الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
قال الآلوسي في تفسيره المسمى بروح المعاني (1/64) :
" وحاصله أن الاستعانة
طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه وشيء منهما لا يوجب الجبر ولا القدر
وعندي أن الآية إن استدل بها على شيء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن للعباد
قدراً مؤثرة بإذن الله تعالى لا بالاستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي لا أنهم ليس
لهم قدرة أصلاً بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية إذ الضرورية تكذبه
ولا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبداً كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذهب الأشاعرة إذ
هو في المآل كقول الجبرية وأي فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا
بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً"
أقول : الآلوسي ليس سليم المعتقد بل هو صوفي غال
ولكن كلامه هنا في غاية السلامة إذ ليعلم
أن الأشاعرة جبرية يثبتون للعبد قدرة غير مؤثرة ، ولذا كان عندهم من التوحيد ان يقال
( الله هو الفاعل حقيقة ) وأما العبد ففعله مجازي يقارن فعل الله وليس هو الفاعل حقيقة
، وهذا ما يسمونه ب( كسب الأشعري) ، وهذا القول لم يؤثر عن الأشعري الرجوع عنه
وقد رد شيخ الإسلام على هذا القول بأن فيه مكابرةً للغة العرب والعرف ،
إذ أن المستقر عند جميع بني آدم أن من فعل فعلاً حقيقة وقع عليه اسم الفعل بمعنى أن
من قتل يسمى ( قاتلاً ) ومن صلى يسمى ( مصلياً ) ومن كفر يسمى ( كافراً )
وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يوصف الله عز وجل بأنه ( قاتل )
أو ( مصلي ) أو غيرها
وقد اعترف الإيجي بأن الأشاعرة ( جبرية متوسطة )
واعلم _ رحمك الله _ أن الجهم بن صفوان اخترع مذاهب مآلها الدعوة إلى الكفر
الصريح والانحلال التام
فقال بأن الله عز وجل في كل مكان ، وأنه لا يرى ولا يسمع له كلام فحقيقة
قوله إعدام الإله وجعل وجوده وجوداً ذهنياً لا وجوداً حقيقياً لهذا قال السلف ( المعطل
يعبد صنماً )
وقد ورث الأشاعرة عنه هذه السوأة فزادوا على تعطيل الجهم فقالوا ( لا داخل
العالم ولا خارجه ) فبالغوا في إعدام الرب وتشبيهه بالعدم أكثر من الجهم ، وقالوا بالكلام
النفسي فأقروا بأنه لا يسمع له كلام فوافقوا الجهم
قال السيوطي في الإكليل ص42 :" 11- قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ}
فيه الرد على المشبهة وأنه تعالى ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض ولا لون ولا
طعم ولا حال في مكان ولا زمان"
وهذه صفة المعدوم ففهم السيوطي من قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) ما يفمهه
السامع من قوله ( ليس بشيء )
وإذا كانت الموجودات فيها ما هو عليم وقدير واشتراكها في قدر الوجود والعلم
والقدرة والكلام لا يقتضي تشبيهها بالخالق ، فلماذا تلك السلوب التي ذكرها السيوطي
؟
بل إن السيوطي قد شبه ربه بالهواء الذي لا لون له ولا رائحة
وشبهه بالماء الذي لا طعم له
وفي نفيهم لصفة الكلام طعن في النبوات
ثم زاد الجهم على هذه الزندقة ، أن أعطى العصاة حجةً على ربهم فقال بالجبر
، وأن الله عز وجل أجبر العباد على الكفر والمعاصي وأنهم لا إرادة لهم ، ومن هذا الوجه
كان قول الجبرية أخطر على العامة من قول القدرية ، وتابعه الأشاعرة على هذه المصيبة
، ولكن على عادتهم في التمويه والمخرقة فأثبوا للعبد قدرة معطلة كاليد الشلاء
وقول الأشعري بالجبر هو سر قوله الذي تجده في كثير من كتب أصول الفقه من
القول بأن القدرة لا تسبق الفعل وإنما تقارنه ، ويريد بهذا القول ان العبد لا قدرة
له وإنما يخلق الله فيه قدرة أثناء الفعل ليفعل عز وجل هذا الفعل ويقارنه فعل عبده
ولا حقيقة لفعل العبد ، ثم يعود عاجزاً لا قدرة له
والجويني إمام الحرمين - زعموا - شنع على إمامه الأشعري في هذه المسألة وتهكم به
وقال أن مذهبه لا يرتضيه عاقل
قال الزركشي في البحر المحيط (2/55) :" [ التَّنْبِيهُ ] الْأَوَّلُ
أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَمَّا حَكَى الْقَوْلَ بِأَنَّ الْفِعْلَ حَالَ حُدُوثِهِ
مَأْمُورٌ بِهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَذْهَبَ الشَّيْخِ فِي الْقُدْرَةِ _ يعني أبا الحسن
الأشعري _ ، ثُمَّ قَالَ : وَمَذْهَبُهُ مُخْتَبَطٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
ثُمَّ قَالَ : لَوْ سَلَّمَ مُسْلِمٌ لِأَبِي الْحَسَنِ مَا قَالَهُ فِي
الْقُدْرَةِ جَدَلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ كَوْنُ الْحَادِثِ مَأْمُورًا ، هَذَا
حَاصِلُهُ .
وَمَذْهَبُهُ فِي الْقُدْرَةِ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ ،
ثُمَّ أَلْزَمَ الشَّيْخُ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ .
ثُمَّ قَالَ : فَقَالَ فِي الْحَادِثِ : هَذَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ
الْمُخَاطَبُ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَّجِهَ الْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ طَلَبًا
وَاقْتِضَاءً مَعَ حُصُولِهِ ، فَلَا يَرْضَى هَذَا الْمَذْهَبَ الَّذِي لَا يَرْتَضِيهِ
لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ "
وقد قال ابن الوزير في العواصم (7/76) :" قال الشهرستاني بعد قوله " إن الجويني فر من ركاكة الجبر ": والجبر لازِمٌ في كل تقديرٍ حتى الاختيار على المختار جبر"
وقد قال ابن الوزير في العواصم (7/76) :" قال الشهرستاني بعد قوله " إن الجويني فر من ركاكة الجبر ": والجبر لازِمٌ في كل تقديرٍ حتى الاختيار على المختار جبر"
ثم بعد هذا كله قالوا بالإرجاء الغالي ، فقال الجهم بأن الإيمان في القلب
المعرفة وتبعه الأشاعرة على أصل قوله ، واتفقوا على أن قول اللسان شرط في إجراء الأحكام
الدنيوية ، وأنه لا يشترط في دخول الجنة أن يتلفظ المرء بالشهادتين في الدنيا بل يكفي
أن يصدق بقلبه
وقد قال السلف في مرجئة الفقهاء ( تركوا الدين أرق من ثوب سابري ) ، فكيف
لو رأوا هؤلاء الأراذل ، وقد قال الباقلاني بإيمان فرعون بناءً على أصله
ومجموع هذه المقالات الثلاثة ( التجهم ، والإرجاء والجبر ) يساوي الكفر
البواح والانحلال من ربقة الدين ولو أراد زنديق أن يدخل على أهل الإسلام الانحلال لما
وجد خيراً من هذا المذهب
وزاد الجهم على الأشاعرة بالقول بفناء الجنة والنار فأتقى الخلق وأفجرهم
مآلهم واحد وهو العدم وهذا عين هدم الدين وموافقة قول الدهرية
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم