الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فهذا بحث في مسألة القنوت في النصف الأول من رمضان
اعلم رحمك الله أن مذهب الجمهور
( مالك والشافعي وأحمد ) أنه لا يقنت في النصف الأول من رمضان ( يعني أول خمسة عشر
ليلة ) ، وهذا مذهب جمهور فقهاء التابعين ونقله بعضهم اتفاقاً بين الصحابة
قال عبد الرحمن بن قدامة في الشرح
الكبير (1/719) : "(ثم يقنت فيها بعد الركوع) القنوت مسنون في الركعة الاخيرة
من الوتر في جميع السنة في المنصور عند أصحابنا وهو قول ابن مسعود وابراهيم وإسحاق
وأصحاب الرأي، وعنه لا يقنت في إلا في النصف الاخير من رمضان، روي ذلك عن علي وأبي
وهو قول مالك والشافعي اختاره الاثرم لما روي أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان
يصلي بهم عشرين ولا يقنت الا في النصف الثاني، رواه أبو داود، وهذا كالاجماع.
وقال قتادة: يقنت في السنة كلها إلا في النصف الاول من رمضان لهذا الخبر".
وقال ابن قدامة في المغني (2/112) :" وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ
الْمُخْتَارَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ
الْمَرُّوذِيِّ: كُنْت أَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ،
ثُمَّ إنِّي قَنَتُّ، هُوَ دُعَاءٌ وَخَيْر"، فكأنه هنا نقل رجوع أحمد ، مأخذ
هذا القول عدة أمور.
قال صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه 423 - وَسَأَلته عَن الْقُنُوت فَقَالَ
مذهبي فِي الْقُنُوت فِي شهر رَمَضَان أَن يقنت فِي النّصْف الآخر وَإِن قنت السّنة
كلهَا فَلَا بَأْس وَإِن كَانَ إِمَام يقنت قنت خَلفه.
وقال عبد الله بن أحمد في مسائله عن أبيه 337 - حَدثنَا قَالَ سَأَلت ابي
عَن الْقُنُوت فِي السّنة كلهَا افضل اَوْ النّصْف من شهر رَمَضَان
قَالَ لَا بَأْس ان يقنت كل لَيْلَة وَلَا بَأْس ان قنت السّنة كلهَا وان
قنت النّصْف من شهر رَمَضَان فَلَا بَأْس.
الأول : فعل ابن عمر ومعاذ القاري.
وقال المارودي في [الحاوي 2/ 291]:" قال الشافعي - رضي الله عنه
- [ولا يقنت في شهر رمضان إلا في النصف الأخير منه وكذلك كان يفعل ابن عمر ومعاذ القاري]
".
قال ابن أبي شيبة في المصنف 7005- حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ
، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ؛ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْنُتُ إِلاَّ فِي النِّصْفِ
. يَعْنِي مِنْ رَمَضَانَ.
7006- حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ ؛ بِنَحْوِهِ.
الثاني : خبر أبي بن كعب.
قال ابن خزيمة في صحيحه وأعلى خبر يحفظ في القنوت في الوتر عن أبي بن كعب
في عهد عمر بن الخطاب موقوفا أنهم كانوا يقنتون بعد النصف يعني من رمضان.
1100 - نا الربيع بن سليمان المرادي نا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن
ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير : أن عبد الرحمن بن عبد القاري - وكان في عهد عمر بن
الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال - أن عمر خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد
الرحمن بن عبد القاري فطاف بالمسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي
الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر : والله إني أظن لو جمعنا هؤلاء على قارئ واحد لكان
أمثل ثم عزم عمر على ذلك وأمر أبي بن كعب أن يقوم لهم في رمضان فخرج عمر عليهم والناس
يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر : نعم البدعة هي والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون
- يريد آخر الليل - فكان الناس يقومون أوله وكانوا يلعنون الكفرة في النصف : اللهم
قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يؤمنون بوعدك وخالف بين كلمتهم
وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق ثم يصلي على النبي صلى الله
عليه و سلم ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين قال : وكان يقول إذا
فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته : اللهم
إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونرجو رحمتك ربنا ونخاف عذابك الجد إن عذابك
لمن عاديت ملحق ثم يكبر ويهوى ساجداً.
ووجه الدلالة من الخبر قوله (فكان الناس يقومون أوله وكانوا يلعنون الكفرة
في النصف ) ، وقد قال البعض أنه قد يكون معنى هذا الأثر أنهم كانوا يقنتون في النصف
الأول ، ويلعنون في النصف الثاني وهذا التأويل مدفوع من وجهين :
الأول : أنهم لا يعرف لهم دعاء إلا بلعن الكفار .
الثاني : أنه لم يذكر لهم قنوتاً في النصف الأول أصلاً فالأصل عدمه .
وقد استدل بهذا الأثر عبد الوهاب البغدادي المالكي صاحب ( الإشراف على
نكت مسائل الخلاف ) على أهل الرأي في قولهم ( يقنت طوال السنة حتى في نصف رمضان الأول
) .
وقال عبد الرزاق في المصنف 4996 - عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ
كَانَ يَقْنُتُ السَّنَةَ كُلَّهَا فِي الْوِتْرِ إِلَّا النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْ
رَمَضَانَ " قَالَ: وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ لَا يَقْنُتُ مِنَ السَّنَةِ شَيْئًا
إِلَّا النِّصْفَ الْآخِرَ مِنْ رَمَضَانَ
وقال أيضاً 4995 - عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «لَا قُنُوتَ
فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إِلَّا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ رَمَضَانَ» قَالَ مَعْمَرٌ:
وَإِنِّي لَأَقْنُتُ السَّنَةَ كُلَّهَا إِلَّا النِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ،
فَإِنِّي لَا أَقْنُتُهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ الْحَسَنُ، وَذَكَرَهُ عَنْهُ
قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ.
فثبت عن الزهري والحسن ومحمد بن سيرين وقتادة المنع من القنوت في النصف
الأول من رمضان ومنهم من منع من القنوت طوال السنة إلا في النصف الآخر من رمضان.
وقال ابن أبي شيبة في المصنف 7012- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ
الأَعْمَشِ ، عَنْ يَحْيَى ، قَالَ : كَانَ يُصَلِّي وَلاَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ
حَتَّى النِّصْفِ . يَعْنِي مِنْ رَمَضَانَ.
يحيى هذا هو ابن وثاب.
واعتمد القائلون بجواز القنوت في النصف الأول على دليلين أثري ونظري:
الدليل الأول : قال ابن أبي شيبة في المصنف 7015- حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ
الأَحْمَرِِ ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : كَانَ
عَبْدُ اللهِ لاَ يَقْنُتُ السَّنَةَ كُلَّهَا فِي الْفَجْرِ ، وَيَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ
كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ الرُّكُوعِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا.
وقال عبد الرزاق في المصنف 4991 - عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبَانَ، عَنِ النَّخَعِيِّ
أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقْنُتُ السَّنَةَ كُلَّهَا فِي الْوِتْرِ ".
وهذا الاستدلال يناقش من وجوه:
الأول : المنع من صحته ففي السند الثاني أبان بن أبي عياش وهو متروك ،
وفي السند الأول أشعث بن سوار وهو ضعيف ، وأبو خالد الأحمر صدوق يخطيء وقد خالفه الثوري
فلم يذكر ابن مسعود.
قال عبد الرزاق في المصنف 4993 - عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَشْعَثِ،
عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ مِنَ السَّنَةِ
كُلِّهَا قَبْلَ الرَّكْعَةِ».
الثاني : معارضته بآثار غيره من الصحابة ، وترجيحها عليه بأنهم أكثر.
الثالث : ترجيح الآثار الأخرى بأنها خلاف القياس والصحابة إذا أفتوا بخلاف
القياس قوى ذلك وجود توقيف في الأمر ، وقد استخدم هذه الطريقة بعض الفقهاء في مسألة
مس الذكر ، فقال أن من قال بنقض الوضوء من مس الذكر خالف القياس ، ولا يخالف الفقيه
القياس إلا لدليل.
وأما المأخذ النظري فقولهم ( إذا صح القنوت في النصف الثاني صح في الأول
)
وهذا في الحقيقة معارضة للآثار
بالقياس وهذا لا يجري حتى على أصول أهل الرأي
فإنهم ربما تركوا القياس للخبر
المرسل كما في مسألة الوضوء من القهقهة
وآثار الصحابة أعلى من المراسيل عند أهل الحديث.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم