مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: الرد على بدر بن علي العتيبي في شأن أبي حنيفة ...

الرد على بدر بن علي العتيبي في شأن أبي حنيفة ...



أما بعد :


قال بدر بن علي بن طامي العتيبي :" فالكلام في أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى بعد 1250 سنة يُعد من فضول القول، وإحياء الكلام عن حاله وعقيدته مع عدم الموجب لذلك من جنس تتبع العورات الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» رواه البخاري.
والعجيب أن يَقدم إليكم مشايخ لإقامة دروس علمية ثم يشتغلون بالكلام عن أبي حنيفة مدحاً وذماً، وكان الأولى الاشتغال بتأصيل عقيدة أهل السنة والجماعة، وتعليم الناس الحق، ونشر الخير، وجمع القلوب.
وسبق أن تكلمتُ –مراراً- في أبي حنيفة بما أراه مقام العدل والانصاف على ما عليه الأئمة الأعلام من المحققين المتأخرين كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، والناس فيه بعد ذلك على طوائف، كلها لم تسلم من الخطأ إلا واحدة:
[1] فريقٌ: لم يحقق القول فيه، وأطلق عبارات من ذمّه من غير تمييز بين ما رجع عنه وما لم يرجع عنه، حتى حكموا بكفره! والرجل مسلم.
[2] وفريقٌ: زعم سلامته من كلّ بدعة وخطإٍ في العقيدة، وخالف ما هو ثابت مشهور منشور في كتب العقائد، ووصفه هذا الفريق بالإمامة المطلقة ونحو ذلك، وهذا غلط.
فمن خالف أهل السنة في أصلٍ من أصولها، لا يوصف بالسنية المطلقة فضلاً عن أن يوصف بالإمامة المطلقة في الدين، كيف وهذا الأصل في (الإيمان) وهو المقدم في كتب العقائد، كيف وجمهور السلف على ذمّه والكلام فيه والحطِّ من رُتبتهِ؟
ولكن زماننا غريب، وكما قال السجزي في "رسالته إلى أهل زبيد" (ص194): (وإن زمانا يقبل فيه قول من يرد على الله سبحانه، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخالف العقل، ويعد مع ذلك إماماً، لزمان صَغب –بالغين- والله المستعان).
[3] وفريقٌ: اعترف ببدعته وأنه يقول بالإرجاء، ومع ذلك بالغ في الثناء عليه، ووصفه بالإمامة المطلقة! ولا أدري كيف تجتمع الإمامة المطلقة مع الاعتراف بالبدعية؟! ولو قالوا: إمام الأحناف، أو إمام أهل الرأي لكان خير من الإطلاق.
[4] وفريقٌ: حمل بدعته على البدعة الدقيقة التي يُعذر المخالف فيها، وسماه وأتباعه (مرجئة الفقهاء) وذكر أن الخلاف صوري! وهؤلاء أقرب للصواب لأنهم بنوا الحكم على قاعدة (يرونها سليمة) فلا تناقض بعكس الفريق الذي قبله.
والذي أراه بحسب علمي القاصر أن أقول:
الرجل تكلم فيه جماعة من السلف بما لا يُستطاع دفعُه، بل جمهور السلف على ذمّه لمَّا كانت (الفتنة) بقوله حاضرةً ذلك الحين، وكان سبب كلامهم فيه مسائل عدة؛ وهي على أربعة أنواع -ذكرتُها في تعليقي على كتاب السنة لحرب الكرماني رحمه الله تعالى-:
النوع الأول:الكذب والتزييف عليه مما لا يثبت إسناده، فهذا لا يجوز حكايته عنه ولا عيبه به.
النوع الثاني:ما ثبت أنه قال به، أو وقع فيه، ثم ثبت (رجوعه وتوبته منه) فلا يجوز أن يعيّر بما صحت توبته عنه بإجماع المسلمين، ومن ذلك قوله بقول جهم بن صفوان في الصفات، والخروج بالسيف.
النوع الثالث:ما ثبت أنه قال به أو وقع فيه من الخطأ ومات وهو يقول به كـ(الإرجاء والرأي) فهذا يعد من القوادح في العدالة والديانة، وبها يُعاب، ودفعها عسير.
النوع الرابع:ما ثبت أنه قال به أو عمل به، مما لا يشينه في مسائل الفروع والرأي باجتهاد وله عذره من العلماء كغيره من الأئمة الأربعة فلا يجوز أن يعيّر به هو أو غيره.
فأبو حنيفة رحمه الله تعالى من علماء الإسلام، وهو مرجي العقيدة، ويُعامل كما يعامل به من وقع في هذه البدعة من العلماء الأعلام قبله وبعده، فهذا:
[1] طلق بن حبيب؛من التابعين المشاهير الصلحاء، مشهور بالإرجاء، وحذر منه سعيد بن جبير، ومع ذلك ذكر العلماء من فضائله ومناقبه الشيء الكثير، ولم يتدابروا ولم يتهاجروا في الحكم عليه، مع اعتراف الجميع بأنه مرجئ!
[2] وإبراهيم بن طهمان؛وهو من الغلاة في الإرجاء حتى قال مرة: نوح عليه السلام كان مرجئاً !! ومع ذلك عرف له الأئمة فضله، وكان شديدا على الجهمية، وجاء ذكره عند الإمام أحمد وكان متكئاً فجلس وقال: لا ينبغي إذا ذُكر الصالحون أن يُتكأ!
[3] وعبدالعزيز بن أبي روّاد؛الزاهد الناسك العابد؛ مشهور بالإرجاء غالٍ فيه، وهو من الأعلام المشاهير، قال مؤمل بن إسماعيل: مات عبد العزيز، فجيء بجنازته، فوضعت عند باب الصفا، وجاء سفيان الثوري، فقال الناس: جاء سفيان، جاء سفيان، فجاء حتى خرق الصفوف، وجاوز الجنازة، ولم يصل عليها، لأنه كان يرى الإرجاء.
فقيل لسفيان، فقال: والله إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكن أردت أن أري الناس أنه مات على بدعة.
وتأمل لم ينهَ سفيان الثوري الناس عن الصلاة عليه أو الترحم، وإنما أراد بيان حاله.
وقال عنه الإمام أحمد: كان مرجئا، رجلا صالحا، وليس هو في التثبيت كغيره.
وقبله قال ابن سعد في "الطبقات": كان مرجيا وكان معروفا بالورع والصلاح والعبادة.
فهل يقول مثل هذا من يتكلم في أبي حنيفة اليوم؟
[4] وحماد بن أبي سليمان؛شيخ أبي حنيفة في الإرجاء! ومع ذلك لم يغفل أهل الفضل فضله وجلالته وفقهه، قال عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: كنت إذا دخلت على أبي إسحاق يقول: من أين جئت؟ فأقول: جئت من عند حماد فقال: ذاك أخونا المرجئ!!
ماذا لو قيلت هذه العبارة في زمن الجيل الطائش اليوم؟
[5] وعمر بن ذر الهمداني؛قال أبو داود: كان رأساً في الإرجاء، ومع ذلك قال عنه ابن خراش: كوفي، صدوق، من خيار الناس، وكان مرجئا.
ماذا لو قيلت هذه العبارة في أي رجلٍ من المرجئة اليوم؟ من صاحب سنة! قالها بحسن نية، أو لمصلحة شرعية، أو غير ذلك! هل سيعذره أولئك الطائشون؟
[6] وسلم بن سالم البلخي؛مرجئ، قال عنه ابن سعد: كان مطاعا، أمارا بالمعروف .. كان مرجئا.
فهل حملهم إرجاء الرجل على عدم الاعتراف له بالفضل؟
[7] وإبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي؛ التابعي الشاب الصالح، قتله الحجاج ظلما ولم يبلغ الأربعين، قال عنه أبو زرعة: مرجئ مرضي.
[8] وعمرو بن مرة أبو عبد الله الجهني الكوفي،ذكر البخاري عنه أنه يقول عن نفسه: أنا مرجئ! وفي موطن آخر قال: (نظرت في هذه الآراء فلم أر قومًا خيرًا من المرجئة، وأنا مرجئ) ثم نقل البخاري عن ابن عيينة: قلت لمسعر: من أفضل من رأيت؟ قال: ما يخيل إلي إني أدركت أفضل من عمرو بن مرة.
وقال أبو حاتم: كان رجلا صالحا محله الصدق.
[9] وأبو معاوية محمد بن خازم؛مرجئ داعية إلى الإرجاء، قال عنه ابن المبارك: مرجئ كبير! وكان يدرس عند الأعمش، ويقول له الأعمش: لا تفلح أنت وأصحابك المرجئة، وأخذ عنه الأئمة، ولم يحضر وكيع جنازته، مع أنه أوصى علي بن خشرم بالأخذ عنه لكثرة حديثه عن الأعمش.
[10] ومروان الطاطري؛مشهور بالإرجاء داعية إليه بل ربما ضرب وآذى في دعوته للإرجاء، قال محمد بن عوف الحمصي: سألت أحمد بن حنبل عن مروان الطاطري فقال: صلب الحديث، فقلت له: إنه مرجئ وإنه يضرب دحيما ومحمود بن خالد والوليد بن عتبة ويؤذيهم فجعلت أضع من قدره وهو يرفع من قدره وقال صاحب حديث عنده حديث أشتهي أن أسمعه!
فهل فعل الإمام أحمد يعد خيانة للدين؟
هذه بعض المواطن، وهي قليلة من بحرٍ كثير، لا أقول هذا دفاعا عن الإرجاء وهو مذهب خبيث، ولا عن المرجئة وهم من أهل البدع مهما كان فضلهم! ولكن أبين به أن الكلام في أهل البدع (من أهل الملة) لا يعني (دوماً) حجب فضائلهم ومحاسنهم، ولا يلزم من بدعتهم عدم نشر فضائلهم، والترحم عليهم (مطلقاً) في كلّ حين.
وقلتُ في مواطن عديدة: أن الكلام فيمن عُرف بالفضل والعلم وهو من أهل البدع مرتبط بالمصلحة والمفسدة، والحاجة إلى الكلام فيه، والتحذير منه، ومتى أمن الناس ذلك، فلا حاجة إلى ذلك.
وكما قلت مراراً: (للسلم كلام وللحرب كلام) فإن كان الأمر سِلْماً، ولا أحد يَذكر بدعته، ولا يمتحن الناس بمقالته، ولا يدعو إليها، فالكف عنه أسلم، وتنشر محاسنه، ومؤلفاته، مع التنبيه على أخطائه إذا ظهرت للناس.
وأما إذا كان الأمر حرباً بين أهل السنة وأهل البدع، وخاصمونا بهم، وبمقالاتهم، فهم لهم تبع! ويحذّر من السابق واللاحق، ويرد القول على صاحبه كائنا من كان، وقد بينت هذا في رسالة عن (الموقف ممن وصف ببدعة من علماء الإسلام) وهي منشورة في الشبكة.
وهذا الكلام عام يقال في أبي حنيفة وابن حزم والبيهقي والنووي وابن حجر وغيرهم من علماء الإسلام، الأصل الكف عنهم، ونشر علومهم، والترحم عليهم، ومتى خوصمت السنة، وعقيدة أهل السنة بمقالاتهم، رُدّ عليهم قولُهم، وحُذِّر من خطئِهِم، ولم يُقبل منهم.
ولهذا دأب علماء السنة من قديم الزمان وحديثه على هذا الميزان، كما تقدم أن نقلت لكم من صنيع الأئمة مع بعض المرجئة، مع أن لهم من المقالات والمواقف الشديدة ضد المرجئة الشيء الكثير، وكذلك غيرهم من القدرية ونحوهم عدا الطوائف الغالية التي كفرها أهل العلم كالجهمية والرافضة.
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو من أشد الناس على الأشاعرة، وشرحاً لمذهبهم، وبياناً لضلالاتهم، لما فُتن الناس بمقالاتهم، وحينما يكون في مواطن لا حاجة إلى بيان ذلك عرف لمن له فضلٌ منهم فضله، وإن كان ذمّه وأنكر قوله في موطن آخر، كأبي حنيفة والأشعري والبيهقي والباقلاني والعز بن عبدالسلام في آخرين.
وكذلك الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى؛ فهو من أشد الناس على أهل التصوف والإرجاء ومن قال بقول الأشعري، ومتى جاء المجال والخصام بهم ضد السنة بيّن حالهم وحذر من خطئهم كما نبّه على خطأ الحافظ ابن حجر العسقلاني في مسألة الإيمان من كتابه فتح الباري، في رسالته إلى عالم الأحساء، وفي باقي المواطن: جعل شروحات الحافظ ابن حجر ومؤلفاته من عُمَد مراجعه في التصنيف والعلم، ومثله صنيعه مع خلقٍ كثير ممن وصف ببدعة من علماء الإسلام قبله، لم يعرض عنهم إعراضاً كلياً، ويختفر ذممهم، ويترك علومهم، ويترحم عليهم، ويذكر لهم محاسنهم، ولم يداهن في دين الله تعالى إذا اقتضى المقام بيان حالهم، وردّ مقالاتهم الفاسدة.
ومثله أئمة الدعوة السلفية النجدية في سائر مؤلفاتهم وتقريراتهم رحمهم الله تعالى.
ومما يؤسف له:
أن من تعامل مع أهل البدع بالشدة والقسوة (المطلقة) أغفل أو تغافل عن الآثار المتظافرة المشهورة من بعض مواقف اللين والرحمة والعفو والثناء والترحم على آخرين مما لا مجال لدفعه ولا حجبه!
وبالضد من ذلك:
من ألانَ الكلام مع أهل البدع، وبالغ في الاعتذار لهم، وأهمل أصل التحذير والهجر، يقف على ما يريد، ويدع الأخبار المتظافرة المشهورة من مواقف الشدة والتحذير والزجر مع آخرين، وكل ذلك من الهوى وقلّة العلم بالسنة وبما عليه السلف الصالح.
ومما يؤسف له أيضاً:
التدابر بين أهل السنة –رجالاً ونساءً- في (هجر شخص) أو (التحذير من آخر) وكلا الفريقين من أهل السنة، وإنما الخلاف بينهم في (الحكم) على شخص! وهذه من أعظم آفات الزمان، حتى أوغرت الصدور، وافترقت الصفوف، واستبيحت الأعراض! ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن نظر في سير السلف، في تراجم عامة أهل البدع، سيجد من أهل السنة من خالف غيره في الحكم فيه، وذاك يحذر منه، وهذا يثني عليه، ومع ذلك عذر بعضهم بعضاً فيما انتهى إليهم (علمهم) و(حكمهم) ولم يتهاجروا ولم يتدابروا وكانوا إخوانا، واليوم –وللأسف- على قانون أولئك الطائشين: كل واحد منهم يوجب على غيره! أن يقول بقوله، وأن يهجر من هجر، ويواصل من وصل، ويحذر ممن حذر منه، ويحب من أحبه، ولا يقبل منك مخالفة، ولا يرضى منك إلا بقوله لا غير! وهذه جهالة وجاهلية وحزبية مقيتة، حذّر منها العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين من الفتاوى، وقد نقلته في رسائل عدة، كـ(العينية) و(الرسالة الأوروبية) فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا إخوانا، والسلام على من رضي من السلام ورحمة الله وبركاته"

هذا الكلام مثال صارخ على الاستهانة بعقول الخلق ، وتقديم قياس كلام السلف في فهمه على خلاف منطوقهم

وكنت قد كتبت مقالات عدة في بيان هذه المسألة وتكلمت في الدروس عليها ولكن أعقب على كلام هذا الشيء بعدة تعقيبات

الأول : قوله بأن ذكر مثالب أبي حنيفة من فضول القول هو في حقيقته رد على حرب الكرماني وعلى عبد الله بن أحمد وعلى العقيلي وعلى الإمام أحمد وأبي زرعة والبخاري وغيرهم لأن هؤلاء جميعاً تكلموا بأبي حنيفة بعد وفاته

وهذا الشيء يجريء الناس على السلف فحين تأتي أنت وأمثالك وتتهمون السلف بأنهم افتروا على أبي حنيفة وأن جرحه الموجود في الكتب لا يسوغ ذكره فهذا في حقيقته أن أئمة الجرح والتعديل ظلمة وهذا هدم للدين

الثاني : استدلاله بحديث عدم سب الموتى رد على السلف واستدلال في غيره محله

قال البخاري في صحيحه 1367: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ

أقول : فهذا ذمه الصحابة بعد وفاته وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم
قال ابن حجر معلقًا على قوله صلى الله عليه وسلم في البخاري : " لاتسبوا الأموات " : ( وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساويهم للتحذير منهم والتنفير عنهم . وقد أجمع العلماء على جرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتًا ) . ( الفتح 3/305) .

بل أجمعوا على وجوب هذا

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/ 231) :" وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؟ فَقَالَ: إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا أَفْضَلُ"

وهذا عبد الله بن أحمد والبخاري ومسلم والعقيلي وغيرهم ذموا أبا حنيفة بعد وفاته وبينوا مثالبه

فهل كلهم جهلوا الخبر على وجهه وعلمها هذا الشيء

ولو طردنا كلامه لعطلنا الجرح والتعديل

قال أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام وأهله 1289 - سمعت محمد بن عثمان النجيمي يقول:
((كان الحسين بن الشماخ الحافظ لا يدع أحداً من أهل الرأي يكتب عنه؛ فنشده رجل من أهل المغرب بالله وذكر له طول الرحلة؛ فروى له شيئاً من مساوئ أبي حنيفة، ولم يحدثه بحديث)).

بل الوارد عن السلف الكرام أنهم فرحوا بموت أبي حنيفة

قال عبد الله بن أحمد في السنة 284 - (302) حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ أبي مُزَاحِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْعُذْرِيَّ، يَقُولُ: قِيلَ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَاتَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَبَسَ بِهِ بَطْنَ الْأَرْضِ».

وقال أيضاً 306 - (324) حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، ثنا أَبُو تَوْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنِ #157# الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُو حَنِيفَةَ، قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْقُضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً».

حماد بن زيد إمام أهل البصرة والأوزاعي إمام أهل الشام ولا يخلو كتاب من كتب الأحاديث من حديث هذين الإمامين اللذين أجمعت الأمة عليهما

فتأمل إلى أي وقت كان أهل الحديث يذكرون هذا الأمر ويذمون به أهل الرأي

الثالثة : دعواه أن أبا حنيفة رجع عن السيف بإجماع المسلمين كذب على المسلمين وقح وفج

قال عبد الله بن أحمد في السنة 185 : حدثني أبو الفضل الخراساني ، حدثني إبراهيم بن شماس السمرقندي ، قال قال رجل لابن المبارك ونحن عنده
إن أبا حنيفة كان مرجئا يرى السيف . فلم ينكر عليه ذلك ابن المبارك

وقال عبد الله في السنة 186 : حدثني أبو الفضل الخراساني ، ثنا الحسن بن موسى الأشيب ، قال : سمعت أبا يوسف ، يقول :
كان أبو حنيفة يرى السيف  قلت : فأنت ؟ قال : معاذ الله .
وهذا النص بعد وفاة أبي حنيفة وأبو يوسف نصه مقدم على كلام الطحاوي الذي لم يدرك أبا حنيفة

وقال عبد الله في السنة 314 : حدثني محمد بن هارون أبو نشيط ، حدثني أبو صالح يعني الفراء قال : سمعت أبا إسحاق الفزاري ، يقول :
كان أبو حنيفة مرجئا يرى السيف .

وقال عبد الله في السنة 327 : حدثني أبو الفضل الخراساني ، نا أحمد بن الحجاج ، نا سفيان بن عبد الملك ، حدثني ابن المبارك ، قال : ذكرت أبا حنيفة عند الأوزاعي وذكرت علمه وفقهه فكره ذلك الأوزاعي وظهر لي منه الغضب وقال :   تدري ما تكلمت به تطري رجلا يرى السيف على أهل الإسلام ، فقلت : إني لست على رأيه ولا مذهبه ، فقال : قد نصحتك فلا تكره فقلت قد قبلت .

وقال ابن أبي حاتم تقدمة الجرح والتعديل ص269 نا محمد بن احمد بن ابي عون النسائي نا احمد بن حكيم أبو عبد الرحمن هذا الباب بتمامه من م فقط وكأنه المروزي نا احمد بن سليمان نا الاصمعي عبد الملك بن قريب قال :
 كنت عند هارون امير المؤمنين وأبو يوسف بجنبه إذ دخل عليه أبو اسحاق الفزاري فأقيم من بعيد قال فنظر إليه هارون فقال انا لله وانا إليه راجعون وقع الشيخ موقع سوء ، قال وإذا الرجل عزيم صريم.
 قال فقال له هارون : انت الذي تحرم لبس السواد ؟ قال فقال معاذ الله يا امير المؤمنين انا من اهل بيت سنة وجماعة ولقد خرجت مرة في بعض هذه الثغور وخرج اخي مع ابراهيم إلى البصرة فقال لي استاذ هذا [  يعني أبا حنيفة أستاذ أبي يوسف ]  :
 لمخرج اخيك مع ابراهيم احب الي من مخرجك . وهو يرى السيف فيكم ، فلعل هذا الجالس بجنبك اخبرك بهذا ، على هذا وعلى استاذه لعنة الله وغضبه .
 قال فما زال هارون يقول له : ادن - حتى اقعده فوق ابي يوسف ، وابو يوسف منكس رأسه ، قال فقال له يا ابا اسحاق قد امرنا لك بثلاثة آلاف دينار وبغل وفرس

فلو كان أبو يوسف يعلم رجوعاً عن أبي حنيفة لذكره وكذا الفزاري وابن المبارك وغيرهم

وما كان العقيلي وعبد الله بن أحمد وغيرهم من الأئمة ظلمة ولا فجرة ليثلبوا الرجل بأي رجع عنه

فعلم أن الطحاوي خالف الجميع في دعواه أن أبا حنيفة يرى السمع والطاعة لأئمة الجور

وهذا الجصاص الحنفي ينقل هذا القول عن أبي حنيفة في كتابه أحكام القرآن فأي رجوع تتحدثون عنه معاشر المتفيقيهين

وأما دعواه الإجماع على رجوعه عن القول بخلق القرآن فهذا كذب أيضاً

قال عبد الله بن أحمد في السنة 215 : حدثني أبي ، ثنا شعيب بن حرب ، قال : سمعت سفيان الثوري ، يقول : ما أحب أن أوافقهم على الحق .
قلت لأبي رحمه الله يعني أبا حنيفة ؟ قال : نعم ، رجل استتيب في الإسلام مرتين . يعني أبا حنيفة .
قلت لأبي رحمه الله : كأن أبا حنيفة المستتيب ؟ قال : نعم .
سمعت أبي رحمه الله ، يقول :  أظن أنه استتيب في هذه الآية { سبحان ربك رب العزة عما يصفون  } قال أبو حنيفة : هذا مخلوق ، فقالوا له : هذا كفر فاستتابوه

وهذا إسناد صحيح ، واستتابة أبي حنيفة من الكفر متواترة وقد تأول عمرو بن عبد المنعم هذه الاستتابة على استتابته من الإرجاء ، وهذا تأويل فاسد إذ أن الإرجاء ليس كفراً ، ولم يرد عن أحد من السلف أنه عرض شخصاً على السيف من أجل الإرجاء ، ولما هو بالذات من دون بقية المرجئة يستتاب ؟!

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 218 : حدثني عبيد الله بن معاذ العنبري ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت سفيان الثوري ، يقول :
استتيب  أبو حنيفة من الكفر مرتين .

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 255 : حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي ، ثنا هيثم بن جميل ، قال : قلت لشريك بن عبد الله استتيب  أبو حنيفة ؟
قال : علم ذلك العواتق  في خدورهن .

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 257 : حدثني هارون بن سفيان ، حدثني الوليد بن صالح ، قال : سمعت شريكا ، يقول :
استتيب  أبو حنيفة من كفره مرتين من كلام جهم ومن الإرجاء .

وهذه الرواية تبطل تأويل عمرو عبد المنعم سليم  لذا أعلها بجهالة هارون بن سفيان
والجواب : شيوخ عبد الله بن أحمد ثقات إذ أنه لم يكن يكتب إلا عمن أذن له فيه أبوه

قال ابن حجر في تعجيل المنفعة (1/15) : " كان عبدالله ابن أحمد لا يكتب إلا عن من أذن له أبوه في الكتابة عنه وكان لا يأذن له أن يكتب إلا عن أهل السنة حتى كان يمنعه ان يكتب عن من أجاب في المحنة "

وقال الخلال في السنة 810 : وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ هَارُونَ بْنَ سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:  هَذِهِ أَحَادِيثُ الْمَوْتَى.

فعبد الله يروي عن أبيه بواسطته ولا يرضى عبد الله أن يجعل بينه وبين أبيه إلا الثقات

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 284 : حدثني أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، وحسن بن صالح :
أنهما شهدا أبا حنيفة وقد استتيب من الزندقة مرتين

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 301 : حدثني أبي رحمه الله ، قال : سمعت ابن عيينة ، يقول :   استتيب  أبو حنيفة مرتين .

وقال عبد الله بن أحمد في السنة 319 : حدثنا موسى الأنصاري ، قال : سمعت أبا خالد الأحمر ، يقول :   استتيب أبو حنيفة من الأمر العظيم مرتين .
وهذه كلها أسانيد صحاح
وقال عمرو بن عبد المنعم في ص18 في الدفاع عن أبي حنيفة :" وذكر الساجي : قال : حدثنا أبو حاتم الرازي : حدثنا عباس بن عبد العظيم عن محمد بن يونس : إِنَّمَا اسْتُتِيبَ أَبُو حَنِيفَةَ لأَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَاسْتَتَابَهُ عِيسَى بْنُ مُوسَى
قلت : محمد بن يونس لم أجد من ترجمه "

أقول : عافاك الله من بلية العجلة ، محمد ابن يونس هو محمد بن حاتم بن يونس المصيصي منسوب إلى جده ثقة عابد وهو من شيوخ عباس بن عبد العظيم فالسند صحيح

ثم أورد ما روى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (1/65) :فأخبرني محمد بن الوليد قال: سمعت أبا مسهر يقول: قال سلمة بن عمرو القاضي على المنبر: لا رحم الله أبا حنيفة، فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق.

وأعقبه بالطعن في سلمة بن عمرو بالجهالة ! وأن التوثيق الوارد في حقه في تاريخ دمشق لا يعتمد

وهذا تناكد فالرجل يروي عنه أبو مسهر إمام أهل الشام وكان قاضياً والأصل فيمن يتولى مثل هذا المنصب العدالة في تلك الأزمان ، ولم يعقبوا على خبره بنقد

وقال الخطيب في تاريخه 36: أخبرنا العتيقي، أَخْبَرَنَا جعفر بن مُحَمَّد بن علي الطاهري، حدّثنا أبو القاسم البغوي  ، حدّثنا زياد بن أيّوب، حَدَّثَنِي حسن بن أبي مالك- وكان من خيار عباد الله- قال: قلت لأبي يوسف الْقَاضِي: ما كان أَبُو حنيفة يقول في القرآن؟ قال: فقال: كان يقول القرآن مخلوق. قال: قلت. فأنت يا أبا يوسف؟ فقال لا. قال أَبُو القاسم: فحدثت بهذا الحديث الْقَاضِي البرتي فقال لي: وأي حسن كان وأي حسن كان؟! يعني الحسن بن أبي مالك. قال أَبُو القاسم: فقلت للبرتي هذا قول أبي حنيفة؟ قال: نعم المشئوم. قال: جعل يقول أحدث بخلقي.

وطعن عمرو بن عبد المنعم بهذا الخبر بحسن بن أبي مالك

وفاته أمران

الأول : أن حسن بن أبي مالك وصف في السند بأنه من خيار عباد الله ، ومثل هذا يقبل في خبر مقطوع

الثاني : أن البغوي نقل عن البرتي وهو فقيه حنفي تصديقه للخبر في مذهب أبي حنيفة

وإذا كان أبو يوسف والبرتي يثبتان عليه القول بخلق القرآن فهذا يعارض نفي الطحاوي في عقيدته وقولهما مقدم
وقد اعتمد عمرو بن عبد المنعم ما أخرج الخطيب في تاريخه (13/274) : 32- وَقَالَ النخعي: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر المروذي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حنبل يَقُولُ: لم يصح عندنا أَنَّ أَبَا حنيفة كَانَ يَقُولُ القُرْآن مخلوق.

النخعي هو علي بن محمد النخعي حنفي من أهل الرأي وثقه الخطيب وانفرد بعدة أخبار في مناقب أبي حنيفة لا يرويها إلا هو ، ومنها هذا الخبر إذ لا يوجد في شيء من الكتب هذه الرواية عن أحمد إلا من طريق هذا الرجل فهذا محل ريبة

وإذا خالفت روايته رواية عبد الله ابن الإمام أحمد رجحت رواية عبد الله

قال عبد الله بن أحمد في السنة 215 : حدثني أبي ، ثنا شعيب بن حرب ، قال : سمعت سفيان الثوري ، يقول :   ما أحب أن أوافقهم على الحق .
 قلت لأبي رحمه الله يعني أبا حنيفة ؟ قال :   نعم ، رجل استتيب في الإسلام مرتين   يعني أبا حنيفة ، قلت لأبي رحمه الله : كأن أبا حنيفة المستتيب ؟ قال :   نعم   سمعت أبي رحمه الله ، يقول :   أظن أنه استتيب في هذه الآية ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون  ) قال أبو حنيفة : هذا مخلوق ، فقالوا له : هذا كفر فاستتابوه

وقد قال عمرو ( هذا الحكم ظني فلا يعتمد ) والإمام أحمد إنما شك في الآية ولم يشك في أصل القصة وظن إمام حافظ كالإمام أحمد يساوي يقين غيره ، وقد تقدم معنا ما تواتر من أن الرجل استتيب من الكفر مرتين

ثم إن عجبي لا يكاد ينتهي ممن يحتج بهذا الخبر في تاريخ بغداد ( يعني قول أحمد ) ويترك ما في تاريخ بغداد من قول أحمد

قال الخطيب في تاريخه 94: أَخْبَرَنَا البرقاني، حدثني محمّد بن العبّاس أبو عمرو الخزّاز  ، حَدَّثَنَا أَبُو الفضل جعفر بن مُحَمَّد الصندلي- وأثنى عليه أبو عمرو جدّا- حَدَّثَنِي المروذي أَبُو بكر أَحْمَد بن الحجاج سألت أبا عبد الله- وهو أَحْمَد بن حنبل- عن أبي حنيفة وعمرو بن عبيد. فقال: أبو حنيفة أشد على المسلمين من عمرو بن عبيد، لأن له أصحابا.
وهذا إسناد صحيح



زد على ذلك أن أبا زرعة أثبت على أبي حنيفة هذا القول في الضعفاء للبرذعي وكذا أثبته ابن معين

قال الخطيب في تاريخه (15/ 573) : أَخْبَرَنَا العتيقي، قَالَ: حَدَّثَنَا تمام بن مُحَمَّد بن عَبْد الله الرَّازِيّ بدمشق، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الميمون عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الله البَجَلِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ نصر بن مُحَمَّد البَغْدَادِيّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بن معين، يَقُولُ: كَانَ مُحَمَّد بن الحَسَن كذابا وَكَانَ جهميا، وَكَانَ أَبُو حنيفة جهميا ولم يكن كذابا.

وهذا إسناد صحيح نصر اسمه ( مضر ) تصحف كما نبه عليه المعلمي

فهذا أولاً يبطل الاتفاق المزعوم على أنه رجع وثانياً يجعل هذا في مقابل دعوى الرجوع
وأبو زرعة وابن معين لهما خصوصية في حال أبي حنيفة فابن معين كان تلميذاً لمحمد بن الحسن الشيباني وقرأ عليه كتاب الجامع وأدرك عدداً ممن أدرك أبا حنيفة ، بل ادعى جماعة أنه كان على مذهبه في الفقه
وأما أبو زرعة فكان هو نفسه من أهل الرأي - ثم رجع إلى مذهب أهل الحديث -  وغايته أن يروي عن أبي حنيفة بواسطتين - وشيوخه كلهم ثقات -  فإذا أثبت هو وابن معين على أبي حنيفة شيئاً كان دفعه شاقاً على الدافع
وعادة الباحثين في هذا الباب أنهم يقولون ( المثبت مقدم على النافي ) ، فيقدم قول ابن معين وأبي زرعة على قول أحمد ( إن صح ) لأن أحمد ناف وهما مثبتان ، ولكن هذه القاعدة من القواعد التي غيبت أيضاً في بحث أبي حنيفة ، بل غاية أمر أحمد إذا قال ( لم يصح ) أنه يضعف راوي تلك الحكاية أو يجهله فإذا عدله أبو زرعة وابن معين ارتقا إلى الحجية



وحل النزاع فيما روى عبد الله بن أحمد في السنة 224 - (238) حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي حَمَّادُ بْنُ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: أَرْسَلَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَبِي فَقَالَ لَهُ: تتوب مِمَّا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَإِلَّا أَقْدَمْتُ عَلَيْكَ بِمَا تَكْرَهُ، قَالَ: فَتَابَعَهُ قُلْتُ: يَا أَبَة كَيْفَ فَعَلْتَ ذَا؟ #127# قَالَ: «يَا بُنَيَّ خِفْتُ أَنْ يَقْدُمَ عَلَيَّ فَأَعْطَيْتُ تَقِيَّةً».

فرجوعه تقية ودليل ذلك تكرر استتابته

الأمر الأخير : ذكره مجموعة من أهل الإرجاء غير الغالي وممن لم يؤثر عليهم الحيل ولا التجهم ولا الاستهزاء بالسنن فذكر بعض ما قيل في مدحهم واجتنب ما قيل في ذمهم

ولكن هنا وقفة ألم يسأل المتحاذق نفسه لماذا أبو حنيفة لم يخرجوا مروياته في الكتب وخرجوا مرويات هؤلاء جميعاً ؟

ألم يسأل نفسه لماذا أبو حنيفة فقط قال فيه سفيان والأوزاعي وابن عون ومالك ( ما ولد في الإسلام أشأم منه ) وابن عون كان مضرب مثل في حفظ اللسان ولغبار طار من نعل واحد من هؤلاء لهو خير من بدر بن علي وشيوخه وأعظم بلاء في الإسلام

فالجواب : أن أبا حنيفة أخبث من هؤلاء جميعاً فإرجاؤه غال وكان يكذب في تأييد الإرجاء مع ثبوت بلايا أخرى عليه كالحيل والكذب في الحديث والسيف والتجهم وغيرها وقد كان داعية

قال عبد الله بن أحمد في السنة 352 : حدثني سويد بن سعيد ، نا عبد الله بن يزيد ، قال :  دعاني أبو حنيفة إلى الإرجاء .

وأثبت عليه الدعوة إلى الإرجاء ابن حبان في المجروحين

قال ابن حبان في المجروحين :" لم يكن الحَدِيث صناعته حدث بِمِائَة وَثَلَاثِينَ حَدِيثا مسانيد مَا لَهُ حَدِيث فِي الدُّنْيَا غَيره أَخطَأ مِنْهَا فِي مائَة وَعشْرين حَدِيثا إِمَّا أَن يكون أقلب إِسْنَاده أَو غير مَتنه من حَيْثُ لَا يعلم فَلَمَّا غلب خَطؤُهُ على صَوَابه اسْتحق ترك الِاحْتِجَاج بِهِ فِي الْأَخْبَار وَمن جِهَة أُخْرَى لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ دَاعيا إِلَى الإرجاء والداعية إِلَى الْبدع لَا يجوز أَن يحْتَج بِهِ عِنْد أَئِمَّتنَا قاطبة لَا أعلم بَينهم فِيهِ خلافًا على أَن أَئِمَّة الْمُسلمين وَأهل الْوَرع فِي الدَّين فِي جَمِيع الْأَمْصَار وَسَائِر الأقطار جرحوه وأطلقوا عَلَيْهِ الْقدح إِلَّا الْوَاحِد بعد الْوَاحِد"
وأثبته أيضاً أبو زرعة وقد تقدم نقل نصه
قال عبد الله بن أحمد في السنة 316 : حدثني محمد بن هارون ، نا أبو صالح ، قال : سمعت الفزاري وحدثني إبراهيم بن سعيد ، نا أبو توبة ، عن أبي إسحاق الفزاري ، قال :   كان أبو حنيفة يقول إيمان إبليس وإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه واحد ، قال أبو بكر : يا رب ، وقال إبليس : يا رب .
وهذا إسناد صحيح وهذا إرجاء جهم

وقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان أن المرجئة الأوائل كإبراهيم التيمي لم يكونوا يقولون إيماني كإيمان جبريل

قال يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ حدثنا أبو بكر الحميدي ثنا حمزة بن الحارث مولى عمر بن الخطاب عن أبيه قال: سمعت رجلاً يسأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال أشهد أن الكعبة حق ولكن لا أدري هي هذه أم لا، فقال: مؤمن حقاً. وسأله عن رجل قال أشهد أن محمداً بن عبد الله نبي ولكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا. قال: مؤمن حقاً - قال أبو بكر الحميدي: ومن قال هذا فقد كفر - .
قال أبو بكر: وكان سفيان يحدث عن حمزة بن الحارث حدثنا مؤمل ابن إسماعيل عن الثوري بمثل معنى حديث حمزة.

وهذا إرجاء غال أعظم من الإرجاء الذي يدعي بدر بن علي أنه يحاربه

قال عبد الله بن أحمد في السنة 285 - (303) حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُوسَى، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَكَّةَ فَذَكَرَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَانْتَحَلَهُ فِي الْإِرْجَاءِ فَقُلْتُ مَنْ يُحَدِّثُكَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: سَالِمٌ الْأَفْطَسُ، فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ سَالِمًا يَرَى رَايَ الْمُرْجِئَةِ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: رَآنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ جَلَسْتُ إِلَى طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَكَ جَلَسْتَ إِلَى طَلْقٍ؟ لَا تُجَالِسْهُ، قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ، #152# قَالَ: فَنَادَاهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ وَمَا كَانَ رَاي طَلْقٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ نَادَاهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ قَالَ: وَيْحَكَ كَانَ يَرَى الْعَدْلَ "

وهذا إسناد صحيح وهنا أبو حنيفة يكذب صراحة على ابن جبير

قال الإمام مسلم في التمييز ص35 :" فأما رواية أبي سنان، عن علقمة، في متن هذا الحديث إذ قال فيه: إن جبريل عليه السلام حيث قال: جئت أسألك عن شرائع الإسلام. فهذه زيادة مختلقة، ليست من الحروف بسبيل. وإنما أدخل هذا الحرف - في رواية هذا الحديث- شرذمة زيادة في الحرف مثل ضرب النعمان بن ثابت وسعيد بن سنان ومن نحا في الإرجاء نحوهما. وإنما أرادوا بذلك تصويباً في قوله في الإيمان. وتعقيد الإرجاء , ذلك ما لم يزد قولهم إلا وهنا، وعن الحق إلا بعدا، إذ زادوا في رواية الأخبار ما كفى بأهل العلم"

فهنا الإمام مسلم يتهم النعمان بن ثابت أبا حنيفة صراحة بأنه اختلق زيادة في الحديث لتأييد مذهبه

وقد اتهم أبا حنيفة بالكذب الإمام أحمد

أما الإمام أحمد فقال العقيلي في الضعفاء  6135- حَدثنا سُليمان بن داوُد القزاز، قال: سمعتُ أَحمد بن الحَسن التِّرمِذي، قال: سمعتُ أَحمد بن حَنبَل، يقول: أَبو حَنيفَة يَكذِبُ.

وهذا إسناد صحيح إلى الإمام أحمد وقد صححه بديع الدين السندي في كتابه نقض قواعد التهانوي

وأما أبو زرعة الرازي فقال البرذعي في سؤالاته عن أبي زرعة :" وجعل يحرد على إبراهيم ويذكر أحاديث من رواية ابي حنيفة لا أصل لها فذكر من ذلك حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه الدال على الخير كفاعله وأنكر عليه حديثا آخر يرويه عن سنان الإيمان شرائع الإيمان وذكر أحاديث قد أوهم فيها وأنكرها من رواياته ثم قال لي من قال القرآن مخلوق فهو كافر -فيعني بما اسند الكفار- أي قوم هؤلاء"

وأما جعل أبي حنيفة محنة في الجرح فهذا ما فعله حرب الكرماني في عقيدته وهو أيضاً في عقيدة ابن المديني وتقدم معنا إنكار الأوزاعي على ابن المبارك مدحه لأبي حنيفة

والذي تفعله أنت وأضرابك مستفز جداً لأنكم تأتون إلى رجل جعله السلف رأساً في الضلال اجتمعت فيه ضلالات عظمى ثم تشيرون إشارات خفية إلى اتهام السلف بالحسد والظلم مع أنهم كلهم خير منه وتكذبون الروايات الصحيحة في ثلبه والتي اعترف بها حتى أهل مذهبه

والعجيب أنه يحتج بقول سفيان في ابن أبي رواد إنني لأرى الصلاة على من هو شر منه ولكن تركت الصلاة عليه ليعلموا أنه صاحب بدعة فليقارن فعل سفيان هذا بفعل شيوخه مع أبي حنيفة حيث جعلوه إماماً من أئمة أهل السنة ثم إنه يتناسى إنكار سفيان على من ترحم على زفر بن الهذيل وهو تلميذ لأبي حنيفة فقط ولم تجتمع فيه ضلالات أبي حنيفة وكذا إنكار الأئمة على من روى عن الحسن اللؤلؤي وما هو إلا فرع عن أبي حنيفة 


والواقع أنك أنت وشيوخك وعموم المنتسبين للعلم اليوم تشنون حرباً على أي إنسان يظهر اعتقاد السلف في أبي حنيفة أو تسلطون عليه الجهلة وتسكتون على ظلمهم وفجورهم ولا تدافعون عنه بحرف حتى إذا دمغتكم الحجج صرتم تنزلون البيانات الملأى بالكذب والاستهانة بعقول الخلق ثم تقولون فلان المرجيء مدح فلان فقهه أو زهده وما أنكروا عليه

نعم ولكن هل أنكروا على من أنكر عليه إرجاءه أيضاً ؟

وهل أبو حنيفة بوضوح ضلاله وإطباق السلف على الكلام فيه يقاس عليه غيره ؟

وهل يمكن أن نسكت على تصحيح روايات أبي حنيفة مع جرح المحدثين له ونسكت على تحامق الجهلة على أئمة السلف وقدحهم فيهم كفعلك حين أظهرتهم بأنهم يخالفون الأحاديث وادعيت عليهم أنهم يذكرون في ترجمته أموراً رجع عنها _ مع أنه رجع عنها بإجماع _!

ثم تأتي وتقيس غير الداعية ممن وقع في بدعة غير مكفرة وعرف بالعبادة والزهد والغيرة على الدين على إنسان داعية ويكذب في نصرة بدعته واجتمعت فيه ضلالات كبرى بعضها مكفر وعرف برقة الدين والحيل

وأخيراً أختم بكلام أئمة الهدى الذين احتج بدر بن علي بمدحهم لبعض الناس ونسي ذمهم لأبي حنيفة

قال عبد الله بن أحمد في السنة 235 - (249) حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عِيسَىَ بْنَ يُونُسَ، يَقُولُ: خَرَجَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَيَّ وَعَلَى الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ وَمُوسَى بْنِ أَعْيَنَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِبَيْرُوت بِكِتَابِ السِّيَرِ وَمَا رُدَّ عَلَى #132# أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: " لَوْ كَانَ هَذَا الْخَطَأُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَوْسَعَهُمْ خَطَأً، ثُمَّ قَالَ: مَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مَوْلود أَشْأَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ "
241 - (255) حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، ثنا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، شَرِيكُ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَوْنٍ، يَقُولُ: «مَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مَوْلُودٌ أَشْأَمَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ».

273 - (287) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْكَرْخِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: «مَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَدٌ أَشْأَمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ».

238 - (252) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ، ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَزَارِيَّ، يَقُولُ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ يَقُولَانِ «مَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَشْأَمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ».

وقال أيضاً 278 - (292) حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، ذَكَرَ أَبَا حَنِيفَةَ فَذَكَرَهُ بِكَلَامِ سُوءٍ وَقَالَ: " كَادَ الدِّينَ، وَقَالَ: مَنْ كَادَ الدِّينَ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ ".

وأما ما ذكره بدر بن علي من مدح أحمد للطاطري مع ما ذكر له من إرجائه وأذيته لأهل الحديث فهي رواية انفرد ابن عساكر في تاريخ دمشق وفي سندها رجل هروي ما عرفته وفي سندها ابن الأكفاني تكلموا فيه

ولكن أين يذهب بدر بن علي مما في مسائل الكوسج أن أحمد سئل ( أيؤجر الرجل على بغض أصحاب أبي حنيفة فقال نعم )

وما صح عنه أنه قال لا ينبغي أن يكتب عن أصحاب أبي حنيفة شيئاً _ يعني الحديث _

ومعلوم أن مذهب أحمد أن المرجيء الداعية لا يروى ولا يصلى خلفه وغير الداعية يرخص فيه

وهذه الرواية التي في سندها جهالة لو كانت في ثلب أبي حنيفة لنقدوها

وأما ذكره من أن إبراهيم بن طهمان قال بأن نوحاً كان مرجئاً فهذه رواية فيها محمد بن حميد الرازي متهم وأنا أتعنت لهم كما يتعنتون

وما ذكره عن أحمد لا يصح على أن إبراهيم بن طهمان ذا فضل وهو خير من أبي حنيفة بكثير
الجواب على هذا الاستدلال من وجوه:

الوجه الأول : أن هذا الأثر لا يصح عن الإمام أحمد وهو منكر عن أحمد ولا يشبه كلامه
 قال الخطيب في تاريخه (6/ 108) : أَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمّد بن نعيم، حدثني أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه- بخوار الري- حدّثنا محمّد بن صالح الصيمري- بالري- حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الكريم قَالَ: سمعت أحمد بن حنبل- وذكر عنده إبراهيم بن طهمان وكان متكئا من علة فاستوى جالسا- وَقَالَ: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ!
 ثم قَالَ أحمد: حَدَّثَنِي رجل من أصحاب ابن المبارك قَالَ: رأيت ابن المبارك في المنام ومعه شيخ مهيب
 فقلت: من هذا معك؟ قَالَ: أما تعرف؟ هذا سفيان الثوري، قلت: من أين أقبلتم؟
 قَالَ: نحن نزور كل يوم إبراهيم بن طهمان. قلت: وأين تزورونه؟ قَالَ: في دار الصديقين دار يحيى بن زكريّا.

أقول: أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه قال الخطيب في تاريخه: "صاحب عجائب ومناكير وغرائب".

وهو حنفي وإبراهيم بن طهمان يحبه الأحناف وينتحلونه، والصيمري حنفي أيضاً وقد قال فيه أبو أحمد الحاكم: "فيه نظر".

وقد روي خبر في كون إرجاء ابن طهمان ليس مذموماً ولا يصح
 قال الخطيب في تاريخه (7/13) : أَخْبَرَنَا محمد بن عمر بن بكير، قَالَ: أَخْبَرَنَا الحسين بن أحمد الصفار، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن ياسين، قَالَ: سمعت أحمد بن نجدة، وعلي بن محمد، يقولان: سمعنا أبا الصلت، يقول: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: ما قدم علينا خراساني أفضل من أبي رجاء عبد الله بن واقد الهروي
 قلت له: فإبراهيم بن طهمان قَالَ: كان ذاك مرجئا
 قَالَ علي قَالَ أبو الصلت: لم يكن إرجاؤهم هذا المذهب الخبيث أن الإيمان قول بلا عمل، وأن ترك العمل لا يضر بالإيمان، بل كان إرجاؤهم أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر الغفران، ردا على الخوارج وغيرهم الذين يكفرون الناس بالذنوب، فكانوا يرجون، ولا يكفرون بالذنوب، ونحن كذلك
 سمعت وكيع الجراح، يقول: سمعت سفيان الثوري في آخر أمره يقول: نحن نرجو لجميع أهل الذنوب والكبائر الذين يدينون ديننا ويصلون صلاتنا وإن عملوا أي عمل، وكان شديدا على الجهمية.

أحمد بن محمد بن ياسين متهم بالكذب ، والمتن منكر فإن عدداً وصفوه بالإرجاء فلو كان يقول قولاً سبقه إليه سفيان ما بلغ به الأمر هذا المبلغ.

الوجه الثاني: قد ثبت عن أحمد أنه تكلم فيه وما ذكر حسنة.

قال العقيلي في الضعفاء 205: حَدثنا مُحمد بن عِيسى، قال: حَدثنا مُحمد بن عَلي الوراقُ، قال: سمعتُ أَحمد بن حَنبل يقول: إِبراهيم بن طَهمان، مِن أَهل خُراسان، وكان مُرجِئًا يَتَكَلَّمُ.

وقد ترجم له العقيلي فلم يذكر له حسنة واحدة
 وقال العقيلي في الضعفاء 204- حَدثنا مُحمد بن سَعيد بن بَلج الرازي بِالرّي، قال: سمعتُ عَبد الرَّحمَن بن الحَكم بن بَشير بن سَلمان يَذكُرُ: عن عَبد العَزيز بن أَبي عُثمان، قال: كان رَجُل مِن المَغارِبَة يُجالس سُفيان، وكان سُفيان يَستَخِفُّهُ، ثُم جَفاه فَشَكا ذَلك إِلَينا، قال: فَقلت لَه: تُكَلِّم فُلانًا، فَإِنه أَجرَأ على سُفيان، قال: فَكَلَّمَهُ، قال: فقال: يا أَبا عَبد الله, هَذا الشَّيخ المَغرِبي قَد كُنت تَستَخِفَّه فَما حالُه اليَوم؟ فَلَم يَزَل به حَتَّى قال سُفيان: إِنه يُجالس ... ولَم يُسَم أَحَدًا، قال: فقال لَه: مَن جالَستَ؟
 قال: جالَست يَومًا إِلى إِبراهيم بن طَهمان في المَسجِد الحَرام، ودَخَل سُفيان مِن باب المَسجِد فَنَظر إِلَي، فَأَنكَرت نَظرَهُ.

وهذا إسناد صحيح إلى سفيان فسفيان هجر رجلاً لأنه جالس إبراهيم بن طهمان فقط

ونعم الناس أثنوا عليه لرده على الجهمية ووثاقته في الحديث والأمران مفقودان في أبي حنيفة أصلاً وهو لم يكن صاحب رأي ولا سيف وما فعله سفيان به على سنن فعل سعيد بن جبير مع طلق بن حبيب عسى أن يرجعوا


وأنه لا تختلف عنه الرواية أنه استفتاء أهل الرأي ، وأنتم اليوم في جامعاتكم تجعلون كأهل الحديث تماماً وتعتمدون مذاهبهم وتدرسون عقيدة الطحاوي التابعة لهم ويأتيكم الديوبندية والأحناف من كل بلد فتقرونهم على مذهبهم أنه مذهب معتبر ومنهم من يطعن في أئمة الإسلام دفاعاً عن أهل الرأي

وهؤلاء الأئمة الجبال لو خالفهم الشافعي أو ابن معين لما كان خلافه مؤثراً في قولهم كما خالف الشافعي في إبراهيم الأسلمي

فكيف بشيخ الإسلام ؟

على أنني كتبت مقالاً في تحرير موقفه من أهل الرأي وأكتفي هنا بذكر بعض الكلام

قال ابن تيمية _ رحمه الله _ في رده على السبكي في مسألة تعليق الطلاق (2/837) :" وأكثر أهل الحديث طعنوا في أبي حنيفة وأصحابه طعناً مشهوراً امتلأت به الكتب ، وبلغ الأمر بهم إلى أنهم لم يرووا عنهم في كتب الحديث شيئاً فلا ذكر لهم في الصحيحين والسنن "

أقول : استحضر أن هذا من أواخر تآليف ابن تيمية وقد ذكره في سياق دفع السبكي الاعتداد بداود الظاهري في الخلاف لكونه مطعوناً فيه فأجابه ابن تيمية بعدة أوجه منها أن العبرة بالأدلة وداود معه صحابة وتابعين في المسألة و أن السبكي نفسه يعتد بأناس طعن فيهم في الخلاف ، بل ذكر حتى من طعن في مالك والشافعي وليس مالك والشافعي كداود وأبي حنيفة

ولا شك أن ابن تيمية نفسه يعلم جيداً أن طعون أهل الحديث ليست كطعون متعصبة العراقيين

وهو نفسه يقرر دائماً أن الحق لا يخرج عن أهل الحديث وعرف الفرقة الناجية والطائفة المنصورة في الواسطية بأنهم أهل الحديث ، ولكنه هنا يلزم السبكي فحسب

وهذا النص من ابن تيمية _ رحمه الله _ يستفاد منه عدة أمور

الأول : أن الطعن في أبي حنيفة وأصحابه هو مذهب أكثر أهل الحديث _ بنص ابن تيمية _ والواقع أنه مذهبهم كلهم ولكن لعل الشيخ اغتر ببعض ما ينسب لابن معين أو يروى عن بعضهم من الثناء على أهل الرأي

الثاني : أن من ضمن هؤلاء الطاعنين أصحاب الصحاح والسنن وأن اجتنابهم لتخريج حديث أبي حنيفة وأصحابه لعلة المنافرة والبغض والطعن

فالبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ممن يطعن في أبي حنيفة وأصحابه ويجتنبه لهذا الداعي بشهادة ابن تيمية _ رحمه الله _

ومن كان هؤلاء سلفه في بابهم الذي هو الجرح والتعديل مع بقية أئمة الإسلام فلا يضره تشغيب الصعافقة

الثالث : أن هذا طعن مشهور امتلأت به الكتب ، فكيف يستطيع أحد أن يكتمه والحال

وليعلم أن ناسخ المخطوط لما رأى من غلظ هذه الكلمة أضاف عليها ترضياً على أبي حنيفة ! وأتبعه بمثله عن مالك والشافعي ، وابن تيمية رجل حنبلي وقد ذكر أحمد عدة مرات في هذه الرسالة ولم يترضَ عليه فيترضى عن أبي حنيفة !

وعادته أنه لا يترضى عن غير الصحابة وقد فعل ذلك أحياناً مع أحمد

ولا تستغرب فقد فعلوا في كتاب الأم للشافعي فإنك ترى الشافعي يذكر أبا حنيفة في محل ذم أو نقد ويكتبون إلى جانب اسم أبي حنيفة _ رضي الله عنه _ والشافعي في الأم يذكر الكثير من الأعيان الفضلاء ممن يعتقد فيهم أنه أجل من أبي حنيفة ولا يترضى عليه

ولابن تيمية نص آخر قد لا يعجب الخلفيون الطاعنين في الآخذين بمذاهب السلف

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (20/186) :" فَالْمُبْتَدِعَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى غَيْرِهِ إذَا كَانُوا جهمية أَوْ قَدَرِيَّةً أَوْ شِيعَةً أَوْ مُرْجِئَةً؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْهَبًا لِلْإِمَامِ إلَّا فِي الْإِرْجَاءِ؛ فَإِنَّهُ قَوْلُ أَبِي فُلَانٍ وَأَمَّا بَعْضُ التَّجَهُّمِ فَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَيْهِ مَا بَيْنَ سُنِّيَّةٍ وجهمية؛ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ؛ مُشَبِّهَةٍ وَمُجَسِّمَةٍ؛ لِأَنَّ أُصُولَهُ لَا تَنْفِي الْبِدَعَ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتْهَا"

وأبو فلان هذا هو أبو حنيفة تصرف الناسخ أو المحقق فغير اسمه وهذا ظهر في الرسالة المفردة التي حققها بعضهم حين ذكر الاسم صريحاً

ولو قلت لشخص من هؤلاء ( أنت أصولك لا تنفي البدع ومذهبك الإرجاء ) سيرى أنني طاعن فيه أليس كذلك ؟

فليقل ابن تيمية يطعن في أبي حنيفة، وأخيراً أقول الناس ليسوا بحاجة للكذب على أبي حنيفة بعد ما ثبت عنه وهذا الكاتب وغيره متلاعبون فهم يرون غلواً في الشخص لا يناسب كلام السلف فيه بل كثير من الكلام تكذيب للسلف فيسكتون فإذا جاءت البينات كتبوا مثل والذي ينطوي أيضاً على تكذيب الآثار السلفية وسترها وهم أنفسهم لا يرون أن كل مبتدع وعلى حال يقال عنه ( إمامنا وقدوتنا ومن يتكلم فيه فهو مبتدع ) ونبرأ إلى الله ممن يتكلم فيه وغيرها من العبارات الفجة ، وشأن هذا الكاتب كمن يقول أن ثبوت مدح قتادة من بعض السلف يقتضي مدح عمرو بن عبيد وجعله إماماً للاشتراك في اسم القدر ! دون مراعاة لمراتب البدعة نفسها والأمور الأخرى المقترنة 

تنبيه : نعم قد وقع لبعض أئمة أهل الحديث مدح مقيد لأبي حنيفة في بعض الأبواب كما وقع من يحيى بن معين حين فضل فقهه على فقه الشافعي وهذه زلة ولكن الناس احتملوها له لأنه إمام في الحديث طريقته مغايرة بالجملة لطريقة أهل الرأي وما اعتذر به لابن معين يعتذر به من باب أولى لمن تأخر في أزمنة تسلط فيها الأحناف ولكن هذا لا يبرر تقليده كما لا يبرر توثيق الشافعي للأسلمي قبول روايته ولا التصريح بما فيه طعن بالسلف أو التشنيع على من يأخذ بكلامهم فالحق كاد يضيع بين الجفاة والغلاة 
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي