الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فإن التعصب للرجال داء فتك في الأمة عصوراً متعددة وتجرع ثماره المرة عدد
من المصلحين ، وصبروا لما أصابهم لما صبرهم باريهم ومستغاثهم عند الشدائد ومستعانهم
عند الملمات
وحقيقة داء التعصب تقديم الرجال على الشرع ، وجعلهم في مكان فوق مكان النبي
صلى الله عليه وسلم وشرعه ، فإن الرجال إنما سموا وعلوا بنصرتهم للشريعة فلا يمكن أن
يجعلوا فوق الشريعة فلا تبين أخطاؤهم التي خالفت الشريعة
وقد بدا أن أجمع شيئاً من أخبار المتعصبين وسيرتهم مع المصلحين والمجدديين
، لنثبت به أفئدة عباد الله الموحدين المتبعين ونسليهم عن هذا البلاء الذي حل بهم جراء
خلطتهم بهؤلاء القوم الذين أساءوا للإسلام والسلفية
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/71) :" رَوَى أَبُو الشَّيْخِ
الحَافِظُ، وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ
أتَاهُ جِلَّةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأقبلُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَنْ رَأَوهُ يُخَالِفُ
مَالِكاً، وَيَنْقُضُ عَلَيْهِ، جَفَوهُ، وَتَنَكَّرُوا لَهُ، فَأَنْشَأَ يَقُوْلُ:
أَأَنْثُرُ دُرّاً بَيْنَ سَارِحَةِ النَّعَمْ ... وَأَنْظِمُ مَنْثُوراً
لِرَاعِيَةِ الغَنَمْ
لَعَمْرِي لَئِنْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ ... فلَسْتُ مُضِيعاً بَينَهُمْ
غُرَرَ الحِكَمْ
فَإِنْ فَرَّجَ اللهُ اللَّطِيْفُ بِلُطْفِهِ ... وَصَادَفْتُ أَهْلاً
لِلْعُلُومِ وَلِلحِكَمْ
بَثَثْتُ مُفِيداً وَاسْتفَدْتُ وِدَادَهُم ... وَإِلاَّ فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ
وَمُكْتَتَمْ
وَمَنْ مَنَحَ الجُهَّالَ عِلْماً أَضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ المُسْتَوْجِبِينَ
فَقَدْ ظَلَمْ
وَكَاتِمُ عِلْمِ الدِّيْنِ عَمَّنْ يُرِيْدُهُ ... يَبُوءُ بِإِثْمٍ زَادَ
وَآثِمٍ إِذَا كَتَمْ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ مَنْدَهْ: حُدِّثْتُ عَنِ الرَّبِيْعِ، قَالَ:
رَأَيْتُ أَشْهَبَ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ سَاجداً يَقُوْلُ فِي سُجُوْدِهِ: اللَّهُمَّ
أَمِتِ الشَّافِعِيَّ، لاَ يَذْهَبُ عِلْمُ مَالِكٍ، فَبَلَغَ الشَّافِعِيَّ، فَأَنْشَأَ
يَقُوْلُ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيْلٌ لَسْتُ
فِيْهَا بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلاَفَ الَّذِي مَضَى ... تَهَيَّأْ لأُخْرَى
مِثْلِهَا فَكَأَن قَدِ
وَقَدْ عَلِمُوا لَوْ يَنْفَعُ العِلْمُ عِنْدَهُمْ ... لَئِنْ مِتُّ مَا
الدَّاعِي عَلَيَّ بِمُخْلَدِ"
أقول : الشافعي كان يعظم مالكاً ويجله ولكن لم يبلغ من تعظيمه له أنه يسكت
على خطئه بل فرغ لأخطاء مالك كتاباً كاملاً أسماه ( اختلاف مالك والشافعي ) مطبوع ضمن
الأم ، فما كان ذلك من الشافعي خروجاً عن حدود مع شيخه ، بل كان سائراً على خطى الشيخ
الذي قال : ( كل يؤخذ من قوله ويرد )
ولم يستجب لإرهاب المتعصبين بل قمعهم بكتاب ( اختلاف مالك والشافعي ) ،
ولو عقل هؤلاء المتعصبة لعلموا أن الشافعي كان بين خيارين إما أن يحابي شيخه على حساب
الشريعة ، وإما أن يبين خطأ الشيخ بعلم وأدب ، فلو آثر الخيار الأول لم يكن حرياً أن
يدخل في زمرة أهل السنة فضلاً عن علماء أهل السنة
ولسان حال المتعصب ( اتركوا خطأ شيخي يختلط بالشريعة ولا تبينوه ) ولو
التزم هذا لخرج من الإسلام لا من السنة فقط
ولو سئل المتعصب سؤالاً بريئاً نصه ( هب أن ما إن زوال الجبال الرواسي
أهون عليك من حصوله
- وقد حصل - وغلط هذا الشيخ الذي تتعصب له فما هي الوسيلة المثلى لبيان
غلطه ؟)
عامة المتعصبة ليس عندهم جواب على هذا السؤال لأنهم لا يتصورون هذا ولا
يريدونه ، وأحسنهم طريقة من يذكر قيوداً وضوابط من رأسه لا يعلم عليها دليلاً ، فيزيد
في خسرانه تلك البدع التي يخترعها لكي يتم الخسران
ولو عقل المتعصب لكان بحثه قبل أن ينظر ( هل وافق الشافعي مالكاً أو خالفه
؟)
لو عقل لكان البحث ( هل الحكم
الشرعي الذي قرره الشافعي صواب أم خطأ ؟)
وهل الحديث الذي قال فيه الشافعي
صحيح قاله النبي حقاً ، وهل الحديث الذي ضعفه الشافعي فعلاً ضعيف
هذا الذي يهم كل مسلم قبل النظر فيمن وافق من العلماء أو خالف
فلو جاء شخص اليوم وقال ( هذا الحديث ضعيف ) لكان البحث الذي يهم كل مسلم
( هل فعلاً هو ضعيف ولم يقله صلى الله عليه وسلم ) ثم ننتقل إلى مخالفة من خالف أو
موافقة من وافق فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من مقام العلماء
إذا فهمت أمكنك الإجابة على شبهة المتعصبة التي صرحوا بها بتقديم أعراض
آحاد العلماء على الشريعة
وهي قولهم ( إذا تعقب العالم الفلاني
فإن ذلك ربما أفرح بعض أهل الأهواء ) وهذه مفسدة متوهمة
تدفع بأن يقال ( أننا إذا سكتنا
على غلط العالم فإن غلطه سيختلط بالشريعة ) وهذه مفسدة عظمى لا تقارن بالمفسدة التي
توهمت
ولو كانت بعض العقول حاضرة في زمن الشافعي لاتهموه أنه أفرح أهل الرأي
في الرد على مالك
لأن أهل الرأي هم من كانوا يردون على مالك ويحبون غلطه فألف محمد بن الحسن
( الحجة على أهل المدينة ) في النقض على مالك وقد رد عليه الشافعي فأحسن
وباب الشافعي غير باب أهل الرأي
فإنه لما نافح عن مالك نافح ديانة ولما رد عليه رد ديانة
ما كان في الأولى متملقاً ولا في الثانية متطلباً لعثرة يثلب بها الإمام
ولو عقل المتعصبون لعلموا أنه خيرٌ لمالك أن يرد عليه ويبين غلطه رجلٌ
محب له بار به ، من أن يقف على غلطه حاقد موتور يشنع في غير موضع التشنيع
ولو عقلوا لعلموا أن الشافعي أولى بمالك منهم ، فإن مالكاً قد خالف جماعة
ممن تقدمه
ولما لم تعجبه فتاوى ربيعة الرأي
هجر مجلس ربيعة كما ذكر ذلك الليث بن سعد في رسالته إلى الإمام مالك التي رواية ابن
معين في تاريخه رواية الدوري
فالشافعي موافق لمالك في منهجه
( كل يؤخذ من قوله ويرد ) وهم مخالفون له في المنهج وإن وافقوه في الفروع فلم يحيدوا
عن قوله قيد أنملة
ومما وكّد عند الشافعي ضرورة الرد على مالك ما رآه من تعصب أصحابه له
والغلط الذي يتعصب له الناس مظنة
بقاء وانتشار فلا بد للأخيار أن يواجهوه بلا تردد ولا جمجمة
مهما علا كعب المردود عليه فالحق
أحب
وتأمل دعاء أشهب على الشافعي بالموت لعجزه عن الرد عليه ، وتعليله ب(ألا
يموت علم مالك ) هذا التصور الفاسد الذي يطارد أذهان المتعصبة في كل زمان فيظنون أن
بيان أغلاط العالم سيميت علمه ويسقطه
وها قد رد الشافعي على مالك رداً
نافعاً ولا زال مالك مالكاً !
ويا ليت شعري ما يريد بقوله ( علم مالك ) إن أراد علمه بالكتاب والسنة
فهذا لا يمحوه الشافعي ولا أهل الأرض جميعاً إلا أن يشاء الله
وإن أراد ما غلط فيه فهذا لو كان
مالك حياً لكان أول الساعين في محوه والقضاء عليه عند تبين الأمر له
وتأمل قول الشافعي (وكَاتِمُ عِلْمِ الدِّيْنِ عَمَّنْ يُرِيْدُهُ ...
يَبُوءُ بِإِثْمٍ زَادَ وَآثِمٍ إِذَا كَتَمْ) ، فهو يقول للمتعصبة لئن كان داء التعصب
قد سكن قلوبهم وتمكن منها حتى تحجرت ورفضت العلم ، فغيركم طالبٌ لبيان المسائل التي
غلط فيها مالك ليكون على بينة من أمر دينه
وعند المتعصبة بضاعة مزجاة يروجون بها أمراضهم ، وهي بضاعة التحقير للمخالف
والتعظيم لشأن الإمام الذي يتعصبون له حتى يخرجوا عن القصد في هذا وفي ذاك .
ويقال للمتعصب عظم ما شئت وحقر ما شئت فلن تخرج المعظم إلى دائرة العصمة
، ولن تدخل المحقر إلى دائرة الغلط دون بينة علمية ، وكل يؤخذ من قوله ويرد .
فإن كان الأمر تقليداً فقلد ما شئت ، ولا تلزم غيرك بتقليد من تقلد فإن
له أقراناً وعلماء سبقوه.
و ما عندك كتاب منير ، على أن مقلدك أولى من غيره بهذا التقليد ، إن تتبع
إلا الظن
وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً .
وإن كان الأمر مقارعة للحجة بالحجة فدع التحقير والتعظيم والبس لامة الحرب
وانزل للنزال
ونصيحتي أن تشتري حنوطاً وكفناً فلست بساحات الوغى بخبير !
والآن إلى الخبر الثاني من أخبار المتعصبين
قال ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس (1/108) :" وبقيِّ بن مَخلَد
مَلاَ الأندلس حديثاً ورِواية
وأنكر عليه أصحابه الأندلسيون:
عبد الله بن خالد، ومحمد بن الحارث، وأبو زيد ما أدخله من: كُتْب الاخْتلاف وغَرائب
الحَديث وأغْرُوا به السلطان وأخافوه به. ثمَّ ان الله بمَنَّه وفَضله أظهره عَليهم،
وعَصَمه مِنهم. فنشر حديثه، وقرأ للنَّاس رِوايته. فمنْ يومئذ انتشر الحَديث بالأندلس.
ثمَّ تَلاه آبن وضَّاح فصَارت الأندلُس دار حَديث وإسناد؛ وإنما كان الغَالِبُ
عليها قبل ذلِك حِفْظ رأي مالك وأصحابه"
فهذا بقي بن مخلد رحل إلى المشرق وحصل الحديث ، فجاء ينشر العلم في بلده
الأندلس .
فجاء خفافيش الظلام متحجري القلوب ينكرون نشر الحديث والأثر ، ويؤثرون
رأي مالك على الأثر .
ولو رآهم مالك لاستتابهم كما يستتاب أهل الردة .
وأحسب أن في الأمر داءً دفيناً ، وهو أنهم حفظوا رأي مالك ونبغوا في ذلك
وصار إليهم المرجع في هذا الأمر فلما جاء بقي بن مخلد بالأثر علموا أن الناس سينكفون
من حولهم ولن يرغبوا كثيراً بما عندهم
أو لعل بقياً سيصير أعظم مكانة منهم ، فأظهروا حربه في قالب تعظيم الإمام
مالك !
وأحسب أن بضاعتهم في تلك الحرب الخسيسة ( هذا يخالف مالك ) ولو أنصفوا
لقالوا ( هذا يزعم أن مالكاً خالف الأثر في المسألة الفلانية فأخذ بالأثر وترك قول
مالك ) أو قالوا ( هذا يخالف مالك ويأخذ بقول ابن عمر أو قول ابن عباس )
كما أن المتعصبة اليوم غاية ما عندهم ( هذا يخالف الشيخ فلان ) ولو أنصفوا
لقالوا ( هذا يخالف الشيخ فلاناً ، يوافق الإمام فلاناً ! ) أو ( هذا يخالف الشيخ فلاناً
وحجته كذا وكذا )
والمرء إذا عدد لك الحجج فهذا معناه أنه يحترمك ويريد أن يسمو بك إلى مصاف
العقلاء الذين يتم إقناعهم عن طريق جمع الحجج وعرضها عليهم ، ولكن بعض الناس يأبى إلا
أن يصير بهيمة تقاد
ولا شك أن بقياً كان مثلهم قبل الرحيل إلى المشرق فلما رحل ورأى العلم
آثر الحق على الخلق ولسان حاله يقول (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)
ولسان حالهم يقول : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ
فِي مِلَّتِنَا)
والآن مع الخبر الثالث من أخبار المتعصبين
قال ابن حجر في الدرر الكامنة (1/ 241) :" سليمان بن يوسف بن مفلح
بن أبي الوفاء الياسوفي صدر الدين الشافعي ولد سنة 739 تقريباً ونقله أبوه إلى مدرسة
أبي عمر بالصالحية فقرأ بها القرآن وحفظ التنبيه ومختصر ابن الحاجب وأقبل على التفقه
وأخذ عن العماد الحسباني والموجودين من أعلام الشافعية وتمهر حتى كان يقول كنت إذا
سمعت شخصاً يقول أخطأ النووي أعتقد أنه كفر"
فهذا الرجل يعترف على نفسه في زمن الجهل أنه كان إذا سمع رجلاً يقول (
أخطأ النووي ) يعتقد أنه كفر.
لأنه ما عرف من العلم إلا تنبيه النووي
وهذه من أسباب التعصب أن المرء
يغيب عن عامة العلماء ويعكف على عالم واحد فإذا رأى من يخالفه اكفهر وتمعر لذلك وظن
أن هذا المخالف قد هجم على الثوابت .
فتصير اجتهادات هذا العالم في باب الحديث أو باب الفقه بمنزلة العقائد
التي لا تقبل النقاش أو التشكيك
والذي يتعصب لأخطاء العلماء هو شر من الحزبي الذي يبايع على السمع والطاعة
المعروف .
فإن الحزبي يسمع ويطيع فيما يراه معروفاً ، وهذا يقلد العالم على الخطأ
والزلة ويتعصب لذلك
وفي المقابل من هؤلاء قوم صاروا يحاولون التمحل من أحكام العلماء المدللة
على جماعة من أهل الأهواء بقولهم ( الشيخ فلان ليس معصوماً ) ويا ليت شعري من ادعى
له العصمة ولو كنا ندعي العصمة لما اشترطنا تفسير الجرح عند معارضة ليرجح
والمتعصب أقرب إلى الكفر من غير المتعصب
إذ أن المتعصب منتقص من مقام النبي
صلى الله عليه وسلم بل ومن الشريعة أجمع فقول بعض المتعصبين ( لا تبينوا خطأ الشيخ
فلان حفاظاً على عرضه ) ، مضمونه أن عرض هذا العالم أجل من الشريعة التي سيدخل فيها
ما ليس منها ، وأجل من النبي صلى الله عليه وسلم الذي سينسب إليه ما لم يقل
ولو تفوه المتعصب بهذا اللازم
لكان واقعاً في الكفر
والبراءة من هذا لا تكون بمجرد الدعوى بل تكون بذكر منهج واضح صريح في
التعامل مع زلات هذا العالم
وقد قلت لأحدهم وقد أخذ ينافح
عن العالم الذي يتعصب له ويحط على علماء المسلمين في كل عصر ( ائتني بخمسة أحاديث تخالف
فيها العالم الذي تنافح عنه حتى أقتنع أنك لست متعصباً ) !
والآن مع الخبر الرابع من أخبار المتعصبين
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (23/ 224) :" 143 - ابْنُ عَدِيٍّ
حَسَنُ بنُ عَدِيِّ بنِ أَبِي البَرَكَاتِ الكُرْدِيُّ *
الشَّيْخُ الكَبِيْرُ، المَدْعُو بِتَاجِ العَارِفِيْنَ حَسَنُ بنُ عَدِيِّ
بنِ أَبِي البَرَكَاتِ بنِ صَخْرِ بنِ مُسَافِرٍ شَيْخُ الأَكْرَادِ، وَجَدُّهُ هُوَ
أَخُو الشَّيْخ الكَبِيْر عَدِيّ.
كَانَ هَذَا مِنْ رِجَالِ العَالَم دَهَاءً وَهِمَّةٍ وَسُمُوّاً، لَهُ
فَضِيْلَةٌ وَأَدَبٌ وَتَوَالِيْفُ فِي التَّصَوُّفِ الفَاسِدِ، وَلَهُ أَتْبَاعٌ لاَ
يَنْحَصِرُوْنَ وَجَلاَلَةٌ عَجِيْبَةٌ.
بَلَغَ مِنْ تَعْظِيْمِهِم لَهُ أَنَّ وَاعِظاً أَتَاهُ فَتَكَلَّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَبَكَى تَاجُ العَارِفِيْن وَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ كُرْدِيٌّ، وَذَبَحَ
الوَاعِظَ، فَأَفَاقَ الشَّيْخُ، فَرَأَى الوَاعِظَ يَخْتَبِطُ فِي دَمِهِ، فَقَالَ:
أَيشٍ هَذَا؟
فَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ الكِلاَبِ حَتَّى يُبْكِي سَيْدِي
الشَّيْخ"
من هذا حتى يبكي الشيخ ؟!
ومن هذا حتى يخالف الشيخ في مسألة اجتهادية ؟
أليستا قد خرجتا من مغارة منتنة واحدة ، مغارة التعصب وبطر الحق وغمط الناس
والآن مع الخبر الخامس من أخبار المتعصبين
قال مرعي الكرمي في الشهادة الزكية ص32 :" وَهَذِه الْقِصَّة ذكرهَا
الْحَافِظ الْعَلامَة ابْن كثير فِي تَارِيخه وَهِي أَن أَبَا حَيَّان تكلم مَعَ الشَّيْخ
تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فِي مَسْأَلَة فِي النَّحْو فَقَطعه ابْن تَيْمِية فِيهَا
وأكزمه الْحجَّة فَذكر أَبُو حَيَّان كَلَام سِيبَوَيْهٍ فَقَالَ ابْن تَيْمِية يفشر
سِيبَوَيْهٍ أسيبويه نَبِي النَّحْو أرْسلهُ الله بِهِ حَتَّى يكون مَعْصُوما سِيبَوَيْهٍ
أَخطَأ فِي الْقُرْآن فِي ثَمَانِينَ موضعا لَا تفهمها أَنْت وَلَا هُوَ قَالَ وَكَانَ
ابْن تَيْمِية لَا تَأْخُذهُ فِي الْحق لومة لائم وَلَيْسَ عِنْده مداهنة وَكَانَ مادحه
وذامه فِي الْحق عِنْده سَوَاء"
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي في الرد الوافر ص65 :" وقرأ شيخنا أيضا
على ابي حيان أحاديث عدة من مروياته في يوم الأحد سادس ذي الحجة من السنة
وأوقف أبا حيان على هذه الأبيات التي مدح بها الشيخ تقي الدين عرضها عليه
فقال قد كشطتها من ديواني ولا أثني عليه بخير وقال ناظرته فذكرت له كلام سيبويه فقال
يفشر سيبويه قال يعني ابا حيان وهذا لا يستحق الخطاب انتهى"
سبب شدة ابن تيمية على سيبويه ما رآه من تعصب أبي حيان له
وداء التعصب داء عضال يبلغ المفصل
والعضل ، وآخر العلاج الكي
وتأمل قول ابن تيمية (أسيبويه
نَبِي النَّحْو) وهذه قالها شيخ الإسلام بعد أن أبطل كلام الرجل بالأدلة ولا شك ، وقد
بين له شيخ الإسلام أن سيبويه ليس بتلك الجلالة التي يتصور بحيث يكون قوله حجة مجردة
واستحب أبو حيان العمى على الهدى
واليوم ظهر لنا نوع جديد من التعصب فريد من جنسه وهو التعصب لعالم معاصر
وإهمال - بل بغض - كلام كل عالم يخالف هذا العالم سواءً كان متقدماً أو متأخراً أو
معاصراً
والحجة عند هؤلاء في أنه وقف على ما لم يقف عليه غيره ، ولا يجوز في عقولهم
أن يقف غيره على ما لم يقف عليه هو , كما وقف
هو على ما لم يقف عليه غيره !
وقد قلت مرةً لبعض الإخوة مصوراً له حال هؤلاء الإخوة ( الشيخ فلان عند
الإخوة أعلم الأولين والآخرين في الفن ) فتعجب من قولي واعتبره تحاملاً
ولكنه لو نظر وجدهم لا يعنون بكلام
أحد غيره ، وكل من خالفه متعجل سواءً بحجة أو بغير حجة
وافق من وافق من الأئمة فهم فانون عن موافقته لبعض العلماء
وربما لجل العلماء وفانون عن أدلته وشاهدون لمخالفته للعالم الذي يتعصبون
له فقط!
فهذا ( فناء المتعصبين ) ! و( وحدة شهودهم )!
وقلت مرةً في هذا العالم الذي له يتعصبون ( وهمه قليل ) فأثارت حفيظة الإخوة
حتى حذف الموضوع
واعتبروا تلك إساءة بليغة لمقام الشيخ ! ، لا تصلح أمام العامة
والسؤال هنا : ما ثم إلا وهم كثير أو وهم قليل أو عصمة مطلقة !
فإذا كان الوهم القليل طعناً فالوهم
الكثير أبلغ في الطعن ، فما بقي إلا العصمة فهل هذا الذي يريدون إيصاله للعامة
وقد طعنت أنا فيه فكان مصير موضوعي
الحذف ؟!
والاعتراف بالفضل لا يعني غمط بقية الناس أو الدعوة المبطنة إلى إغلاق
باب الاجتهاد والبحث ، أو التغافل عن الأغلاط خصوصاً فيما يمس كل إنسان مسلم كمسائل
الاعتقاد و الحلال والحرام وصحة الأحاديث وضعفها فهذه مسائل تهم كل إنسان يريد أن يعرف
هل هذا الاعتقاد صحيح
وهل هذا الفعل يجوز أو لا يجوز
وهل تصح نسبة هذا الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا تصح
وقد بلغ الغلو والتعصب في بعضهم أنه يتهدد بالتضليل لمن يخالف العالم الذي
يتعصب له
وماذا لو كان مخالفك على صواب
، أفيجوز تضليل المصيب في أي مسألة من مسائل العلم
وإن لم تكن جازماً بغلطه بالحجة العلمية فليس لك الكلام لكي لا تكون كمن
قال الله فيهم (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ)
ولو غلط في مسألة من مسائل الفقه الاجتهادية أو الحديث الاجتهادية فلا
يحملك تعصبك على الهجوم بالتضليل بالجهل والظلم ، فهذا عين الغلو الذي يحاول بعضهم
إلصاقه بإخوانه ظلماً وبهتاناً
بل لو كان الأمر تضليلاً لكان مخالفك أولى بتضليلك منك بتضليله لأن بدعة
التعصب ضلال عريض
ومن كان معه الحجة هو أولى بإلزام
خصمه ولو كان مع خصمه إمام معتبر
ولو كان مجرد المخالفة طعناً لألزمك هو بالطعن في عامة من وافقه من العلماء
وجعلك وريثاً شرعياً لابن أبي قتيلة ومقال أحمد فيه معروف
خصوصاً مع اللوثة الغريبة التي
ظهرت من التنكر لعلماء المسلمين المتقدمين
حتى صار ذكر كتب العلل من علامات أهل البدع عند بعضهم !
وذم التعصب لعالم ما , لا يعني الحط عليه فهذا ابن عباس يقول ( أراهم سيهلكون
أقول قال رسول الله ويقولون قال أبو بكر وعمر ) وما أراد الحط على أبي بكر وعمر وإنما
أراد تبكيت القوم
وقال أحمد : ( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون لقول سفيان ) ولا
شك أنه ما أراد الحط على سفيان
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد :" الرابعة:
تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بسفيان" يريد فكيف بمن هو دونهم
وقد يكون العالم المذكور نفسه ضالاً غير مستحق للتوقير فضلاً عن التعصب له الذي لا يستحقه الإمام في السنة فضلاً عمن هو دون ذلك ولكل مقام مقال
وقد يكون العالم المذكور نفسه ضالاً غير مستحق للتوقير فضلاً عن التعصب له الذي لا يستحقه الإمام في السنة فضلاً عمن هو دون ذلك ولكل مقام مقال
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم