلق بباب الأثرة

وأما النقمة على أئمة الجور من أجل الدين فليس من هذا الباب 

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال [1791] قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَابْنَ عُمَرَ، فَقُلْتُ:
إِنَّ هَذَا السُّلْطَانَ يَصْنَعُ مَا تَرَوْنَ، أَفَأَدْفَعُ زَكَاتِي إِلَيْهِمْ؟
قَالَ: فَقَالُوا كُلُّهُمْ: ادْفَعْهَا إِلَيْهِمْ

أقول: وإسناده قوي، وتأمل اتفاق فقهاء الصحابة على دفع المال للولاة وإن صرفوها في غير مصارفها درءً للمفسدة العظمى، فهل هؤلاء مرجئة يحب دينهم الملوك ؟

وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة (4/530) :" كان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه و سلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور "

فهل هؤلاء كلهم مرجئة ؟

على أنه قد ظهر من يغلو في طاعة ولي الأمر ، فيجعل مطاوعته في المعصية من الطاعة ، ويجعل كون الجمعيات الحزبية تعمل تحت مظلة ولي الأمر مانعاً من نقدها ، فهؤلاء يرد عليهم ويبين خطؤهم ، ويدخل العلمانيين والشيوعيين في مسمى ولاة الأمر الشرعيين ويؤيدهم في كل شيء حتى سفك الدماء بالباطل_ فهذا صنف أخبث من المرجئة من بعض الوجوه  _

 قال شيخ الإسلام كما مجموع الفتاوى (28/508) :"  وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا وهى واجبة على كل مكلف وهى متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشىء عن قلة العلم وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وأن لم يكونوا أبرارا"

وهو يعني هنا من يطيعهم حتى في المعصية 
                                                                      
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي