الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فقد قال الله تعالى :" أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "
وقال تعالى :" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ "
وقال تعالى :" وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ "
وقال تعالى :" ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون
"
وقال تعالى :" فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير
علم "
وقال الإمام الشافعي :" من استحسن فقد شرع " ولـه رسالة طُبعت
على هامش (الأم) بعنوان (إبطال الاستحسان).
قلت : يدخل في قوله ( هذا ) دخولاً أولياً من يستحسنون البدع
وقال الشاطبي في المبتدع:"قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع، لأن
الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجريَ على سنن، وصار هو المنفرد بذلك، لأنه حكم بين
الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع،
ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج لبعث الرسل – عليهم السلام – فهذا الذي ابتدع
في دين الله قد صبَّر نفسه نظيرا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع" _ الإعتصام (
1/50_51)
وقال شيخ الإسلام : "ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره
أن البدعة أحب إلى إبليس منالمعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها ومعنى
قولهم أن البدعة لا يتابمنها أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ولا رسوله قد
زين له سوء عمله فرآهحسنًا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا لأن أول التوبة العلم بأن
فعله سيء ليتوب منهأو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله،
فما دام يرى فعلهحسنًا وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب" (مجموع الفتاوى
10/9)
وقال ابن القيم : "ومعلوم أن المذنب إنما ضرره على نفسه وأما المبتدع
فضرره على النوع، وفتنةالمبتدع في أصل الدين وفتنة المذنب في الشهوة، والمبتدع قد قعد
للناس على صراط الله المستقيم يصدهم عنه والمذنب ليس كذلك، والمبتدع قادح في أوصاف
الرب وكماله والمذنب ليس كذلك، والمبتدع مناقض لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
والعاصي ليس كذلك،والمبتدع يقطع على الناس طريق الآخرة والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه"
الجواب الكافي ( 1/101)
وقال صديق حسن خان في تفسيره فتح البيان ونقله عنه الغزنوي في حاشيته على
جامع البيان ص247 :" والمقلد لا يدعي أنه حكم بما أنزل الله بل يقر أنه حكم بقول
العالم الفلاني وهو لا يدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه أم من المسائل
التي استدل عليها بالدليل ثم لا يدري هل أصاب في الإستدلال أم أخطأ ، وهل أخذ بالدليل
القوي أم الضعيف ؟ فانظر يا مسكين ماذا صنعت بنفسك فإنك لم يكن جهلك مقصوراً عليك بل
جهلت على عباد الله فأرقت الدماء وأقمت الحدود وهتكت الحرم بما لا تدري فقبح الله الجهل
بما أنزله ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعاً وديناً له وللمسلمين فإنه طاغوت عند التحقيق
"
وقال صالح الفوزان في شرح نواقض الإسلام ص103 _ 104 :" ومما
يتعلق بهذه المسألة أن الحكم بما أنزل الله ليس كما يفهم بعض الناس الذين ينتسبون إلى
الدعوة إنه الحكم في المنازعات المالية والحقوقية فقط ، ولا يطالبون إلا بهذا الشيء
أن يحكم بما أنزل الله في الخصومات التي تجري في المحاكم ، وأن تحل الخصومات والمنازعات
بين الناس بالشريعة لكن ليس الأمر قاصراً على هذا ، بل يجب الحكم بما أنزل الله في
العقائد التي هي أهم شيء "
ثم قال بعدها في ص 105 " وكذلك لا بد من تحكيم الشريعة في العبادات
لأن هناك عبادات تتمشى على الكتاب والسنة ، وهناك عبادات محدثة ليس لها أصل في الكتاب
والسنة فهذه بدع يجب بيان بطلانها "
قلت : فانظر كيف جعل البدع في العبادات من ترك تحكيم شرع الله فيها
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته فضل الإسلام :" باب ما جاء
أن البدعة أشد من الكبائر17 ]
وقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)
قال ابن باز في شرحه لكلامه هذا :" والمعنى: أن البدعة أكبر
من الكبائر لأنها تنقص للإسلام وإحداث في الإسلام واتهام للإسلام بالنقص، فلهذا يبتدع
ويزيد.
وأما المعاصي فهي اتباع للهوى
وطاعة للشيطان فهي أسهل من البدعة وصاحبها قد يتوب ويسارع ويتعض، أما صاحب البدعة فيرى
أنه مصيب وأنه مجتهد فيستمر بالبدعة نعوذ بالله، ويرى الدين ناقص فهو بحاجة إلى بدعته.
ولهذا صار أمر البدعة أشد وأخطر من المعصية قال تعالى في أهل المعاصي: (وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). فأهل المعاصي تحت المشيئة، وأما أهل البدع فذنبهم
عظيم وخطرهم شديد لأن بدعتهم معناها التنقص للإسلام وأنه محتاج لهذه البدعة ويرى صاحبها
أنه محق ويستمر عليها ويبقى عليها ويجادل عنها نسأل الله العافية"
وسئل الشيخ : هل البدعة تدخل تحت المشيئة إذا لم تكن مكفرة؟
فأجاب : ما تدخل في الذنوب، لأنه متوعد عليها في النار والعياذ بالله،
إلا أن يتوب نسأل الله العافية، ولكن إن كانت دون الشرك يرجى لصاحبها لأنها تدخل في
المعنى من جهة المعاصي، لكنها غير داخلة في قوله تعالى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ) في الجملة. لكن إذا كان المبتدع بدعته دون الشرك فهي لها حكم المعاصي
من جهة أنه لا يخلد في النار إن دخل النار.ا.هـ.
قلت : لربما تعقب متعقبٌ الإمام ابن عبد الوهاب في قوله :" البدعة
أشد من الكبائر " الشيخ ابن باز في قوله :" المعاصي تحت المشيئة
" بأن الله عز وجل سمى قتل الأنبياء معصيةً
فقال تعالى :" ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
"
وقتل الأنبياء كفرٌ أكبر لا يدخل تحت المشيئة وكما قيل :" ليس بعد
الكفر ذنب " ويراد بالكفر هنا الأكبر _ فقط _
كما أن الكفر العملي الأصغر من المعاصي ، والجواب أن المعاصي والكبائر
إذا أطلقت أريد بها ما دون الكفر ، وخصوصاً في مقام التفصيل والمفاضلة كما هو الشأن
هنا
وإلا فلا شك بأن الكفر أشد من البدع ما لم تكن مكفرةً
وتأمل قول شيخ الإسلام "وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة وأئمة
أهل البدع أضر على الأمة من أهل
الذنوب ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج ونهى عن قتال
الولاةالظلمة" (مجموع الفتاوى 7/284)
قلت : فانظر إلى قوله ( من أهل الذنوب ) ولا شك أن الكفر من الذنوب ولكنه
لا يعنيه وإنما يعني الذنوب الشهوانية فهو في مقام مفاضلة وتفصيل والناس لا يفاضلون
إلا بين ما يتفاضل أو نوزع في تفاضله وأما الكفر فخارج محل النزاع وإلا لا يعقل أن
يوجد مسلمٌ يفضل الكفر على البدعة
وتأمل _ رحمني الله وإياك _ استدلال الإمام محمد بن عبد الوهاب بقوله تعالى
:" إن الله لا يغفر أن يشرك به " على خطورة البدع وذلك أن البدع فيها معنى
التشريع من دون الله عز وجل
علماً بأن البدع ليست كلها مكفرة كما لا يخفى على طلبة العلم
كما أن البدع من القول على الله بغير علم
قال ابن قيم في مدارج السالكين (1/372) :" القول على الله بلا علم
هو أشد المحرمات تحريماً وأعظمها إثماً
ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان
ولا تباح بحال بل لا تكون إلا محرمة وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في
حال دون حال فإن المحرمات نوعان :
محرم لذاته لا يباح بحال ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت قال الله تعالى
في المحرم لذاته {قُلْ إِنَّمَاحَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال تعالى{وَ الْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال تعالى{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
مَا لاتَعْلَمُونَ} فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما فإنه يتضمن الكذب على
الله ونسبته إلى ما لا يليق به وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه وتحقيقما
أبطله وإبطال ما حققه وعداوة من والاه وموالاة من عاداه وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه
ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله فليس في أجناس المحرمات أعظم
عند الله منه ولا أشد إثماً.
وهو أصل الشرك والكفر وعليه أسست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين
أساسها القول على الله بلا علم
ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة
لها وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض وحذروا فتنتهم أشد التحذير وبالغوا في ذلك ما لم
يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها
له أشد" انتهى.
وقال ابن قيم في إغاثة اللهفان (1/62) :" لا تجد مبتدعاً إلا وهو
متنقص للرسول وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب
أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلاً مقلداً وإن كان مستبصراً في بدعته فهو مشاق لله
ورسوله" انتهى
قلت : ولا شك أن هناك فرقاً بين البدعة والمبتدع فليس كل من وقع في بدعة
فهو مبتدع كما أن ليس كل من وقع في الكفر صار كافراً بل إن للتبديع ضوابط كما أن للتكفير
ضوابط وإن كان الأمر في التكفير أشد وأضيق لأنه إخراجٌ من دائرة الإسلام
غير أن البدع الظاهرة يبدع القائل بها ولا يعذر بما يدعي أنه أداه اجتهاده له كما ذكر ابن أبي زيد القيرواني عن أهل السنة وكما فعل الصحابة مع الخوارج ، وكذلك من خالف معلوماً من الدين بالضرورة حكم بكفره كما حكم الصحابة بكفر أهل الردة
غير أن البدع الظاهرة يبدع القائل بها ولا يعذر بما يدعي أنه أداه اجتهاده له كما ذكر ابن أبي زيد القيرواني عن أهل السنة وكما فعل الصحابة مع الخوارج ، وكذلك من خالف معلوماً من الدين بالضرورة حكم بكفره كما حكم الصحابة بكفر أهل الردة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم