مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: نظرة شرعية في معدلات الانتحار العالية ...

نظرة شرعية في معدلات الانتحار العالية ...



أما بعد :



فقد قرأت أن معدلات الانتحار مرتفعة جداً حتى أن منظمة الصحة العالمية تقول بأن المسجل عندها مليون شخص يقتلون أنفسهم انتحاراً

ومن بين الدول التي تصنف عالمياً في معدلات الانتحار دول كاليابان وليتوانيا وروسيا البيضاء _ وهي من دول الاتحاد السوفييتي المنحل _

وغيرها فما السبب في هذا ؟

الذي يظهر والله أعلم أن الإنسان يتخلى عن حياته إذا رخصت عليه والأطروحات المادية التي تملأ العالم تكرس لهذا

فالإنسان ذرة لا معنى لها في هذا الكون الفسيح وهو كتلة من الطفرات العشوائية النافعة ولا يوجد يوم آخر ولا هدف من وجوده هنا وإنما هو صراع من أجل البقاء والمشاعر والأخلاق أمور لا يوجد لها أي تفسير مادي ولا ينبغي الوقوف عندها كثيراً 

فبعض الأفكار قاتلة أكثر من الأسلحة الفتاكة 

ولهذا يصف دوكنز الملحد البشر بأنهم روبوتات خرقاء ويصفهم هوكنج البشر بأنهم حثالة 

يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه الأشهر نهـاية التاريخ وخاتم البشر ص 259 يقول : حقوق الانسان لها مشكلة فلسفية عميقة إذ لابد أولا أن نفهم الإنسان قبل أن نبحث في حقوقه نفهم طبيعة الإنسان فالعلوم الطبيعية الحديثة تشير إلى أنه ليس ثمة فارق بين الانسان والطبيعة وعندما نوسع في المساواة التي تنكر وجود أي اختلافات بين البشر فيمكن أن يشمل ذلك إنكار وجود اختلافات هامة بين الانسان والقردة العليا وتنشأ عن ذلك أسئلة لا حصر إذ كيف يكون قتل البشر غير مشروع في حين قتل هذه الحيوانات ليس كذلك وسنصل حتما في مرحلة ما إلى السؤال التالي
ولماذا لا تتمتع الطفيليات المعوية والفيروسات بحقوق مساوية لحقوق الإنسان ؟
إننا لو كنا نؤمن حقا أن الانسان مجرد كائن في سلسلة حيوانية يخضع لقوانين الطبيعة ليست له قيم متجاوزة وهنا لابد أن تتساوى الكائنات جميعا في الحقوق وسيتعرض ساعتها المفهوم المساواتي للبشر للهجوم من أعلى ومن أسفل ولا يسمح لنا هذا المأزق الفكري الذي أوقعتنا فيه النسبية الحديثة بأن نرد على هذا الهجوم أو ذاك وبالتالي لا يسمح لنا بالدفاع عن الحقوق المساواتية
المصدر : فرانسيس فوكوياما .. نهـاية التاريخ وخاتم البشر ..ترجمة : حسين أحمد أمين .. الطبعة الأولى 1993 مركز الأهرام للترجمة والنشرص 259
الإلحاد فعلا فخ كبير وصاحبه مضطر كل يوم للتنازل عن عقله وعن ضميره وعن روحه وان يبيع كل يوم شيئا من مبادئه حتى يستقيم له إلحاده ومع الوقت يتحول الملحد إلى كلب ذليل مريض كما يقول فوكوياما بالحرف أنه : داخل المجتمع المادي سيصبح الناس حيوانات من جديد كما كانوا قبل المعركة الدامية التي بدأ بها التاريخ إن الكلب يقنع بالنوم في ضوء الشمس طوال اليوم شرط أن يطعموه وذلك لانه راض بما هو عليه ولن يقلقه أن غيره من الكلاب حالها أفضل من حاله أو أن مستقبله ككلب قد جُمد أو أن كلابا في بقعة نائية من العالم تصادف المذلة والهوان .
المصدر : فرانسيس فوكوياما .. نهـاية التاريخ وخاتم البشر ..ترجمة : حسين أحمد أمين .. الطبعة الأولى 1993 مركز الأهرام للترجمة والنشرص 271  

فهذا دارويني طرد أصوله وهذه كارثة محضة تجعل دم البشر من أرخص ما يكون

فالأسئلة الوجودية ( من أين جئت وما ظيفتي هنا وإلى أين أذهب )؟ إذا فقد الإنسان أجوبتها تحولت حياته إلى ضنك شديد

وهذه الدنيا كل ملذاتها من مطاعم ومشارب ومناكح اختلط بها ما يكدرها والإنسان مجبول على الملل ، ثم إن مصائب الدنيا كثيرة ولا يمكن أن تواجه بالماديات فحسب

فلا بد للإنسان من دين حتى يصير لحياته تمايز عن حياة الأنعام والميكروبات

قال الله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )

وقال الله تعالى : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

وقال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)

وقال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )

فمن لا يؤمن بهذا فهو صائر إلى اعتقاد أنه لا فرق بين حياته وحياة الميكروبات التي يقتلها إذا استحم فكلنا جئنا من خلية بدائية ونهايتنا العدم لا حساب ولا عقاب وأن كل الظلم الذي نراه في الدنيا ولم يحاسب فيه الظالمون هؤلاء الظالمون محظوظون لأن حياتهم ستنتهي كما تنتهي حياة المظلومين ولا يوجد يوم عدالة كلي كيوم القيامة

وليس الإيمان بالله عز وجل هو المنقذ فحسب بل هناك الإيمان بالقدر وهو من ضمن الإيمان بالله

حيث تؤمن أن كل مصيبة هي من تقدير الله عز وجل وأن له في كل شيء حكمة وأنه سبحانه يكفر سيئاتك بالابتلاء ويجعلها لك عبرة لكي ترجع له

قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42))

وقال تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19))

قال ابن القيم في مدارج السالكين :" وَيُحْكَى عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ أَنَّهَا عَثَرَتْ. فَانْقَطَعَتْ إِصْبَعُهَا. فَضَحِكَتْ. فَقَالَ لَهَا بَعْضُ مَنْ مَعَهَا: أَتَضْحَكِينَ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ إِصْبَعُكِ؟ فَقَالَتْ: أُخَاطِبُكَ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ. حَلَاوَةُ أَجْرِهَا أَنْسَتْنِي مَرَارَةَ ذِكْرِهَا. إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا فَوْقَ هَذَا الْمَقَامِ. مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمُبْتَلِي. وَمُشَاهَدَةِ حُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ، وَتَلَذُّذِهَا بِالشُّكْرِ لَهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ، وَمُقَابَلَةِ مَا جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. كَمَا قِيلَ:
لَئِنْ سَاءَنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمُسَاءَةٍ ... فَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكَا"

ولهذا كان الانتحار في الإسلام من الذنوب العظيمة 

وحين يستحضر المرء أن له رباً غفوراً رحيماً سخر كل ما في هذا الكون لمنفعته وأراد منه عبادته

وخصه بالمنطق والأكل باليدين وبالوعي وبإرسال الرسل وباستخدام النار وبالقدرة على التركيب في الطعام والدواء وغيرها من الخصائص العجيبة فكيف يرضى لنفسه أن يكون دون الحيوانات التي لا تؤذي نفسها عمداً إلا لمصلحة أعظم

والإيمان على منهج أهل السنة والجماعة من أهل الإسلام هو المناسب وإلا فالإيمان بأن غيرك صلب ليحمل ذنوبك لا يجعل لك رغبة في الازدياد من العمل الصالح أو تكفير السيئات

أو الإيمان بأنك شعب المختار كذلك

والناس يرون أن في هذا العالم توجد مجاعات وفقر مدقع في العديد من البلدان مع وجود دول تلقي القمح في الماء ومليارات تنفق على الترفيه فحسب من ألعاب وغناء وتمثيل فما يسمى بالمنظمات الدولية لم توفر كبير عدل في العالم كيف وهناك دول تحمل حق الفيتو دون غيرها وهذه الدول نفسها تستخدم الأسلحة المحرمة دولياً إذا احتاجت

والمسلم اليوم عليه مسئولية إنقاذ البشر من هذه الضلالات وتعريفهم الغاية التي من أجلها خلقوا فهذا أمر سار فيه الأنبياء وحمله عن أفضل الأنبياء الصحابة ثم التابعين ثم العلماء المخلصين في كل عصر حتى وصل الأمر إلينا

قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله :"  608 - وَرَوَى ابْنُ عَائِشَةَ، وَغَيْرُهُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: «وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّاسَ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ , فَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلْمِ تَتَبَيَّنُ أَقْدَارُكُمْ» وَيُقَالُ: إِنَّ قَوْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَقَالُوا: لَيْسَ كَلِمَةٌ أَحَضَّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مِنْهَا قَالُوا: وَلَا كَلِمَةٌ أَضَرَّ بِالْعِلْمِ وَبِالْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَا تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ شَيْئًا [ص:417]

609 - قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ - أَوْ قَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ - مَا يُحْسِنُ مِنَ الْكَلَامِ الْعَجِيبِ الْخَطِيرِ وَقَدْ طَارَ النَّاسُ بِهِ كُلَّ مَطِيرٍ وَنَظَمَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ إِعْجَابًا بِهِ وَكَلَفًا بِحُسْنِهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا يُعْزِي إِلَى الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ قَوْلَهُ:
[البحر الخفيف]
لَا يَكُونُ السَّرِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ ... لَا وَلَا ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْعَيِيِّ
لَا يَكُونُ الْأَلَدُّ ذُو الْمَقُولِ الْمُرْ ... هَفِ عِنْدَ الْقِيَاسِ مِثْلَ الْغَبِيِّ
قِيمَةُ الْمَرْءِ كُلُّ مَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ ... قَضَاءً مِنَ الْإِمَامِ عَلِيٍّ"

فكيف إذا كان ما يحسن المرء علم الوحي الذي به يعرف الناس ربهم بأسمائه وصفاته وبه يعرفون ما يرضيه وما لا يرضيه ويعرفون مآلاتهم وما يصلحون به قلوبهم وكيف يعبدون ربهم وكيف يتعاملون مع أبنائهم وآبائهم وأزواجهم جيرانهم وخدمهم بما يرضي الله عز وجل وكيف تتم البيوع والمناكح والديات والأقضية والأطعمة والأشربة بما يرضيه سبحانه

وكيف يتم إصلاح القلوب ، وكيف يتعامل المرء مع ما يصيبه من ملمات الحياة
    
وغيرها من المعارف الضرورية لوجود بني آدم

فإن التقدم في الآلة إذا لم يصبحه تدين وخلق كان جحيماً ووبالاً، بل العجيب أننا نرى البشر كلما زادت أسباب الرفاهية عندهم ازدادوا تعاسة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي