الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
قال ابن حزم في الإحكام (6/ 839) : قد حدثنا أحمد بن عمر العذري، ثنا علي
بن الحسن بن فهر، ثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي، ثنا جعفر بن محمد الفريابي،
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد
الله، إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم:
حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا، وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا،
ونأخذ بقول إبراهيم.
قال مالك: صح عندهم قول عمر ؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم.
فقال مالك: هؤلاء يستتابون.
وهذا إسناد صحيح فأحمد بن عمر العذري مترجم في سير أعلام النبلاء
(18/567)
وأما علي بن الحسن بن فهر فهو علي بن الحسن بن علي بن العباس بن محمد بن
فهر أبو الحسن الفهري المصري له كتاب في فضائل مالك مترجم في تاريخ الإسلام للذهبي
(28/ 502)
وأما محمد بن أحمد الذهلي فثقة مترجم في سير أعلام النبلاء (16/ 205)
وأما جعفر الفريابي فثقة مترجم في سير أعلام النبلاء (14/94)
والبقية معروفون ، وقول مالك هذا فيمن قدم قول النخعي على قول عمر ، ولا
شك أن مالكاً لا يعني من ترك قول عمر لسنة ثبتت عنده ، وإنما يعني من قدم قول التابعي
على قول عمر دون نص ، فهذا لم يعرف قدر الصحابة
وأوقح منه من يقدم كلام بعض المعاصرين على كلام الصحابة ، بل بعضهم يشترط
للأخذ بقول الصحابي أن يقول به معاصر وهذا القول بدعة في الدين وجرأة عظيمة على السلف
وكيف لو رأى مالك من يقول لا آخذ بكلام ابن عباس وابن مسعود في التفسير
لأنه يخالف ظاهر القرآن !، وأنا آخذ بكلام المعاصرين
وجمع كلام المعاصرين متعذر ، وإحسان ظننا بهم يقتضي أنهم لا يدعون مقالات
السلف بالجملة
وقد استبعد شيخ الإسلام ثبوت إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة فكيف
بمن يزعم إجماع المعاصرين على خلاف قول أحد الصحابة أو عامتهم ، أو خلاف السلف أو عامتهم
قال شيخ الإسلام في الفرقان بين الحق والبطلان ص222 :" وإذا قيل
: قد أجمع التابعون على أحد قوليهم فارتفع النزاع
فمثل هذا مبني على مقدمتين :
إحداهما : العلم بأنه لم يبق في الأمة من يقول بقول الآخر وهذا متعذر
الثانية : أن مثل هذا هل يرفع النزاع ، فيه خلاف مشهور ، فنزاع السلف يمكن
القول به إذا كان معه حجة ، إذ النصوص على خلافه ، ونزاع المتأخرين لا يمكن حصره لأن
كثيراً منه قد تقدم الإجماع على خلافه كما دلت النصوص على خلافه ، ومخالفة إجماع السلف
خطأ قطعاً "
أقول : في كلام شيخ الإسلام هذا عبرة لمن يقول ( أجمع العلماء بعد القرن
السادس على كذا ) وكأنه حصر مؤلفات المسلمين في تلك الحقبة كلها ، وإذا كان حصر كلام
التابعين عسير فكيف يكون حصر كلام الناس في تلك الأزمنة ممكناً ، ومثل هذا الكلام يقولونه
في محاولة إبطال خلاف سفيان والأوزاعي وأحمد في بعض المسائل والله المستعان على الجرأة
وحصر كلام المعاصرين أعسر وأعسر ولو فرضنا أنهم أجمعوا على خلاف قول لأحمد
بن حنبل لم يكن ذلك رافعاً لخلافه إذا جاء من رأى الدليل معه
وتسمية مخالفة المتأخر للمتقدم ( فهماً لكلام المتقدم ) من التحريف البارد
، ولو طردنا ذلك لجاز للأشعري والصوفي أن يأتي بكلام علمائه الذي يخالف كلام السلف
فإذا احتججت عليه بكلام السلف قال لك ( علماؤنا اطلعوا وهم أعلم منك بكلام الأئمة وفهموه
على خلاف فهمهك )
وكلام السلف ليس خلواً للمعاصرين فقط بل شرحه كثير ممن جاء بعدهم فنص مالك
المذكور يقول فيه ابن القيم في إعلام الموقعين (2/201) :" وقد صرح مالك بأن من
ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب فكيف بمن ترك قول الله ورسوله
لقول من هو دون إبراهيم أو مثله.
وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم بن جميل
قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم ثنا فلان
عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم بكذا ويأخذ بقول إبراهيم قال
مالك: وصح عندهم قول عمر قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك: هؤلاء
يستتابون والله أعلم"
ورد كلام السلف بدعوى إجماع المتأخرين أو المعاصرين على خلافه في الغالب
يكون دعوى فارغة ناشئة عن عدم الاطلاع
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/30) :" وقال عبد الله بن أحمد
بن حنبل: "سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كاذب من ادعى الإجماع
فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا"
هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكنه يقول: "لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني
ذلك" هذا لفظه ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر
أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ولو ساغ لتعطلت
النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص
فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع لا ما يظنه بعض الناس أنه
استبعاد لوجوده"
وقد ضلل من ضلل شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الطلاق ثلاثاً وطلاق الحائض
ومسألة الاكتفاء بطواف واحد للمتمتع وغيرها من المسائل ( ومسائل الطلاق الصواب فيها مع مخالفه والمقصود ضرب المثل )
قال ابن عثيمين في الأصول من علم الأصول :" 1 - أن يثبت بطريق
صحيح، بأن يكون إما مشهوراً بين العلماء أو ناقله ثقة واسع الاطلاع.
2 - أن لا يسبقه خلاف مستقر، فإن سبقه ذلك فلا إجماع، لأن الأقوال لا تبطل
بموت قائليها.
فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق، وإنما يمنع من حدوث خلاف، هذا هو القول
الراجح لقوة مأخذه، وقيل: لا يشترط ذلك فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال
السابقة"
وأما اشتراط أن يقول به معاصر فهذا لم يقل به أحد من العالمين ، والإحاطة
بأقوالهم عسيرة والإحاطة بكلام السلف أيسر
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (19/202) :" وَمَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ
قَدْ تَتَعَذَّرُ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا فَمَنْ ذَا الَّذِي يُحِيطُ بِأَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ
؟ بِخِلَافِ النُّصُوصِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا مُمْكِنَةٌ مُتَيَسِّرَةٌ "
ثم هذا المشترط نفسه إذا أتيته بكلام معاصر اشترط أن يكون الجمهرة من المعاصرين
على قولك وصار يحتج بأقوال البقية فرداً فرداً وهذه طريقة محدثة في البحث العلمي ،
بل بلغ الغباء ببعضهم أنه كلما سمع من يثني على الأوائل ظن أنه يذم المتأخرين جملة
حتى أنك لو قرأت كلام ابن تيمية السابق دون أن تخبره أن ابن تيمية القائل لحام على
تضليك ، وأصل السلفية مبنية على اعتقاد فضل علم السلف على علم الخلف المأخوذ من عدة
نصوص من أظهرها قول النبي صلى الله عليه وسلم ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم ) ولا يعني هذا إبطال حديث ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين
) فإن هذه الطائفة إنما ظهرت بالحق الذي ورثته عن المتقدمين ولذا تصير في زمان غربة
في الأزمنة المتأخرة
قال شيخ الإسلام في القواعد النورانية ص130 :" فالمجتهد المحض مغفور
له أو مأجور وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة
وهوى فهو مسيء وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب وبحسب الحسنات الماحية
و أكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك"
فتأمل قوله ( وأكثر المتأخرين ) وما فيه من الدلالة على فضل السلف ، ولا
يعني ذلك بطر حق المتبعين من الخلف ولكن العلم في أزمنة السلف أظهر والغلط فيهم أقل
والهوى عنهم أبعد والإنصاف فيهم أظهر ، وعباراتهم جلية مفهومة يوضح بعضها بعضاً وهي
شرح لما في الكتاب والسنة من العلوم ، وإن كان في النظر في آثارهم ضرر ومحظور فالنظر
في كلام من بعدهم إلى الخطر أقرب ، ومن زعم أن كلام الخلف أهدى من كلام السلف فقد جاء
منكراً من القول وزوراً وعمد إلى السلفية وضربها في أصلها
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم