الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فقد انتشر بين بعض الإخوة قاعدة ( لا يخاطب العوام بمسائل الجرح والتعديل
) كذا بهذا الإطلاق دونما شروط أو قيود ويزعمون أن ذلك من باب تكليف مالا يطاق ، ثم
يأتي من يقسم الناس إلى علماء وعوام فقط فيحصر الكلام في الجرح والتعديل تبعاً واستقلالاً
بالعلماء ، فجمعت جمعاً بينت فيه بطلان هذا التقعيد فهاكه - أيها السني - حباً وكرامةً
وأداءً لواجب النصيحة ...
1- قال الخلال في السنة [1783] أخبرني محمد بن أبي هارون ، أن إسحاق بن
إبراهيم حدثهم أنه حضر العيد مع أبي عبد الله ، قال : فإذا بقاص يقول : على ابن أبي
دؤاد لعنة الله حشا الله قبر ابن أبي دؤاد مائة ألف عمود من نار ، وجعل يلعن ، فقال
أبو عبد الله : « ما أنفعهم للعامة »
أقول : وهذا الأثر عن أحمد موجودٌ في مسائل ابن هانيء ونسخة المسائل ليست
حاضرةً عندي حتى أوثقه وللأثر تتمة هناك وهو قول أحمد :" وإن كان عامة ما يحدثون
به كذباً "
وهذه حكاية للحال وليست اقراراً
ووجه الدلالة من هذا الأثر أن هذا القاص خاطب العامة بجرح ابن أبي دؤاد
فأثنى أحمد على صنيعه ولم يعنفه ولم يقل له أنت تخاطب العامة بما لا يطيقون ومعلومٌ
أن من يحضر للقصاص هم العوام وقد نص أحمد على نفعه للعامة ، وما هو النفع ؟
الجواب : جرح أهل الأهواء !
2- قال الإمام ابن القيم في الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية
الشهيرة بالنونية
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الــــــــ *** ـقسري يوم ذبائح القربان
اذ قال ابراهيم ليس خليله *** كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة *** لله درك من أخي قربان
أقول : هنا يثني الإمام ابن القيم على صنيع خالد القسري بالجعد بن درهم
وما الذي صنعه القسري ؟
الجواب :
قال الدارمي في الرد على الجهمية
1:
حدثنا القاسم بن محمد البغدادي
، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب ، عن أبيه ، عن جده ، حبيب بن أبي حبيب
قال :
خطبنا خالد بن عبد الله القسري
بواسط يوم الأضحى ، فقال : « أيها الناس ارجعوا فضحوا ، تقبل الله منا ومنكم ؛ فإني
مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما
، وتعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا , ثم نزل فذبحه »
أقول : ووجه الدلالة من هذا الأثر أنه جرح الجعد في خطبة العيد أمام الناس
عاميهم وعالمهم ، وقد يقول قائل أن القصة قد تكلم البعض في ثبوتها
والجواب : أن من صححها من أهل العلم كابن القيم وغيره أثنى على صنيع القسري
، ولم يثرب عليه مخاطبة العامة بجرح أهل الأهواء
3- قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه [35 ] وَقَالَ مُحَمَّدٌ سَمِعْتُ عَلِىَّ
بْنَ شَقِيقٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ عَلَى رُؤوسِ
النَّاسِ دَعُوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَسُبُّ السَّلَفَ.
أقول : تأمل قوله ( على رؤوس الناس ) ولا شك أن في الناس من ليس من العلماء
، وهنا ابن المبارك أسقطه بخطأٍ واحد خلافاً لمن اشترط تعدد الأخطاء أو تكرارها ، دون
النظر إلى حقيقة الخطأ وكنهه .
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (1/141) :"وقال : أنبأنا المروزي
قال : كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري وقال أنه تنزه عن ميراث أبيه فقال
رجل قدري : إن الله لم يجبر العباد على المعاصي فرد عليه أحمد بن رجاء فقال : إن الله
جبر العباد على ما أراد , أراد بذلك إثبات القدر فوضع أحمد بن علي كتابا يحتج فيه فأدخلته
على أبي عبد الله فأخبرته بالقصة .
فقال : ويضع كتابا وأنكر عليهما جميعا : على ابن رجاء حين قال جبر العباد
وعلى القدري الذي قال لم يجبر .
وأنكر على أحمد في وضعه الكتاب واحتجاجه وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب وقال
لي : يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال جبر العباد فقلت لأبي عبد الله : فما
الجواب في هذه المسألة ؟ قال : يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
قال المروزي في هذه المسألة : انه سمع أبا عبد الله لما أنكر على الذي
قال لم يجبر وعلى من رد عليه جبر فقال أبو عبد الله كلما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في
جوابها
وقال : يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثه وأنكر على من رد بشيء من جنس الكلام
إذا لم يكن له فيها إمام مقدم.
قال المروزي : فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبرا ومعه شيخه
وكتاب من أهل عكبرا فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبد الله فقال : يا أبا عبد الله هو
ذا الكتاب أدفعه إلى أبي بكر حتى يقطعه وأنا أقوم على منبر عكبرا وأستغفر الله عز و
جل .
فقال أبو عبدالله لي : ينبغي أن تقبلوا منه , فرجعوا إليه "
أقول : تأمل معي هذه القصة فإن أحمد بن رجاء سنيٌ سلفي من أصحاب الإمام
أحمد وكان يناظر رجلاً أطلق إطلاقاً موهماً فرد البدعة ببدعة وصنف في ذلك كتاباً فأمر
أحمد بهجرانه ، ولم يعتبر حسن قصده
فإن المراد لا يدفع الإيراد ،
وتأمل التوبة الصادقة من ابن رجاء حيث لم يقل ( أنا سني ينبغي أن تتأولوا كلامي ) أو
( أنا أرد على أهل الباطل فليس من المصلحة أن تهجروني ) بل قام على المنبر وقطع الكتاب
فلله دره .
وقال شيخ الإسلام كما مجموع الفتاوى (24/172) :"وقد كان العلماء من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله
( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك
خير وأحسن تأويلاً ) وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف
قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين نعم من خالف
الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه فهذا
يعامل بما يعامل به أهل البدع "
أقول : فجعل مجرد مخالفة الكتاب المستبين أو السنة المستفيضة أو الإجماع
السلفي موجباً لئن يعامل المرء معاملة أهل البدع دونما اشتراط لتعدد الأخطاء أو تكررها
.
وقال المزي في ترجمة تليد بن سليمان من تهذيب الكمال (4/320) :"وَقَال
عَباس الدُّورِيُّ ، عن يحيى بن مَعِين : كان ببغداد ، وقد سمعت منه ، وليس بشيءٍ.
وَقَال في موضع آخر : كذاب ، كان يشتم عثمان ، وكل من شتم عثمان ، أو طلحة
، أو أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دجال ، لا يكتب عنه ، وعليه لعنة
الله والملائكة والناس أجمعين "
أقول : يدخل في قول يحيى من يصف الصحابة بــ ( الغثائية )
4- قال الآجري في آخر كتاب الشريعة :
"ينبغي لكل من تمسك بما رسمناه في كتابنا هذا وهو كتاب الشريعة أن
يهجر جميع أهل الأهواء من الخوارج والقدرية والمرجئة والجهمية ، وكل من ينسب إلى المعتزلة
، وجميع الروافض ، وجميع النواصب
وكل من نسبه أئمة المسلمين أنه
مبتدع بدعة ضلالة ، وصح عنه ذلك ، فلا ينبغي أن يكلم ولا يسلم عليه
ولا يجالس ولا يصلى خلفه ، ولا
يزوج ولا يتزوج إليه من عرفه ، ولا يشاركه ولا يعامله ولا يناظره ولا يجادله ، بل يذله
بالهوان له ، وإذا لقيته في طريق أخذت في غيرها إن أمكنك"
أقول : فأوجب تطبيق هذا المنهج المتفرع عن جرح أهل الأهواء على كل من نظر
في كتابه
ومن هذا تعلم بطلان الفصل بين
المسائل الشرعية ومسائل الجرح والتعديل فإن كثيراً من مسائل الأحكام تتصل اتصالاً بيناً
بمسائل الجرح والتعديل ، كإمامة المبتدع والفاسق في الصلاة والكفاءة في النكاح وغيرها
من الأحكام حتى أنهم تكلموا في كراهية استرضاع الفاسقة ولا يمكن للعامي أن يطبق هذه
الأحكام حتى تبين له من هو الفاسق ومن هو المبتدع .
ومن حماية العامة من أهل البدع ألا يمكن المبتدع من تدريس العامة فإذا
لم يجد السني عالماً سنياً يأخذ عنه في بلده وأمكنه الهجرة تعينت عليه الهجرة في طلب
العلم من أهله .
قال القرطبي في تفسيره (5/347) عند تفسير قوله تعالى ومن يهاجر في سبيل
الله يجد في الأرض مراغما كثيراً وسعة ) :" قال مالك : هذه الآية دالة على أنه
ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق "
وهذا من الإمام مالك حماية لهذا المرء من البدع ، فأين هذا ممن يأمر الناس
الذين يزعم أنهم عوام بالدراسة عند أهل البدع بحجة أنه لا يوجد في البلد غيرهم ، وما
علم أنه بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار فإن المبتدع غير مؤتمن أن يدخل على الناس
ما شاء من بدعه عند تعليمه لهم
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ( 28/ 205) :" وهذا حقيقة
قول من قال من السلف والأئمة أن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا
يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا "
ومن يقرر هذا التقرير الفاسد لا يمانع أن يخاطب بالتعديل فتقول له ( هذا
الشيخ جيد ) و ( هذا قوي في الأصول ) وغيرها من عبارات الثناء ، فما بال الجرح فقط
لا يخاطب به العامة ؟!
بل هو لا يمانع من مخاطبة العامة بــ( الجرح ) العام كالكلام في الروافض
والخوارج عموماً وربما لم يمانع في تسمية أعيانهم ، وإنما يريدون بهذا التقعيد الفضفاض
حماية بعض الأشخاص أو تبرير بعض المواقف منهم ، فتفضحهم شواهد الإمتحان ويظهر منهم
مناقضة التأصيلات التي يؤصلونها .
وأسوأ من هذا التقعيد قول القائل ( لا يخاطب العامة بمسائل الأسماء والأحكام
) ومسائل الأسماء و الأحكام مصطلح واسع يشمل مسائل الإيمان كمسألة الفاسق الملي والإستثناء
في الإيمان وزيادة الإيمان ونقصانه وتكفير الكافر الأصلي والكافر المرتد فماذا يريد
من يؤصل هذا التأصيل أيريد منا ألا ندرس العقيدة ؟!
وأحسب أنه ما أراد إلا ما أراده من قال :" لا يخاطب العامة بمسائل
الجرح والتعديل " ولكنه أخطأ التعبير فاستخدم هذا المصطلح الواسع ، وكلا التأصيلين
باطلٌ فاسدٌ ، وأصحابه متناقضون .
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم