الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فمع اقتراب ما يؤمله الحركيون من الجماعات الإسلامية ، من نيل السلطة
، صاروا يمهدون لأنفسهم بالتنازل عن الثوابت شيئاً فشيئاً
ومن ذلك أن ظهر رجلٌ في قناة الرحمة
التابعة لمحمد ابن حسان - هداه الله - يؤصل لإسقاط الجزية في هذا العصر ، ويستدل لذلك
بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من اليهود في المدينة ، ولم يأخذها من
قريش عند صلح الحديبية !
والجواب على هذا التلبيس : أن يقال أن الجزية إنما فرضت بعد ذلك كله في
سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل في قوله تعالى :﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّـهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّـهُ
وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾
ومما يدل على تأخر نزول سورة التوبة ما رواه البخاري في صحيحه 4364 قال :
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ
خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾
وعلى هذا تكون قد نزلت بعد الفتح ، وهذا يعني أنها متأخرة عن قدوم النبي
صلى الله عليه وسلم للمدينة ، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع الجزية عن
أهل الكتاب بعد نزولها ، ولا ثبت ذلك عن أحد من الراشدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح (1/134) : «وآية الجزية هي
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾
.
وهذه آية السيف مع أهل الكتاب وقد ذكر فيها قتالهم إذا لم يؤمنوا حتى يعطوا
الجزية والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من أحد الجزية إلا بعد هذه الآية بل وقالوا
إن أهل نجران أول من أخذت منهم الجزية كما ذكر ذلك أهل العلم كالزهري وغيره فإنه باتفاق
أهل العلم لم يضرب النبي صلى الله عليه وسلم على أحد قبل نزول هذه الآية جزية لا من
الأميين ولا من اهل الكتاب ولهذا لم يضربها على يهود قينقاع والنضير وقريظة ولا ضربها
على أهل خيبر فإنها فتحت سنة سبع قبل نزول آية الجزية وأقرهم فلاحين وهادنهم هدنة مطلقة
قال فيها نقركم ما أقركم الله».
وفي كلام شيخ الإسلام هذا الكفاية في الرد على تلك الشبهة السخيفة ، وأما
ذكر صلح الحديبية فهو أسخف من وجوه:
الأول : ما تقدم في كلام شيخ الإسلام من تأخر آية الجزية.
الثاني : أن هؤلاء أعداء مكافئين وليسوا تحت حكم أهل الإسلام ، فغاية ما
يستدل به في هذا على جواز الصلح مع الكفار إذا كان لهم شوكة ومنعة.
الثالث : أن المشركين من غير أهل الكتاب اختلف في أخذ الجزية منهم على
قولين ، فلو سلمنا استدلال المعترض ، لكان دليلاً على سقوطها عن المشركين من غير أهل
الكتاب وإن كان هذا غاية في البعد.
واعلم رحمك الله أن راشداً الغنوشي صنف كتاباً أسماه « حقوق المواطنة »
دعا فيه إلى إسقاط الجزية عن اليهود والنصارى « انظر ص 102 ، وص 136».
وهناك شبهة حركية أخرى على الجزية أثارها مصطفى السباعي ، وهي أن الجزية
لا تفرض إلا على من قاتلنا ، ويزعم أن ظاهر الآية يدل على ذلك
وهذا باطل ، لم يقل به أحد من علماء المسلمين
وقال الإمام مسلم في صحيحه «4542- [2-1731] حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وحَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
، قَالَ : أَمْلاَهُ عَلَيْنَا إِمْلاَءً (ح)
[3-...] وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ ، وَاللَّفْظُ لَهُ ، حَدَّثَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ عَلْقَمَةَ
بْنِ مَرْثَدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ
، أَوْ سَرِيَّةٍ ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، ثُمَّ قَالَ : اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ ،
قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا ، وَلاَ تَغْدِرُوا ، وَلاَ
تَمْثُلُوا ، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا ، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ ، أَوْ خِلاَلٍ ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ
فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ ، فَإِنْ
أَجَابُوكَ ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ
مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا
ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ،
فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ
كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلاَّ
أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ
، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا
فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ
أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ ، فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ
ذِمَّةَ اللهِ ، وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ
أَصْحَابِكَ ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ
مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ
حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ ، فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى
حُكْمِ اللهِ ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ
حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا ، أَوْ نَحْوَهُ».
أقول : فجعل الدعوة إلى الجزية قبل القتال ، فكيف لا تؤخذ إلا ممن قاتلنا
، ولكن هذا مبني على أصلهم في إسقاط جهاد الطلب والله المستعان
وكيف يزعمون العجز عن أخذ الجزية من الكفار الذين يعيشون في دولة الإسلام
، ولا تعجز الدول الغربية الكافرة التي يقتدون بها ، عن أخذ المكوس من رعاياها ، وأخذ
الجزية آكد من أخذ الصدقة المستحبة فكيف بالمكس المحرم ؟
وهم هداهم الله يريدون بذلك مؤاخاة النصارى ، وإزالة كل الفوارق بيننا
وبينهم
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/ 284) : « وكان بعض أئمة الاسلام إذا
رأى صليبا أغمض عينيه عنه وقال : لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح
السب».
أقول : أما اليوم فقد جاء من يقول « الهلال مع الصليب » والله المستعان.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم