مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: من جر ذيول الناس جروا ذيوله ...

من جر ذيول الناس جروا ذيوله ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
                   
        
فهنا أثر يحتج به من يروج لقاعدة عدنان عرعور ( إذا حكمت حوكمت وإذا دعوت أجرت )

قال الخطيب في تاريخ بغداد 1437: محمد بن عقيل أخبرنَا أبو نعيم الحافظ، قَالَ: سمعت أبا بكر ابن المقرئ، يقول: سمعت محمد بن عقيل البغدادي، يقول: قَالَ إبراهيم بن هانئ: رأيت أبا داود يقع في يحيى بن معين، فقلت: يقع في مثل يحيى بن معين؟ فقال: من جر ذيول الناس جروا ذيوله.

والجواب على هذا الاستدلال من وجوه

أولها : أن في سنده محمد بن عقيل البغدادي وهو مجهول ليس له إلا هذا الخبر

ثانيها : أن هذا الأثر لا يفهم بمعزل عن واقع هؤلاء الأئمة فيحيى بن معين وأبو داود من أئمة الجرح والتعديل وكلامهما في الرواة كثير جداً فلم يمتنعا عن الكلام في الناس خوفاً من أن يتكلم الناس فيهم

فأبو داود إن صح عنه هذا فهو لا يريد التخذيل عن الكلام في الناس فهو يتكلم وإنما يريد أنه كما جاز لابن معين نقد غيره فإنه يجوز لنا نقده إذا كان بالعدل والحق

قال ابن رجب في شرح علل الحديث :" ولهذا كان شعبة يقول : (( تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة )) . يعني نذكر الجرح والتعديل .
وذكر ابن المبارك رجلاً فقال : (( يكذب )) ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن (( تغتاب ! )) ، قال : (( اسكت ، إذ لم تبين كيف يعرف الحق من الباطل )) .
وكذا روي عن ابن عُلية أنه قال في الجرح : (( إن هذا أمانة ليس بغيبة )) .
وقال أبو زرعة الدمشقي (( سمعت أبا مسهر يسأل عن الرجل يغلط ويهم ويصحف ؟ فقال : بين أمره . فقلت لأبي مسهر : أترى ذلك غيبة ؟ قال : لا )) .
وروى أحمد بن مروان المالكي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي ، فجعل أبي يقول : (( فلان ضعيف وفلان ثقة ))
، قال أبو تراب : (( يا شيخ لا تغتب العلماء )) قال : فالتفت أبي إليه قال : (( ويحك ! هذا نصيحة ، ليس هذا غيبة )) .
وقال محمد بن بندار السباك الجرجاني : قلت لأحمد بن حنبل : إنه ليشتد علي أن أقول : فلان ضعيف فلان كذاب ؟ قال أحمد : (( إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم )) .
وقال إسماعيل الخطبي : ثنا عبد الله بن أحمد قلت لأبي : (( ما يقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون مرجئاً أو شيعياً أو فيه شئ من خلاف السنة ، أيسعني أن اسكت عنه أم أحذر عنه ؟ فقال أبي : (( إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها ، قال : نعم تحذر عنه )) .
وقد خرج ذلك كله أبو بكر الخطيب في كتابه الكفاية ، وغيره من أئمة الحفاظ ، وكلام السلف في هذا يطول ذكره جداً .
وذكر الخلال عن الحسن بن علي الاسكافي قال : سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن معنى الغيبة ؟ قال : (( إذا لم ترد عيب الرجل ))
قلت : (( فالرجل يقول : (( فلان لم يسمع وفلان يخطئ ؟ )) قال : (( لو ترك الناس هذا لم يعرف الصحيح من غيره )) .
وخرّج البيهقي من طريق الحسن بن الربيع قال : قال ابن المبارك : (( المعلى بن هلال هو ، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب )) فقال له بعض الصوفية : (( يا أبا عبد الرحمن تغتاب ، قال : اسكت إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟! ، أو نحو هذا "

وبعض الناس يقول أنك إذا تكلمت في شخص زكاه العلماء فهذا معناه أنك تطعن في العلماء أنفسهم وهذه قاعدة فاسدة باطلة

فالمزكى قد ينحرف فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن

وقد لا يعلم العالم الذي زكاه حاله وقد كانت القاعدة ( الجرح المفسر مقدم على التعديل المجمل )

و قال أبو على النيسابورى : قلت لابن خزيمة : لو حدث الأستاذ عن محمد بن حميد فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه ؟ فقال : إنه لم يعرفه ، و لو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلا . اهـ . ( ذكره  في التهذيب )

فهل ابن خزيمة يطعن في الإمام أحمد ؟!

وقد شاهدنا ثناء بعض المشايخ  قديماً على جماعة التبليغ قبل ظهور حالها لهم ، وكان غيرهم من المشيخة يحذرون من هذه الجماعة ويحسنون الظن بالمشايخ الذين زكوهم أنهم لا يعلمون حالهم على التفصيل في بداية الأمر كالشيخ ابن باز ثم إن الشيخ رجع وطعن فيهم

وكذلك الحال مع عدد من المجروحين في هذا العصر وغيره 

وإن كان الواجب التأني في التزكية كالجرح تماماً

وقد سمعت مقطعاً لبعض الأخوة يذكر فيه قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)

فقال : ولهذا كان عمر يتثبت في كثير من أحواله ، ثم ذكر قصة تثبته من حديث الاستئذان ، وذكر قصة فاطمة بنت قيس

وهذا غلط فإن أبا موسى الأشعري ما كان فاسقاً عند عمر حتى ينزل عليه الآية ، وإنما شك في وهمه لأنه استبعد أن تكون السنة خفيت عليه مع ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم

وأما قصة فاطمة بنت قيس فليست من هذا الباب من قريب ولا بعيد إنما رأى عمر أن خبرها يخالف ظاهر القرآن وشك هل حفظت أم نسيت

قال مسلم في صحيحه 3703- [46-...] وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الأَعْظَمِ ، وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ ، فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةً ، ثُمَّ أَخَذَ الأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصًى ، فَحَصَبَهُ بِهِ ، فَقَالَ : وَيْلَكَ تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا ، قَالَ عُمَرُ : لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ ، لاَ نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ ، أَوْ نَسِيَتْ ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.

وقد ذكر الإمام أحمد طعنه في صحة هذا الخبر عن عمر

وإلا فالمعروف من حال عمر أنه يقبل أخبار الثقات

قال الشافعي في الرسالة (1172) قلت أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب " ان عمر بن الخطاب كان يقول الدية للعاقلة ولا ترث المراة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه عمر "

وقال الشافعي في الرسالة (1180) أخبرنا مالك عن بن شهاب عن سالم أن عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس عن خبر عبد الرحمن بن عوف
قال الشافعي يعني حين خرج إلى الشام فبلغه وقوع الطاعون بها

وقال الشافعي في الرسالة (1182) مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه " أن عمر ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال له عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله يقول " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "
(1183) سفيان عن عمرو انه سمع بجالة يقول " ولم يكن عمر أخذ الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذها من مجوس هجر "

وهذه الأخبار إنما أذكرها من كتاب لأن الشافعي كان يذكرها للرد على القائلين برد أخبار الآحاد

وقال البخاري في صحيحه 2223 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي طَاوُسٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا.

وفلان هذا صحابي معروف تأول في صنيعه هذا رضي الله عنه ، فهنا عمر لم يتثبت في المنقول عنه بل وجه النقد له مباشرة

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن 296 - حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن أسير بن عمرو ، قال : بلغ عمر بن الخطاب أن سعدا ، قال : « من قرأ القرآن ألحقته في العين فقال : » أفا أفا ، أيعطى على كتاب الله عز وجل ؟ «

فهنا انتقده بخبر الثقة

فكيف يقال بعد هذه الحوادث كلها أن عمر كان يتثبت في معظم أحواله ، ثم نأتي بأخبار تثبت فيها عمر من خبر صحابي وكأننا نقول أن هذا الصحابي كان فاسقاً عنده

وتكثير الشروط على من يريد أن يقوم أحد إخوانه يوحي بالريبة

بل بعضهم يقول لا ينتقد السلفي حتى يستشار العلماء مشيراً بذلك على نفسه ومزكياً إياها أنها لا يقف على خطئها إلا العلماء !

وبعضهم يقول : إذا انتقدت أخاك ولو كنت على حق فقد تكون آثماً لأنك تفرح بخطئه

وهذه قاعدة غريبة وكلام في النيات والله أعلم بالنيات والأصل فيمن عمل عملاً شرعياً على وجهه ألا يتكلم في نيته بشيء ولو فتحنا هذا الباب لوجد الحزبيون علينا مدخلاً ولتسلط أهل التخذيل على أهل السنة

وما دام الأمر كلاماً في النيات فقد يعكس عليك الطرف الآخر الأمر ، ويقول أنك أنت تستكبر عن الرجوع إلى الحق وعن أن يبين الناس لك أغلاطك فتضع هذه الأطواق الأمنية ومن جر ذيول الناس جروا ذيوله !

قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/152) : أَخبَرنا إِبراهيم بن يعقوب الجُوزْجَاني، فيما كَتَبَ إلَيَّ، قال: سَمِعْتُ أَحمد بن حَنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة، قلنا: يا أَبَا عَبد الله، لا يحل؟ قال: عندي، قلت: فإِن سُفيان، وشُعبة قد رويا عنه، قال: لو بان لشُعبة ما بان لغيره ما روى عنه.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي