الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما
بعد :
فقد اعتدنا على أن نسمع السؤال بصيغة
( الحرية أم الشريعة ) ؟
ولكن هذا التفكير نمطي جداً وهو
طريقة وسائل الإعلام التي تحاول حصرك في مربع معين لا تخرج منه وتوهمك بأنك متحرر
، والواقع أن الشريعة اليوم سلطانها في البلاد لا يضاهي سلطان الرأسمالية
والديمقراطية
ولهذا التفكير الحر يقتضي إخضاع
الديمقراطية والرأسمالية للنقد والمساءلة قبل الحديث عن الشريعة
سؤال الحرية أم الديمقراطية !
سؤال وجيه غاية فماذا لو صوت
البرلمان على قانون يمنع من التعرض للذات الإلهية أو الأمير أو يمنع الزنا أو يمنع
الزواج قبل سن العشرين مثلاً أو أراد تحكيم الشريعة
هل تقدم إرادة الشعب أو برلمانه أم
تقدم الحرية على أنها قيمة مطلقة ويعتبر هذا القانون وإن صوت عليه البرلمان غير
أخلاقي ؟
إذا كان الخيار الأول فهذا يوقعنا في
مأزق كبير بالنسبة للقوى العلمانية فماذا لو اختار الشعب تحكيم الشريعة حرفياً
والفاشية جاءت من رحم الديمقراطية والنازية جاءت من رحم الديمقراطية وأحزاب اليمين
المتطرفة قوية ويمكن أن تحكم في عدد من البلدان ضمن نظام ديمقراطية
ولا يحق لأحد الاعتراض لأنه لا صوت
فوق صوت الشعب !
وأما الخيار الثاني فمعناه أن الحرية
قيمة مطلقة مقدمة حتى على إرادة الشعب وهنا كيف يمكنهم الاعتراض على تقديم الشريعة
كقيمة مطلقة على إرادة الشعب وأن إرادة الشعب ينبغي أن يكون حيزها في غير ما فيه
نص واضح لا يجوز مخالفته فيكونون قد وقعوا فيما ينعونه على الإسلاميين
ثم في حال النزاع بين السلطة
التشريعية والسلطة التنفيذية إنما تحكم بينهم السلطة القضائية والسلطة القضائية لا
تنتخب ولا تتغير وإنما تختار بناءً على معايير الكفاءة
فما وجه الاعتراض على وجود أهل حل
وعقد من الفقهاء والقضاة كما كان قديماً قولهم مقدم في النزاعات ؟
والقضاء هنا صوته فوق صوت ممثلي
الشعب إذا حكم بعدم دستورية قانون يقترحونه فالدستور لهم صار كالوحيين للفقيه وما
خالف الدستور ولو مثل إرادة الشعب فإنه يطرح
ومما نقض أصل لا صوت فوق صوت الشعب
ما حصل في بعض البلدان حين رد قانون
ساب النبي صلى الله عليه وسلم بحجة أنه مخالف للدستور مع تصويت أكثر البرلمان عليه
في الواقع ستجد القوم متخبطين في مثل
هذه السياقات وذلك لأنهم جعلوا الغرب المسطرة التي يقاس عليها لا يكادون يخالفون
الغرب في أي قيمة علماً أن العلاقة بين السلطات الثلاث تختلف في النموذج الأمريكي
عنها في النموذج الفرنسي عنها في النموذج البريطاني عنها في النموذج السويسري
وأنصار كل نموذج ينتقدون النماذج الأخرى وربما رموها بأنها طريق للدكتتاورية
بالطبع كثير من بني جلدتنا لو خيرته
بين هذه النماذج لما عرف الفرق بينها أصلاً ولسان حاله أريد أن أقلد الغرب وكفى !
وعند الكلام عن الغرب نجد أن كثيراً
من المعلومات عن النهضة الغربية معلومات مغلوطة أو خضعت لتحريف
من أهم ذلك حادثة جاليليو مع الكنيسة
ولكن قبلها لا بد من إيضاح هام
التاريخ الأوروبي القديم تاريخ مسيحي
( نصراني )
والنصرانية ليس عندها ميراث جدلي
فلسفي خاص وإنما تراث المسيح مواعظ ومعجزات وحكم كما أن بولس قد عطل الشريعة
القديمة فأتيح المجال للقبول بأي قوانين وضعية
ولسد الفراغ في التراث الفلسفي انقسم
النصارى إلى قسمين قسم أفلاطوني رواقي وقسم أرسطي والقسم الأرسطي منقسم إلى أقسام
أشهرهم الأرسطي الرشدي ( يعني أرسطو بحسب شرح ابن رشد )
وصاروا ينظرون للأخلاق والعلوم
والجدل العقدي من منظور فلسفي يوناني أناس منحازون للنظرة الأفلاطونية الرواقية
وأناس منحازون للنظرة الأرسطية وبالطبع أرسطو كان أكثر كلاماً من أفلاطون في
العلوم الطبيعية لهذا كان لمدرسته قوة
وقد لفق توما الأكويني بين النصرانية
والأرسطية وتبعه الناس على ذلك قرون
والكنيسة لم تكن كما يظن كثيرون تحافظ
على التراث المسيحي فحسب وإنما كانت أيضاً تدافع عن التراث الأرسطي أيضاً ولكثير
من رجالات الكنيسة سبب في العلوم الطبيعية بحسب النظرة الأرسطية ولا شك أنه كانت
تتم هناك تعديلات وبعض التعقبات ولكن السطوة كانت لأرسطو
بدأ الأمر مع كوبرينكس الذي اقترح
نموذج مركزية الشمس بدلاً من النموذج السائد بمركزية الأرض
قال رونالد سترومبرج في كتابه تاريخ
الفكر الأوروبي الحديث :" في عام 1543 نشر العالم البولندي الألماني نيقولا
كوبيرنيكوس كتابه المعروف باسم دورات الأجرام السماوية مفترضاً فيه المركزية للشمس
وقائلاً أن الأرض والكواكب الأخرى هي في حال حركة ودوران حول الشمس ، ناقضاً بذلك
النظرية المسلم بها والمقررة أن الأرض ثابتة لا تتحرك وأن جميع الأجرام تدور حولها
في سلسلة من كواكب سيارة ( وقد تداول بعض العلماء مخطوطة هذا الكتاب قبل نشرها
ببضع سنين ) وهناك عدد من الأساطير التي تحيط بالانجاز الحقبي الذي حققه
كوبيرنيكوس ونحن هنا سنتكفي بذكر أسطورتين من تلك الأساطير ، وتقول أولاها أو
كوبيرنيكوس لم يكن أول فلكي افترض المركزية الشمسية ، إذ أن عدداً من العلماء
المشهورين في عصور العتاقة قد سبقوه إليها ، وإن أبرز أولئك جميعاً هو آرستارخوس
الإغرايقي السكندري الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد والذي يعتبر كوبرنيكوس
العصور القديمة زد على ذلك جدلاً حاداً دار بين أتباع أفلاطون وأتباع أرسطو حول
هذا الموضوع بالذات ، كما أن انبعاث الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة في عصر
النهضة كان له أعمق الأثر في تفكير علماء فلك كبار مثل كوبيرنيكوس وكبلر وجاليليو
وحتى فرنسيس بيكون نفسه انعطف عن أرسطو إلى أفلاطون ، زد على ذلك أن رجل الكنيسة
الألماني نيقولا كوسا الذي عاش في القرن الخامس عشر كان يحدس بدوران الأرض في كون
لا متناهي ، وقد استمد نظريته تلك من الأفلاطونية
ومزجها بصوفيته الدينية
أضف إلى ذلك أن النظرية القائلة
بمركزية الأرض والتي كانت النظرية السائدة طوال قرون ، لم تكن ترتكز إلى الخرافة
المحضة ولا إلى التحيز اللاهوتي بل ارتكزت إلى بدا أقوى دليل وأسطع برهان فنظرية
نشأة الكون التي اعتقد بها علماء القرون الوسطى نظرية اشتقت عن أرسطو عن بطليموس
العالم الفلكي المصري في العصر الهيليني ، الذي مع أنه اختلف مع أرسطو في أمور
شكلية لكنه كان متفقاً معه على القواعد الأساسية فالأرض كما بدا لهم تقف ثابتة
ودون حراك في مركز الكون ، إذ خيل لهم أن جرما له وزن الأرض وثقلها لا يمكن أن
يكون في حال حركة دائمة دون أن يكون له محرك فالقدماء لم يستطيعوا ادراك قانون
القصور الذاتي العطالة الأمر الذي نستطيع فهمه بيسير وذلك لأن أجراماً ضخمة تدور
في الفضاء ( الفراغ ) وتحافظ على مساراتها دون أن يحركها محرك ويرشدها مرشد لفكرة
استثنائية وتشير على الأقل شيئاً من الاستغراب وهكذا كان من المتوجب على العباقرة
في ميادين العلم أن يبذلوا من الجهود أشقها كي يبلغوا بالبشرية الاقتناع بمركزية
الشمس ودوران الأرض "
ثم تحدث عن استخدام كوبرنيكس للخيال
الصوفي واستدلاله على نموذجه بأنه الفعل الأنسب للإله وأنه كان خجلاً من نشر بحثه
لئلا يكون محط سخرية بسبب قلة الأدلة
إذن النموذج حين قدم لأول مرة كان
رفضه له أسباب علمية واضحة وأنه أصالة جاء من رجال متدينين
ثم لنبحث في شأن جاليليو والذي لما
كتبت مقالي خرافات علمانية ذكرت أنه لم يحرق فعلق بعض الناس مستنكراً هذا !
والحق أن قصة هذا الرجل اكتنفتها
أساطير كثيرة
والرجل كان مؤمنا بالكتاب المقدس
والكنيسة لم تحرقه وإنما نفته بل يتفق الباحثون الجادون على أن سبب حنق الكنيسة
عليه أنه لم يطرح نظريته كنظرية بل طرحها كحقيقة ينبغي حمل الكتاب المقدس عليها
قال يوسف بطرس كرم في كتابه تاريخ
الفلسفة الحديثة :" وما كاد يستقر فيها حتى صدر كتاب لأحد علمائها "في
الفلك والبصريات والطبيعيات" " 1611 " يتهمه بمخالفة التأويل
السلفي للكتب المقدسة, فرد عليه جليليو في 21 ديسمبر 1612 برسالة موجهة إلى الراهب
البندكتي كاستلي، أستاذ الرياضيات بجامعة بيزا الذي كان يقول بدوران الأرض، ودفع
التهمة بتأويل النصوص الكتابية المعترض عليها طبقًا لنظريته, ثم عاد فأسهب في هذا
الموضوع في رسائل أخرى. وفي 5 فبراير 1615 أحال أحد الرهبان الدومنيكان إلى ديوان
الفهرست، وهو الديوان المكلف بمراقبة الكتب ووضع الخطر منها في ثبت الكتب المحرفة،
ورسالة جليليو إلى كاستل. فقام الديوان بالتحقيق مع جليليو، ونصحه الكرادلة
دلمونتي، الذي كان رشحه للأستاذية بجامعة بيزا، وبلارمينو، من كبار رجال الكنيسة،
وباربريني، الذي صار فيما بعد البابا أوربان الثامن، بأن يقتصر على التدليل
العلمي، ويعرض نظريته على أنها فرض أبسط من النظرية القديمة، ويدع تفسير الآيات
الكتابية إلى اللاهوتيين ولكنه لم يستمع إلى هذه النصيحة. ونشر تفسيرًا جديدًا لبعض
الآيات, فأعلن إليه ديوان التفتيش في 25 فبراير 1616 أن يمتنع من الجهر برأيه،
فوعد بالامتناع. وفي 5 مارس قرر ديوان الفهرست تحريم كتاب كوبرنك "ما لم
يصحح" وأغفل ذكر كتاب جليليو مراعاة له. ومعنى قول الديوان: "ما لم
يصحح" أنه يأذن بطبع الكتاب نظرًا لفائدته بشرط تصحيح المواضع التي يتحدث
فيها المؤلف عن حركة الأرض ومكانها من العالم "لا كمجرد فرض بل كحقيقة"
كما جاء في تفسيره لقراره بتاريخ 15 مايو 1620.
ج- وفي 1618 ظهر نجم مذنب، فنشر
جليليو "أو أحد تلاميذه فيما يقال" "مقالًا في المذنبات". فرد
عليه أحد اليسوعيين من أساتذة المعهد الروماني فصنف جليليو كتابًا في شكل رسالة
موجهة إلى أحد رجال الدين المعروفين، أسماه "المحاول" " 1623
" أي: محاولة في المنهج التجريبي، وحمل فيه حملة عنيفة على الفلك القديم,
فأخلف وعده مرتين. على أن البابا "أوربان الثامن" استقبله بروما في
السنة التالية ست مرات، وشمله بعطف كثير. وبعد ثماني سنين " 1632 " أذاع
جليليو كتابه المشهور "حوار يناقش فيه أربعة أيام متوالية أهم نظريتين في
العالم" يقتصر فيه ظاهرًا على سرد الحجج في جانب كل نظرية، وينم أسلوبه عن
الجانب الذي يميل إليه. فعهد البابا إلى لجنة بفحص الكتاب، وأعلن ديوان التفتيش
إلى جليليو بالمثول أمامه، فاعتذر باعتلال صحته، وبعد خمسة أشهر " 13 فبراير
1633 " وصل إلى روما، فلم يحبس كما كان مألوفًا. ولما سئل أجاب أنه ما زال
منذ قرار ديوان الفهرست يعتبر رأي بطليموس حقًّا لا يتطرق إليه الشك، وكرر هذا
الجواب، فكان كاذبًا مرتين. فطلب إليه التوقيع على جوابه وصرف, وفي اليوم التالي
قرئ عليه الحكم، فإذا بالحكم يعلن أن شبهة قوية قائمة على جليليو بالخروج على
الدين لقوله بمذهب كاذب منافٍ للكتاب المقدس، ويطلب إليه أن ينكره، وأن يقسم بأن
لا يقول أو يكتب شيئًا يمكن أن يستنتج منه هذا المذهب. فأنكر وأقسم وهو راكع على
ركبتيه، ثم وقع بإمضائه على صيغة الإنكار والقسم. ويروى أنه بعد التوقيع ضرب الأرض
برجله وقال: "ومع ذلك فهي تدور" ولكن هذه الرواية لم تذكر لأول مرة إلا
سنة 1761، وهي إن صحت كانت شاهدًا ناطقًا بريائه أو كذبه مرة ثالثة.
د- وكان الحكم يقضي عليه بالحبس،
ولكن البابا عين إقامته في قصر سفير توسكانا صديق جليليو. وبعد بضعة أيام تركه
يذهب إلى مدينة سيين حيث نزل عند أحد الكرادلة من أصدقائه أيضًا. وبعد خمسة أشهر
طلب الإذن بالذهاب إلى فلورنسا، فأجابه البابا إلى طلبه. فعاش هناك "سجينًا
بالشرف" فكان يواصل بحوثه الرياضية، ويستقبل من يقصد إليه من العلماء
والكبراء. وفي سنة 1638 نشر كتابًا بعنوان "مقالات في علمين جديدين"
يحوي أصول العلم الحديث في الميكانيكا والطبيعة، ولكنه طبع في هولندا هربًا من
المراقبة قبل الطبع. وفي أوائل تلك السنة فقد جليليو بصره, وكانت وفاته بالحمى؛
وفي أثناء مرضه أبدى عواطف تقوى حارة، وأرسل إليه البابا بركته.
هـ- والحق أن "المجمع
المقدس" أخطأ في الحكم بأن مذهب كوبرنك باطل منافٍ للكتب المقدسة. ولكن هذا
لا ينال من الكنيسة بالقدر الذي يزعم الكثيرون؛ ذلك بأن الكنيسة تعلم أن عصمتها في
العقائد والأخلاق قائمة في المجمع الكنسي العام، أي: الممثل للكثلكة جمعاء، متحدًا
مع البابا وفي البابا نفسه, ناطقًا باسم الكنيسة وفارضًا نطقه صراحة على جميع
المؤمنين. والحكم هنا صادر عن هيئة خاصة؛ وهذه الهيئة إن كانت أنكرت النظرية الجديدة،
فهي لم تمانع في إذاعتها كمجرد فرض علمي. فلم يكن رائدها التعصب ضد العلم، بل
صيانة الكتب المقدسة لصيانة الدين والأخلاق، وكل ما يمكن أن يقال هو أن غيرة
رجالها على الدين أربت على فطنتهم, ولكن يجب أن نذكر أن النظرية القديمة كان
يؤيدها البروتستانت أيضًا، وقد مر بنا موقف لاهوتييهم من كبلر؛ كما كان يؤيدها
جميع الأرسطوطاليين من مؤمنين وملحدين. ثم إن أدلة جليليو لم تكن برهانية، وهذه
نقطة جديرة بالتنويه، فكان خصوم نظريته يناقشونها وينقدونها، وقد قال الكردينال
بلارمينو، في رسالة ترجع إلى سنة 1615 موجهة إلى أحد الرهبان المناصرين لمذهب
كوبرنك: "لو كان هناك برهان حق على دوران الأرض وثبات الشمس، إذن لتعين الحذر
الشديد في تفسير آيات الكتاب المقدس، ولكان أحرى بنا أن نقول: إننا لا ندرك
معناها، من أن نكذب ما قام عليه البرهان، ولكني لن أعتقد بقيام هذا البرهان قبل أن
يبين لي". وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، إذ لم تعد الكنيسة تحرم الاعتقاد
بمذهب كوبرنك، بل صارت تحمل الآيات على محمل التعبير بالظاهر، كما نقول نحن الآن:
طلعت الشمس وغربت, وماذا يقول الشانئون لمن يذهب من علمائنا المعاصرين إلى أن
نظرية كوبرنك مجرد فرض، وأن ميزتها على النظرية الأخرى تنحصر في بساطتها ليس غير؟
فيصرح أحدهم، هنري بوانكاري، بأن هاتين القضيتين: "الأرض تدور"
و"افترض دوران الأرض أكثر نفعًا في العلم" هما معنى واحد بعينه، وليس
يوجد في إحداهما أكثر مما يوجد في الأخرى"
ودفاع هذا النصراني وجيه وتعضده
الوقائعوقد سخر مارتن لوثر من القول بدوران الأرض
وقد عضد رونالد سترومبرج هذا أيضاً
ودلل عليه فمن أراده فليراجعه فإن نقل شاق علي
ونرجع إلى جوردانو برونو الذي يدعي
بعض الناس في اختزالية عجيبة أن سبب حرقه هو قوله بدوران الأرض حول الشمس وهذا غير
حقيقي بل سجلت عليه قضايا كثيرة
قال يوسف بطرس في كتابه تاريخ الفلسفة
الحديثة :" أ- هو أبرز ممثلي روح "النهضة" في الفلسفة، روح التمرد
وروح النشوة بالكون الجديد المتسع إلى غير حد. وُلد بالقرب من نابولي, وفي السادسة
عشرة دخل ديرًا للدومنيكان بالمدينة, ولكنه كان حاد المزاج قوي الشهوة، كثير
التقلب حتى بدرت منه آراء أثارت الريبة في عقيدته، ففر إلى روما، فكان فيها موضع
ريبة أيضًا، فخلع ثوب الرهبنة في الثامنة والعشرين " 1576 " وشرع يطوف
في شمال إيطاليا يعطي دروسًا في الفلك لبعض الشبان الموسرين. ثم قصد إلى جنيف
" 1579 " وانتسب إلى جامعتها، ولم يكن الانتساب إليها مباحًا لغير
البروتستانت إذ كانت المدينة بروتستانتية، فظن أنه من أتباع الكنيسة الجديدة. وما
لبث أن أعلن رأيًا عدته السلطة الدينية منافيًا للمسيحية وأوقعت عليه جرمًا، فعمل
على رفع الجرم عنه وأظهر الندم على ما فرط منه. ثم رحل إلى جنوب فرنسا، فعلم سنتين
بجامعة تولوز ولقي إقبالًا شديدًا؛ علم الفلك وفلسفة أرسطو، وكانت له مشادات مع
العلماء. وفي ذلك الوقت أراد أن يعود إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية فاشترط عليه
قبل كل شيء العودة إلى ديره، فأبى. وشبت في المدينة حرب أهلية، فرحل إلى باريس
" 1581 " وعلم بها, فصادف من الإقبال مثل ما صادف في تولوز. وبعد سنتين
ذهب إلى إنجلترا، فكتب إلى جامعة أوكسفورد يخبرها بمقدمه، ويعلمها بأنه أستاذ
الحكمة الخالصة، وفيلسوف مشهور في جامعات أوروبا، لا يجهله إلا البرابرة والأجلاف,
إلى غير ذلك من الدعاوى.
ففتحت له الجامعة بابها، فعرض فيها
آراءه الفلسفية والفلكية، فأثار مناقشات عنيفة، واضطر إلى وقف دروسه، ورجع إلى
باريس بعد غيبة سنتين، وهناك أعاد الكرة على الكنيسة الكاثوليكية، فكان ما كان في
المرة الأولى من اشتراط فإباء. وفي مناقشة علنية بالجامعة هاجم مذهب أرسطو ودافع
عن الفلك الجديد وعن حرية الفكر، وكان دائم الحملة على أرسطو "الشتام الطماع،
الذي أراد أن ينتقص آراء جميع الفلاسفة". وبعد فترة قصيرة غادر باريس إلى
ألمانيا، فأبت عليه جامعة ماربورج التعليم بها، وأجازته له جامعة فتنبرج, فمكث بها
سنتين هادئتين. وفي خطاب الوداع أشاد بالعلم الألماني يمثله نقولا دي كوسا وبراسلس
وكوبرنك، وأكبر لوثير لمناهضته الكنيسة الكاثوليكية. فذهب إلى براج, فإلى
فرانكفورت حيث قضى سنة، وقد يكون طرد منها, فقصد إلى زوريخ، ثم إلى البندقية
" 1591 ".
ب- وفيما هو بهذه المدينة شكاه أحد
تلاميذه إلى مجلس التفتيش، فأمر باعتقاله " 1592 " فأنكر برونو بعض ما
نسب إليه من أقوال، وصرح بأنه كان دائمًا حريصًا على العقيدة الكاثوليكية في أعماق
نفسه، وركع وطلب العفو عما بدر منه من أضاليل. ونمى خبر هذه المحاكمة إلى ديوان
التفتيش بروما، فطلبه من حكومة البندقية، فبعثت به, فظل معتقلًا ست سنين ونيفًا،
وكان من عادة مجالس التفتيش مطاولة المتهمين علهم يرعوون عن غيهم. أخذ عليه
الديوان ثماني قضايا، منها التهكم على تجسد المسيح وعلى القربان الأقدس, فأصدر
البابا أمره بأن يطلب منه إنكار القضايا المخالفة للعقائد المقررة، دون القضايا
المتعلقة بمذهب كوبرنك. فكان هذا التمييز من جانب البابا دليلًا على استعداد
الكنيسة لقبول العلم الجديد، قبل تحريم كتاب كوبرنك وإنذار جليليو بثماني عشرة
سنة، وقبل الحكم الأخير على جليليو بخمس وثلاثين سنة. ولكن برونو رفض الطلب وقال:
إنه لم يخالف الإيمان، وإن رجال الديوان يؤولون أقواله, فحكم عليه بالجرم, وبتسليمه
إلى السلطة المدنية "كي يعاقب برفق ودون سفك دم". فأعدم حرقًا بعد أسبوع
" 17 فبراير 1600 " وكان إلى النفس الأخير رابط الجأش مصرًّا على عناده،
حتى إن كاهنًا مد إليه صليبًا فرده. ومهما يكن من أمر إحراقه -وكان منهاج العصر
يحتمل هذا الضرب من الإعدام- فلا شك في أنه خرج على الدين خروجًا خطيرًا، كما
أشرنا إليه وكما سيتضح من بيان مذهبه أنه كان راهبًا معيبًا وفيلسوفًا مفتونًا،
جواب آفاق، مشاكسًا مهاترًا.
ج- وقد جاءت كتبه كثيرة بالرغم من
شدة قلقه وكثرة ترحاله, وجاءت صورة لشخصيته الكدرة الغامضة، أي: قليلة الوضوح,
عديمة المنهج، طنانة رنانة, أهمها: كتاب "في العلة والمبدأ الواحد"
" 1584 " وهو خيرها جميعًا؛ وكتاب "في العالم اللامتناهي وفي
العوالم" " 1574 "؛ وكتاب "في المونادا والعدد والشكل"
" 1591 "؛ وكتاب "في الكون اللامتناهي وفي العوالم" "
1591 "، وكتاب "في طرد البهيمة الظافرة" في الفلسفة الخلقية. ومن
هذه العناوين نعلم أن مذهبه وحدة الوجود على الطريقة الرواقية.
د- كانت مرحلته الأولى إلى هذا
المذهب الأفلاطونية الجديدة بأقانيمها الأربعة: الله، والعقل الكلي، والنفس
الكلية، والمادة؛ وبقولها: إن الله فوق متناول فكرنا الذي يعمل بالتمييز
والاستدلال؛ ثم قال: ولكن الله يصير موضوع تعقل أو فلسفة من جهة كونه باديًا في
الطبيعة أو نفسًا كلية تربط بين أجزاء العالم ربطًا محكمًا؛ ولما كان الله
لامتناهيًا، كان العالم لامتناهيًا كذلك؛ لأن العلة اللامتناهية تحدث معلولًا
لامتناهيًا؛ ولما كان من الممتنع أن يوجد لامتناهيان"
فالرجل أدين بسبب مناهضته لعقيدة
الكنيسة في المسيح وقد قال بالأكوان المتعددة وبوجود مسيح في كل كون منها
فطرح قضية برونو على أنها مناهضة
للعلم الحديث فحسب طرح اختزالي لا ينبغي الاستسلام له
وهذا نظير ما حصل في أمتنا حيث تم
التركيز على قضية قتل الحلاج والتي ما سقطت الخلافة بعدها إلا بقرون مديدة على
أنها دليل على تحجر الفكر وغير ذلك
مع كون الحلاج قتل بحق إلا أن ما
يهمله هؤلاء أن الحلاج قد ظهر بعده من قوله أكثر صراحة في وحدة الوجود مثل ابن عربي
وابن سبعين وابن الفارض والعفيف التلمساني ولم يقتل أي أحد منهم مما يدل على وجود
تقصير بل عامة أصحاب وحدة الوجود ملأوا الدنيا تآليفاً وسلموا
وحتى المعتزلة لا أكاد أعرف معتزليا
قتل على الإعتزال كما قتل مثلاً أحمد بن نصر الخزاعي ومحمد بن نوح على السنة
ولو نظرت إلى تآليف الرافضة الموجودة
اليوم والملأى بالكفر البواح لوجدت أن عامة مؤلفيها عاشوا تحت ظل الخلافة
الإسلامية
فحالة الحلاج والسهروردي مع الأسف
شذوذ !
والتركيز عليها والنفخ فيها أسلوب
علماني اختزالي رخيص فلو أردنا أن نعد من امتحنوا من أهل السنة وعرضوا على السيف
في دولة العبيديين أو التتر أو غيرهم لكان عدداً كبيراً
ولكن لنرجع إلى البحث من بداياته
عموم العلمانيين والتنويريين وغيرهم
نظروا إلى التجربة الغربية نظرة إجلال تأثراً بما حققته من نجاحات على الصعيد
العلمي والصعيد السياسي والصعيد الاقتصادي وبدأ كثير منهم يحلم بترسم هذا في الأمة
العربية أو الإسلامية
وسيطرت هذه الفكرة على رؤوسهم سيطرة
كاملة واستقرت في وجدانهم حتى صاروا يفسرون كل شيء في ضوء الإسقاط على التجربة
الأوروبية فينظرون لكل رجل دين على أنه من الكنسيين الذين يضطهدون الحرية والعلماء
وحاولوا أن يبحثوا في التاريخ
الإسلامي عما يؤيد نظرتهم هذه ولكي يرجعوا إلى تخلفنا وتراجعنا وخرجوا بقراءات
اختزالية مضحكة فيأتون لما فعله خليفة أموي أو خليفة عباسي ويرجعون إليه سبب
التخلف ويتناسون أن الأعصار القريبة من عصر هذا الخليفة كانت أعصار تقدم علمي وازدهار
وتماسك وتحميل الاستعمار المسئولية عن الحال التي إلنا إليها مع الحكم العلماني
الذي خيم على عامة الأمة أولى من تحميل خليفة عباسي أو أموي جاء بعده عدد ممن
يخالفه في السياسة وكذلك تناسي حكم العبيديين وغيرهم والفواجع السياسية التي مرت
بالأمة من حروب صليبية وحملات تترية وغير ذلك وتغيرات أحوال الأمم دائماً يكون لها
أسباب كثيرة واختزالها في سبب أو سببين في العادة يكون اختزالاً ( هذا إذا تكلمنا
عن الأسباب المادية فسلب الله عز وجل للتوفيق هو سبب رئيسي ومعه يقيض الله الأسباب
المادية المختلفة التي تهيء وقوع الأمر الذي قضاه )
وهذا يفسر لك دندنتهم على كون بعض
المشايخ لا يرى دوران الأرض بل ودعواهم كذباً على بعض المشايخ أنه يكفر من يقول
بدورانها هذه محاولة لإسقاط الحالة الأوروبية
وهذا يفسر لك محاولة عدنان إبراهيم
تقمص شخصية مارتن لوثر إمام الكنيسة البروتستانتية وتسمية بعضهم لمخالفيه الكنيسة
النجدية !
والواقع أن هذا الضرب من الناس وهم
كثير جداً في زمننا بنوا قولهم على عدة أسس خاطئة
أولها : اعتقاد أن ما وصلت إليه
أوروبا هو الكمال الذي ينبغي أن نصل إليه
ثانيها : قراءة التاريخ الأوروبي
قراءة اختزالية لبعض الكتاب الذين يضعون في رؤوسهم فكرة ثم يحشدون لها كل ما
يريدون من المائلين للتوجهات اليسارية حتى أنه ليخيل لك وأنت تقرأ لبعضهم أن
أوروبا بقيت لقرنين تتجادل في السياسة والاقتصاد والعلوم والأخلاق دون أن يؤثر عليها
أي مؤثر خارجي ثم حصلت على هذه النتيجة النفيسة !
ثالثها : القياس الفاسد على الحالة
الإسلامية مع عدم مراعاة الفروق الجوهرية العظيمة بين الحالتين
رابعها : إهمال جانب القوة العسكري
في عملية التقدم الأوروبي فإن قوتهم العسكرية واستعمارهم لبلدان عديدة عامل مهم
وأساسي في وصولهم إلى ما وصلوا إليه
خامسها : البداية من حيث انتهى
الأوروبيون والتقليد المحض يقتضي أن تبدأ من حيث بدأوا فالأوروبيون في أيامهم
الأولى في النهضة لم يكن تشغلهم المواضيع التي يتحدثون عنها اليوم بل كانت تشغلهم
مواضيع أخرى تماماً
سادسها : وهو الأخطر وهو التسليم إلى
أن الإنسان دائماً يتطور للأفضل وبناء عليه دائماً ينبغي اطراح الماضي جانباً
ولننظر في هذه الأسس الستة أساساً
أساساً ونوعب القول فإن بيان بطلان هذه الأسس ينبني عليه إبطال السحر الذي أخذ
بعقول الكثير من بني جلدتنا ليس فقط من العلمانيين بل حتى الإسلاميين
أما الأساس الأول فيناقشه كثير من
الناس بمناقشة إجمالية بذكر عيوب ما تمر به أوروبا الآن خصوصاً على الصعيد
الأخلاقي وأمريكا أكثر تقدما من أوروبا وأحوالها معروفة ومنهم من يقول أن الحالة
السيئة في العالم العربي لا تعني أن غيرها أفضل ومنهم من يحتج بسقوط بعض الدول
الأوروبية في مآزق اقتصادية مثل أسبانيا واليونان وعموم الدول التي حاولت ترسم
النموذج الأوروبي فشلت في غير أوروبا كالعديد من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا
ومنهم من يذكر نماذج ناجحة لدول
تختلف حياتها وفلسفتها عن الدول الأوروبية مما يدل على أنه ليس نموذجاً حصرياً
فمثلاً على مستوى الاقتصاد وراحة الفرد عدد من الدول الخليجية متفوقة على عامة دول
الاتحاد الأوروبي وعلى مستوى الصناعة نجد أن اليابان والصين واندونيسيا وماليزيا
تحقق نجاحات كبيرة بدون ترسم حرفي للحالة الأوروبية
وبعضهم يعمق النظر ويبين أن عدداً من
هذه الدول ما كانت لتقوم لولا البلطجة على دول افريقيا ونهب ثرواتها ودعمها وحرصها
على وجود دكتتاوريات في بلدان لو نهضت لأثرت نهضتها سلباً على الوضع الأوروبي
وتبقى هذه كلها نظريات مطروحة على
الطاولة الزمان والأحداث القادمة قد يزيدانها تأكيداً وقد يجعلان طارحيها يعدلون
فيها
ولكن أقوى الأطروحات ما طرحه جلال
أمين في كتابه خرافة التقدم والتأخر حيث انتهى إلى كون كل شعب له مميزاته وسيئاته
وقد يكون الشعب متقدما من بعض الأوجه متخلفاً من أوجه أخرى ولا يخفى أن مثل هذا
الطرح ينسف الأطروحة العلمانية القائمة على تقليد الغرب بشكل حرفي
أما الأساس الثاني : فقد بينت آنفاً
ما حصل في قصة جاليليو وكوبرنيكس من تحريف
ومما تم إخفاؤه أن باسكال المخترع
الشهير صاحب الإنجازات الكبيرة كان نصرانياً متديناً
وكذلك نيكولاس ستينو أبو الجيولوجيا كما يلقبونه كان
راهباً نصرانياً
وأن نيوتن وليبتز وغيره كانوا متدينين بل نيوتن كان لا يؤمن
بالتثليث بل يؤمن بإله واحد
ولا شك أن هؤلاء أعظم إنجازاً في
تاريخ أوروبا من أمثال اسبينوزا وحتى دارون
ومما يخفى أن مخترع التليجراف كان من
أعظم أنصار الرق والعبودية كما كان أيضاً جون لوك من أنصارها وكما كان فريدريك
نيتشة ( وإن كان كل واحد من هؤلاء توجه خاص )
وأنه ما أقض مضجع أوروبا ليس فقط
الحروب الدينية فالحروب الدينية تعد أضعف أثراً من الثورات
حتى أن هوبس الملحد والذي دعا لفصل
الكنيسة عن الدولة كان أيضاً من أكبر المنظرين للنظام الملكي وأنه الضمان ضد
الثورات الفوضوية التي تهلك الحرث والنسل
إذن تأييد الاستبداد لم يكن حكراً
على الكنيسة بل إن من النصارى طائفة تسمى اليسوعيين كانوا يشددون على أنه ينبغي
خلع الحاكم إذا خالف الحق وأوامر الرب ( راجع كتاب تاريخ الفكر الأوروبي الحديث)
ثم علينا ألا ننسى أن ميكافيللي
وماركس والنازيين والفاشيين كلهم ولدوا من رحم أوروبا ومن رحم فكرها
وأن الأوروبيين كانوا من أشد الناس
تعصباً لأرسطو ولأنظمة سياسية معينة وأنهم قد يغيرون رأيهم عند أول أزمة تعصف بهم
واليوم الفيزياء النيوتنية نفسها تمر
بمشاكل كبيرة حتى في بعض مسلماتها فإن فقدان الطاقة المظلمة التي تم افتراضها
لإنقاذ فيزياء نيوتن يشكل مشكلة كبيرة
وقد قرأت مقالاً لكاتب أمريكي سماه
زلزال الديمقراطية وبين فيه أن الديمقراطية الغربية إلى حد كبير زائفة ويبدو أنه
يشير إلى أنها امتداد للأرستقراطية فأخيراً الأغنياء وجدوا وسيلة لكي يضمنوا عدم
ثورة الفقراء عليهم وهي أن يوضع لهم نظام ديمقراطي صوري يتنافس فيه الفقراء
للتصويت للأغنياء الذين هم في حقيقة أمرهم كيان واحد الخلافات بينهم لا تعدو
الخلافات بين الأسرة الواحدة ولهذا السبب لم يقع نزاع شديد بينهم منذ مدة ولا يمنع
ذلك من أن يجودوا على غيرهم ببعض مقاعد الترضية
وخذ مثالاً أسبانيا لقد عادت للنظام
الملكي بعد حرب أهلية ثم نظام عسكري يحكم بالنار والحديد فعلموا أن شعبهم
بانقساماته الفكرية العميقة لا يمكن بسهولة أن تكون السلطة العليا فيه محل تطلع
الجميع بدون نتائج مدمرة على الأقل ثورة أو انقلاب عسكري
وعادة القوى العلمانية أنها تستدل
بتغير الزمان على ضرورة اختلاف الأحكام ولكنهم لا يعملون هذا في تغير المكان
والخلفية الثقافية
وليعلم أن أوروبا حققت تقدماً كبيراً
في ظل الحكم الملكي أو الأرستقراطي وتخرج في القرنين الماضيين الكثير من المخترعين
والساسة في ظل حكم يرونه اليوم دكتتاورياً وظالم للمرأة وعنصري وما تكلموا بشكل
جدي في قضايا العنصرية والمرأة وغيرها إلا بعد ما بنوا دولة ونظام سياسي واقتصادي
وبسطوا نفوذهم على جميع العالم
فمثلاً حين تخوض إنجلترا حرب التبغ
ضد الصين وتأخذ منها هونغ كونج فلا يمكن أي عاقل أن يظن أن هذا لن يكون له أثر
اقتصادي جيد على المواطنين في بريطانيا وبالتالي سيكون له أثر إيجابي على مستوى
دخل الفرد وعلى الاستقرار السياسي
ثالثها : القياس الفاسد على الحالة
الإسلامية
لو نظرت إلى مشكلة الأوروبي مثلاً مع
الكنيسة لوجدت أن الكنيسة ( والتي ظلمت كثيراً مع كونها ظالمة ) كانت تتكلم بالحق
الإلهي وبناء عليه كانت هناك فكرة مسيطرة وهي عصمة الكنيسة الرسمية ومعلوم أنهم في
الغالب كانوا يبنون أقوالهم على اجتهادات شخصية غير متعلقة بالاستنباط من الكتاب
المقدس
وكانت المرة الأولى التي يقرأ فيها
الفقراء الكتاب المقدس في زمن مارتن لوثر
وأما في الإسلام فالأمر مختلف فهناك
نصوص متداولة بين عموم الناس فبعض أقل عوام المسلمين لا يمكن إقناعه بحل بعض
الأمور المحرمة أو العكس
والفقيه اعتاد على سند فتواه للأدلة
الشرعية وكان هناك مدارس فقهية عدة وسجالات فقهية منضبطة بالأصول المتفق عليها بين
الفقهاء
فلم يكن الأمر منفلتاً تماماً بحيث
الكل ينظر للمصلحة برأيه ولم يكن مقيداً تماماً بحيث يلزم الناس باجتهاد رجل معاصر
حي بل كان كل فقيه يحاكم إلى تراثه الفقهي ويلزم بما قاله العلماء وإن خالفهم لا
بد له من بينة مع تنوع المدارس الفقهية
فمثلاً المكوس كان يستخدمها الحكام
وكلمة عامة الفقهاء على حرمتها والمنع منها
وأيضاً لو نظرنا إلى حال
الأرستقراطيين وهم طبقة الأثرياء الذين كان دائماً لهم خصوصية والذين استبدادهم
وخصوصيتهم حتى في القانون بحيث لهم قانون عقوبات خاص يمتاز بالتخفيف أدى إلى ثورات
عدة
نجد أن مثل هذا الأمر بعيد في
النموذج الإسلامي لما تفرضه الشريعة من الزكاة وما فيها ثواب الصدقات والأوقاف
فعلى مر التاريخ كانت الأوقاف على الأيتام والأرامل سمة الصالحين
مع ما تفرضه الشريعة من تحريم الربا
ودقة الفقه الإسلامي في حماية حقوق العمال عند الأغنياء والذي كان يصونه القضاة
ويكفيك لمشاهدة الفرق أن تعلم أنه لم
تتم ثورة على أساس طبقي في الإسلام إلا نادراً ( وأنا هنا أستثني احتياطاً لا
للعلم بمثال خالص في هذه المسألة )
علماً أن الكثير من الأنظمة لم تكن
تطبق الإسلام كما ينبغي ولكن التكافل المزروع في القلوب بفضل الشرائع الإسلامية
ساهم في تخفيف الأمر فإنك لا تنظر في كتاب فقهي في أي مذهب أو وعظي إلا وتجد سرد
النصوص في فضل معاونة الفقراء مع نصوص أخرى في فضل العمل والاكتساب فكان الأمر
متوازناً إلى حد كبير مع انتشار القول بحرمة الربا الذي يزيد الفقراء فقراً
وأما بالنسبة لقانون العقوبات
فالأحرار أغنياء وفقراء كانوا يخضعون للعقوبات نفسها بل الفقير أقرب لحال الضرورة
الذي معه يسقط الحد في بعض المواطن عند جماعة من الفقهاء
وحتى الرقيق الأمر معهم معكوس
فالعقوبات في حقهم مخففة فالحد عليهم في الزنا على النصف ولا رجم عليهم بعكس
قوانين الأرستقراطيين
وحتى الرق في الإسلام كان مختلفاً
تماماً عن الرق في المفهوم الأوروبي
فالرق في أوروبا كان معتمداً على
اللون فحسب وكون المرء عبداً عند شخص فهذا يعني أنه يحل له أن يفعل به ما يشاء ولم
تكن أبواب العتق مفتوحة والعتق يعتبر من أعظم القربات كما في الإسلام
وفي الإسلام الرق بابه الكفر
والإسلام وليس اللون ولهذا كان الإسلام باب للعتق إذا دخل المسلمون بلداً وأسلم
الرقيق قبل أسيادهم فإنهم يصيرون أحراراً وحتى تحت المسلمين كثير من الفقهاء لا
يجيز بقاء الرقيق المسلم تحت الكافر لحظة بل يدفع للكافر ثمنه ويستعتق
زيادة على أن هناك عقد المكاتبة حيث
يشتري العبد نفسه من سيده وهناك عقد التدبير وعتق الرقبة من أعظم القربات في
النصوص لهذا كان من عادة الناس عند قرب الوفاة إعتاق العبيد ، زيادة على أن العتق
كفارة في اليمين والظهار وقتل النفس
مع تحريم ضرب وجه العبد وإيجاب العتق
في ذلك
قال مسلم في صحيحه 4311- [29-1657]
حَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ فِرَاسٍ ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ زَاذَانَ
أَبِي عُمَرَ ، قَالَ : أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ وَقَدْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا ، قَالَ
: فَأَخَذَ مِنَ الأَرْضِ عُودًا ، أَوْ شَيْئًا ، فَقَالَ : مَا فِيهِ مِنَ
الأَجْرِ مَا يَسْوَى هَذَا ، إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ ، أَوْ ضَرَبَهُ ،
فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ.
قال أبو داود في سننه 134 - باب فِى
حَقِّ الْمَمْلُوكِ. (133)
5158 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ
حَرْبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْفُضَيْلِ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أُمِّ مُوسَى عَنْ عَلِىٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ
قَالَ كَانَ آخِرُ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الصَّلاَةَ
الصَّلاَةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ».
5159 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ
أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ
سُوَيْدٍ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظٌ وَعَلَى
غُلاَمِهِ مِثْلُهُ قَالَ فَقَالَ الْقَوْمُ يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ كُنْتَ أَخَذْتَ
الَّذِى عَلَى غُلاَمِكَ فَجَعَلْتَهُ مَعَ هَذَا فَكَانَتْ حُلَّةً وَكَسَوْتَ
غُلاَمَكَ ثَوْبًا غَيْرَهُ. قَالَ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ إِنِّى كُنْتُ سَابَبْتُ
رَجُلاً وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَشَكَانِى
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ
امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ». قَالَ « إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ فَضَّلَكُمُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَمَنْ لَمْ يُلاَئِمْكُمْ فَبِيعُوهُ وَلاَ تُعَذِّبُوا
خَلْقَ اللَّهِ ».
وسرد في هذا الباب أخباراً عظيمة
وكان هذه الأمور يفشيها الفقهاء بين الناس مما خفف جداً من وطأة وجود رقيق في
المجتمع لا كما هي الحال في أوروبا باعتراف كبار كاتبيهم فالحال مختلفة
وقد نص مالك وغيره في المدونة على أن
السيد إذا عذب مملوكه عتق عليه وغيره يذهب إلى أن السيد يفعل به كما فعل بالعبد
لحديث ( من قتل عبداً قتلناه ومن جدع عبداً جدعناه )
وكثير من الأوروبيين إذا سمع بوجود
رق في الإسلام يسقط حالة قومه على الأمر في الإسلام والواقع أنه مختلف جداً
واعتقاد أفضلية العرق الأبيض على
غيره خصوصاً الأسود ( وهو أمر فاش إلى اليوم في الغرب ) لم يكن له مكان في الإسلام
( أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى
عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ،
وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلا بالتقوى
)
وقد نصوا في كتب الشافعية على وجوب
تعزير من يكلف مملوكه ما لا يطيق
ومعلوم حكم أم الولد وأنها تعتق
بمجرد وفاة سيدها والإماء لم يكن مستباحات كعاهرات كما كان يفعل في المجتمعات
الأوروبية فإنها إن كان لها زوج فلا يحل لأحد أن يمسها إلا زوجها وإن كان لها سيد
يطؤها فلا يحل لأحد أن يمسها غيره إلا بطلاق أو عتق أو بيع ثم عدة واستبراء
فالفارق عظيم جداً بين حال الرق في
الغرب وحال الرق في العالم الإسلامي لهذا الغربي إذا تكلم عن الرق فهو يستحضر
الحالة القديمة في بلده وليس عنده فكرة عن غيره
ولهذا يسمون الدعارة مثلاً ( الرقيق
الأبيض ) لأن الاستباحة المطلقة عندهم مرادف للرق وفي المفهوم الإسلامي حتى
الرقيق لا يجوز أن تكون مستباحة بهذه الصورة وأن يطأها عدة رجال في وقت واحد !
بل كثير من أمهات الخلفاء كان إماء
بل المماليك حكموا البلاد وقد كانوا رقيقاً أتراك في باديء الأمر وكثير من علماء
المسلمين كانوا عبيداً وعتقوا في زمن التابعين من أشهرهم عطاء بن أبي رباح ومعلوم
حال كافور الإخشيدي الذي كان أسوداً وحكم مصر
وهنا لا بد من تصحيح أمر هام وهو أن
تحرير العبيد في الغرب لم يكن اعترافاً بمساواة البيض للسود لهذا بقيت العنصرية
فيما بعد وإلى اليوم يعانى منها والكل يعرف تاريخ أول شاب أسود دخل الجامعة والعام
الذي سمح فيه للسود بالتصويت وفي كثير من البلدان التي حررت العبيد كان زواج السود
من البيض ممنوعاً
بيد أننا نجد أكثر فقهاء المسلمين
تشدداً في باب الكفاءة لا يمنعون من الزواج بين اثنين لمجرد اللون فالأحباش عندهم
أكفاء للأتراك والروم وغيرهم
وهناك معلومة عجيبة لا أدري لماذا لم
نعرفها طوال السنين الماضية
أحمد باي ولد مصطفى الحسيني حاكم
تونس أصدر مرسوما بإلغاء الرّق في تونس في عام 1846
يعني قبل لنكولن بكثير وفِي الموسوعة
الحرة يزعمون أنه استفاد هذا من فرنسا علما أن فرنسا نفسها ما فعلت هذا إلا بعده
بعامين وانطلقت في استعماراتها فيما بعد
العجيب لأنه مسلم وحفظ القرآن في
صغره وهو حسيني شريف هذه المعلومة مغيبة عن غالبنا بغض النظر عن أي ملابسات أخرى
تتعلق بالموضوع
والجدير بالذكر أن أول قرار عتق عام
في التاريخ فعله عمر بن الخطاب في الرقيق المسلمين
قال عبد الرزاق في المصنف 16780 -
عبد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أن عمر بن الخطاب أعتق في وصيته كل من صلى
ركعتين من رقيق المال وأعتق رقيقا من رقيق المال كانوا يحفرون للناس القبور وشرط
عليهم أنكم تخدمون الخليفة بعدي ثلاث سنين وأنه يصحبكم بما كنت أصحبكم به .
أعتق المسلمين منهم ومن كان يحفر
القبور
وعموماً الرق لا زال موجوداً بصور
مختلفة ، والرأسمالية والربا تقويان وجوده فما دام هناك أغنياء يزدادون غنى وفقراء
يزدادون فقراً فالفقير سيرهن نفسه عن الغني ويكون طوع أوامره ليحصل القوت
ويا ليت شعري ماذا كانت الاستعمارات
إن لم تكن استعباداً والفرق بين الغزو الإسلامي وحتى الفارسي للدول الأخرى والغزو
الأوروبي أن الأولين كانا يعتبران البلد المغزو جزءاً من المملكة الكبرى وبناء
عليه يعامل كأي جزء منها وتنتقل إليه المعارف والعلوم ويراعى رعيته كما يراعى
الرعية في أي مكان آخر من المملكة وأما الغزو الأوروبي فهو سلب ونهب للبلد المغزو
وحرص على إبقائه في الفقر والجهل ولو نسبياً مقارنة بالبلد الغازي وانظر إلى حال
معظم الدول المستعمرة تعي هذا فهي إلى الآن ما استطاعت القيام حتى بعد ذهاب
الاستعمار منها
فأولئك القوم الذين يفخرون بتحرير
العبيد هم أنفسهم من ارتكبوا المجازر المريعة في حق الدول المستعمرة وفعلوا ما هو
أبشع بكثير من الاسترقاق وقد رأينا مثالاً حياً في أفغانستان والعراق والبوسنة
والشيشان وغيرها وغيرها
ووفقا لصحيفة الشرق الأوسط من أهم
البحوث التي استندت إلى آلاف المقابلات مع ضحايا أنجبن أطفالا غير شرعيين ما صدر
عن المؤرخة الألمانية مريام غيرهارد وهو كتاب بعنوان «عندما أتى الجنود..
الاعتداءات الجنسية على الألمانيات نهاية الحرب العالمية الثانية».
فحسب قولها هؤلاء الأطفال الذين
أصبحوا متقدمين في السن ما زالوا يبحثون عن آبائهم دون نتيجة مما دفع بالبعض إلى
الإعلان في صحف محلية أميركية وروسية وبلجيكية وفرنسية وبريطانية، وساهم في ذلك
إخبار بعض النساء أبناءهن ببعض المعلومات عن المعتدي عليهن ومحاولتهن يومها
الاتصال بقيادة قوات التحالف التي لم تعطهن اهتماما واضطرارهن لتحمل كل الأعباء
ورعاية الطفل غير الشرعي في ظل وضع اقتصادي صعب بعد دمار ألمانيا الشامل والكثيرات
منهن كن يشعرن بالعار وفضلن الاختفاء عن الأنظار إلى حين وقت الإنجاب والادعاء بعد
ذلك بأن الأب قد توفي، هذه كانت الوسيلة الأفضل لمواجهة المجتمع الألماني الذي كان
يومها محافظا ولا يقبل بأطفال غير شرعيين.
وحسب المؤرخة لا يوجد عدد محدد
لحالات الاغتصاب لكنها وثقت نحو مليون اعتداء جنسي منها 190 ألفا قام بها جنود
أميركيون، في نفس الوقت استبعدت أن يكون الجنود الروس قد ارتكبوا مليون اعتداء؛
لأن القيادة العسكرية السوفياتية سارعت لضبط الوضع بعد سنوات قليلة من احتلال
الجزء الشرقي من ألمانيا ونفذت أحكاما صارمة بحق الفاعلين.
وبتقديرها فإنه من 4 إلى 5 في المائة
من الولادات التي تمت خلال فترة احتلال قوات الحلفاء وحتى أوائل الخمسينات كانت
نتيجة عمليات اغتصاب، وكل مائة اعتداء نتج عنه ولادة طفل، ما زال الكثير من
الضحايا النساء يعانين من آثارها النفسية أيضا على الأطفال الذين ولدوا، والأفظع
أن بعض الجنود كانوا يقتلون ضحيتهم بعد الاعتداء عليها.
والأمر ليس أفضل مع الجنود
البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين فهم اغتصبوا أيضا مسنات وأطفالا ورجالا خلال
عمليات جماعية بعد وضعهم في السجون، ووثقت الكاتبة 45 ألف اعتداء جنسي قام به
الجنود البريطانيون و50 ألف اغتصاب ارتكبه الجنود الفرنسيون بالأخص الفرقة
الفرنسية المغربية التي لم يتم السيطرة عليها من قبل القيادة، كما حاول الجنود
إذلال الألمان بكل الوسائل منها العبارة القائلة، حاربنا الجنود الألمان ست سنوات
إلى أن هزمناهم ولزم الأمر يوما وقطعة شوكولاته لإذلال الألمانية.
فهؤلاء هم واضعي النظريات السياسية
والفلسفية والأخلاقية من يقرأ كتب تاريخ الفكر الأوروبي يظنهم فعلاً طالبي للخير
والعلم والنور ولكن تعلم أن ما كتب عن قصة الفكر والحضارة في أوروبا كثير منه دخل
عليه التعديل ما تراه من سلوكيات القوم في الحروب وفي الاستعمار وفي إبادة السكان
الأصليين فهم أوباش بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ولا زال هذا سلوكهم إلى اليوم
وإذا كان هذا سلوكهم مع الأوروبيين
الذين مثلهم فما عسى أن يكون مع الشعوب الأخرى
وأين الرق من الاغتصاب والرمي علماً
أن الاسترقاق في الإسلام لا يجوز لمن هي على دينك وهؤلاء إنما كانوا يغتصبون نساء
على دينهم !
وقارن هذا مع حكم الفقهاء في المذاهب الأربعة الشهيرة بحرمة وطء المسبية من الوثنيات
وقارن هذا مع حكم الفقهاء في المذاهب الأربعة الشهيرة بحرمة وطء المسبية من الوثنيات
وعوداً على الموضوع الأصل ومن
الفوارق التاريخية بين الخلفية الثقافية الأوروبية والخلفية الثقافية الإسلامية
تجاه موضوع المرأة فالمرأة في أوروبا إلى عهد قريب كانت الزوجة تباع في إنجلترا
وكانوا يبحثون في كونهن لهن روح أم لا فمقارنة هذا مع مجتمع للمرأة فيه ذمة مالية
وحق قضائي في محاكمة الزوج إذا قصر في نفقتها أو أي شيء آخر وحق حضانة ونفقات حتى
عند الطلاق غير الحقوق المعنوية من التقدير البارز للأم وحرمة ضرب الزوجة على
وجهها وغير ذلك يرى أن القياس منتهى في الفساد
والخلفية الثقافية الأوروبية مثقلة
بالعداء للماضي انتقلت من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ولم تفلح فهذه الشيوعية حين
ثارت على الأرستقراطية ثورة من جنس ثورة الإنسانيين في حق المرأة والعبيد صدموا
بالواقع وتحطمت أحلامهم فلم يستطيعوا القضاء على الملكية الفردية والأمر نفسه يحصل
اليوم فالمرأة تحولت من مضطهدة في البيت إلى مضطهدة في مجتمع يفرض عليها أن تتخلى
عن أنوثتها وتسترجل لتبدو قوية أو تتحول إلى عاهرة وتزعم أن في ذلك حريتها لترقع
عدم مقدرتها على منافسة الرجل للفارق في القوة البدنية فتزيل هذا الفارق ببذلها
لجسدها
والمشكلة الحقيقية أنهم حين أرادوا
الطعن في الدين اعتمدوا على المنهج العلموي المادي الصارم الذي لا يرى حقيقة إلا
في المختبر حتى إذا تكلموا في السياسة وحقوق الإنسان قرروا قيماً عقائدية
ميتافيزيقية لا يوجد دليل تجريبي عليها مثل القول بالمساواة بين الناس والحرية
وغيرها فهذه قيم ميتافيزيقية بل إن المساواة تخالف المادية فإن المادة متفاضلة
ونظرية دارون في أصل الأنواع أحد
أسسها الكبار تفوق العرق الأبيض
قال صاحب كتاب العلم يدعو للإيمان
وهو دارويني نصراني :" وقد حلت اجناس ولا تزال تحل، محل اخرى، ويبدو ان الجنس
الابيض هو في الذروة في الوقت الحاضر. أفيأتي الزمن بالإنسان الممتاز (السوبرمان)
الذي ينسل ذرية من نوعه تملأ الأرض على رحبها؟"
وقال أرنست رينان-._ المفكر الفرنسي _
"الاستعمار إنه ضرورة سياسية في
الدرجة الأولى ... إن غزو بلد من عرقٍ أدنى من قبل بلد من عرقٍ أعلى لا يدعو إلى
الاستنكار ... عندما يكون الأمر بين الأعراق المتساوية فذلك أمر يدعو إلى
الاستهجان. لكن تجديد الأعراق المنحطة بأعراق عليا فتلك عناية إلهية
للإنسانية."
وحتى الرق مبرر داروينياً تماماً فمملكة النمل فيها
استعباد
ومثله تعدد الزوجات بل كون تعدد
الزوجات في بعض الأوقات يصير ضرورة أمر أدركه القدماء فسقراط تزوج الثانية بعدما
حثت الحكومة اليونانية على هذا بعد الحرب كنوع من تعويض خسائر الحرب فرجل بزوجتين
يعني طفلين كل عام وامرأة بعدة أزواج يعني طفل كل عام فهذا أمر بديهي وأتعجب مع بداهته
كيف يطرح بعض الناس سؤال ( لماذا يعدد الرجل ولا تعدد المرأة )
والتناقض بين المنهج المادي الذي
اعتمد لإقصاء الدين والقيم الإنسانية التي يدعو إليها الكثير من العلمانيين هي
معضلة الفكر الغربي
ولكن لاحظ هنا أوروبا عاشت قرون
متخلفة عن المسلمين في باب الرقيق وباب المرأة وباب الحقوق ولم يفكروا طوال تلك
القرون أن يقلدوا المسلمين حرفياً بل جاءت نهضتهم من أصالة داخلية وليكن في هذا
عبرة فالنسخة المقلدة لا تفضل الأصلية أبداً
وأيضاً من الفوارق أن الملك في بعض
البلدان الأوروبية في بعض الحقب كان يحكم بالحق الإلهي بمعنى أن أفعاله مسددة من
الله ولا يحق لأحد مساءلته إلا الله تبارك وتعالى
وأما في المسلمين فلا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق وإن لم يخرجوا عليه والحاكم إذا تعامل بالربا أو اغتصب أو فعل أو فعل
ففعله معروف أنه فسق وجور بل كثير من الفقهاء ينصون على أنه لا يحارب أهل الذمة مع
الحاكم إذا كان ظالماً لهم
بل نص غير واحد أن على الخوارج لا
يقاتلون مع الإمام الذي يعرف جوره
جاء في منح الجليل :" فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ عَدْلٌ وَجَبَ
الْخُرُوجُ مَعَهُ لِيَظْهَرَ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا وَسِعَك
الْوُقُوفُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْسَك أَوْ مَالَكَ فَادْفَعْهُ عَنْهُمَا، وَلَا
يَجُوزُ لَك دَفْعُهُ عَنْ الظَّالِمِ. ابْنُ عَرَفَةَ لَوْ قَامَ عَلَى
الْإِمَامِ مَنْ أَرَادَ إزَالَةَ مَا بِيَدِهِ فَقَالَ الصِّقِلِّيُّ رَوَى
عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -
إنْ كَانَ مِثْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ الذَّبُّ
عَنْهُ وَالْقِيَامُ مَعَهُ، وَإِلَّا فَلَا وَدَعْهُ، وَمَا يُرَادُ مِنْهُ
يَنْتَقِمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ظَالِمٍ بِظَالِمٍ ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ
كِلَيْهِمَا"
ثم إن عند الفقهاء شيء اسمه خلع
الحاكم وهو لأهل الحل والعقد إن وجدوا يخلعون الحاكم الذي يرونه لا يصلح
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء وهو
يتكلم عن بعض الأندلسيين :" هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ بِأَهْلِ الرَّبَضِ،
وَهُوَ مَحَلَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِقَصْرِهِ، فَهَدَمَهَا، وَهَدَمَ مَسَاجِدَهَا،
وَفَعَلَ بِأَهْلِ طُلَيْطِلَةَ (2) أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَظَاهَرَ بِالفِسْقِ
وَالخُمُوْرِ، فَقَامَتِ الفُقَهَاءُ وَالكُبَرَاءُ، فَخَلَعُوْهُ فِي سَنَةِ
(189) ،"
وقد وقع في هذا حوادث عديدة في
التاريخ الإسلامي ووجود تقصير من الفقهاء أو إضعاف لشوكتهم في بعض المواطن من
التاريخ لا يختلف أيضاً عما يحصل حين تجرد الديمقراطية من بعض معانيها ويقع احتيال
عليها
فالمراد أن هناك مراقبة من الأعيان
ومن السلطة القضائية والعوام أنفسهم يعرفون محرمات كثيرة سلطان الدين على نفوسهم
يوجب عليهم عدم إطاعة السلطان إذا فعلها وصعود هذا الشعور ووصوله للذروة هو كل ما
نحتاجه للقضاء على الاستبداد بعيداً عن نظام يغذي التنازع ويجعل للجهال سلطة على
العلماء
فكل هذه الفروق بين الحال الإسلامية
والحال الأوروبية يجعل القياس والإسقاط أمراً سمجاً ولو رجعت إلى كتابات فلاسفة
التنوير لوجدت كلامهم يتكرر على لسان عدنان إبراهيم وفاطمة ناعوت وأضرابهم
ومن أكثر الأمور التي تميز الثقافة
الأوروبية أنها ثقافة لم تنفتح على الآخر إلا متأخراً لهذا لما ظهر فولتير بمذهب
الربوبية أو الدين الطبيعي أرجع مونتنيسكو هذا للاحتكاك بالمسلمين والكونفوشيوسية
مما يعد ظاهرة جديدة
ولم يكن يعيش في أوروبا مسلمون تحت
الحكم النصراني إلا نادراً
والأمر كان معكوساً في البلدان
الإسلامية فكان هناك يهود ونصارى ومجوس ومجادلات كثيرة بينهم وبين علماء المسلمين
وكتب ابن حزم الفصل في الملل والنحل وكتب الشهرستاني الملل والنحل وتكلموا على
عموم الأديان والمذاهب العقدية داخل الإسلام وخارجه
وكانوا يوردون اعتراضات منكري
النبوات وغيرها وكانت كتب العقائد ملأى بذكر كلام الزنادقة والرد عليه حتى أدق
اعتراضاتهم على الشرائع
بل ظهر القرامطة حتى قامت لهم دولة
وألف البيروني كتاباً في أديان أهل
الهند وعني كثيرون بتراث اليونان فتلك الرهبة التي أصابت فولتير من كثرة المخالفين
تجاوزها المسلمون بسنين
والمبالغة بالدعوة للتسامح في مسائل
العقائد إنما تنشأ من الشك ابتداءً فيتنازل المرء عن عقيدته المشكوك بها لتحصيل
منفعة دنيوية متحتمة ولهذا قياس خلاف الكاثوليك والبروتستانت على خلاف الرافضة
والسنة قياس فيه درجة من الفساد لأن الخلافيات الكنسية لا تعتمد في كثير منها على
نصوص وإنما على فلسفات ونقاشات فلسفية تضطرب معها الآراء والأفكار ولا يمكن معها
الحسم بخلاف النزاعات بين الرافضة والسنة كثير من عوام السنة لا يفكر في التسامح
فيها لظهور مخالفة خصمه للبراهين عنده
الأساس الرابع : إهمال القوة
العسكرية في النهضة الأوروبية
لو أن دولتين إحداهما تعتني
بالفيزياء والرياضيات والفلك والطب وأخرى تجاورها تعتني بقوة السلاح فحسب والأولى
تهمل قوة السلاح فإن الدولة المسلحة يمكنها بلحظات الاستيلاء على تلك الدولة
وتكريس كل علومها في صالحها !
وهذا الذي حصل لما هجم التتر على
المسلمين وكان المسلمون متقدمين على التتر بمراحل في كل أنواع العلوم ومع ذلك
استطاع التتر إسقاط الخلافة العباسية إلى غير رجعةبسبب القوة العسكرية
ولو وضعنا فلسفة آدم سميث وبيكون
وفولتير وديكارت واسنبوزا وأمثالهم من العشرات في كفة ووضعنا اختراع البارود في
كفة لرجعت كفة البارود في التأثير على الحياة الأوروبية فلولاه ما استطاعوا تدمير
السكان الأصليين في قارتين ولا نهب الهند وافريقيا وعدد من دول المغرب والشرق
الأوسط
واليوم نرى أمريكا تسيطر على العالم
بدولارها الورقي الذي لا يحمل غطاء من الذهب والضامن الوحيد لصمود هذا الدولار
القوة الأمريكية العسكرية وكانت بداية سيطرته أن أمريكا كانت أقل الدول تضرراً بعد
الحرب العالمية الثانية
ولو سقط النظام الاقتصادي المحمي من
القوة العسكرية لانحدرت المجتمعات في فقر رهيب ستظهر معه كل الأخلاق السيئة الدفينة
ولهذا يقول جاك شيراك أن فرنسا لو
استغنت عن المدد الذي يأتيها من افريقيا ( وهو سلبهم ونهبهم ولو عن طريق عملائهم )
لانحدرت إلى دول العالم الثالث بشكل سريع
ولا مشكلة من عدم دكتتاوريات ما دام
أربابها يضخون المليارات في البنوك الغربية مما يوفر الكثير من الاستثمارات وفرص
العمل
والأنظمة الشيوعية في أمريكا
اللاتينية وغيرها هم الآخرون يتحدثون عن مثل هذه السلوكيات للدول الغربية
ومن تناقض العلمانيين وغيرهم أنهم
يريدون تقليد الغرب في كل شيء إلا القوة العسكرية ويريدون إقناعنا أن القوم تقدموا
فقط بسبب أفكارهم النيرة علماً أن تقليدك لهم حتى في اللباس يقتضي منك التقليد في
أمر هام كهذا أيضاً
ولكن لأنهم مصبوغون بالعمالة فهم
يعلمون أن هذا يضر أولياءهم
وحين نقول القوة العسكرية فلسنا نعني
فقط السلاح بل نعني كل لوازم النصر بما في ذلك التمييز بين الأعداء والأولياء
وإن انغلاق أوروبا على نفسها مدة من
الزمن نفعها في بعض السياقات العسكرية وخيانة ابن العلقمي كلفت الأمة الكثير وكذلك
توزير رجل يهودي يطعن في القرآن مثل ابن النغريلة كان من عوامل إضعاف الدولة
المسلمة في الأندلس
قال أبو طاهر السلفي معجم السفر 868
- سَمِعت أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْدَانَ الصَّدَفِيَّ
الرَّكَانِّيَّ قَدِمَ الثَّغْرَ يَقُولُ سَمِعت أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مَرْوَانَ
الْمَنْكِبِيَّ بِالْأَنْدَلُسِ يَقُولُ كَانَ لِبَادِيسَ بْنِ حَبُوسَ
الْحِمْيَرِيِّ صَاحِبِ غَرْنَاطَةَ وَزِيرٌ يَهُودِيٌّ فَهَلَكَ وَاسْتَوْزَرَ
بَعْدَهُ نَصْرَانِيًّا فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ خَلَفُ بْنُ فَرَجٍ
اللَّبِيرِيُّ الشَّاعِرُ الْمَنْبُوزُ بِالسُّمَيْسِيرِ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ
وَكَتَبَ بِهَا نُسَخًا عِدَّةً وَرَمَاهَا فِي شَوَارِعِ الْبَلَدِ
وَالطُّرُقَاتِ وَسَارَ مِنْ سَاعَتِهِ إِلَى الْمَرِيَّةِ مُعْتَصِمًا
بِالْمُعْتَصِمِ بْنِ صَمَادِحَ وَطَارَتِ الْأَبْيَاتُ فِي أَقْطَارِ الْأَنْدَلُسِ
وَلَمَّا وَقَفَ بَادِيسُ عَلَيْهَا أَرْسَلَ وَرَاءَهُ أَصْحَابَ الْخَيْلِ
فَفَاتَهُمْ وَلَمْ يَلْحَقُوهُ وَالْأَبْيَاتُ فَهِيَ
(كُلَّ يَوْمِ إِلَى وَرَا ...
بُدِّلَ الْبَوْلُ بِالْخَرَا)
(فزمانا تهودا ... وزمانا تنصرا)
(وسيصبوا إِلَى الْمَجُوسِ ... إِنِ
الشَّيْخُ عُمِّرَا)
ولا يخفى على أحد جهود يهود الدونمة
في إسقاط الدولة العثمانية نعم لم يكونوا العامل الوحيد ولكنهم لهم جهد
ومعلوم صنيع لورانس العرب وتصديق
البلهاء له
وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة في
القرآن في التحذير من المنافقين ومكائدهم والثقة الزائدة بهؤلاء تكلف الكثير بل هي
عامل أساسي فيما يحصل لنا اليوم
واليوم أي تحرك يقال لك أنه خرج فيه
الإسلاميون مع الليبراليين فاعلم أنه تحرك فاشل فإن هؤلاء كالماء والنار
والليبراليون منتمون فكرياً للغرب الذي يحاول الإسلامي التخلص من سطوته فحتى إيجاد
ميثاق شرف مشترك بين الفريقين أمر شبه مستحيل
ودائماً يتكلمون عن خلاف الطوائف الدينية وأنه يؤدي لحروب والواقع أن خلاف الأحزاب السياسية أيضاً يؤدي لحروب وما كان سبب الحرب العالمية الأولى والثانية والطوائف النصرانية واليهودية لم تكن تتحارب تحت ظل الحكم الإسلامي بل كثير من الطوائف كانت لا تستطيع خوض حروب تحت حكم ملك قوي يمنعهم من هذا ويجردهم من السلاح فالممالك الدكتتاورية نفسها قد تحمي من حروب دينية محتملة والحروب على اختلاف المذهب قد تقع بين أطراف علمانية على أطماع وقد تقع بين أطراف علمانية وأطراف متدينة والواقع أن العلمانيين يأتون لأطراف مختلفين على عقائد عدة فيأتون بنظام عقائدي ثالث يريدون فرضه ويعالجون خلاف الناس بأن يفرضوا عليهم ما يخالف الذي يعتقدونه جميعاً فالرافضة والسنة والإباضية يؤمنون بالحدود التي في القرآن ويكفرون منكري الفرائض المتواترة كالصلاة وغيرها فيأتي العلماني ويعالج اختلافهم في قضايا عقدية بأن يسقط هذا الذي اتفقوا عليه !
ودائماً يتكلمون عن خلاف الطوائف الدينية وأنه يؤدي لحروب والواقع أن خلاف الأحزاب السياسية أيضاً يؤدي لحروب وما كان سبب الحرب العالمية الأولى والثانية والطوائف النصرانية واليهودية لم تكن تتحارب تحت ظل الحكم الإسلامي بل كثير من الطوائف كانت لا تستطيع خوض حروب تحت حكم ملك قوي يمنعهم من هذا ويجردهم من السلاح فالممالك الدكتتاورية نفسها قد تحمي من حروب دينية محتملة والحروب على اختلاف المذهب قد تقع بين أطراف علمانية على أطماع وقد تقع بين أطراف علمانية وأطراف متدينة والواقع أن العلمانيين يأتون لأطراف مختلفين على عقائد عدة فيأتون بنظام عقائدي ثالث يريدون فرضه ويعالجون خلاف الناس بأن يفرضوا عليهم ما يخالف الذي يعتقدونه جميعاً فالرافضة والسنة والإباضية يؤمنون بالحدود التي في القرآن ويكفرون منكري الفرائض المتواترة كالصلاة وغيرها فيأتي العلماني ويعالج اختلافهم في قضايا عقدية بأن يسقط هذا الذي اتفقوا عليه !
النقطة الخامسة : حين بدأ الأوروبيون
يتخلصون من أرسطو ويعيدون صياغة فكرهم ويطرحون النظريات المتناقضة في سياسات الحكم
والعلوم والأخلاق جلسوا قرنين في هذا السياق حتى انتهوا إلى معاني كلها ساهمت
الأحداث في صياغتها وما حصل الكلام على دور المرأة مثلاً وتحريرها إلى بعد الحرب
العالمية الثانية وما جد الكلام على المثليين إلا في زمننا هذا القريب
وحتى التمرد على النصرانية مر بمراحل
من مارتن لوثر إلى دعاة التسامح إلى الربوبين المحافظين إلى الربوبين المنحلين إلى
ظهور الإلحاد بشكل صريح وليس هو المخيم على كل أوروبا كما يظن كثير من الناس بل له
حضور وللنصرانية حضورها أيضاً وأما في أمريكا فالغلبة للنصرانية على المستوى
الشعبي
وبناء عليه ما تقوم به القوى
الليبرالية من الكلام البارد عن الحجاب أو قيادة المرأة للسيارة أو غيرها من
القضايا هي بداية من حيث انتهى القوم وإذا كانوا صادقين في تقليدهم فينبغي أن
يبدأوا من حيث بدأ القوم فالعلمانية والليبرالية أخذت عندنا طابع محاربة الدين أو
بعض الأحكام الشرعية مثل تحريم الغناء والاختلاط وإيجاب الرجم !
وعامة هؤلاء لا تجد لهم كلاماً في
فلسفة الأخلاق أو فلسفة العلوم حتى وكل ما يهمهم فشو بعض مظاهر التغريب في المجتمع
وهذه سطحية بعيدة الغور
النقطة السادسة والأخيرة : يسيطر على
الفكر الغربي في القرن الماضي فكرتان
الأولى : أن كل شيء في الواقع يبدو
على خلاف ما هو عليه وأن كل ما بدا مخالفاً للبديهة فهو أقرب للعلم والتنوير
فأعضاء الجسد التي تبدو لك مصممة هي
الواقع تطورت وليست مصممة
والأرض التي تبدو لك ثابتة ومركزية
هي سابحة في الكون والمركزية للشمس
الثانية : أن العالم يتطور في كل
المجالات وأن مجرد كون الفكرة حديثة فهذه تزكية لها وأن البشر يتطورون في أفكارهم
وأخلاقهم وأن ذروة هذا التطور هو الرجل الأبيض
هذه هي أخطر فكرة وهي التي يدور
حولها عامة الملاحدة والتنويريين فإذا قال لك أن هذا الشيء غير متحضر أو غير
إنساني فهو يعني أنه غير متناسب مع الذوق الغربي الذي شرحنا لك آنفاً أنه يحظى
بخلفية ثقافية مختلفة عنا تماماً أخذته إلى هذا المستوى التفكير
ودائماً مثالهم الخالد تحرير العبيد
وقصة إبراهام لنكولن
علماً أن لنكلولن نفسه كان عنصرياً
ولا يروى زواج الأبيض من السوداء في الوقت الذي نجد فيه أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمح لفاطمة بنت قيس بل حظها على الزواج بأسامة بن زيد وهو أسود
وهل يعقل أن نعتبر هتلر أكثر تحضراً
من قورش الملك الفارسي الذي أحسن لليهود لمجرد أن الأول متحضر والثاني قديم سابق
حتى للمسيح
والنظام الديمقراطي هو نظام يوناني
أثيني ثم تركته أوروبا وما عادت له إلا بعد قرون
ولو كان تفوق الأبيض حتمية جينية لما
مرت عليه عصور ظلام وخصوصاً وأن ألف سنة وألفين لا شيء في قوانين التطور
وهل يعقل أن نعتبر حاتم الطائي في
كرمه ونخوته وافتخاره أنه لا ينظر لامرأة جاره أقل تحضراً من المستعمرين الغربيين
؟
وهل يعقل نعتبر من كانوا يرددون لا
فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى أقل تحضراً من أصحاب قانون الفصل العنصري في جنوب
افريقيا ؟
قال نيتشة في كتابه نقيض المسيح أو عدو المسيح :" البشرية لا تمثل تطوراً نحو الأفضل ولعل فكرة الترقي فكرة حديثة بمعنى خاطئة
الأوروبي صار أقل من أوربي عصر النهضة "
قال نيتشة في كتابه نقيض المسيح أو عدو المسيح :" البشرية لا تمثل تطوراً نحو الأفضل ولعل فكرة الترقي فكرة حديثة بمعنى خاطئة
الأوروبي صار أقل من أوربي عصر النهضة "
والأمثلة في هذا لا تعد ولا تحصى ولا
يمكن أن يعتبر الذين يلقون القنابل النووية على الأطفال والنساء أكثر تحضراً ممن
كان يحرم هذا ويتنزه عنه
وكما كانت أوروبا في يوم من الأيام
متعصبة لأرسطو وأفلاطون فقد يبدو لها أيضاً أن تعصبها لدارون وأينشتاين كان وهماً
هو الآخر
وإذا كانت هذه القاعدة في الرجل
الأبيض أنه يتطور كيف تكون هذه القاعدة فينا نحن من عرب وفرس وأكراد وترك وبربر
وقد كنا كلنا أكثر تقدماً منهم ثم تأخرنا ؟
وكل من يتدبر في أحوال البشر وتأخرهم
أخلاقيا وكثرة حالات الانتحار وفشو الجريمة وفشو الإضرار بالنفس عن طريق الدخان
والمخدرات والمسكرات يعلم أن البشر يتأخرون وإن كان الآلة تتقدم وهذا من وجهة نظري
من أهم ما ينبغي أن تعارض به الداروينية فهي حجة مشاهدة
والانبهار المبالغ به بأي حضارة
مادية لا معنى له فالفراعنة واليونان وغيرهم قد بلغوا مبلغاً عظيماً ثم بعد ذلك
زالوا كأن لم يغنوا وهذا الاتحاد السوفييتي كان مرعباً للدنيا ثم انحاز انحيازاً
مذلاً وتفكك
وعموماً الكلام في هذا يطول والمراد
الإيقاظ والتنبيه على الأفكار التي لا تطرق عادة أن نضع للباحث أسساً ينطلق منها
ثم بعد ذلك يمكن كل شخص أن يزيد من الحجج ما شاء على هذا النسق
وينبغي التنبيه في النهاية على أن
كثيراً من المسلمين يتلقون أي كلام لكاتب أوروبي ينتقد الكنيسة بالقبول وكثير من
هؤلاء الكتاب علمانيون ويريدون الطعن في الدين ككل وفي كثير من كلامهم تحامل
واجتزاء فيجب التنبه
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله
وصحبه وسلم