مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: ابن رشد : المحنة المختلقة ...

ابن رشد : المحنة المختلقة ...



أما بعد :


فقد سبق لي أن كتبت مقالاً عن أسطورة ابن رشد التنويري وبينت أنه رجل كان يقر بالأحكام الفقهية وسيادة الشريعة بكل تفاصيلها ، وكتبت أيضاً في خرافات علمانية عن أسطورة حرق كتبه وأثرها العظيم على العالم الإسلامي وتهاويل العلمانيين

وقد بدا لي أمور جديدة في هذا الملف بعدما قرأت ما كتبه صاحب كتاب قصة الحضارة في هذا الموضوع وهو يتكلم عن الغزالي وكلامه عن هذا الموضوع كان مليئاً بالكذب والتهاويل

وقبل الشروع في نقل كلامه والرد عليه ليعلم القاريء أن الناس في أوروبا لا يعرفون كبير شيء عن التراث الإسلامي الضخم سوى بعض كتابات ابن رشد التي تأثروا بها فلسفياً ، وبعض كتابات الغزالي التي كان يحبها علماء النصارى لأن فيها ردوداً على الفلاسفة ولهذا إلى يومنا هذا يحتفون بكتابه الاقتصاد وكتابه التهافت كما صرح بذلك وليام لان غريغ أشهر مناظر نصراني اليوم

ونظرتهم هذه فيها قصور شديد ومع ذلك يظنون أن الغزالي هذا لا يوجد غيره ، وكذا ابن رشد وأنهما المؤثران الرئيسيان في أي شيء يحصل في العالم الإسلامي كما حصل معهم في عالمهم النصراني

ولا يستوعبون أن العالم الإسلامي كان ممتداً على ثلاث قارات وأن الجدل في الإلهيات والفقهيات كان واسعاً جداً والمؤثرون فيه كثر فمن يجهل دور رجل كابن تيمية مثلاً وقد كان مناهضاً للرجلين السابقين بقوة

زيادة على أن الأوروبيين والمستشرقين لهم عادة في الكذب الذي لا يكون متعمداً في أحيان عديدة وإنما سببه عجلته الظاهرة في الاستنتاج من معطيات قليلة لهذا عامة ما يكتبونه عن تواريخ البشر يتسم بالسطحية والمحاكمة إلى عقولهم ونفسياتهم

قال وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت في كتابه قصة الحضارة :" وفي عام 1150 أمر الخليفة المستنجد في بغداد بإحراق جميع كتب ابن سينا وإخوان الصفا الفلسفية. وفي عام 1194 أصدر الأمير أبو يوسف يعقوب المنصور وكان وقتئذ في إشبيلية أمراً بإحراق جميع كتب ابن رشد إلا عدداً قليلاً منها في التاريخ الطبيعي، وحرم على رعاياه دراسة الفلسفة، وحثهم على أن يلقوا في النار جميع كتبها أينما وجدت .. وبادر العامة إلى تنفيذ هذه الأمور، وكان يسوءهم ويحز في نفوسهم هجوم الفلاسفة على إيمانهم الذي كان عند بعضهم أعز سلوى لهم في حياتهم المضنية النكدة. وفي هذا الوقت بالذات أعدم أبن حبيب لدراسته الفلسفة (115)، وأعرض الإسلام بعد عام 1200 عن كل تفكير نظري"

لنبدأ أولاً بقصة ابن رشد

هنا عدة حقائق غائبة

الحقيقة الأولى : الأمير الذي أمر بحرق كتب الفلاسفة لم يأمر بحرقها كلها بل استثنى العديد منها

الحقيقة الثانية : أن هذا الأمير نفسه تراجع عن هذا القرار وأقبل على الفلسفة !

الحقيقة الثالثة : أنه تصالح مع ابن رشد والأمر بينهما كان شخصياً

الحقيقة الرابعة : أن هذا الأمير نفسه كان يحرق كتب الفقه المالكي فلماذا لم ينقرض الفقه المالكي ؟!

وهل يصح أن نقول أن العالم الإسلامي من ذلك اليوم أعرض عن الفقه 

الحقيقة الخامسة : أن كتب ابن رشد في الفلسفة التي ادعى الكاتب أن أصولها العربية ضائعة لم يعدم شيء منها بالكلية بدليل أن مناهج الأدلة وتهافت التهافت وهي أقوى كتبه الفلسفية كانت موجودة إلى زمن ابن تيمية وبعده وإلى اليوم تطبع لهذا كان ابن تيمية يتكلف الرد عليها وينقل عنها كثيراً تارة للإلزام وتارة للرد

الحقيقة السادسة : أن كتب الفلاسفة والفرق الفلسفية بقيت في ديار الإسلام إلى يومنا هذا للأسف لهذا نجد متكلمي الأشعرية كالرازي والآمدي يذكرون مناظرات طويلة معهم ونجد ابن تيمية يتكلف التصنيف في نقض المنطق الأرسطي !

والآن مع توثيق هذه الحقائق كلها

قال الذهبي في تاريخ الإسلام :" محنة ابن رُشْد
وسببها أنه أخذ فِي شرح كتاب الحيوان لأرسطوطاليس فهذَّبه، وقال فِيهِ عند ذِكر الزّرافة: رأيتها عند ملك البَرْبر. كذا غير ملتفتٍ إِلَى ما يتعاطاه خَدَمَةُ الملك من التّعظيم، فكان هَذَا مِمَّا أحنقهم عليه، ولم يظهروه.
ثمّ إنّ قومًا ممن يناوِئه بقُرْطُبة ويدّعى معه الكفاءة فِي البيت والحشمة سَعوا به عند أَبِي يوسف بأنْ أخذوا بعض تلك التّلاخيص، فوجدوا فِيهِ بخطّه حاكيًا عن بعض الفلاسفة: قد ظهر أنّ الزُّهْرة أحد الآلهة. فأوقفوا أَبَا يوسف على هَذَا، فاستدعاه بمحضرٍ من الكبار بقُرطُبة، فقال له: أَخَطُّك هَذَا؟ فأنكر، فقال: لعن اللَّه كاتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثمّ أمر بإخراجه مُهَانًا. وبإبعاده وإبعاد من يتكلّم فِي شيءٍ من هَذِهِ العلوم، وبالوعيد الشديد. وكتب إِلَى البلاد بالتّقدّم إِلَى النّاس فِي تركها، وبإحراق كتب الفلسفة، سوى الطّبّ، والحساب، والمواقيت. ثمّ لمّا رجع إِلَى مَرّاكُش نزع عن ذلك كلّه، وجنح إِلَى تعلُّم الفلسفة، واستدعى ابن رُشد للإحسان إليه، فحضر ومرض، ومات فِي آخر سنة أربع.
وتوفي أبو يوسف فِي غرَّة صَفَر، وولي بعده وليّ عهده ابنه أبو عَبْد اللَّه مُحَمَّد، وكان قد جعله فِي سنة ستٍّ وثمانين وليَّ العهد، وله عشر سِنين إذ ذاك.
وقال الموفَّق أَحْمَد بن أَبِي أصَيْبَعة فِي تاريخه: حدَّثني أبو مروان الباجيّ قال: ثمّ إنّ المنصور نقم على أَبِي الْوَلِيد، وأمر بأن يقيم فِي بلد اليسّانة، وأن لا يخرج منها، ونقم على جماعةٍ من الأعيان، وأمر بأن يكونوا فِي مواضع أُخر لأنّهم مشتغلون بعلوم الأوائل. والجماعة أبو الْوَلِيد، وأبو جَعْفَر الذّهبيّ، ومحمد بْن إِبْرَاهِيم قاضي بجّاية، وأبو الرَّبِيع الكفيف، وأبو العبّاس الشّاعر القرابيّ. ثُمَّ إنّ جماعة شهدوا لأبي الْوَلِيد أنّه على غير ما نُسِب إليه، فرضي عَنْهُ وعن الجماعة، وجعل أبا جعفر الذهبي مزوارًا للأطبّاء والطَّلَبة.
وممّا كان فِي قلب المنصور من أَبِي الْوَلِيد أنّه كان إذا تكلَّم معه يخاطبه بأنْ يقول: تسمع يا أخي.
قلت: واعتذر عن قوله ملك البربر بأنْ قال: إنّما كتبت ملك البرَّيْن، وإنّما صَحَّفها القارئ"

لاحظ هنا عدة أمور

الأول : أن هذا الملك الذي كان يملك بقعة صغيرة من عموم بلاد الإسلام استثنى كتب ( الطب والحساب والمواقيت )

الثاني : أنه جنح إلى تعلم الفلسفة بعد قراره هذا فهذا تراجع مؤزر

الثالث : أنه تصالح مع ابن رشد بل الواقع أن الخلاف بينهما كان شخصياً وهذا الرجل كان متكبراً لدرجة أن صلاح الدين الأيوبي استنصره على الفرنجة فلم يخاطبه صلاح بلقب الملك في الرسالة فلم يجب صلاح الدين لهذه العلة

وإذا علمت أن التتر في بغداد قاموا بحركة معاكسة فأحرقوا كتب الفقه وأبقوا على كتب الفلسفة والتنجيم بعد مدة طويلة من هذا الصنيع ما عسى أن تقول في هراء صاحب كتاب قصة الحضارة

الرابع : أن المنصور لم ينقم على ابن رشد انتصاره لمقالات أرسطو أو ردوده على الغزالي فالذي يبدو أنه ما كان يفهم منها شيئاً وإنما غضب من عبارة شركية في تأليه الكواكب منقولة عن بعض الفلاسفة

وابن رشد كان ناقلاً وقد كان يميل إليهم في الباطن في تعظيم الأرواح

ثم إن ابن رشد نفسه مذهبه ألا يخاطب العوام بالمسائل الفلسفية صرح بذلك في مناهج الأدلة

الخامس : أن المسائل النزاعية بين المتكلمين والفلاسفة لا علاقة لها بالفقه ولا  علاقة للعلمانيين ولا الملاحدة  _ اليوم _ بها

فمسألة قدم العالم _ وعامة الناس يقرون بحدوثه _ ومسألة بعث الأرواح دون الأجساد ومسألة علم الله بالكليات دون الجزئيات هي المسائل النزاعية الثلاثة التي كفر بها الغزالي الفلاسفة المنتسبين للملة لا علاقة للقوم بها من قريب أو بعيد بل هم إما يصححون مذهب الإسلاميين أو يغلطون المذهبين معاً فلماذا يعتبرون كلام ابن رشد تنويراً وتحرراً وكلام الغزالي تنطعاً لا أفهم

السادس : لو اعتبرنا حرق الكتب _ ولم ينص في الرواية على حرق ابن رشد وإنما حرق كتب الفلاسفة الذين ينقل عنهم _ مدعاة لزوال بعض الكتب الشهيرة كلياً لكان حرق إحياء علوم الدين في المغرب مدعاة لزواله وإبادته والواقع أنه لا زال موجوداً بقوة

فالدول الإسلامية ليست إشبيلية فقط !

والعجيب أنه مع نفرة الكثير من الفقهاء من مذاهب عديدة من كتاب إحياء علوم الدين يصور صاحب كتاب قصة الحضارة هذا الكتاب على أنه غير مسار الفقهاء في جميع الأقطار الإسلامية وحولهم إلى صوفية !

كلام ساذج وباهت

وقد سرد ابن أبي أصيبعة كتب ابن رشد ولم يذكر فقدان شيء منها

قال ابن فرحون في الديباج المذهب :" وله تآليف جليلة الفائدة منها كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه ذكر فيه أسباب الخلاف وعلل ووجه فأفاد وأمتع به ولا يعلم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقاً. وكتاب الكليات في الطب ومختصر المستصفى في الأصول وكتابه في العربية الذي وسمه بالضروري وغير ذلك تنيف على ستين تأليفاً"


وهذا يدل على انتشار كتبه

وقال الذهبي في السير في ترجمة المنصور :" ثُمَّ تَملّك ابْن غَانِيَة قَلْعَة حَمَّاد، فَسَارَ المَنْصُوْر، وَاسْتردّ بِجَايَة، وَجَهَّزَ جَيْشه، فَالتقَاهُم ابْن غَانِيَة فَمزّقهُم، فَسَارَ المَنْصُوْر بِنَفْسِهِ، فَكسر ابْن غَانِيَة، وَذَهَبَ مُثْخَناً بِالجرَاح، فَمَاتَ فِي خيمَةِ أَعرَابيَة، وَقَدَّمَ جيشه عليهم أخاه يحيى، فانحاز بهم إلى الصحراء مَعَ الْعَرَب، وَجَرَتْ لَهُ حُرُوْب طَوِيْلَة، وَاسْتردّ المَنْصُوْر قَفْصَة، وَقَتَلَ فِي أَهْلهَا، فَأَسرف، ثُمَّ قتل عَمَّيه سُلَيْمَان وَعُمَر صَبْراً، ثُمَّ نَدِم، وَتزَهَّد، وَتَقشّف، وَجَالِس الصُّلَحَاء وَالمُحَدِّثِيْنَ، وَمَال إِلَى الظَّاهِر، وَأَعرض عَنِ المَالِكِيَّة، وَأَحرق مَا لاَ يُحصَى مِنْ كُتُب الفُرُوْع.
قَالَ عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ عَلِيٍّ: كُنْت بفَاس، فَشهدْتُ الأَحمَال يُؤْتَى بِهَا، فَتُحرق، وَتهدَّد عَلَى الاشتغَال بِالفُرُوْع"

هذا هو نفسه الذي ينسبون إليه حرق كتب الفلاسفة والآن ما الفرق بين حرقه لكتب الفقه المالكي وحرقه لكتب الفلاسفة

أن حرقه لكتب المالكية بدأه منذ تولى الحكم وبقي عليه إلى آخر عمره بخلاف حرقه لكتب الفلاسفة الذي فعله بآخر عمره ورجع عنه

وهذا هو الفصل المخفي عنك من القصة !

وخذ هذه المعلومة الهامة وهي أن في زمن هذا الملك كانت مصر وعدد من البلدان محكومة من العبيديين الذين لقبوا أنفسهم ب( الفاطميين ) وهؤلاء كانوا إسماعيلية باطنية يميلون إلى مذاهب الفلاسفة ويحتفون برسائل إخوان الصفا وكان ابن سينا على مذهبهم

وأما ما ذكره عن المستنجد فقال ابن الأثير في الكامل :" وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَقَرَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى وَزَرَاتِهِ وَأَصْحَابَ الْوِلَايَاتِ عَلَى وِلَايَاتِهِمْ، وَأَزَالَ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَقَبَضَ عَلَى الْقَاضِي ابْنِ الْمُرَخَّمِ وَقَالَ: وَكَانَ بِئْسَ الْحَاكِمُ، وَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا، وَأُخِذَتْ كُتُبُهُ فَأُحْرِقَ مِنْهَا فِي الرَّحْبَةِ مَا كَانَ مِنْ عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ، فَكَانَ مِنْهَا: كِتَابُ " الشِّفَاءِ " لِابْنِ سِينَا، وَكِتَابُ " إِخْوَانِ الصَّفَا "، وَمَا شَاكَلَهُمَا، وَقَدَّمَ عَضُدَ الدِّينِ بْنَ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ أُسْتَاذُ الدَّارِ يُمَكِّنُهُ، وَتَقَدَّمَ إِلَى الْوَزِيرِ أَنْ يَقُومَ لَهُ، وَعَزَلَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الدَّامَغَانِيَّ، وَرَتَّبَ مَكَانَهُ أَبَا جَعْفَرٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ الثَّقَفِيَّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ"

وهذه الكتب مع الأسف إلى اليوم موجودة وهذا نصير الدين الطوسي يشرح كتب ابن سينا وكذا الرازي يفعل وهما متأخران عن هذه الحقبة

ولو كان كل ما فعله هذا الملك سيقتدي به الناس لاقتدوا بإزالته للمكوس والضرائب

جاء في ترجمة الطوسي : أبو جعفر أبو عبد الله محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي ويعرف بالمحقق، وبالخواجة، ولد بطوس (قرب نيسابور) سنة 597هـ، وتوفي ببغداد سن 662هـ، وكان مهتما بمؤلفات ابن سيناء، وهو أحد المعاول التي مكن للتتار من تدمير بغداد، وقتل المسلمين، وغير ذلك، الشذرات 5/339، البداية والنهاية 13/267، الأعلام 7/30.

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (13/207) :" وَكَانَ الطوسي مُنَجِّمًا لِهُولَاكُوَ اسْتَوْلَى عَلَى كُتُبِ النَّاسِ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ فَكَانَ كُتُبُ الْإِسْلَامِ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالرَّقَائِقِ يُعْدِمُهَا وَأَخَذَ كُتُبَ الطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فَهَذِهِ عِنْدَهُ هِيَ الْكُتُبُ الْمُعَظَّمَةُ"

وهذه الحادثة أحدث من كل الحوادث السابقة وتدل على بقاء كتب الفلسفة والتنجيم بل وحصول العكس من قوة قاهرة وهي قوة التتر حيث أتلفوا كتب الشريعة وأبقوا على هذه الكتب

وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية :" حتى حذاق الفلاسفة فإنهم من خصومه في هذا الباب، كما ذكر القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف، مع فرط اعتنائه بالفلسفة، وتعظيمه لها، ومعرفته بها، حتى يأخذها من أصولها فيقرأ كتب أرسطو وذويه، ويشرحها ويتكلم عليها ويبين خطأ من خالفهم مثل ابن سينا وذويه، وصنف كتبًا متعددة مثل كتاب «تهافت التهافت» في الرد على أبي حامد فيما رده على الفلاسفة في كتاب «تهافت الفلاسفة» وكتاب «تقرير المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» وغير ذلك، قال في كتابه الذي سماه «مناهج الأدلة في الرد على الأصولية» وقد ضمن هذا الكتاب بيان الاعتقاد الذي جاءت به الشريعة ووجوب إلقائه إلى الجمهور"

وهذا يدل على وجود كتب ابن رشد الفلسفية ويبين مذهباً معروفاً لابن رشد أنه لا ينبغي مخاطبة العوام بالفلسفة وتقريباً الغزالي كان على هذا المذهب ولا أظن العلمانيين سيفرحهم هذا الاتفاق 

إذا فهمت تفهم أن قول صاحب قصة الحضارة :"  وبادر العامة إلى تنفيذ هذه الأمور، وكان يسوءهم ويحز في نفوسهم هجوم الفلاسفة على إيمانهم الذي كان عند بعضهم أعز سلوى لهم في حياتهم المضنية النكدة" مجرد هراء صبياني لأن الفلسفة الرشدية قائمة على التلفيق بين الدين والأرسطية

ثم إنه في زمن ابن تيمية وبعده ظهر قوم باعتقادات هي أشد منافرة للشريعة من اعتقادات الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وأضرابه وما مسوا بسوء لضعف المتشرعين

ولو قورنت محنة ابن رشد بمحنة ابن تيمية وسجنه ونفيه وإحراق دمه وإهدار دم موافقيه لظهر لك أن محنة ابن رشد كانت مجرد نزهة

وأما ابن حبيب الذي ذكره فلا أعرف عنه شيئاً، ولا أريد الحديث عن محنة القول بخلق القرآن أو محنة عبد الغني المقدسي أو أبو إسماعيل الأنصاري أو محنة البخاري وغيرهم كثير جداً، جاء في النفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب :"  ومنهم علم الدين أبو محمد المرسيّ اللّورقي (1) ، وهو قاسم بن أحمد ابن موفق (2) بن جعفر، العلامة المقرئ الأصولي النحوي، ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار وأبي عبد الله المرادي وأبي عبد الله ابن نوح الغافقي، وقدم مصر فقرأ بها على أبي الجود غياث بن فارس، بدمشق على التاج زيد الكندي، وسمع ببغداد من أبي محمد ابن الأخضر، وأخذ العربية عن أبي البقاء، ولقي الجزولي بالمغرب، وسأله عن مسألة مشكلة في مقدمته، فأجابه، وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة، وكان يقرئ ذلك ويحققه، وأقرأ بدمشق ودرس، وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات فأجاد وأفاد، وشرح الجزولية والشاطبية، وكان مليح الشكل، حسن البزة، موطّأ الأكناف، قرأ عليه جماعة، وتوفّي سابع رجب سنة 661، وكان معمّراً مشتغلاً بأنواع العلوم، وسمّاه بعضهم أبا القاسم، والأوّل أصح."


وجاء فيه أيضاً :"  ومنهم العلاّمة ذو الفنون علم الدين القاسم بن أحمد المريني، اللورقي، المقرئ، النحوي (5) ، ولد سنة 575 (6) ، وقرأ القراءات وأحكم العربية وبرع فيها، واجتمع بالجزولي، وسأله عن مسألة في مقدمته، وقرأ علم الكلام والأصولين (7) والفلسفة، وكان خبيراً بهذه العلوم، مقصوداً بإقرائها، وولي مشيخة قراءة العادلية، ودرس بالعزيزيّة نيابة، وصنّف شرحاً للشاطبيّة، وشرحاً للمفصّل في عدّة مجلدات، وشرح الجزوليّة، وغير ذلك، وكان مليح الشكل، حسن البزّة، وتوفّي سنة 661، رحمه الله تعالى، ورضي عنه"


وقال ابن حجر في الدرر الكامنة :" 2474 - عبد الْقَادِر بن مهذب بن جَعْفَر الادفوي ابْن عَم الْكَمَال جَعْفَر ذكره فِي الطالع السعيد فَقَالَ كَانَ ذكياً جواداً متواضعاً دخل إِلَى قوص واشتغل بالتنبيه فَمَا فتح لَهُ فِيهِ وَكَانَ مُقبلا على كتاب الدعائم لِابْنِ النُّعْمَان شيخ الاسماعيلية وَكَانَ يقرىء الفلسفة ويعتقد نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وينزله غَايَته من التَّعْظِيم إِلَّا انه كَانَ يرى سُقُوط الاركان الأسلامية عَمَّن حصلت لَهُ الْمعرفَة بربه الْأَدِلَّة الَّتِي يعتقدها وَكَانَ هُوَ على ذَلِك مواظباً على الصَّلَاة وَالصِّيَام ويعتقد ان الْقيام بالتكاليف الشَّرْعِيَّة يَقْتَضِي الزِّيَادَة فِي الْخَيْر وَلَو حصلت الْمعرفَة وَكَانَ يفكر طَويلا وَيقوم يرقص وَيَقُول (يَا قطوع من أفنى عمره فِي المحلول ... فَأتوا العاجل والآجل ذَا البهلول) قَالَ وَمرض فَلم اصل إِلَيْهِ وَمَات فَلم أصل عَلَيْهِ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة 725"


وقال في نفح الطيب :" وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيوناً مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار دالة على تمكنه من هذه الصناعة"

هذا كله بعد حادثة ابن رشد المذكورة والذي يبدو أن الاشتغال بها صار أظهر بعد الحادثة لا العكس على أن أهل الأندلس حالة خاصة في كل شيء



هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي