الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
قال الغزالي في كتابه فضائح الباطنية ص61
:" المسلك الثَّالِث وَهُوَ التَّحْقِيق أَن تَقول هَذِه البواطن والتأويلات
الَّتِي ذكرتموها لَو سامحناكم أَنَّهَا صَحِيحَة فَمَا حكمهَا فِي الشَّرْع أيجب
إِخْفَاؤُهَا أم يجب إفشاؤها فَإِن قُلْتُمْ يجب إفشاؤها إِلَى كل أحد قُلْنَا
فَلم كتمها مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يذكر شَيْئا من ذَلِك للصحابة
ولعامة الْخلق حَتَّى درج ذَلِك الْعَصْر وَلم يكن لأحد من هَذَا الْجِنْس خبر
وَكَيف إستجاز كتمان دين الله وَقد قَالَ تَعَالَى {لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه}
تنبها على أَن الدّين لَا يحل كِتْمَانه وَإِن زَعَمُوا أَنه يجب إخفاؤه فَنَقُول
مَا أوجب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إخفاؤهمن سر الدّين كَيفَ حل لكم
إفشاؤه وَالْجِنَايَة فِي السِّرّ بالإفشاء مِمَّن اطلع عَلَيْهِ من أعظم
الْجِنَايَات فلولا أَن صَاحب الشَّرْع عرف سرا عَظِيما ومصلحة كُلية فِي إخفاء
هَذِه الْأَسْرَار لما أخفاها وَلما كرر هَذِه الظَّوَاهِر على أسماع الْخلق وَلما
تَكَرَّرت فِي كَلِمَات الْقُرْآن صفة الْجنَّة وَالنَّار بِأَلْفَاظ صَرِيحَة
مَعَ علمه بِأَن النَّاس يفهمون مِنْهُ خلاف الْبَاطِن الَّذِي هُوَ حق ويعتقدون
هَذِه الظَّوَاهِر الَّتِي لَا حَقِيقَة لَهَا فَإِن نسبتموه إِلَى الْجَهْل بِمَا
فهمه الْخلق مِنْهُ فَهُوَ نِسْبَة إِلَى الْجَهْل بِمَعْنى الْكَلَام إِذْ كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم قطعا أَن الْخلق لَيْسَ يفهمون من قَوْله
وظل مَمْدُود وَمَاء مسكوب وَفَاكِهَة كَثِيرَة إِلَّا الْمَفْهُوم مِنْهُ فِي
اللُّغَة فَكَذَا سَائِر الْأَلْفَاظ ثمَّ مَعَ علمه بذلك كَانَ يؤكده عَلَيْهِم
بالتكرير وَالْقسم وَلم يفش إِلَيْهِم الْبَاطِن الَّذِي ذكرتموه لعلمه بِأَنَّهُ
سر الله المكتوم فَلم أفشيتم هَذَا السِّرّ وخرقتم هَذَا الْحجاب وَهل هَذَا
إِلَّا خُرُوج عَن الدّين وَمُخَالفَة لصَاحب الشَّرْع وَهدم لجَمِيع مَا أسسه إِن
سلم لكم جدلا أَن مَا ذكرتموه من الْبَاطِن حق عِنْد الله وَهَذَا لَا مخرج لَهُم
عَنهُ فَإِن قيل هَذَا سر لَا يجوز إفشاؤه إِلَى عوام الْخلق فَلهَذَا لم يفشه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن حق النَّبِي أَن يفشيه إِلَى سوسه
الَّذِي هُوَ وَصِيَّة وخليفته من بعده وَقد أفشاه إِلَى عَليّ دون غَيره قُلْنَا
وَعلي هَل أفشاه إِلَى غير سوسه وخليفته أم لَا فَإِن لم يفشه إِلَّا إِلَى سوسه
وَكَذَا سوس سوسه وَخَلِيفَة خَلِيفَته إِلَى الْآن فَكيف انْتهى إِلَى هَؤُلَاءِ
الْجُهَّال من الْعَوام حَتَّى تناطقوا بِهِ وشحنت التصانيف بحكايته وتداولته
الْأَلْسِنَة فَلَا بُد أَن يُقَال إِن وَاحِدًا من الْخُلَفَاء عصى وَأفْشى
السِّرّ إِلَى غير أَهله فانتشر وَعِنْدهم أَنهم معصومون لَا يتَصَوَّر عَلَيْهِم
الْعِصْيَان فَإِن قيل السوس لَا يذكرهُ إِلَّا مَعَ من تعاهده عَلَيْهِ قُلْنَا
وَمَا الَّذِي منع الرَّسُول من أَن يعاهد ويذكره إِن كَانَ يجوز إفشاؤه مَعَ
الْعَهْد فَإِن قيل لَعَلَّه عَاهَدَ وَذكر وَلَكِن لم ينْقل لأجل الْعَهْد
الَّذِي أَخذ مِمَّن أفشى إِلَيْهِ قُلْنَا وَلم انْتَشَر ذَلِك فِيكُم وأئمتكم
لَا يظهرون ذَلِك إِلَّا مَعَ من أَخذ الْعَهْد عَلَيْهِ وَمَا الَّذِي عصم عهد
أُولَئِكَ دون عهد هَؤُلَاءِ ثمَّ يُقَال إِذا جَازَ إفشاء هَذَا السِّرّ بالعهد
فالعهد يتَصَوَّر نقضه فَهَل يتَصَوَّر أَن يفشيه إِلَى من يعلم الإِمَام
الْمَعْصُوم أَنه لَا ينْقضه أَو يكفى أَن يَظُنّهُ بفراسته واجتهاده واستدلاله
بالأمارات فَإِن قُلْتُمْ لَا يجوز إِلَّا إِلَى من علم الإِمَام الْمَعْصُوم أَنه
لَا ينْقضه بتعريف من جِهَة الله فَكيف انتشرت هَذِه الْأَسْرَار الى كَافَّة
الْخلق وَلم تَنْتَشِر الا مِمَّن سمع فإمَّا ان يكون الْمبلغ نَاقِصا للْعهد اَوْ
لم يعاهدأصلاوفي احدهما نِسْبَة الْمَعْصُوم الى الْجَهْل وَفِي الاخر نسبته الى
الْمعْصِيَة وَلَا سَبِيل الى وَاحِد مِنْهُمَا عِنْدهم وان زعمتم أَنه يحل
الإفشاء بالعهد عِنْد شَهَادَة الفراسة فِي الْمَأْخُوذ عَلَيْهِ عَهده انه لَا
ينقصهُ اسْتِدْلَالا بالأمارات فَفِي هَذَا نقض اصل مَذْهَبهم لانهم زَعَمُوا انه
لَا يجوز اتِّبَاع أَدِلَّة الْعقل وَنَظره لَان الْعُقَلَاء مُخْتَلفُونَ فِي
النّظر فَفِيهِ خطر الخظأ فَكيف حكمُوا بالفراسة والامارة الَّتِي الْخَطَأ أغلب
عَلَيْهَا من الصَّوَاب وَفِي ذَلِك إفشاء سر الدّين وَهُوَ أعظم الاشياء خطرا
وَقد منعُوا التَّمَسُّك بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَاد فِي الفقهيات الَّتِي هِيَ حكم
بَين الْخلق على سَبِيل التَّوَسُّط فِي الْخُصُومَات ثمَّ ردوا افشاء سر الدّين
الى الخيالات والفراسات وَهَذَا مَسْلَك متين يتفطن لَهُ الذكي ويتبجح بِهِ
المشتغل بعلوم الشَّرْع إِذْ يتَيَقَّن قطعا ان الْقَائِل قائلان قَائِل يَقُول
لَا بَاطِن لهَذِهِ الظَّوَاهِر وَلَا تَأْوِيل لَهَا فالتأويل بَاطِل قطعا
وَقَائِل ينقدح لَهُ ان ذَلِك يُمكن ان يكون كنايات عَن بواطن لم يَأْذَن الله
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَان يُصَرح بالبواطن بل ألزمهُ النُّطْق
بالظواهر فَصَارَ النُّطْق بالباطن حَرَامًا بَاطِلا وفجورا مَحْظُورًا ومراغمة
لواضع الشَّرْع وَهَذِه التأسيسة بالِاتِّفَاقِ فَلَيْسَ اهل عصرنا مَعَ بعد
الْعَهْد بِصَاحِب الشَّرْع وانتشار الْفساد واستيلاء الشَّهَوَات على الْخلق
وإعراض الكافة عَن امور الدّين أطوع للحق وَلَا اقبل للسر وَلَا آمن عَلَيْهِ
وَلَا أَحْرَى بفهمه وَالِانْتِفَاع بِهِ من أهل عصر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهَذِه الْأَسْرَار والتأويلات ان كَانَ لَهَا حَقِيقَة فقد أقفل
اسماعهم عَنْهَا وألجم أَفْوَاه الناطقين عَن اللهج بهَا وَلنَا فِي رَسُول الله
أُسْوَة حَسَنَة فِي قَوْله وَفعله فَلَا نقُول الا مَا قَالَ وَلَا نظهر الا مَا
يظْهر ونسكت عَمَّا سكت عَنهُ وَفِي الافعال نحافظ على الْعِبَادَات بل على
التَّهَجُّد والنوافل وأنواع المجاهدات ونعلم ان مَا لم يسْتَغْن عَنهُ صَاحب
الشَّرْع فَنحْن لَا نستغني عَنهُ وَلَا ننخدع بقول الحمقى إِن نفوسنا اذا صفت
بِعلم الْبَاطِن استغنينا عَن الاعمال الظَّاهِرَة بل نستهزئ بِهَذَا الْقَائِل
الْمَغْرُور ونقول لَهُ يَا مِسْكين أتعتقد ان نَفسك اصغي وأزكي من نفس رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ يقوم لَيْلًا يصلى حَتَّى تنتفخ قدماه اَوْ
يعْتَقد انه كَانَ يتنمس بِهِ على عَائِشَة ليُخَيل إِلَيْهَا أَن الدّين حق وَقد
كَانَ عَالما بِبُطْلَانِهِ فان اعتقدت الأول فَمَا احمقك وَلَا نزيدك عَلَيْهِ
وان اعتقدت الثَّانِي فَمَا أكفرك واجحدك ولسنا نناظرك عَلَيْهِ لَكنا نقُول إِذا
أَخذنَا بِأَسْوَأ الْأَحْوَال وَقصرت أَدِلَّة عقولنا مثلا عَن دَرك ضلالك وجهلك
وَعَن الاحاطة بِصدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإنَّا نرى بدائه
عقولنا تقضي بِأَن الخسران فِي زمرة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموافقته
والقناعة بِمَا رَضِي هُوَ لنَفسِهِ اولى من الْفَوْز مَعَك أَيهَا المخذول
الْجَاهِل بل الْمَعْتُوه المخبل فَلْينْظر الان الْمنصف فِي آخر هَذَا وأوله
فآخره يقنع الْعَوام بل الْعَجَائِز وأوله يُفِيد الْبُرْهَان الْحَقِيقِيّ لكل
مُحَقّق آنس بعلوم الشَّرْع وناهيك بِكَلَام ينْتَفع بِهِ كَافَّة الْخلق"
كلام الغزالي في نقض تأويلات الباطنية
ينطبق تماماً على تأويلات أصحابه خصوصاَ نصوص العلو التي اتفقت عليها الملل
فيقال لهم : هذه التأويلات هل هي واجبة
الإخراج أم غير واجبة النشر
فإن قالوا : واجبة قلنا فكيف لم يذكرها
الرسول ولو أول نصاً واحداً لما جاز قياس بقية النصوص عليه إذ لو جاز هذا لجاز
لمخالفك أن يقيس بقية النصوص المسكوت عليها على النص المختلف فيه والأشعرية أنفسهم
لا يؤولون كل النصوص ومن التأويلات ما ينكرونه كتأويل المعتزلة للرؤية
وإن قالوا : غير واجبة النشر
قلنا : فليسعكم ما وسع الرسول والصحابة
ولا تذكرون شيئاً منها
وإن قالوا : هي واجبة على بعض الخلق دون
بعض
قلنا : فهل كان كل الصحابة جهلة فلم
يخبرهم النبي بالتأويلات وقد كان منهم أمثال الراشدين وكبار فقهاء الصحابة وقرائهم
الذين استوعبت عقولكم كل الفقه مع ما في بعض مسائل الفقه من عسورة وتأويلاتكم أسهل
من جهة الفهم من عدد من مسائل الفرائض وبعض مسائل البيوع وغيرها من معتركات الفقه
وكل ما قاله الغزالي ينقض على أصحابه
الجهمية الأشعرية من باب أولى
وهذا الضرب من الإلزام نبه عليه شيخ
الإسلام وتلميذه ابن القيم
وقد حاول الغزالي نقض هذا الإلزام بدعوى أن ألفاظ الصفات استعارات وتوسعات وألفاظ نصوص المعاد صريحة وهذا محض هروب لا يغني شيئاً بل ألفاظ نصوص الصفات خصوصاً العلو من أظهر ما يكون وهي متنوعة تنوعاً عظيماً في النصوص ولو عكس شخص دعواه أو سوى بين الأمرين لم يمكنه جوابه وقد اعترف أن الصحابة لم يكونوا يؤولون فقال في ص154 :" وانتم تعلمُونَ أَن السّلف الصَّالِحين مَا كَانُوا يؤولون هَذِه الظَّوَاهِر بل كَانُوا يجرونها على الظَّاهِر ثمَّ انكم لم تكفرُوا مُنكر الظَّوَاهِر ومؤولها بل اعتقدتم التَّأْوِيل وصرحتم بِهِ "
وهذا الكلام على لسان خصمه ولم يمكنه نقضه بغير الخطابية
ومثله صنيع ابن عطية الأندلسي في محرره الوجيز حيث قال :":" وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعا، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر" أقول هذا ينطبق على نصوص الصفات ايضاً التي يعطلها هو نفسه فتأمل
وقد حاول الغزالي نقض هذا الإلزام بدعوى أن ألفاظ الصفات استعارات وتوسعات وألفاظ نصوص المعاد صريحة وهذا محض هروب لا يغني شيئاً بل ألفاظ نصوص الصفات خصوصاً العلو من أظهر ما يكون وهي متنوعة تنوعاً عظيماً في النصوص ولو عكس شخص دعواه أو سوى بين الأمرين لم يمكنه جوابه وقد اعترف أن الصحابة لم يكونوا يؤولون فقال في ص154 :" وانتم تعلمُونَ أَن السّلف الصَّالِحين مَا كَانُوا يؤولون هَذِه الظَّوَاهِر بل كَانُوا يجرونها على الظَّاهِر ثمَّ انكم لم تكفرُوا مُنكر الظَّوَاهِر ومؤولها بل اعتقدتم التَّأْوِيل وصرحتم بِهِ "
وهذا الكلام على لسان خصمه ولم يمكنه نقضه بغير الخطابية
ومثله صنيع ابن عطية الأندلسي في محرره الوجيز حيث قال :":" وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعا، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر" أقول هذا ينطبق على نصوص الصفات ايضاً التي يعطلها هو نفسه فتأمل
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم