الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
فهذا جمع في الآيات التي قال فيها أهل العلم أرجى آية في كتاب الله عز
وجل:
1- قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ
وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، واختار أن هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل الإمام
عبد الله بن المبارك
قال الإمام مسلم في صحيحه
7120- [56-2770] حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ
، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ : حَدَّثَنَا ، وقَالَ الآخَرَانِ : أَخْبَرَنَا ، عَبْدُ الرَّزَّاقِ
، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، وَالسِّيَاقُ حَدِيثُ مَعْمَرٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدٍ وَابْنِ
رَافِعٍ ، قَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ جَمِيعًا : عَنِ الزُّهْرِيِّ : أَخْبَرَنِي سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ
اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ
مَا قَالُوا : فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ، وساق حديث الإفك.
وفيه قوله : قَالَتْ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ﴾ مِنْكُمْ عَشْرَ آيَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاَءِ
الآيَاتِ بَرَاءَتِي
قَالَتْ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ : وَاللَّهِ لاَ
أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو
الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ إِلَى قَوْلِهِ : ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.
قَالَ حِبَّانُ بْنُ مُوسَى : قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لِي ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ
: لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.
ووجه كونها أرجى آية أن مسطحاً قد وقع منه ذلك الأمر الشديد ، ومع ذلك
رغب الله عز وجل بالعفو عنه ما رغب عباده بالعفو عنه إلا وهو سبحانه عاف عنه.
ومن وجه كونها أرجى آية أن من عفى عن الناس كان حقاً على الله أن يعفو
عنه لقوله تعالى: ﴿ أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾.
2- وقال القرطبي في تفسيره:
"قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة
العصاة بهذا اللفظ.
وقيل : أرجى آية في كتاب الله
عز وجل قوله تعالى:{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً }".
3- قوله تعالى : ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾،
وهذا القول مروي عن جعفر الصادق ولا يصح ومروي عن أبيه محمد الباقر
قال ابن خزيمة في التوحيد 386
: حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد ، بعبادان ، قال عمرو بن عاصم ، قال : حدثنا حرب بن سريج
البزار ، قال :
قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن
الحسين ، جعلت فداك ، أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق ، أحق هي ؟
قال : شفاعة ماذا ؟ قال : شفاعة
محمد صلى الله عليه وسلم
قال : حق والله ، إي والله ، لحدثني
عمي محمد بن علي ابن الحنفية ، عن علي بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : أشفع لأمتي ، حتى يناديني ربي ، فيقول
: أرضيت يا محمد ؟
فأقول : رب رضيت
ثم أقبل علي ، فقال : إنكم تقولون
، معشر أهل العراق : إن أرجى آية في كتاب الله سبحانه وتعالى عز وجل { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } قرأ إلى قوله جميعا
قلت : إنا لنقول ذلك
قال : ولكنا أهل البيت نقول ،
وإن أرجى آية في كتاب الله تعالى : ﴿ولسوف
يعطيك ربك فترضى﴾
ووجه كونها أرجى آية واضح من السياق
، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعطى من الشفاعة في أمته حتى يرضى.
4- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ قال صاحب اللباب ابن عادل الحنبلي
:" حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ هذه الآيةَ أَرْجَى آيةٍ
في القُرْآنٍ".
ولم أجده مسنداً عن علي.
5- قوله تعالى : ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ
رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾، قال ابن
عادل الحنبلي في اللباب: "وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أرجى آية في
القرآن هذه الآية: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب﴾ إذا أصرُّوا على الكفر".
قلت لم أجده مسنداً عن ابن عباس.
6- قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو
عَنْ كَثِيرٍ﴾
وهذه الآية اختار الواحدي أنها
أرجى آية في كتاب الله عز وجل
قال ابن عادل الحنبلي في تفسيره
اللباب: "قال الواحدي بعد أن روى حديث عليٍّ المتنقدم: وهذه أرجى آية في كتاب
الله؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين، صنف كفَّر عنهم بالمصائب، وصنفٌ عَفَا
عنه في الدنيا، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر،
فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي (رَبَّهُ) يوم القيامة".
أقول : ولا بد من صنف يعذب عليه بعض أهل الإيمان.
7- قوله تعالى : ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب
عليهم إن الله غفور رحيم﴾، وهذه الآية
اختار أنها أرجى آية في كتاب الله عز وجل أبو عثمان النهدي التابعي المخضرم.
قال ابن أبي الدنيا في التوبة 45 : حدثني يعقوب بن عبيد ، أنبا يزيد بن
هارون ، أنبا أبو يوسف الصيقل الحجاج بن أبي زينب، قال: سمعت أبا عثمان النهدي ، يقول
:
ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه
الآية من قوله: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾.
وهذا إسناد حسن، ووجه كونها أرجى آية ما فيها من تقريب أمر التوبة في قوله
تعالى: ﴿عسى الله أن يتوب عليهم إن
الله غفور رحيم﴾.
8- قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ﴾، وإليه مال المناوي في فيض
القدير واستأنس بحديث ضعيف روي في هذا ، وإليه مال الشوكاني أيضاً في فيض القدير.
9- قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، وهذا القول مروي عن ابن عباس.
قال الحاكم في المستدرك 7751 : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ الْحَافِظُ ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
السَّعْدِيُّ ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، قَالَ:
الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ،
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهُ أَرْجَى عِنْدَكَ ؟
قَالَ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾
فَقَالَ: " لَكِنْ قَوْلُ
إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ: ﴿أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾"
وقال أبو داود في الزهد 290 : نا ابن المثنى ، قال : ني محمد بن جعفر ،
قال : نا شعبة ، قال : سمعت زيد بن علي ، يحدث عن رجل ، عن سعيد بن المسيب ، قال :
اتعد عبد الله بن عمرو ، وعبد
الله بن عباس أن يجتمعا ، قال : ونحن يومئذ شببة
فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في
كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟
قال عبد الله بن عمرو : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾.
قال : فقال ابن عباس : أما إن
كنت تقول أنها
قال فقال ابن عباس : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله فإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم عليه السلام أرني كيف
تحيي الموتى قال ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ
بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾"
هذا في سنده مبهم ولكنه يتقوى بما قبله.
وقال الطبري في تفسيره 5970 : حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق،
قال: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: ﴿ولكن
ليطمئن قلبي﴾، قال: قال ابن عباس: ما في
القرآن آية أرْجَى عندي منها.
في العادة يكون بين أيوب وابن عباس سعيد بن جبير ، والذي يبدو أن هذا الأثر
ثابت.
قال الشوكاني في فتح القدير (1/ 381) :" وأما قول ابن عباس : هي أرجى
آية ، فمن حيث أن فيها الإدلال على الله ، وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك
. ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله : ﴿أَوَلَمْ
تُؤْمِن﴾ أي : أن الإيمان كاف لا يحتاج
معه إلى تنقير ، وبحث".
10- قوله تعالى: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى﴾؛ قال أبو حيان الأندلسي في
بحره المحيط: "وقال ابن عباس هذه أرجى آية في القرآن لأن المؤمن ما كذب وتولى
فلا يناله شيء من العذاب".
أقول : نزه الله ابن عباس عن قول هذا إنما هذا كلام غلاة المرجئة ، وإلا
فقد أن من المسلمين من يدخل النار بذنوبه ولكن لا يخلد فيها.
11- قوله تعالى : ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا
يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا
نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾.
وهذا اختاره الشنقيطي.
قال في أضواء البيان (5/489): "مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ
الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا
لُغُوبٌ﴾.
فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِيرَاثَ
هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا فِي
قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وَبَيَّنَ
أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُ
يَعْصِيهِ أَيْضًا فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ
سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
وَالثَّانِي: الْمُقْتَصِدُ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَا يَعْصِيهِ،
وَلَكِنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ مِنَ الطَّاعَاتِ.
وَالثَّالِثُ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ
وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ
الَّتِي هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ
الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ
أَنَّ إِيرَاثَهُمُ الْكِتَابَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ مِنْهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ
وَعَدَ الْجَمِيعَ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فِي قَوْلِهِ:
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ وَالْوَاوُ
فِي يَدْخُلُونَهَا شَامِلَةٌ لِلظَّالِمِ، وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ عَلَى التَّحْقِيقِ
وَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
حُقَّ لِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّ تُكْتَبَ بِمَاءِ الْعَيْنَيْنِ، فَوَعْدُهُ الصَّادِقُ
بِجَنَّاتِ عَدْنٍ لِجَمِيعِ أَقْسَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَوَّلُهُمُ الظَّالِمُ
لِنَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ
يَبْقَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ خَارِجٌ عَنِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَالْوَعْدُ
الصَّادِقُ بِالْجَنَّةِ فِي الْآيَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَا قَالَ
بَعْدَهَا مُتَّصِلًا بِهَا وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي
كُلَّ كَفُورٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [35 \ 36 - 37].
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي سَبَبِ تَقْدِيمِ الظَّالِمِ فِي الْوَعْدِ
بِالْجَنَّةِ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ
لِئَلَّا يَقْنُطَ، وَأَخَّرَ السَّابِقَ بِالْخَيْرِ لِئَلَّا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ
فَيَحْبَطَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ
أَهْلِ الْجَنَّةِ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ
مَعْصِيَةٌ أَقَلُّ مِنْ غَيْرِهِمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ ".
وهناك أقاويل أخرى تركتها لضعفها وبعدها.
وأقوى الأقوال عندي المروي عن ابن عباس وأبي عثمان النهدي وابن المبارك
فالسلف أعلم ممن بعدهم وأفقه
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم