الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
قال أبو الشيخ الأصبهاني المتوفى 369 في
كتابه العظمة (1/271) :" ذِكْرُ نَوْعٍ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي عَظَمَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَحُكْمِهِ، وَتَدْبِيرِهِ،
وَسُلْطَانِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}
[الذاريات: 21] فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِيِ ذَلِكَ اسْتَنَارَتْ لَهُ آيَاتُ
الرُّبُوبِيَّةِ، وَسَطَعَتْ لَهُ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْهُ
غَمَرَاتُ الشَّكِّ، وَظُلْمَةُ الرَّيْبِ، وَذَلِكَ إِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ
وَجَدَهَا مُكَوَّنَةً مَكْنُونَةً مَجْمُوعَةً مُؤَلَّفَةً مَجْزَأَةً
مُنَضَّدَةً مُصَوَّرَةً مُتَرَكِّبَةً بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ
لَا يُوجَدُ مُدَبَّرٌ إِلَّا بِمُدَبِّرٍ، وَلَا مُكَوَّنٌ إِلَّا بِمُكَوِّنٍ،
وَتَجِدُ تَدْبِيرَ الْمُدِبِّرِ فِيهِ شَاهِدًا دَالًّا عَلَيْهِ كَمَا تَنْظُرُ
إِلَى حِيطَانِ الْبِنَاءِ، وَتَقْدِيرِهَا "، وَإِلَى السَّقْفِ
الْمُسَقَّفِ فَوْقَهُ بِجُذُوعِهِ، وَعَوَارِضِهِ، وَتَطْيِينِ ظَهْرِهِ،
وَنَصْبِ بَابِهِ، وَإِحْكَامِ غَلْقِهِ، وَمِفْتَاحِهِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ. فَكُلُّ
ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بَانِيهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْجِسْمُ
إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ، وَتَفَكَّرْتَ فِيهِ وَجَدْتَ آثَارَ التَّدْبِيرِ فِيهِ
قَائِمَةً شَاهِدَةً لِلْمُدَبِّرِ دَالَّةً عَلَيْهِ، فَقَدْ أَيْقَنَ
الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا، وَلَا
كَانَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَثَرٌ وَلَا ذِكْرٌ، فَصَارُوا، وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ أَنْفُسًا مَعْرُوفَةً مُصَوَّرَةً مَجْسُومَةً، قَدِ اجْتَمَعَتْ
فِيهَا جَوَارِحُ، وَأَعْضَاءٌ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا لَمْ يَزِدْ
لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا مِنْ قَطْرَةِ مَاءٍ لُحُومًا
مُنَضَّدَةً، وَعِظَامًا مُتَرَكِّبَةً بِحِبَالِ الْعُرُوقِ، وَمَشْدَودَةً
بِجِلْدٍ مَتِينٍ مُوَفًّى لَحْمُهُ وَدَمُهُ مَا قَدْ رُكِّبَتْ فِيهِ مَائَتَانِ
وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا، وَشُدَّتْ بِثَلَاثِ مِائَةٍ وَسِتِّينَ
عِرْقًا فِيمَا بَلَغَنَا لِلِاتِّصَالِ، وَالِانْفِصَالِ، وَالْقَبْضِ ،
وَالْبَسْطِ، وَالْمَدِّ، وَالضَّمِ، وَيَجْعَلُ فِيهِ تِسْعَةَ أَبْوَابٍ
لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا، فَمِنْهَا أُذُنَاهُ الْمَثْقُوبَتَانِ لِحَاجَةِ
السَّمْعِ قَدْ جُعِلَ مَاؤُهُمَا مُرًّا لِئَلَّا يَلِجَ فِيهَا دَابَّةٌ،
فَتَخْلُصَ إِلَى الدِّمَاغِ، وَذَلِكَ الْمَاءُ سُمٌّ قَاتِلٌ، وَعَيْنَاهُ
لِحَاجَةِ الرُّؤْيَةِ مِصْبَاحَانِ مِنْ نُورٍ مُرَكَّبَانِ فِي لَحْمٍ وَدَمٍ،
وَقَدْ جُعِلَ مَاؤُهُمَا مَالِحًا لِئَلَّا يُفْسِدَهُمَا حَرَارَةُ النَّفَسِ
بِالنَّفَسِ، وَلَا يَذُوبَانِ لِأَنَّهُ شَحْمٌ، وَمَنْخِرَاهُ الْمَثْقُوبَتَانِ
لِحَاجَةِ الشَّمِّ ، وَالنَّفَسِ، وَإِلْقَاءِ مَا يَجْتَمِعُ فِي رَأْسِهِ مِنْ
قَذَرِ الْمُخَاطِ، وَفُوهُ الْمَشْقُوقُ لِحَاجَةِ التَّنَفُّسِ وَالْكَلَامِ
وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، قَدْ جُعِلَ مَاؤُهُ عَذْبًا لِيَجِدَ لَذَّةَ
الْمَطَاعِمِ وَطَعْمَ الْمَذَاقَاتِ، مُرَكَّبَةٌ فِيهِ الْأَسْنَانُ لِحَاجَةِ
الْمَضْغِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ، كَحَجَرَيْ رَحًى يَطْحَنَانِ الطَّعَامَ
بَيْنَهُمَا، دُونَهُمَا مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَسُوقَ إِلَى
الْمَعِدَةِ، وَهِيَ كَالْقِدْرِ فِي الْجَوْفِ قَدْ وُكِّلَتْ بِهَا نَارٌ
تُنْضِجُهُ فِيهَا، وَهِيَ الْكَبِدُ بِدَمِهَا، قَدْ وُكِّلَتْ بِذَلِكَ
الطَّعَامِ أَرْبَعٌ مِنَ الرِّيَاحِ رِيحُ تَسُوقُهُ مِنَ الْفَمِ إِلَى
الْمَعِدَةِ، وَرِيحٌ تُمْسِكُهُ فِي الْجَوْفِ إِلَى أَنْ يَصِلَ نَفْعُهُ إِلَى
الْبَدَنِ، وَرِيحٌ تَصْرِفُ صَفْوَتَهُ فِي الْعُرُوقِ كَمَا يُطْرَدُ الْمَاءُ
فِي الْأَنْهَارِ، وَرِيحٌ تَدْفَعُ ثِقَلَهُ وَفَضْلَهُ، وَذَلِكَ حِينَ يَجِدُ
فِي جَوْفِهِ تَجْرِيدَ الْخَلَاءِ وَالْبَوْلِ، وَقُبُلُهُ وَدُبُرُهُ
لِحَاجَتِهِ إِلَى طَرْحِ ذَلِكَ الْفَضْلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْنٌ
عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي بِهَا تُنَالُ اللَّذَّاتُ، وَتُدْرَكُ
الطَّلَبَاتُ، وَتحَيْى النَّفْسُ ، وَيَطِيبُ الْعُمُرُ، وَلَوْ نَقَصَ مِنْهَا
لِامْرِئٍ عُضْوٌ أَوْ جَارِحَةٌ لَطَفِقَ مَنْقُوصَ الْحَظِّ مِنْ شَهْوَتِهِ،
وَعَاجِزًا عَنْ إِدْرَاكِ بُغْيَتِهِ، وَلَوْ زَادَ فِيهَا لَضَرَّتْهُ
الزِّيَادَةُ وَتَأَذَّى بِهَا وَأَظْهَرَتْ فِيهِ عَجْزًا كَمَا يُظْهِرُهُ
النَّقْصُ مِنْهَا، وَإِنْ خَصَّ اللَّهُ عَبْدًا بِنُقْصَانٍ أَوْ زِيَادَةٍ فِي
عُضْوٍ أَوْ جَارِحَةٍ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ابْتِلَائِهِ وَاخْتِبَارِهِ
وَتَعْرِيفِ مَنْ خَلَقَهُ سَوِيًّا فَضْلَ إِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَقَدْ
عَلِمَ الْمَخْلُوقُ أَنَّهُ مُدَبِّرٌ، وَأَنَّ لَهُ خَالِقًا هُوَ مُدَبِّرٌ
لِأَنَّهُ وَجَدَ الْعَيْنَ مُدَبِّرَةً لِلْبَصَرِ، وَلَوْلَاهَا لَكَانَ لَا
يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ، وَلَا يَرَى الدُّنْيَا، وَلَا عَجَائِبَهَا، وَلَا
يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ فِيهَا، وَالْأُذُنَ تَسْتَمِعُ،
وَلَوْلَاهَا لَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَمْعِ كَلَامِهِ لَا يَسْمَعُ كَلَامًا،
وَلَا حِسًّا، وَلَا هَمْسًا، وَلَا يَسْتَفِيدُ أَدَبًا، وَلَا عِلْمًا، وَلَا
يُدْرِكُ قَضَاءً وَلَا حُكْمًا، وَالْأَنْفَ لِلشَّمِّ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ لَا
يَتَلَذَّذُ بِاسْتِنْشَاقِ طِيبٍ، وَلَا بِنَسِيمِ رِيحٍ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ
دَوَاءٍ نَافِعٍ، وَسُمٍّ قَاتِلٍ، وَالْفَمَ مُشْرَعًا إِلَى مَا اسْتَبْطَنَ
مِنْهُ بِهِ يَنْزِلُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، وَيَصْعَدُ النَّفَسُ وَالْكَلَامُ،
وَلَوْلَاهُ مَا ذَاقَ طَعْمَ الْحَيَاةِ، وَلَا تَخَلَّفَ سَاعَةً عَنْ مَنْهَلِ
الْأَمْوَاتِ، وَاللِّسَانَ لِلنُّطْقِ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى
دُعَاءٍ، وَلَا نِدَاءٍ، وَلَا عَلَى نَجْوًى، وَلَا عَلَى طَلَبِ شَيْءٍ ابْتَغَى
أَوِ اشْتَهَى، وَلَا عَلَى شَكْوَى أَوْ وَصْفِ بَلْوَى، وَالْيَدَ لِلْبَطْشِ،
وَلَوْلَاهَا لَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ قَبْضًا، وَلَا بَسْطًا، وَلَا تَنَاوُلًا،
وَلَا دَفْعًا، وَلَا تَلَقُّمًا، وَلَا حَكًّا، وَالرِّجْلَ لِلْمَشْيِ،
وَلَوْلَاهَا كَانَ لَا يَخْطُو، وَلَا يَنْهَضُ، وَلَا عَنْ مَكَانٍ إِلَى
مَكَانٍ يَنْتَقِلُ، وَالْفَرْجُ مَعِينُ الشَّهْوَةِ، وَنَهْجٌ لِلنُّطْفَةِ،
وَلَوْلَاهُ لَكَانَ لَا يُوجَدُ لَهُ نَسْلٌ، وَلَا يُرَى لَهُ عَقِبٌ، وَسَبِيلُ
سَائِرِ الْجَوَارِحِ الَّتِي لَمْ نَصِفْهَا بِسَبِيلِ مَا قَدْ أَتَى وَصْفُنَا
عَلَيْهِ مِنْهَا، وَفِي التَّفَكُّرِ فِي الْأَمْعَاءِ، وَمَا فِيهَا مِنَ
الْهَوَاءِ، وَالدِّمَاغِ ، وَالْعَصَبِ وَالشَّوَي اللَّاتِي مِنْهَا مَا هِيَ
بِمَجَارِي الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ، وَمِنْهَا مَا هِيَ
مَقَاطِنُ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالْحِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعِلْمِ
وَالْحَذْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ
الْمَاءُ الدَّافِقُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْخَلْقُ الْكَامِلُ، وَفِي الْمَفَايِحِ
الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الدَّمُ وَالنَّفَسُ، وَالَّتِي يَنْزِلُ عَلَيْهَا مِنَ
الْأُنْثَى لِلْوَلَدِ، وَالَّتِي تَنْشَقُّ مِمَّا يَدْخُلُ الْجَوْفَ مَا
تَحْيَى بِهِ النَّفْسُ، وَيَرْبُو عَلَيْهِ الْجِسْمُ، وَالَّتِي يَخْرُجُ بِهَا
مَا تَقْضُمُهُ الْمَعِدَةُ مِمَّا لَوْ بَقِيَ فِيهَا لَقَتَلَ صَاحِبَهَا
الشِّدَّةُ، وَفِي وُرُودِ الرُّوحِ الْبَدَنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَى مِنْ أَيْنَ
وَرَدَ؟ أَوْ كَيْفَ حَدَثَ؟ وَصُدُورِهِ عَنْهُ بِلَا أَنْ يُعْلَمَ كَيْفَ
صَدَرَ؟ وَأَيْنَ ذَهَبَ؟ ثُمَّ إِنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا عَلَى سَبِيلَيْنِ
ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ، وَالْأَنَامُ طُرًّا عَلَى نَوْعَيْنِ: رِجَالٍ وَنِسَاءٍ،
وَإِنَّ جَوَارِحَ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى مِثَالِ غَيْرِهِ، وَصُورَةَ كُلِّ وَاحِدٍ
تَخْتَلِفُ عَنْ صُورَةِ غَيْرِهِ، فَأَيُّ دَلِيلٍ لِمُدَّعِي حَقٍّ فِي
دَعْوَاهُ أَوْضَحُ مِمَّا وَصَفْتُ؟ وَأَيُّ حُجَّةٍ لَهُ أَوْكَدُ مِمَّا
أَحَضَرْتُ؟ أَلَا يَعْلَمُ الْمُعَطِّلُ الشَّقِيُّ الْجَاهِلُ الَغَوِيُّ حِينَ
لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ فِي خَلْقِهِ صُنْعٌ، وَلَا عَرَفَ لَهَا فِي الْأَرْضِ
صَانِعًا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَّفِقَةِ الْمُنْتَظِمَةِ الْمُلْتَأَمَةِ
الْمُتَشَاكِلَةِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي خَلْقٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ سَبِيلُهُ
سَبِيلُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ، وَمَثَلُ هَذِهِ الْعَجَائِبِ الَّتِي يُعْجِزُ عِلْمُ
كَوْنِهَا فَضْلًا عَنْ إِحْدَاثِ مِثْلِهَا لَا تَتَكَوَّنُ مِنْ ذَاتِهَا، وَلَا
يَسْتَطِيعُهُ إِلَّا حَكِيمٌ قَدِيرٌ عَلَى إِنْشَائِهَا، ثُمَّ الدَّلَائِلُ
الْوَاضِحَةُ، وَالْعَلَامَاتُ الْبَيِّنَةُ فِي تَغَيُّرِ الْأُمُورِ وَتَصَرُّفِ
الدُّهُورِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهَا، وَلَا إِحْدَاثَ مِثْلِهَا
الْمُلُوكُ بِسُلْطَانِهِمْ، وَلَا الْمُثْرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ، وَلَا أُولُو
الْقُوَّةِ بِقُوَّتِهِمْ، وَلَا أَهْلُ الرَّأْي بِتَدْبِيرِهِمْ، وَفِي
الْعَجَائِبِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا الْبَصَرُ، وَيَعْجَزُ عَنْ وَصْفِهَا
الْبَشَرُ مِمَّا قَدْ صَارَتْ كُلُّهَا مُدَبِّرَةً لِمَصَالِحِ الْأَنَامِ
وَأَرْفَاقِهِمْ وَأَغْذِيَتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ بِغَيْرِ صُنْعٍ فِيهَا لَهُمْ،
وَلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ مِنْهُمْ، فَلَوْ رَجَعَتِ الْأَرْوَاحُ إِلَى
أَجْسَامِ كُلِّ مَنْ مَضَى مِنَ الدُّنْيَا فَاجْتَمَعُوا مَعَ كُلِّ مَنْ بَقِيَ
عَلَى تَغَيِيرِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ خَلْقِ شَيْءٍ مِثْلَهَا بِإِفْرَاغِ
الْوُسْعِ، وَفَرْطِ الِاجْتِهَادِ، وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ مَا اسْتَطَاعُوهُ،
وَلَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهَا سَمَاءٌ قَائِمَةٌ فِي الْهَوَاءِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ، وَلَا أَطْنَابٍ تُرَى تُظِلُّهُمْ، وَتُبْدِي مِنْ زِينَتِهَا لَهُمْ
نُجُومًا طَالِعَاتٍ زَاهِرَاتٍ جَارِيَاتٍ لَهَا بُرُوجٌ مَفْهُومَةٌ،
وَمَطَالِعُ مَعْلُومَةٌ، وَهِيَ عَلَامَاتٌ لِلسَّفَرِ يَهْتَدُونَ بِهَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ أَوَّلَ كُلِّ نَهَارٍ مِنْ
مَشْرِقِهَا، وَتَغِيبُ آخِرَهُ فِي مَغْرِبِهَا لَا يُرَى لَهَا رُجُوعٌ، وَلَا
يُعْرَفُ لَهَا مَبِيتٌ تُنِيرُ، فَيَسْتَضِيءُ بِضَوْئِهَا الدُّنْيَا لَهُمْ،
تَزْهُو وَتَحْمِي فَتَرْبُو بِحَرِّهَا الزُّرُوعُ، وَتَلْحَقُ وَهِيَ
لِلْفَقِيرِ دِثَارٌ فِي الْقُرِّ وِلِلْغَنِيِّ عَوْنٌ فِي الْحَرِّ، وَقَمَرٌ
يَبْدُو عَلَى آيِ الْبُرُدِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَيَعْرِفُونَ بِهِ
عَدَدَ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَصُبْحٌ يُفْلَقُ، فَهُوَ لَهُمْ مَعَاشٌ
يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ لِأُمُورِهِمْ، وَلَيْلٌ يَغْسَقُ فَهُوَ لَهُمْ سَكَنٌ يُرِيحُونَ
فِيهِ أَبْدَانَهُمْ بِهُجُوعِهِمْ، وَأَزْمِنَةٌ نَفَّاعَةٌ لِلْخَيْرَاتِ
جَلَّابَةٌ تَنْتَقِلُ فِي كُلِّ حَوْلٍ مِرَارًا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، ثُمَّ
تَعُودُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ إِلَى أَوَّلِ حَالٍ، فَلَهُمْ فِي كُلِّ
حَالٍ مِنْهَا سَبَبٌ يُجْرِي عَلَيْهِمْ نَفْعًا وَيَجْلُبُ إِلَيْهِمْ رِزْقًا،
وَرِيَاحٌ لَا يُرَى لَهَا جِسْمٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا كِنٌّ تُلَقِّحُ لَهُمُ
الْأَشْجَارَ، فَتَحْمِلُ لَهُمُ الثِّمَارَ وَتُرَوِّحُ الْأَجْسَامَ،
وَتُطَيِّبُ الْأَبْدَانَ، وَهِيَ مَطْرَدَةٌ لِلْآفَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ بَيْنَ
الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، سَحَابٌ يُدِرُّ عَلَيْهِمُ الْغَيْثَ فِي أَوَانِ
انِتِفَاعِهِمْ بِهِ، وَيُمْسِكُ عَنْهُمْ وَقْتَ اسِتْغِنَائِهِمْ عَنْهُ،
فَتَمْتَدُّ لَهُمْ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَتُغْمَرُ بِهِ الْبِلَادُ، وَيَكْثُرُ
مِنْهُ الْحَبُّ وَالنَّبَاتُ وَيُحْيَى بِهِ النَّوَامَى وَالْمَوَاتُ، وَأَرْضٌ
عَلَى الْمَاءِ مَبْسُوطَةٌ هِيَ لَهُمْ مِهَادٌ، وَمَعِيشَةٌ تُنْبِتُ لَهُمُ
الْمَطَاعِمَ وَالْمَلَابِسَ وَتُخْرِجُ لَهُمُ الْمَشَارِبَ وَالْمَغَانِمَ،
وَتَحْمِلُهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا مَا عَاشُوا، وَتُوَارِيهِمْ إِذَا مَا مَاتُوا،
وَجِبَالٌ هِيَ أَوْتَادٌ لِأَرْضِهِمْ لِتَسْتَقِرَّ، وَلَا تَمِيدَ بِهِمْ،
وَلِتُخْرِجَ لَهُمُ الْجَوَاهِرَ وَالْأَمْوَالَ، وَلِيَنْحِتُوا مِنْهَا
الْبُيُوتَ، وَيَرْعَوْا فِيهَا الْأَغْنَامَ، وَيَقْدَحُوا مِنْهَا النَّارَ
الَّتِي فِيهَا دِفْؤُهُمْ، وَبِهَا تَصْلُحُ أَغْذِيَتُهُمْ، وَتَطِيبُ
أَطْعِمَتُهُمْ، وَمَاءٌ فِيهِ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ أَصْلُ كُلِّ
شَيْءٍ يَرْوِيهِمْ مِنَ الْعَطَشِ، وَيُنَقِّيهِمْ مِنَ الدَّنَسِ،
وَيُطَهِّرُهُمْ عَنِ النَّجَسِ، وَقَدِ امْتَدَّ مِنْهُ بُحُورٌ تَجْرِي
الْفُلْكُ فِيهِ، تَحْمِلُهُمْ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَيَأْكُلُونَ
مِنْهَا اللَّحْمَ الطَّرِيَّ، وَيُعْثَرُ لَهُمْ عَنِ الْحُلِيِّ وَالطِّيبِ، أو
نَبْعَتِ الْأَرْضُ لَهُمْ مِنْهُ مَاءً يَسُوقُونَهُ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي
يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهَا لِيُنْبِتَ لَهُمُ الْمَآكِلَ الَّتِي يَعِيشُونَ
بِهَا، وَخَزَّنَتْ مِنْهُ مَا يَبْرُدُ لَهُمْ فِي الْقَيْظِ لِيَسْتَلِذُّوا
شُرْبَهُ، وَيَفْتُرُ لَهُمْ فِي الشِّتَاءِ لِئَلَّا يُؤْذِيَهُمْ بَرْدُهُ حِينَ
يَسْتَعْمِلُونَهُ، وَأَنْعَامٌ لَهُمْ دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمَطَاعِمُ
وَمَلَابِسُ، وَفِيهَا لَهُمْ جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ، وَحِينَ تَسْرَحُونَ،
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ
الْأَنْفُسِ، وَتَتَّخِذُونَ مِنْ جُلُودِهَا بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ
ظَعْنِكُمْ، وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا، وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا، وَيَشْرَبُونَ مِمَّا فِي بُطُونِهَا مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ، وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَخَيْلٌ وَبِغَالٌ
وَحِمْيَرٌ لِيَرْكَبُوهَا، وَيتَزَيَّنُوا بِهَا، وَنَحْلٌ تَتَّخِذُ مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا، وَمِنَ الشَّجَرِ، وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَتَأْكُلُ مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وَيَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
فِيهِ لَهُمْ شِفَاءٌ وَلَذَّةٌ، ثُمَّ مَا وُجِدَ مِنْ خَلْقِ سَائِرِ الْأُمَمِ
وَالْحَيَوَانِ، وَمَا هُدِيَتْ لِمَا قُدِّرَ لَهَا مِنَ الْأَرْزَاقِ، ثُمَّ
غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَفِي الْجَوِّ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَفِي الْبَرَارِي، وَالْبِحَارِ، وَالْفَيَافِي
وَالدِّيَارِ ، وَالشُّعُوبِ وَالْجِبَالِ، وَفِي تُخُومِ الْأَرْضِ
وَظُلُمَاتِهَا وَحَوَادِثِ الدَّهْرِ وَخَطَرَاتِهَا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي
لَا يَبْلُغُهَا وَصْفُ وَاصِفٍ، وَلَا يُدْرِكُهَا عِلْمُ عَالِمٍ، وَكُلُّهَا
يُنْبِئُ لِمَا يَقَعُ مِنَ الْعِبَرِ فِيهَا أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مُكَوَّنَةٌ
مَصْنُوعَةٌ مُدَبَّرَةٌ بِتَدْبِيرِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ سَمِيعٍ بَصِيرٍ أَحَدٍ
دَائِمٍ عَلَى سَبِيلٍ وَاحِدٍ، غَيْرِ مُعَلَّمٍ وَلَا مُقَوَّمٍ وَلَا مُحْدَثٍ
وَلَا مُدَبَّرٍ، عَلِمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَهُ، وَعَرَفَ لِكُلِّ
شَيْءٍ مَا يُصْلِحُهُ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ شَاءَهُ، وَانْبَسَطَتْ
يَدُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَرَادَهُ لَمْ يُعْجِزْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا
مَنَعَهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، فَخَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا كَمَا شَاءَ،
وَقَدَّرَهَا، وَجَعَلَهَا مُتَضَادَّةً، وَقَوَّمَهَا وَسَبَّبَ لَهَا مَعَاشَهَا
وَمَصَالِحَهَا، وَحَرَسَهَا بِعَيْنٍ لَا تَنَامُ وَحَفِظَهَا بِلَا مُعِينٍ،
وَلَا نَصِيرٍ، وَلَا هَادٍ، وَلَا مُشِيرٍ، وَلَا كُفْوٍ، وَلَا شَرِيكٍ، وَلَا
ضِدٍّ، وَلَا نَظِيرٍ، وَلَا وَالِدٍ، وَلَا نَسِيبٍ، وَلَا صَاحِبَةٍ، وَلَا
وَلَدٍ، وَمِنْ دَلَائِلِ الْبَعْثِ أَنَّ الْحَبَّةَ الْمَيِّتَةَ قَدْ تُدْفَنُ
فِي التُّرَابِ لَيْسَ لَهَا وَرَقٌ وَلَا غُصْنٌ وَلَا شِعْبٌ وَلَا ثَمَرٌ وَلَا
لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ وَلَا طَعِمٌ وَلَا حَرَكَةٌ، فَيُمْكِثُهَا اللَّهُ فِي
التُّرَابِ، ثُمَّ يُحْيِيهَا فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، فَيُخْرِجُهَا مِنْ
مَدْفَنِهَا مُتَحَرِّكَةً بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَرَكَةٌ، وَتَخْرُجُ
مِنَ التُّرَابِ مَعَ شِعْبٍ وَوَرَقٍ وَلَوْنٍ وَرِيحٍ وَطَعْمٍ، وَلَمْ يَكُنْ
لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حِينَ دُسَّتْ فِي التُّرَابِ، فَكَذَلِكَ الْإِنِسَانُ
حِينَ يُدَسُّ فِي التُّرَابِ، وَلَيْسَ لَهُ حَرَكَةٌ وَلَا رُوحٌ وَلَا سَمْعٌ
وَلَا بَصَرٌ كَالْحَبَّةِ الْمَيِّتَةِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ
رُوحٍ وَحَرَكَةٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
ذَلِكَ تِبْيَانًا لِعِبَادِهِ، وَدِلَالَةً عَلَى مَعَادِهِ، قَالَ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وآيةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} [يس: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [ق: 9] إِلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] ، وَ {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] فَسُبْحَانَ الَّذِي أَوْضَحَ دِلَالَتَهُ
لِلْمُتَفَكِّرِينَ، وَأَبْدَى شَوَاهِدَهَ لِلنَّاظِرِينَ، وَبَيَّنَ آيَاتِهِ
لِلْعَاقِلِينَ، وَقَطَعَ عُذْرَ الْمُعَانِدِينَ، وَأَدْحَضَ حُجَجَ
الْجَاحِدِينَ وَأَعْمَى أَبْصَارَ الْغَافِلِينَ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
أقول : الله أكبر كلام نفيس جداً في الرد
على الملاحدة والطبائعيين
قال أبو الشيخ في العظمة 63 - حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ،
حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ
خَلِيفَةَ الْعَبْدِيَّ، وَكَانَ [ص:326] مُتَعَبِّدًا، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُعْبَدْ إِلَّا عَنْ رُؤْيَةٍ مَا عَبَدُهُ
أَحَدٌ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَفَكَّرُوا فِي مَجِيءِ هَذَا اللَّيْلِ إِذَا
جَاءَ فَمَلَأَ كُلَّ شَيْءٍ، وَغَطَّى كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي مَجِيءِ سُلْطَانِ
النَّهَارِ إِذَا جَاءَ فَمَحَا سُلْطَانَ اللَّيْلِ، وَفِي السَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَفِي النُّجُومَ، وَفِي الشِّتَاءَ
وَالصَّيْفِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ الْمُؤْمِنُونَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ
رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حَتَّى أَيْقَنَتْ قُلُوبُهُمْ بِرَبِّهِمْ عَزَّ
وَجَلَّ، وَحَتَّى كَأَنَّمَا عَبَدُوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ
رُؤْيَةٍ.
وقال ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة
ص94 :" وَمِنْ هَذَا احْتِجَاجُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ -
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36] فَتَأَمَّلْ
هَذَا التَّرْدِيدَ وَالْحَصْرَ الْمُتَضَمِّنَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِأَقْرَبِ
طَرِيقٍ وَأَوْضَحِ عِبَارَةٍ.
يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ مَخْلُوقُونَ
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا، فَهَلْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ؟
فَهَذَا مِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ، ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] وَهَذَا أَيْضًا مِنَ
الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا
يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَيَاتِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَتَعَاطِيهِ أَسْبَابَ
الْحَيَاةِ سَاعَةً وَاحِدَةً، كَيْفَ يَكُونُ خَالِقًا لِنَفْسِهِ؟ وَإِذَا
بَطَلَ الْقِسْمَانِ تَبَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ، فَهُوَ
الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمِ الْعِبَادَةَ وَالشُّكْرَ،
فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ إِلَهًا غَيْرَهُ وَهُوَ وَحْدَهُ الْخَالِقُ لَهُمْ؟ فَإِنْ
قِيلَ: فَمَا مَوْقِعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ} [الطور: 36] مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ؟ قِيلَ: أَحْسَنُ مَوْقِعٍ، فَإِنَّهُ
بَيَّنَ بِالْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا فَاطِرًا،
وَبَيَّنَ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ وُجِدُوا وَخُلِقُوا
فَهُمْ عَاجِزُونَ غَيْرُ خَالِقِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا نُفُوسَهُمْ
وَلَمْ يَخْلُقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ
الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ
وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ الْمَسْكَنِ
وَالسَّاكِنِ"
وهنا ثلاثة فوائد
الأولى : أن عامة خصومة الرسل مع أقوامهم
كانت في توحيد الألوهية بمعنى أنهم كانوا يقرون بوجود الله ومع ذلك يعبدون معه
غيره
الثانية : لم يقل أحد من البشر بوجود
خالقين متساووين فحتى المجوس القائلون بالنور والظلمة يرون أن النور أقوى من
الظلمة وأنه سينتصر في النهاية ( ملخص من كلام ابن تيمية )
الثالثة : أن هذا الكلام وإن كان يصلح
رداً على الملاحدة والدهرية فإنه أيضاً رد على من يعبد مع الله غيره لأن المعبودات
من دون الله عز وجل لا تخلق شيئاً فكيف يصرف إليها العبادة ( أفمن يخلق كمن لا
يخلق )
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم