الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
قال الغزالي في كتابه الاقتصاد ص14 :"
وعن هذا إذا استقرأت تواريخ الأخبار لم تصادف ملحمة بين المسلمين والكفار إلا
انكشفت عن جماعة من أهل الضلال مالوا إلى الانقياد، ولم تصادف مجمع مناظرة ومجادلة
انكشفت إلا عن زيادة إصرار وعناد. ولا تظنن أن هذا الذي ذكرناه غض من منصب العقل
وبرهانه ولكن نور العقل كرامة لا يخص الله بها إلا الآحاد من أوليائه، والغالب على
الخلق القصور والاهمال، فهم لقصورهم لا يدركون براهين العقول كما لا تدرك نور
الشمس أبصار الخفافيش"
أقول : هذا كلام فيه خبط ظاهر وبيان ذلك
من وجوه
الأول : أن هذا استقراء قاصر فمناظرة ابن
عباس للخوارج ورجوع أكثرهم مخرجة ومعروفة
وفي آخر الخبر عند الطبراني (فَرَجَعَ
مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَبَقِيَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ)
فإن قيل : الغزالي تكلم على ما بين
المسلمين والكفار لا على بين أهل البدع وأهل السنة
فيقال : الباب واحد وهو خلاف المعتقد ثم
إن ما بين أهل السنة وأهل البدعة أشد خفاء مما بين الكافر والمسلم
الثاني : أن ظاهر كلامه حصر ضلال الناس
بعدم ظهور الحجة وضعف العقول
وهذا غلط
بل إن الكفر يعلم من قرأ في القرآن أن له
أسباباً عظيمة والحقائق الإيمانية الواجبة على كل عاقل يعقلها كل الناس
وقد كان من رحمة الله أن فرض الجهاد
فإن الناس يحملهم على كفرهم أسباب لا
تعذرهم عند الله غير أنه من رحمته بهم وتفضلاً منه كلف عباده المؤمنين أن يزيلوا
هذه الأسباب بالجهاد ولهذا ينكشف الجهاد عن هداية أقوام كثيرين
فمن الناس من يكون سبب كفره الشح بالملك
والسيادة كأمر فرعون
قال الله تعالى : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ)
وقريب من حال فرعون حال هرقل الذي علم وصف
النبي صلى الله عليه وسلم وكفر به شحاً بملكه
فيأتي الجهاد ليزيل ملك هذا الملك فتنطفيء
هذه الشهوة التي دفعته للكفر ولا عذر له في اتباعها عند الله غير أن هذا من رحمة
الله عز وجل بها
ومن الناس من يحمله على كفره احتقار أتباع
الحق الذين سبقوه بالإيمان
قال تعالى : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ
اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)
ومثل هذا في القرآن في مناسبات عديدة
فيأتي الجهاد ليذوق هؤلاء الذل ويصيروا
دون أهل الإيمان فتنطفيء هذه الشهوة الحاملة على الكفر
ومن الناس من يحمله على الكفر الضن بالمال
كقوم شعيب
قال تعالى : (قالُوا يَا شُعَيْبُ
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي
أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)
ومثلهم العرب الذين ارتدوا بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم فعامتهم لم يرجعوا إلى عبادة الأصنام فقد حطمها النبي وما
أنكروا نبوة النبي ولا توحيد الألوهية ولا أنكروا الزكاة بخلاً ومنهم من بخل وقاتل
على ذلك ومنهم من أخذته لاتباع نبي جديد فهذه ما قادتهم إلا الشهوات فجاء الجهاد
ليطفيء هذه الشهوة الخبيثة
قال الماتردي في تفسيره :" وكذلك كان عادتهم: كانوا يكفرون بربهم في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال البلاء والشدة؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ. . .) الآية.
ويحتمل أن يكون فرض الجهاد على المسلمين والقتال معهم لهذا المعنى؛ لأن من عادتهم الإيمان في وقت البلاء والشدة والخوف، ففرض عليهم القتال معهم؛ ليضطروا إلى الإيمان فيؤمنوا ويديموا الإيمان، ومنذ فرض القتال معهم كثر أهل الإسلام فدخلوا فيه فوجًا فوجًا، وكان قبل ذلك يُدخَل فيه واحدًا واحدًا.
وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) فإنما أخبر عما عرفوا وتقرر عندهم أن كل ذلك من عند اللَّه؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى"
والماتردي رأس في الضلالة ولكن كلامه هنا له وجه
قال الماتردي في تفسيره :" وكذلك كان عادتهم: كانوا يكفرون بربهم في حال الرخاء والسعة، ويؤمنون به في حال البلاء والشدة؛ كقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ. . .) الآية.
ويحتمل أن يكون فرض الجهاد على المسلمين والقتال معهم لهذا المعنى؛ لأن من عادتهم الإيمان في وقت البلاء والشدة والخوف، ففرض عليهم القتال معهم؛ ليضطروا إلى الإيمان فيؤمنوا ويديموا الإيمان، ومنذ فرض القتال معهم كثر أهل الإسلام فدخلوا فيه فوجًا فوجًا، وكان قبل ذلك يُدخَل فيه واحدًا واحدًا.
وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) فإنما أخبر عما عرفوا وتقرر عندهم أن كل ذلك من عند اللَّه؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى"
والماتردي رأس في الضلالة ولكن كلامه هنا له وجه
والمرأة أكثر ما يحملها على الكفر بعد إذ
تبين لها الهدى كفر بعلها وشحها بزوجها لهذا يقع بعد الجهاد السبي فالمرأة ذات
الزوج والتي نكون قد أيسنا من إسلام زوجها لخروجه من يدنا يفرق بينها وبين زوجها
وتدخل في عقد السبي ويباح لسيدها أن يطأها بعد استبرائها إحصاناً لها وتعويضاً عما
فقدته وتكثيراً للمسلمين ولأنها إذا أنجبت أبناءً مسلمين كان ذلك أدعى لإسلامها
ولأنه يحصل بين الرجل والمرأة من المودة جراء الوطء الحلال ما لا يحصل في غيره
فالسبي استكمال للدعوة فلا تنزل المرأة
منزلة المسلمة ولا تترك لكفرها
ولهذا كانت المرأة إذا أسلمت قبل التمكن
منها لم يجز سبيها وذريتها في قول عامة الفقهاء ، وقد بين الله عز وجل لعباده
محبته لإعتاق المؤمنين فجعل العديد من الكفارات إعتاق رقبة مؤمنة وقال النبي فيمن
أخذ جارية فعلمها وأدبها ثم أعتقها وتزوجها أنه يؤتى أجره مرتين ، وتأمل أن النبي
لم يأمره بعتقها إلا بعد اكتمال أدبها مما يبين المقصد الأساسي من استرقاقها ،
ولهذا أمر من زنت أمته أكثر من ثلاث أن يخرجها من ملكه ويدخلها في ملك غيره لعجزه
عن تأديبها التأديب اللازم
وحديث الجارية حين قال ( اعتقها فإنها
مؤمنة ) ظاهر في أن الرقاب المؤمنة الأحب إلى الله إعتاقها
ولما فقه الإمام أحمد هذا المقصد قال لما
سئل عن بيع الجارية على كافر قال ( إذا كان كذلك أيسنا من إسلامها ) هذا معنى
كلامه
وقد قال الله تعالى في المكاتبة ( فكاتبوهم
إن علمتم فيهم خيراً ) والخير فسره جماعة من السلف بالمال وهو يدل دلالة الإشارة
على ما هو أشرف من المال وهو الإسلام
فالرقيق على ضربين
ضرب ضعيف مزهود فيه فهذا يعتق في الغالب
وتطيب نفوس الناس بذلك لما في ذلك من الأجر العظيم
وضرب قوي مكتسب فهذا جعل له عقد المكاتبة
لتطيب نفوس أهله بتركه يعتق نفسه بنفسه مقابل المال فمثل هذا الرقيق يعد من كرائم
الأموال ولا يطيب بكريم ماله إلا الأتقياء والشريعة جاءت لكل الناس
ولهذا كانت أم المؤمنين جويرية بمجرد أن
استرقت سعت في المكاتبة فرزقها الله نبيه
وليس هذا محل بسط أحكام الرق وما في ذلك
من المنافع التي تطغى على المفاسد إن وجدت ولكن أردت بيان أهمية الجهاد في إزالة أسباب
الكفر
قال بعض المتكلمين :" وأما قولهم بأنا نقاتل الرجال ولا نقاتل النساء ونسترقهن؛ لأنهن أتباع الرجال في جميع الأحوال وخدم لهم، فإذا أسلموا أسلمن؛ هذا معروف فيما بينهم؛ إذ هن في أيدي الرجال يفعلون بهن ما شاءوا، وأصله ما ذكرنا أن القتال محنة، ليس هو جزاء الكفر؛ إذ الدار دار محنة، فله أن يمتحن بعضًا بالقتل، وبعضًا بأخذ المال، وبعضًا لا بذا ولا ذاك،ولو كان جزاء لسوى بينهم، وهو التخليد في النار أبدًا."
قال بعض المتكلمين :" وأما قولهم بأنا نقاتل الرجال ولا نقاتل النساء ونسترقهن؛ لأنهن أتباع الرجال في جميع الأحوال وخدم لهم، فإذا أسلموا أسلمن؛ هذا معروف فيما بينهم؛ إذ هن في أيدي الرجال يفعلون بهن ما شاءوا، وأصله ما ذكرنا أن القتال محنة، ليس هو جزاء الكفر؛ إذ الدار دار محنة، فله أن يمتحن بعضًا بالقتل، وبعضًا بأخذ المال، وبعضًا لا بذا ولا ذاك،ولو كان جزاء لسوى بينهم، وهو التخليد في النار أبدًا."
فمن ذلك اعتقاد الجهلة والطغام بالأوثان
والأشجار وأنها تضر وتنفع فإذا جاء الحق وزهق الباطل وتم هدمها ورأوا أنها لم تضر
هادمها بطل اعتقادهم بها
وعلى ما ذكرت ها هنا قس
وكثير ممن يتكلم في مقاصد الشريعة يهمل أن
المقصد الأساسي هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور لهذا لا يقاتل الموحد غير
المعتدي والممتنع من الشرائع ، ولا يسترق مسلم ابتداءً
وهذا الذي قلته في أمر الجهاد ليس تهويناً
من شأن العلم فلولا العلم ما كان الجهاد ثم إن من الناس حتى بعد وقوعه في الذل
والصغار الذي يجعله أقرب من الإيمان وذهاب كل المكتسبات التي كان يكفر من أجلها
يبقى مبغضاً للحق أو عنده شبهة فيزيلها العالم
بل قبل القتال يدعى الناس للإسلام ومن
يحسن هذا إلا أهل العلم
وبعد إسلامهم يحتاجون إلى من يعلمهم أمر
دينهم
فالمجاهد يقف جهاده عند انتهاء المعركة أو
الرباط وأما العالم فجهاده مستمر
ومن الناس من يحمله على كفره الشهوانية المفرطة كقوم لوط وكثير من أهل عصرنا
فيأتي الجهاد ليجعله تحت حكم الشرع وهذا ما لم يفهمه المودودي فظن أن تحكيم الشرع في الناس هو الغاية القصوى وليس كذلك بل تحكيم الشرع من التوحيد ووسيلة للدعوة للتوحيد مع أهل الذمة وأهل النفاق
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة هو يعدد أسباب كفر الكفرة :" السبب الأول: ضعف معرفته بذلك.
السبب الثاني: عدم الأهلية، وقد تكون معرفته به تامة، لكن يكون مشروطاً بزكاة المحل وقبوله للتزكية، فإذا كان المحل غير زكي ولا قابل للتزكية كان كالأرض الصلدة التي لا يخالطها الماء، فإنه يمتنع النبات منها لعدم أهليتها وقبولها، فإذا كان القلب قاسياً حجرياً لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه، كما لا تنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبذر فيها كل بذر، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 1 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2 وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 3 وهذا في القرآن كثير. فإذا كان القلب قاسياً غليظاً جافياً لا يعمل فيه العلم شيئاً، وكذلك إذا كان مريضاً مهيناً مائياً لا صلابة
فيه ولا قوة ولا عزيمة لم يؤثر فيه العلم.
السبب الثالث: قيام مانع، وهو إما حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلّف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم، وهو الذي منع عبد الله بن أُبي من الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وأن الحق معه، لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر، وبه تخلف الإيمان عن أمية وأضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
السبب الرابع: مانع الرياسة والملك، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته، فيضن بملكه ورياسته؛ كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه، وأقروا بها باطناً، وأحبوا الدخول في دينه، لكن خافوا على ملكهم، وهذا داء أرباب الملك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصم الله، وهو داء فرعون وقومه، ولهذا قالوا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} 1 أنِفُوا أن يؤمنوا ويتّبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما وبنوا إسرائيل عبيد لهم، ولهذا قيل: إن فرعون لما أراد متابعة موسى وتصديقَه شاور هامان وزيره، فقال: بينا أنت إله تُعبد تصير عبداً تعبُد غيرك! فأبى العبودية واختار الرياسة والإلهية المحال.
السبب الخامس: مانع الشهوة والمال؛ وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب من الإيمان خوفاً من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كان كفار قريش يصدُّون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا [والفواحش] إن محمداً يُحرّم الزنا ويحرّم الخمر، وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام.
قال: وقد فاوضتُ غير واحد من أهل الكتاب في الإسلام وصحّته، فكان آخر ما كلمني به أحدهم أنا لا أترك الخمر وأشربها أمناً، فإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها!
وقال آخر منهم- بعد أن عرف ما قلت له-: لي أقارب أرباب أموال، وإني إن أسلمتُ لم يصل إليّ منها شيء، وأنا أؤمل أن أرثهم، أو كما قال.
ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار، فتنفق قوة داعي الشهوة والمال، وضعف داعي الإيمان، فيجيب داعي الشهوة والمال ويقول لا أرغب بنفسي عن آبائي وسَلَفي.
السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة؛ يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء خلق كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم.
السبب السابع: محبة الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب، لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنّوَى فيضنّ بوطنه.
السبب الثامن: تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء، وطعناً منه على آبائه وأجداده وذماً لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آبائهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفّهوا أحلام أولئك، وضلّلوا عقولهم، ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك. ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب1. فلم يدعه أعداء الله إلا من هذا الباب، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وأنه إنما حاز الفخر والشرف به، فكيف يأتي أمراً يلزم
منه غاية تنقيصه وذمه، ولهذا قال: لولا أن تكون مسبةً على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك، أو كما قال1. وهذا شعره يصرح فيه بأنه قد علم وتحقق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، كقوله:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبّة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وفي قصيدته اللامية2:
فوالله لولا أن تكون مسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جَدّاً غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذّبٌ ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
والمسبة التي زعم أنها تُجَرُّ على أشياخه؛ شهادته عليهم بالكفر والضلال، وتسفيه الأحلام، وتضليل العقول، وهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقّنه.
السبب التاسع: متابعة من يعاديه من الناس للرسول، وسبقه إلى الدخول في دينه، وتخصصه وقربه منه، وهذا القدر منع كثيراً من اتّباع الهدى، يكون للرجل عدوّ ويبغض مكانه، ولا يحب أرضاً يمشي عليها، ويقصد مخالفته ومناقضته فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله، وإن كان لا عداوة بينه وبينهم. وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار، فإنهم كانوا أعداءهم وكانوا يتوعّدونهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه فلما بدرهم إليه الأنصار وأسلموا حملهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم.
السبب العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ؛ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة، كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد، ولا يعقل نفسه إلا عليها، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه، وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال، ويصعب عليه الزوال. وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنىً فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنَّحَل، ليس مع أكثرهم بل جميعهم، إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربى تربّى عليه طفلاً لا يعرف غيرها، ولا يحسّ به، فدين العوائد هو الغالب على أكثر الناس، فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية.
فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، كيف غيّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان، حتى استحدثوا به طبيعة ثانية، خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق، فجزى الله المرسلين أفضل ما جازى به أحداً من العالمين". انتهى المقصود من نقله"
ومن تأمل وأنصف يجد أن الجهاد يأتي على عامة هذه الأسباب أو أكثرها ومن لا ينقضه يضعفه أو يجعل له نظيراً معوضاً وهذا من تمام رحمة الله بالخلق
وفي كتاب "أعلام النبوة" للماوردي: "فإن قيل: مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم وهم مأمورون بالرأفة والرحمة ومحمد جاء بالسيف وسفك الدماء وقتل النفوس فصار منافياً لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام فزال عن حكمهما في النبوة لمخالفتهما في السيرة.
قال: فالجواب: أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيراً، واللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شراً، لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية، والحقوق الدينية، ولذلك جاء الشرع بالقتل والحدود ليستقر به الخير، وينتفي به الشر، لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة، فكان القهر لها أبلغ في انقيادها من الرغبة، وكانت العرب أكثر الناس شراً وعتواً لكثرة عددهم وقوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أعظم من اللطف وأنفع منه.
ويجاب أيضاً: أنه لم يكن في جهاده بدعاً من الرسل، فقبله إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها، وحاربهم حتى هزمهم بأحزابه وأتباعه. وهذا يوشع بن نون قتل نيفاً وثلأثين ملكاً من ملوك الشام، وأباد من مدنها ما لم يبق له آثر، ولا من أهله صافر، من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم إتاوة، وساق الغنائم، وغزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلاً ولا امرأة إلا قتلهم وهو موجود في كتبهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستدعاء وحارب بعد الإباء.
ثم تكلم بكلام يتعلق بهذا المعنى إلى أن قال: وإنما تطلبت الملحدة بمثل هذا الاعتراض القدح في النبوات، فإنهم لم يعفوا نبياً من القدح في معجزته والطعن على سيرته، حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بشعر نظفه فقال:
وفالق البحر لم يفلق جوانبه ... إذ ضاع فيه ضياع الحر في السفل
ومدع يدعي الأشياء خلقته ... ما باله زال والأشياء لم تزل
وآخر يدعي بالسيف حجته ... هل حجة السيف إلا لحجة البطل
قال فحضرت حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها بقوله:
قل للذي جاء بالتكذيب للرسل ... ورد معجزهم بالزيغ والدغل
وقال في ذاك أبياتاً مزخرفة ... ليوقع الناس في شك من الملل
ضياع موسى دليل من أدلته ... من بعد ما صار فرق البحر كالجبل
ليعلم الناس أن الله فالقه ... وأن موسى ضعيف تاه في السبل
ومعجز الخلق في فلق المياه له ... وجعله البر ما يحتاط بالحيل
وابن البتول فإن الله نزهه ... عما ذكرت من الدعوى على الجمل
ما كان منه سوى طير يقدره ... طيناً وربي أحياه ولم يزل
وقال إني بإذن الله فاعله ... وأذن ربي يحيي الخلق لا عملي
وصاحب السيف كان السيف حجته ... بعد البيان عن الإعجاز والمثل
وجاء مبتدئاً بالنصح مجتهداً ... بمعجزات لما حارت أولو النحل
منها كتاب مبين نظمه عجب ... فيه من الغيب ما أوحى إلى الرسل
فأفحم الشعراء المفلقين به ... لما تحداهم بالرفق في مهل
وأنبع الماء عذباً من أنامله ... من غير ما صخرة كانت ولا وشل
وشارف القوم وافاه وكلمه ... وقال إني من قتلي على وجل
والذئب قد أخبر الراعي بمبعثه ... فجاء يشهد بالإسلام في عجل
والجذع حن إليه حين فارقه ... حنين ذات جؤار ساعة الهبل
وأخبر الناس عما في ضمائرهم ... مفصلاً بجواب غير محتمل
ونبأ الروم عن نصر يكون لها ... من بعد سبعة أعوام على جدل
والفرس أخبرها عن قتل صاحبها ... برويز إذ جاءه فيروز في شغل
وإن تقصيت ما جاء النبي به ... طال النشيد ولم آمن من الملل.
وما ذكره من أمر يوشع وغيره إنما هو من اخبار أهل الكتاب ولا يوجد ثمة شيء ثابت بهذا التفصيل
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة هو يعدد أسباب كفر الكفرة :" السبب الأول: ضعف معرفته بذلك.
السبب الثاني: عدم الأهلية، وقد تكون معرفته به تامة، لكن يكون مشروطاً بزكاة المحل وقبوله للتزكية، فإذا كان المحل غير زكي ولا قابل للتزكية كان كالأرض الصلدة التي لا يخالطها الماء، فإنه يمتنع النبات منها لعدم أهليتها وقبولها، فإذا كان القلب قاسياً حجرياً لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه، كما لا تنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبذر فيها كل بذر، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 1 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2 وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 3 وهذا في القرآن كثير. فإذا كان القلب قاسياً غليظاً جافياً لا يعمل فيه العلم شيئاً، وكذلك إذا كان مريضاً مهيناً مائياً لا صلابة
فيه ولا قوة ولا عزيمة لم يؤثر فيه العلم.
السبب الثالث: قيام مانع، وهو إما حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلّف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم، وهو الذي منع عبد الله بن أُبي من الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وأن الحق معه، لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر، وبه تخلف الإيمان عن أمية وأضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
السبب الرابع: مانع الرياسة والملك، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته، فيضن بملكه ورياسته؛ كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه، وأقروا بها باطناً، وأحبوا الدخول في دينه، لكن خافوا على ملكهم، وهذا داء أرباب الملك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصم الله، وهو داء فرعون وقومه، ولهذا قالوا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} 1 أنِفُوا أن يؤمنوا ويتّبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما وبنوا إسرائيل عبيد لهم، ولهذا قيل: إن فرعون لما أراد متابعة موسى وتصديقَه شاور هامان وزيره، فقال: بينا أنت إله تُعبد تصير عبداً تعبُد غيرك! فأبى العبودية واختار الرياسة والإلهية المحال.
السبب الخامس: مانع الشهوة والمال؛ وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب من الإيمان خوفاً من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كان كفار قريش يصدُّون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا [والفواحش] إن محمداً يُحرّم الزنا ويحرّم الخمر، وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام.
قال: وقد فاوضتُ غير واحد من أهل الكتاب في الإسلام وصحّته، فكان آخر ما كلمني به أحدهم أنا لا أترك الخمر وأشربها أمناً، فإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها!
وقال آخر منهم- بعد أن عرف ما قلت له-: لي أقارب أرباب أموال، وإني إن أسلمتُ لم يصل إليّ منها شيء، وأنا أؤمل أن أرثهم، أو كما قال.
ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار، فتنفق قوة داعي الشهوة والمال، وضعف داعي الإيمان، فيجيب داعي الشهوة والمال ويقول لا أرغب بنفسي عن آبائي وسَلَفي.
السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة؛ يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء خلق كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم.
السبب السابع: محبة الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب، لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنّوَى فيضنّ بوطنه.
السبب الثامن: تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء، وطعناً منه على آبائه وأجداده وذماً لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آبائهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفّهوا أحلام أولئك، وضلّلوا عقولهم، ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك. ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب1. فلم يدعه أعداء الله إلا من هذا الباب، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وأنه إنما حاز الفخر والشرف به، فكيف يأتي أمراً يلزم
منه غاية تنقيصه وذمه، ولهذا قال: لولا أن تكون مسبةً على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك، أو كما قال1. وهذا شعره يصرح فيه بأنه قد علم وتحقق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، كقوله:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبّة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وفي قصيدته اللامية2:
فوالله لولا أن تكون مسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جَدّاً غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذّبٌ ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
والمسبة التي زعم أنها تُجَرُّ على أشياخه؛ شهادته عليهم بالكفر والضلال، وتسفيه الأحلام، وتضليل العقول، وهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقّنه.
السبب التاسع: متابعة من يعاديه من الناس للرسول، وسبقه إلى الدخول في دينه، وتخصصه وقربه منه، وهذا القدر منع كثيراً من اتّباع الهدى، يكون للرجل عدوّ ويبغض مكانه، ولا يحب أرضاً يمشي عليها، ويقصد مخالفته ومناقضته فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله، وإن كان لا عداوة بينه وبينهم. وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار، فإنهم كانوا أعداءهم وكانوا يتوعّدونهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه فلما بدرهم إليه الأنصار وأسلموا حملهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم.
السبب العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ؛ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة، كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد، ولا يعقل نفسه إلا عليها، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه، وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال، ويصعب عليه الزوال. وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنىً فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنَّحَل، ليس مع أكثرهم بل جميعهم، إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربى تربّى عليه طفلاً لا يعرف غيرها، ولا يحسّ به، فدين العوائد هو الغالب على أكثر الناس، فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية.
فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، كيف غيّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان، حتى استحدثوا به طبيعة ثانية، خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق، فجزى الله المرسلين أفضل ما جازى به أحداً من العالمين". انتهى المقصود من نقله"
ومن تأمل وأنصف يجد أن الجهاد يأتي على عامة هذه الأسباب أو أكثرها ومن لا ينقضه يضعفه أو يجعل له نظيراً معوضاً وهذا من تمام رحمة الله بالخلق
وفي كتاب "أعلام النبوة" للماوردي: "فإن قيل: مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم وهم مأمورون بالرأفة والرحمة ومحمد جاء بالسيف وسفك الدماء وقتل النفوس فصار منافياً لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام فزال عن حكمهما في النبوة لمخالفتهما في السيرة.
قال: فالجواب: أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيراً، واللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شراً، لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية، والحقوق الدينية، ولذلك جاء الشرع بالقتل والحدود ليستقر به الخير، وينتفي به الشر، لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة، فكان القهر لها أبلغ في انقيادها من الرغبة، وكانت العرب أكثر الناس شراً وعتواً لكثرة عددهم وقوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أعظم من اللطف وأنفع منه.
ويجاب أيضاً: أنه لم يكن في جهاده بدعاً من الرسل، فقبله إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها، وحاربهم حتى هزمهم بأحزابه وأتباعه. وهذا يوشع بن نون قتل نيفاً وثلأثين ملكاً من ملوك الشام، وأباد من مدنها ما لم يبق له آثر، ولا من أهله صافر، من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم إتاوة، وساق الغنائم، وغزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلاً ولا امرأة إلا قتلهم وهو موجود في كتبهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستدعاء وحارب بعد الإباء.
ثم تكلم بكلام يتعلق بهذا المعنى إلى أن قال: وإنما تطلبت الملحدة بمثل هذا الاعتراض القدح في النبوات، فإنهم لم يعفوا نبياً من القدح في معجزته والطعن على سيرته، حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم بشعر نظفه فقال:
وفالق البحر لم يفلق جوانبه ... إذ ضاع فيه ضياع الحر في السفل
ومدع يدعي الأشياء خلقته ... ما باله زال والأشياء لم تزل
وآخر يدعي بالسيف حجته ... هل حجة السيف إلا لحجة البطل
قال فحضرت حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها بقوله:
قل للذي جاء بالتكذيب للرسل ... ورد معجزهم بالزيغ والدغل
وقال في ذاك أبياتاً مزخرفة ... ليوقع الناس في شك من الملل
ضياع موسى دليل من أدلته ... من بعد ما صار فرق البحر كالجبل
ليعلم الناس أن الله فالقه ... وأن موسى ضعيف تاه في السبل
ومعجز الخلق في فلق المياه له ... وجعله البر ما يحتاط بالحيل
وابن البتول فإن الله نزهه ... عما ذكرت من الدعوى على الجمل
ما كان منه سوى طير يقدره ... طيناً وربي أحياه ولم يزل
وقال إني بإذن الله فاعله ... وأذن ربي يحيي الخلق لا عملي
وصاحب السيف كان السيف حجته ... بعد البيان عن الإعجاز والمثل
وجاء مبتدئاً بالنصح مجتهداً ... بمعجزات لما حارت أولو النحل
منها كتاب مبين نظمه عجب ... فيه من الغيب ما أوحى إلى الرسل
فأفحم الشعراء المفلقين به ... لما تحداهم بالرفق في مهل
وأنبع الماء عذباً من أنامله ... من غير ما صخرة كانت ولا وشل
وشارف القوم وافاه وكلمه ... وقال إني من قتلي على وجل
والذئب قد أخبر الراعي بمبعثه ... فجاء يشهد بالإسلام في عجل
والجذع حن إليه حين فارقه ... حنين ذات جؤار ساعة الهبل
وأخبر الناس عما في ضمائرهم ... مفصلاً بجواب غير محتمل
ونبأ الروم عن نصر يكون لها ... من بعد سبعة أعوام على جدل
والفرس أخبرها عن قتل صاحبها ... برويز إذ جاءه فيروز في شغل
وإن تقصيت ما جاء النبي به ... طال النشيد ولم آمن من الملل.
وما ذكره من أمر يوشع وغيره إنما هو من اخبار أهل الكتاب ولا يوجد ثمة شيء ثابت بهذا التفصيل
الثالث : أن هداية الناس ليست مقتصرة على
الجهاد والمناظرة فالدعوة المجردة أسلم بسببها أقوام كثر
ويا ليت شعري كيف قامت الجيوش التي جاهدت !
لقد أسلم الأنصار والأشعريون وباهلة وعامة
المهاجرين وقبائل كثر دون قتال ، وبعد أن هدم النبي الأصنام جاء عام الوفود وكلهم
أسلموا طوعاً
وأما أهل الكتاب فيقرون على الجزية ومع
ذلك دخل عامتهم في دين الله أفواجاً من أن الجزية مقدرة بقدر ولا تؤخذ إلا من
المقاتل
قال ابن القيم في هداية الحيارى :" أما المسألة الاولى وهي قول السائل قد اشتهر
عندكم بان أهل الكتابين ما منعهم من الدخول في الاسلام الا الرياسة والمأكلة لا
غير فكلام جاهل بما عند المسلمين وبما عند الكفار أما المسلمون فلم يقولوا انه لم
يمنع أهل الكتاب من الدخول في الاسلام الا الرياسة والمأكلة لا غير وان قال هذا
بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم والممتنعون من الدخول في الاسلام من أهل الكتابين
وغيرهم جزء يسير جدا بالاضافة الى الداخلين فيه منهم بل أكثر الامم دخلوا في
الاسلام طوعا ورغبة واختيارا لا كرها ولا اضطرارا فان الله سبحانه وتعالى بعث محمدا
صلى الله عليه و سلم رسولا الى أهل الارض وهم خمسة أصناف قد طبقوا الارض يهود
ونصارى ومجوس وصابئة ومشركون وهذه الاصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من
مشارقها الى مغاربها
فأما اليهود فاكثر ما كانوا باليمن وخيبر
والمدينة وما حولها وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى وكان منهم بأرض فارس
فرقة مستذلة مع المجوس وكان منهم بأرض العرب فرقة وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر
وكان الله سبحانه قد قطعهم في الارض أمما وسلبهم الملك والعز وأما النصارى فكانوا
طبق الارض فكانت الشام كلها نصارى وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى وكذلك أرض
مصر والحبشة والنوبة والجزيرة والموصل وأرض نجران وغيرها من البلاد وأما المجوس
فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها وأما الصابئة فأهل حران وكثير من بلاد الروم وأما
المشركون فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد
الترك وما جاورها وأديان أهل الارض لا تخرج عن هذه الاديان الخمسة ودين
الحنفاء لا يعرف فيهم البتة وهذه الاديان الخمسة كلها للشيطان كما قال ابن عباس
رضي الله عنهما وغيره الاديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان وهذه الاديان الستة
مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين
والنصارى والمجوس والذين أشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله على كل
شيء شهيد فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم استجاب له ولخلفائه بعده اكثر
الاديان طوعا واختيارا ولم يكره أحدا قط على الدين وانما كان يقاتل من يحاربه
ويقاتله وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا
لامر ربه سبحانه حيث يقول لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي وهذا نفي في
معنى النهي أي لا تكرهوا أحدا على الدين نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان
لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الاسلام فلما جاء الاسلام أسلم الآباء وأرادوا
اكراه الاولاد على الدين فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون
الدخول في الاسلام والصحيح ان الآية على عمومها في حق كل كافر وهذا ظاهر على قول
من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار فلا يكرهون على الدخول في الدين بل أما أن
يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة وان
استثنى هؤلاء بعض عبدة الاوثان ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه و سلم تبين له
انه لم يكره أحدا على دينه قط وانه انما قاتل من قاتله وأما من هادنه فلم يقاتله
ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما
استقاموا له كما قال تعالى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ولما قدم المدينة صالح
اليهود وأقرهم على دينهم فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم فمن على
بعضهم وأجلى بعضهم وقتل بعضهم وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدءهم بقتال حتى
بدءوا هم بقتاله ونقضوا عهده فعند ذلك عزاهم في ديارهم وكانوا هم يغزونه قبل ذلك
كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر ايضا هم جاءا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم
يقاتلهم والمقصود انه صلى الله عليه و سلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة
وانما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا فاكثر أهل الارض دخلوا في دعوته لما تبين
لهم الهدى وانه رسول الله حقا فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية أو اكثرهم
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ لما بعثه الى اليمن انك ستأتي قوما أهل كتاب
فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة ان لا اله الا الله وذكر الحديث ثم دخلوا في
الاسلام من غير رغبة ولا رهبة وكذلك من اسلم من يهود
المدينة وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام
مذكورون في كتب السير والمغازي لم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف بل
اسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة اعدائهم ومحاربة أهل الارض لهم من غير سوط ولا
نوط بل تحملوا معاداة اقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن مع ضعف شوكة المسلمين
وقلة ذات ايديهم فكان احدهم يعادي اباه وامه واهل بيته وعشيرته ويخرج من الدنيا
رغبة في الاسلام لا لرياسة ولا مال بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار
من ضربهم وشتمهم وصنوف اذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه فان كان كثير من الاحبار
والرهبان والقسيسين ومن ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر فقد أسلم جمهور أهل
الارض من فرق الكفار ولم يبق الا الاقل بالنسبة الى من أسلم فهؤلاء نصارى الشام
كانوا ملء الشام ثم صاروا مسلمين الا النادر فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء
في الثور الابيض وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم الا الله فاطبقوا على
الاسلام لم يتخلف منهم الا النادر وصارت بلادهم بلاد اسلام وصار من لم يسلم منهم تحت
الجزية والذلة وكذلك اليهود أسلم أكثرهم ولم يبق منهم الا شرذمة قليلة مقطعة في
البلاد فقول هذا الجاهل ان هاتين الامتين لا يحصى عددهم الا الله كفروا بمحمد صلى
الله عليه و سلم كذب ظاهر وبهت مبين "
أقول : ثم ذكر أنهم وإن لم يسلموا ( فرضاً
) فشأنهم شأن قوم نوح وإبراهيم وهود وسائر الأنبياء ممن استحبوا العمى على الهدى
وخلاصة كلام ابن القيم أن أهل الكتاب
الذين بلغتهم الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا في اليمن
والشام والمدينة ومصر وبلاد المغرب العربي والحبشة والنوبة وهذه البلاد صارت كلها
إسلامية بعد بلوغ الدعوة إليها
والأمر نفسه في المجوس الذين كانوا في
العراق والبحرين وبلاد فارس والحمد لله معز الإسلام بنصره ، وهذا يدلك على أن
الإتباع الذي كان عليه السلف له البالغ في نجاح الدعوة للكافرين
ولا شك أن إسلام بعض علماء أهل الكتاب
كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار كان له الأثر الطيب في انتشار الدعوة، إذ قد
أشاعوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والتي آمن بها كل من ذكرنا ممن
أسلم
وقد وقف سوق الجهاد زمناً طويلاً والله
المستعان ولا زال كثير من غير المسلمين يرغبون في الإسلام بل كثير منهم يرغب في
الطرق البدعية مع ما فيها من بلاء لقربها من الإسلام
وما من عاقل يقارن بين دينه ودين الإسلام
إلا ويرى الفضل لدين الإسلام في أمور كثيرة جداً تميز فيها على عامة الأديان
وأضرب لذلك عدة أمثلة وليست للحصر
المثال الأول : تناسق هذه الشريعة
وشموليتها لأمر العبادة والمعاملة والآداب ففيها أحكام الصلاة والطهارة والزكاة
والحج والصوم والأدعية المأثورة والأذكار مما يدعو لإشباع روحاني عجيب ، مع عدم
إهمال أحكام آداب الطعام والشراب والنوم ، وأحكام الجار وأحكام البيوع والنكاح
والطلاق والخلع والقضاء والديات والحدود والجهاد والمواريث وآداب صلة الأرحام
والبر وغيرها مما ينظم حياة الفرد وينظم
علاقته مع ربه ومع أهله صغاراً وكباراً ومع القريب والبعيد والمسلم والكافر بشكل
دقيق ومفصل
المثال الثاني : راعت الشريعة الإسلامية
سد الذريعة إلى الجريمة قبل تحديد العقوبة عليها ، فنهي عن تبرج النساء وأمر بغض
البصر ودعي إلى المنع من الاختلاط المريب وحث على الزواج وعدم المغالاة في المهور
وبعد هذا كله تأتي عقوبة الزنا ، وحث على الزكاة والصدقة وحرم الربا وأكل أموال
الناس بالباطل والاحتكار ثم جاءت عقوبة السرقة وهكذا في جميع الحدود ، كما أنك ترى
أن العقوبات والحدود تأتي في الأمور التي فيها دافع طبعي فالخمر له لذة وكذلك
القتل عند اشتداد الغضب والزنا عند اشتداد الحاجة والسرقة عند اشتداد الطمع والقذف
عند اشتداد البغض فجاءت الحدود مخوفة ومرهبة من هذه الأمور لشدة الدافع الطبعي
فيها فناسب أن يوجد وزاع شرعي
ومراعاة اختلاف الأحوال فمثلاً تعدد
الزوجات لم يبحه مطلقاً ولم يحرمه مطلقاً وشرط فيه العدل فجاء وسطاً بين الإفراط
والتفريط ، وكذلك في الزكاة جعلها بقدر معين فلا تدعو الكسول للبطالة وتغني المضطر
عن سؤال الناس مع حثه على العمل والاكتساب وهنا يأتي التوازن المذهل
المثال الثالث : الشريعة الإسلامية تراعي
الاختلافات بين الأحوال في مرتكبي الجرائم ، فلهذا تجد السارق لا يقطع إلا عند
نصاب معين وأن تكون سرقته من غير حرز ، والزاني البكر غير الزاني الثيب والزاني
الشيخ الكبير عند الزاني الشاب ، كما يراعى ذلك في الثواب فأفضل الصدقة وأنت صحيح
شحيح ترجو الغني وتخاف الفقر ، وخير رقبة تعتقها هي أنفسها عند أهلها ، والشاب
الذي يتعفف عن الزنا مع قوة الداعي يكون أجره عظيماً والمجاهد والمهاجر ومسبغ
الوضوء على المكاره كلهم أجرهم عظيم ووردت نصوص كثيرة في الثناء عليهم لشدة النصب
وهذا أمرٌ لم أره في التوراة بهذه الدقة
وأما بقية الديانات فلا تكاد تعنى بهذه الجوانب بهذا الشكل الدقيق
المثال الرابع : عناية الشريعة الإسلامية
بأعمال القلوب التي لا يراها الناس مع أثرها العجيب على الظاهر كعبادة محبة الخير
للناس والإخلاص لله عز وجل والتوبة وبغض الشر ومحبة الصالحين وغيرها ، والبعد عن
الرذائل القلبية والوعيد عليها كالرياء والكبر وبغض الصالحين والحقد على أهل الخير
والحسد
المثال الخامس : تنزيه الله عز وجل مع
كثرة الكلام عن أسمائه وصفاته فأقرب الكتب إلى القرآن التوراة وهي تنسب لله البداء
والتعب والبكاء والندم فجاء القرآن منزها لله عز وجل عن كل هذا ، وكذلك تنزيه
الأنبياء فالتوراة تنسب للأنبياء الزنا والقتل ومخازي أخرى والقرآن جاء منزها لهم
عن كل هذا ، وقد كان المنطقي أن يغتر النبي بكلام اليهود في هذا الباب إذا كان
ناقلاً عنهم أو تكون أطروحته أبعد عن العقل من أطروحتهم فهو أمي وبقي أربعين سنة
لا يعرف بعلم الكتب وهم متخصصون !
المثال السادس : يوجد في الدين الإسلامي
قواعد شمولية يندرج تحتها المئات من المسائل والفروع كقول النبي ( إنما الأعمال
بالنيات ) وكقوله ( الحلال بين والحرام وبينهما أمور مشتبهات ) وأمره باجتناب
المشتبه بعد ذلك ولهذا صنف علماء المسلمين كتباً كثيراً فيما يسمونه ب( القواعد
الفقهية ) وهي القواعد المأخوذة من النصوص والتي يندرج تحتها مئات الفروع الفقهية
، وهذه البلاغة وهذا التنظيم وجوامع الكلم في القرآن والسنة يفيدان معنيين الأول
خصوصية الشريعة الإسلامية ودقتها ، والثاني : صلاحية لكل زمان ومكان ومرونتها
وباستخدام هذه القواعد أمكن الفقهاء المعاصرون التعامل مع النوازل العصرية
المثال السابع : مسألة الأسماء الحسنى
بهذه الكثرة وهذه البلاغة مع ظاهرة القرن بين الأسماء في القرآن ف( العزيز الحكيم )
يقرن لمعنى وهو أن العزيز في الدنيا ربما تحمله عزته على الطغيان ولكن الله حكيم
أيضاً يضع الشيء في موضعه فعزته مقترنة بالحكمة وقوله ( العلي العظيم ) يقرن لمعنى
فالشيء العالي يبدو صغيراً ولكنه سبحانه ليس كذلك فهو علي عظيم ، وهذه الأطروحة من
كون كل اسم له معنى وفي اقترانه يصير له معنى آخر زائد لا أعلم لها نظيراً في
الأديان الأخرى
المثال الثامن : التفاصيل الدقيقة لما
سيحدث في اليوم الآخر وذكر الحوض والصراط والشفاعة والميزان وغيرها من الأهوال أمر
اختصت به الشريعة الإسلامية ولو نفضت التوراة والانجيل وكتب الأديان الأخرى فلن
تجد لها نظيراً بهذه الدقة والتفصيل بل قوله تعالى ( ولا يشفعون عنده إلا لمن
ارتضى ) والتنصيص على أن الأنبياء لا يشفعون إلا بعد الإذن والرضا ثم يبقى أناس لا
تصيبهم شفاعة أحد حتى يأتي الله برحمته ويخرجهم من النار كتأكيد لدلالة أن الله
أعظم رحمة من خلقه أمر من مفاريد الشريعة الإسلامية
المثال التاسع : المناقشات العقلية في
القرآن وضرب الأمثلة على بطلان مذاهب المشركين واليهود والنصارى وقد جمعها ابن
تيمية في درء التعارض وابن القيم في الصواعق المرسلة أمر تنفرد به الشريعة
الإسلامية
المثال العاشر : أصل في الإسلام المنهج
العلمي ( قل هاتوا برهانكم إن كنت صادقين ) والنبي هو الشخصية الوحيدة التي رويت
أقوالها بالأسانيد ووضعت تراجم لكل من روى عنه حديثاً بذكر معلومات تفصيلية عنه
تبين مدى وثاقته من عدمها ، والقرآن هو أكثر كتاب شرح وفسر على وجه البسيطة في
التاريخ وكل عالم يخرج منه ما لم يخرجه الآخر
المثال الحادي عشر : كان النبي باستمرار
يحث أصحابه على مخالفة الأمم الأخرى ( خالفوا المشركين ) ( خالفوا اليهود والنصارى
) وجعلها أساساً في عدد من التشريعات ، وهذا يحفظ هوية الأمة فالأمة التي تحتفظ
بلغتها ولباسها ودينها آمنة من الانصهار في أمم أخرى فهذه الخلاصة التي توصل إليها
فطاحلة علماء الاجتماع ظاهرة جداً في التشريعات الإسلامية وقد ألف ابن تيمية في
ذلك كتاباً جميلاً اسمه ( اقتضاء الصراط المسقيم خالفة أصحاب الجحيم )
المثال الثاني عشر : من القواعد السائرة
في الطب والحياة العادية قاعدة ارتكاب أدنى الضررين ، أو دفع الشر الأعلى بالشر
الأدنى عند التزاحم ، فبتر القدم المصابة بالغرغرينا لإنقاذ بقية الجسم عمل أخلاقي
، وكثير من الأديان المتصوفة كالزرادشتية والبوذية نجد القيم فيها محلقة وليس فيها
مراعاة لمثل هذا ، وأما في الإسلام فقد جاء الأمر دقيقاً ( وعسى أن تكرهوا شيئاً
وهو خير لكم ) وكثير ممن يعترض على بعض التشريعات الإسلامية ينظر إلى المفسدة فيها
ولا يشاهد المصلحة الأعظم المقترنة بها فمثلاً لو لم يقاتل النبي المشركين لبقوا
يأدون بناتهم إلى أبد الآبدين ويتقاتلون في حروب الثأر كحرب البسوس ويأكلون الربا
وأعظم من ذلك شركهم الخبيث فما أنقذ من الأنفس في الجهاد الإسلامي أكثر بكثير من
التي أزهقت وقد أزهقت بوجه حق وقد خيروا قبل ذلك بين الإسلام والجزية ( التي على
الصحيح تؤخذ حتى من المشرك ) ، ولو شاء الله لأهلك الناس أجمعين وهذا مثال واحد
فقط عليه تقيس غيره وقصة موسى والخضر أصل في هذا الباب
ويبقى هنا أمرٌ أخير وهو أن الغزالي إنما
اغتر بمناظرات المتكلمين التي يبتعدون بها عن النصوص ويقبلون على عقولهم الضعيفة
ويوكلون إلى أنفسهم ولهذا لا يكون لها أثر
مع ضعف التدين ومحبة الغلبة لا الخير
للناس
ولما كان الحق مستغنياً عن مثل هذه
المناظرات التي تنقلب إلى مهاترات وكان لها من المفاسد الشيء العظيم هرب منها
السلف وحذروا منها لا ضعفاً ولكن فقهاً وتقوى
وجعلوا المناظرة كأكل الميتة تفعل عند
السلطان كما فعل أحمد في المحنة وابن تيمية في المناظرة على الواسطية ومناظرة
الرفاعية
أو تفعل لضرورة فشو باطل وانحسار حق مع
مراعاة محبة الخير للخلق وجعل الكتاب والسنة هما المرجع وحتى الأدلة العقلية تؤخذ
منهما والتبرؤ من الحول والقوة والتوكل على الله
كما فعل ابن عباس مع الخوارج وكان الشافعي
كثير المناظرة لأهل الرأي ويكره مناظرة أهل الكلام وقد ناظر بعض المرجئة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم