مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: تقويم المعاصرين ( الحلقة السادسة )

تقويم المعاصرين ( الحلقة السادسة )



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :



فلا زلنا في الباب السادس من أخطاء المعاصرين وهو في باب الإيمان والتكفير والموقف من المخالف

وهذه الحلقة هامة بل لعلها أهم حلقة لأنها في أمور خلط فيها جميع المعاصرين تقريباً إلا قليلاً منهم وبني على ذلك نتائج خطيرة

الخطأ السابع : إنكار كون الأشاعرة جهمية

الخطأ الثامن : إنكار كون بدعة الأشاعرة في القرآن مكفرة

الخطأ التاسع : إنكار كون بدعة الأشاعرة في الإيمان مكفرة

الخطأ العاشر : إنكار كون بدعة الأشاعرة في العلو مكفرة

الخطأ الحادي عشر : إنكار أن قول الأشاعرة في الرؤية مكفر

وهذه كلها تكلمت عليها في كتابي ( الوجوه في إثبات الإجماع أن بدعة الأشاعرة مكفرة )

فأما مسألة إنكار أنهم جهمية بدعوى أن هناك فرقاً بينهم وبين الجهمية بأنهم عندهم شبهات

فحتى الجهمية الذين قالوا بخلق القرآن عندهم شبهات فهذا لا ينفي عنهم أن قولهم مكفر

وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث 161 - سمعت محمد بن صالح بن هانئ يقول : سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول : « من لم يقر بأن الله تعالى على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته ، فهو كافر بربه يستتاب ، فإن تاب ، وإلا ضربت عنقه ، وألقي على بعض المزابل حيث لا يتأذى المسلمون ، والمعاهدون بنتن ريح جيفته  ، وكان ماله فيئا لا يرثه أحد من المسلمين ، إذ المسلم لا يرث الكافر كما قال صلى الله عليه وسلم »

ولا أعلم أحداً خالف ابن خزيمة في هذه

وقال العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ كما في مجموعة الرسائل والمسائل ( 1/221) وهو يتكلم عن الأشعرية :"  وقد حكى ابن القيم -رحمه الله- عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام، ومفاتيه العظام أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي -رحمه الله-، وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي والسفيانين، ومن أصحابه أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج، وخلق كثير. وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة، ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة"

قال عبد الله بن أحمد في السنة 168 - حدثني أبو الحسن بن العطار محمد بن محمد قال : سمعت محمد بن مصعب العابد ، يقول : « من زعم أنك لا تتكلم ولا ترى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك ، أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سماوات ليس كما يقول أعداء الله الزنادقة »

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (5/121) :" قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ " بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَوْقِيَّةِ " فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : فِي الْقُرْآنِ " أَلْفُ دَلِيلٍ " أَوْ أَزْيَدُ : تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالٍ عَلَى الْخَلْقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ "


قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى ناقلاً عن الكرجي (4/177) :" قال وقد افتتن أيضا خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية وهذه والله سبة وعار وفلتة تعود بالوبال والنكال وسوء الدار على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار فإن مذهبهم ما رويناه من تكفيرهم الجهمية والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية"


هنا جعل الكلام في تكفير اللفظية والواقفة والمعتزلة متناولاً للأشعرية أيضاً

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (2/50) :" عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ: هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْبَشَرِ فَإِنَّ اللَّهَ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ كَمَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ: لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ يُشَبَّهُ بِالْمَلَكِ - فَنَفَى أَنْ يَكُونَ قَوْلَ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ - عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي إضَافَتِهِ إلَى هَذَا الرَّسُولِ تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إضَافَةُ بَلَاغٍ وَأَدَاءٍ لَا إضَافَةُ إحْدَاثٍ لِشَيْءِ مِنْهُ أَوْ إنْشَاءٍ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَنَّ حُرُوفَهُ ابْتِدَاءً جبرائيل أَوْ مُحَمَّدٌ مُضَاهَاةً مِنْهُمْ فِي نِصْفِ قَوْلِهِمْ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ بِفَضْلِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ وَمِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعَانِيَ وَالْحُرُوفَ تَأْلِيفُهُ؛ لَكِنَّهَا فَاضَتْ عَلَيْهِ كَمَا يَفِيضُ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. فَالْكَاهِنُ مُسْتَمِدٌّ مِنْ الشَّيَاطِينِ. {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وَكِلَاهُمَا فِي لَفْظِهِ وَزْنٌ. هَذَا سَجْعٌ وَهَذَا نَظْمٌ وَكِلَاهُمَا لَهُ مَعَانٍ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ"


وقد سماهم ابن تيمية الجهمية الإناث

ثم إن تجهم الأشاعرة أظهر من تجهم الواقفة واللفظية ولا خلاف أن الأشاعرة كلامهم أظهر في النفي من كلام الواقفة واللفظية

كثير من الناس لم يحكم هذه المسألة لما تصور أن الأشاعرة كيان مستقل عن الجهمية الذين كفرهم السلف

ولم يحكم مناط تكفير السلف للجهمية

فليس من شرط الجهمي المكفر عند السلف أن يقول بفناء الجنة والنار أو أن يقول بقول جهم في الإيمان ( والأشعرية يقولون به ) وإنما يكفي أن يقول بخلق القرآن لكي يطلق عليه لقب ( جهمي ) الذي يدخله في نصوص السلف الواردة في تكفير الجهمية

قال البخاري في خلق أفعال العباد 68- وَقِيلَ لأحمد ابن يونس : أَدْرَكْتَ النَّاسَ ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَحَدًا يَقُولُ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ ؟ فَقَالَ : الشَّيْطَانُ تَكَلِّم بِهَذَا ، مَنْ تَكَلِّم بِهَذَا فَهُوَ جَهْمِيٌّ ، وَالْجَهْمِيُّ كَافِرٌ.

فلو قلنا ( من أنكر العلو فهو جهمي والجهمي كافر ) لكانت عبارة مستقيمة يدخل فيها الأشاعرة ولا ينكرها إلا جاهل لا يعرف مذهب السلف

وقال ابن هانيء: وسألته (يعني أبا عبد الله أحمد بن حنبل) عن الذي يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؟
قال: هذا كلام جهم، من كان يخاصم منهم، فلا يجالس، ولا يكلم، والجهمي كافر. «سؤالاته» (1864) .

فهنا أحمد أدخل اللفظي في الجهمية المكفرين في مسألة واحدة فكيف بالأشاعرة الذين وافقوا جهماً في مسائل كثيرة ومنها ما هو أخطر وأوضح من مسألة اللفظ بل قولهم في القرآن أقرب إلى قول جهم من قول اللفظية

وسمى شيخ الإسلام الأشاعرة جهمية مع علمه أن السلف يكفرون الجهمية

قال شيخ الإسلام في الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز ص6 :" ثم أقرب هؤلاء الجهمية الأشعرية يقولون : إن له صفات سبعًا : الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر . وينفون ما عداها،وفيهم من يضم إلى ذلك اليد فقط، ومنهم من يتوقف في نفي ما سواها، وغلاتهم يقطعون بنفي ما سواها "

وحتى من وقع له الإشكال في مسألة التعيين يقال له ( أنت تقرر باستمرار أن ليس كل من وقع في الكفر كافر )

وإنني لأعجب من بعض إخواننا يرى أن الجاسوس للكفار ضد المسلمين واقع في الكفر الأكبر ولا يرى بدعة الأشاعرة مكفرة !

وقد سمى ابن تيمية الرازي الجهمي الجبري وهو أشعري معروف

وابن تيمية في كلمته التي دائماً يستدلون بها والتي يقول ( ولو قلت بقولكم لكفرت ) سماهم جهمية !

ثم إنه اشتهر اشتهر بين طلبة العلم أن ابن حزم ( جهمي جلد ) علماً أن ابن حزم يخالف جهماً في الإيمان والأشاعرة يوافقون

وابن حزم يرد على من يقول بخلق القرآن وله مذهب غريب في المسألة نهايته القول بالخلق

وابن حزم يثبت الرؤية ولكنه يقول أن أسماء الله أعلام وليست نعوت فنسب إلى الجهمية

فكيف بمن ينفي الرؤية والعلو ويقول بخلق القرآن الذي بين أيدينا ويوافق جهماً في الإيمان والقدر مع بعض التمويه والمخرقة

لا شك أنه أولى بنعت التجهم من ابن حزم

وقد نقل حرب الإجماع على تكفير الجهمية بأصنافها الثلاث الواقفة واللفظية والمخلوقية بل تكفير من لايكفرهم

والأشعرية داخلون في ذلك

هذا في المسألة الأولى

وأما المسألة الثانية وهي قول الأشعرية المتأخرين في العلو فكفر أكبر اختلاف فيه

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة ص164 :" مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب لا يجب ان يبلغ الكفر وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية مثل القول بخلق القرآن أو إنكار الرؤية أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق وأنه فوق العرش فإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور"

فابن تيمية جعل تكفير منكري العلو أظهر من تكفير القائل بخلق القرآن والمنازع لنا لا يشك في أن القائل بخلق القرآن تكفيره محل إجماع

قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (7/27) :" وجواب هذا أن يقال القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك كالعلم بالأكل والشرب في الجنة والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب والعلم بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين قد يقال إنه يحتمل التأويل ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة والحوض والميزان وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة وسجود السهو ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها ومنع ميراث القاتل ونحو ذلك مما تلقاه عامة الأمة بالقبول
ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري "

فنقل الاتفاق على تكفير منكر العلو

وتكفير منكر العلو أظهر من تكفير الواقفة واللفظية

وأما مسألة قولهم في القرآن

فقال الضياء المقدسي في كتابه اختصاص القرآن بعوده إلى الرحيم الرحمن 16 - أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ الله الْمَعْرُوف ب ابْن سُكَيْنَةَ الصُّوفِيُّ بِبَغْدَادَ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المقرىء أَخْبَرَهُمْ قِرَاءَةً عَلَيْهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ مِنْ لَفْظِهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاذَانَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَفِيرٍ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ شَيْئَيْنَ أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ فَهُوَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّد لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}.

وهذا إسناد قوي

فشيخ الضياء ثقة مترجم السير وطبقات الشافعية

وشيخه المقريء ثقة مترجم في ذيل طبقات الحنابلة وتاريخ الإسلام

وشيخه عبد الملك بن أحمد بن الحسن شيخ مترجم في تاريخ بغداد

والحسن بن محمد الخلال حافظ مشهور مترجم في السير

وأما أبو بكر أحمد بن إبراهيم ابن شاذان ثقة مترجم في تاريخ دمشق وتاريخ بغداد وتاريخ الإسلام

وأما الحسين بن محمد بن محمد بن عفير فهو ثقة وثقه الدارقطني كما في سؤالات السهمي وهو مترجم في تاريخ بغداد وذكروا أنه من أصحاب أحمد بن سنان

وأحمد بن سنان هذا شيخ البخاري ومسلم

 و قال أبو حاتم : ثقة صدوق .
و قال ابنه عبد الرحمن بن أبى حاتم : إمام أهل زمانه

فهذا الإمام يكفر بمقالة الأشعرية في القرآن وأنه حكاية، وهو متقدم على الأشعرية غير أن مقالة ابن كلاب قد عاصرها هذا الإمام

قال ابن حزم الظاهري في كتابه الفصل في الملل والنحل :" وَقَالَت أَيْضا هَذِه الطَّائِفَة المنتمية إِلَى الأشعرية أَن كَلَام الله تَعَالَى عز وَجل لم ينزل بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا نزل عَلَيْهِ بِشَيْء آخر هُوَ عبارَة عَن كَلَام الله تَعَالَى وَأَن الَّذِي نَقْرَأ فِي الْمَصَاحِف وَيكْتب فِيهَا لَيْسَ شَيْء مِنْهَا كَلَام الله وَأَن كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي لم يكن ثمَّ كَانَ وَلَا يحل لأحد أَن يَقُول إِنَّمَا قُلْنَا إِن الله تَعَالَى لَا يزايل الْبَارِي وَلَا يقوم بِغَيْرِهِ وَلَا يحل فِي الْأَمَاكِن وَلَا ينْتَقل وَلَا هُوَ حُرُوف موصلة وَلَا بعضه خير من بعض وَلَا أفضل وَلَا أعظم من بعض وَقَالُوا لم يزل الله تَعَالَى قَائِلا لِجَهَنَّم {هَل امْتَلَأت} وقائلاً للْكفَّار {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} وَلم يزل تَعَالَى قَائِلا لكل مَا أَرَادَ تكوينه كن
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا كفر مُجَرّد بِلَا تَأْوِيل وَذَلِكَ أننا نسألهم عَن الْقُرْآن أهوَ كَلَام الله أم لَا فَإِن قَالَ لَيْسَ هُوَ كَلَام الله كفرُوا بِإِجْمَاع الْأمة وَإِن قَالُوا بل هُوَ كَلَام الله سألناهم عَن الْقُرْآن أهوَ الَّذِي يُتْلَى فِي الْمَسَاجِد وَيكْتب فِي الْمَصَاحِف ويحفظ فِي الصُّدُور أم لَا فَإِن قَالُوا لَا كفرُوا بِإِجْمَاع الْأمة وَإِن قَالُوا نعم تركُوا قَوْلهم الْفَاسِد وقروا أَن كَلَام الله تَعَالَى فِي الْمَصَاحِف ومسموع من الْقُرَّاء ومحفوظ فِي الصُّدُور كَمَا يَقُول جَمِيع أهل الْإِسْلَام"

هنا ابن حزم ينقل الإجماع على كفر الأشاعرة في مقالتهم في القرآن وينفي عنهم التأويل مع كونه من أكثر توسعاً في العذر

وليس هو وحده من نقل هذا الإجماع بل نقله أبو نصر السجزي من أهل الحديث

قال السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت  وهو يرد على الأشاعرة :" ومنكر القرآن العربي وأنه كلام الله كافر بإجماع الفقهاءومثبت قرآن لا أوّل له ولا آخر كافر بإجماعهم، ومدعي قرآن لا لغة فيه جاهل غبي عند العرب"

وقد نقل حرب الكرماني الإجماع على تكفير اللفظية والواقفة وهم خير من الأشعرية في باب القرآن

وصرح ابن أبي العز أن قول الأشاعرة في القرآن أكفر من قول المعتزلة وسبقه إلى ذلك ابن القيم ومعلوم إجماع أهل السنة على تكفير المعتزلة

وكذا صرح بهذا ابن بطة وعبد الغني المقدسي وغيرهم

وأما مسألة قولهم في الإيمان

فقال السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ص273 :" ويقولون -يعني الأشاعرة-: الإِيمان: التصديق، وعلى أصلهم أن من صدق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهو مؤمن، )لأمرين):
     أحدهما: أن أصل الإيمان عندهم المعرفة كما قال جهم.
     الثاني: أن الكلام معنى في النفس فهو إذا صدق بقلبه فقد تكلم على أصلهم به".

فتأمل كيف صرح أن قولهم في الإيمان هو الجهم.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 582) : "وبهذا وغيره يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن إتبعهما فى الإيمان كالأشعرى فى أشهر قوليه وأكثر أصحابه وطائفة من متأخرى أصحاب أبى حنيفة كالماتريدى ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق فى القلب يتساوى فيه العباد".

فتأمل كيف صرح بأن قول الأشعري والماتردي في الإيمان هو قول الجهم .

إذا علمت هذا فاعلم أن قول الجهمية في الإيمان عند السلف قول كفري حتى عند مرجئة الفقهاء !

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/307) :" قَالَ الحميدي: سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ: أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ. وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: وَهَذَا كُفْرٌ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الكلابي: سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ: الْجَهْمِيَّة شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ قَالَ: وَقَالَ وَكِيعٌ: الْمُرْجِئَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْإِقْرَارُ يُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ؛ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ هَلَكَ؛ وَمَنْ قَالَ: النِّيَّةُ تُجْزِئُ عَنْ الْعَمَلِ فَهُوَ كُفْرٌ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ".

وقال المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/324) :" وقد جامعتنا في هذا المرجئة كلها على أن الإقرار باللسان من الإيمان إلا فرقة من الجهمية كفرت عندنا ، وعند المرجئة بزعمهم أن الإيمان هو المعرفة فقط".

وقال ابن مفلح في الفروع (12/ 450) :" قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَفَّرْنَا فِيهَا الدَّاعِيَةَ فَإِنَّا نُفَسِّقُ الْمُقَلِّدَ فِيهَا ، كَمَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، أَوْ أَنَّ أَلْفَاظَنَا بِهِ مَخْلُوقَةٌ ، أَوْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ ، أَوْ أَنَّ أَسْمَاءَهُ مَخْلُوقَةٌ ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ ، أَوْ يَسُبَّ الصَّحَابَةَ تَدَيُّنًا ، أَوْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَمَنْ كَانَ عَالِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ يَدْعُو إلَيْهِ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ ، نَصَّ أَحْمَدُ صَرِيحًا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ".

والظاهر من نصوص أحمد وغيره من السلف  تكفير الجهمية بأعيانهم مطلقاً بدليل ذكر عدم صحة الصلاة خلفهم وانفساخ أنكحتهم وهذا لا يكون في الكلام على الأعيان

قال شيخ الإسلام في الإيمان :" وإذا تدبرت حججهم وجدت دعاوى لا يقوم عليها دليل والقاضى أبو بكر الباقلاني نصر قول جهم في مسألة الإيمان متابعة لأبي الحسن الأشعرى وكذلك أكثر أصحابه فأما أبو العباس القلانسى وأبو على الثقفي، وأبو عبدالله بن مجاهد شيخ القاضى أبي بكر وصاحب أبي الحسن فإنهم نصروا مذهب السلف وابن كلاب نفسه والحسين بن الفضل البجلي ونحوهما كانوا يقولون : هو التصديق والقول جميعا موافقة لمن قاله من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان، ومن اتبعه مثل أبي حنيفة وغيره .
فصل
وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يستثني في الإيمان فيقول : أنا مؤمن إن شاء الله ; لأنه نصر مذهب أهل السنة في أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ولا يخلدون في النار"

بل نص شيخ الإسلام على أن الباقلاني قد نصر قول جهم في القدر أيضاً

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (14/ 347) :" و قد ذكر هذه الأمور القاضي أبو بكر ابن الباقلاني و غيره ممن يقول بمثل هذه الأقوال ممن سلك مسلك جهم بن صفوان في القدر و فى الوعيد و هؤلاء قصدوا مناقضة المعتزلة فى القدر و الوعيد "

وصرح شيخ الإسلام أن قول الأشعرية في القدر هو قول جهم

قال شيخ الإسلام في الصفدية (2/331) :" والأشعري ومن وافقه اتبعوا جهما على قوله في القدر وإن كانوا يثبتون قدرة وكسبا لكن ما أثبتوه لا حقيقة له في المعنى بل قولهم هو قول جهم وإن نازعوه في إثبات القدرة والكسب ولهذا كان قولهم في نفي ما في الشريعة من الحكم والأسباب خلاف إجماع السلف والفقهاء فإن من أصولهم أن الله لا يخلق لحكمة ولا يأمر لحكمة بل ليس عندهم في القرآن لام تعليل في خلقه وأمره وإذا تكلموا معهم في الأمور الطبيعية أحالوا جميع ذلك على مجرد ترجيح القادر بلا سبب وأن ما وجد من الاقتران فهو عادة محضة لا لارتباط بين هذا وهذا ثم قد يضيفون هذا القول إلى السنة"

ثم إن الباقلاني بعد ذلك من المرجئة الواقفة الذين يقولون لا نجزم بأن أحداً من أهل القبلة سيعذب ، وقد دلت النصوص أن هناك من أهل السنة من سيعذب

بل صرح شيخ الإسلام أن قول الأشاعرة في الإيمان أشنع من قول المعتزلة

قال شيخ الإسلام كما الفتاوى الكبرى (6/ 639) :" وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ قَابَلْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ تَقَابُلَ التَّضَادِّ حَتَّى رَدَدْتُمْ بِدْعَتَهُمْ بِبِدَعٍ تَكَادُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا، بَلْ هِيَ مِنْ وَجْهٍ مِنْهَا وَمِنْ وَجْهٍ دُونَهَا، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا الْإِيمَانَ اسْمًا مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَقَالُوا: إنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا، وَقَالُوا: إنَّ الْفُسَّاقَ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، فَخِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمِ لِلسَّلَفِ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ فِي الْإِرْجَاءِ وَالْجَبْرِ فَقُلْتُمْ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. ثُمَّ إنَّكُمْ قُلْتُمْ: إنَّا لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّارَ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَوَقَفْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ جُمْلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ"

قال ابن حزم في كتابه الفصل (3/115) :" لم يجز لأحد أَن يَقُول فِي الْكَافِر الْمُصدق بِقَلْبِه وَلسَانه بِأَن الله تَعَالَى حق والمصدق بِقَلْبِه أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أَنه مُؤمن وَلَا أَن فِيهِ إِيمَانًا أصلا إِلَّا حَتَّى يَأْتِي بِمَا نقل الله تَعَالَى إِلَيْهِ اسْم الْإِيمَان من التَّصْدِيق بِقَلْبِه وَلسَانه بِأَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَأَن كل مَا جَاءَ بِهِ حق وَأَنه بَرِيء من كل دين غير دينه ثمَّ يتمادى بِإِقْرَارِهِ على مَا لَا يتم إِيمَان إِلَّا بِالْإِقْرَارِ بِهِ حَتَّى يَمُوت لَكنا نقُول أَن فِي الْكَافِر تَصْدِيقًا بِاللَّه تَعَالَى هُوَ بِهِ مُصدق بِاللَّه تَعَالَى وَلَيْسَ بذلك مُؤمنا وَلَا فِيهِ إِيمَان كَمَا أمرنَا الله تَعَالَى لَا كَمَا أَمر جهم والأشعري
قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَبَطل هَذَا القَوْل الْمُتَّفق على تَكْفِير قَائِله وَقد نَص على تكفيرهم أَبُو عبيد الْقَاسِم فِي كِتَابه الْمَعْرُوف برسالة الْإِيمَان"

هنا ينقل ابن حزم الاتفاق على تكفير الأشاعرة لقولهم في مسألة الإيمان وينقل كلام أبي عبيد القاسم بن سلام ومن لطائف الموافقات أنني كنت قد ذكرت كلام أبي عبيد في مقال مستقل ونزلت كلامه على الأشاعرة

وابن حزم ليس وحيداً في هذا الباب فابن تيمية نص مرات وكرات على أن الأشعري قال بقول جهم في الإيمان القول الذي كفر به السلف

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (7/120) :" بَلْ قَدْ كَفَّرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُهُمَا مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي نَصَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ. وَهُوَ عِنْدَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَ"

وقال ابن تيمية في الدرء (3/274) :" ومع هذا فلما قال جهم ومن واقفه: إن الإيمان مجرد المعرفة، أنكر ذلك أئمة الإسلام ن حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما وهذا القول: وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من واكثر أصحابه فهو من أفسد الاقوال وابعدها عن الصحة"

وقال ابن تيمية في الإيمان  ص116 :"بل السلف كفروا من يقول بقول جهم في الإيمان"
الخطأ الثاني عشر : اعتبارهم التفريق بين الإطلاق والتعيين مسوغاً لنفي التكفير المطلق

وهذه من أهم المسائل التي خالف فيها المعاصرون طريقة ابن تيمية نفسه

فالقائلون بالتفريق بين الإطلاق والتعيين لا ينفون التكفير المطلق لأنهم يرونه من باب الوعيد المطلق والوعيد المطلق لا أحد يعترض على إطلاقه

فابن تيمية لا يعترض على قول السلف ( الجهمية كفار )

أو ( اللفظية كفار )

وقد نقل السلف هذا في الكثير من المواطن ونقل تكفيرهم على وجه الإقرار

وابن تيمية دائماً ينقل عن أحمد أنه يكفر الجهمية مع أن مذهبه أن أحمد يفرق بين الإطلاق والتعيين

وقد قال الشيخ كما في الفتاوى :" فَنَقُولُ: الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْكِتَابِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ جُحُودُ الصَّانِعِ فَفِيهِ جُحُودُ الرَّبِّ وَجُحُودُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ"

ثم ذكر عن أحمد التفريق بين الإطلاق والتعيين بحسب ما فهمه من تصرفاته

وعامة متأخري الحنابلة يقولون بالتفريق بين الداعية وغير الداعية وينسبون هذا لأحمد ومع ذلك لا يختلف قولهم بأن أحمد ( يكفر الجهمية )

فحقيقة قول كثير من المعاصرين أن التفريق بين الإطلاق والتعيين ذريعة إلى نفي التكفير بإطلاق

ولهذا ذهب الألباني في بعض تقريراته إلى أنه لا يقال ( البهائية كفار ) و ( القاديانية ) كفار بحجة مسألة التفريق بين الإطلاق والتعيين وحتى من يفرق لا يوصل الأمر إلى مثل هؤلاء ولكن لو سلمنا أنهم داخلون فهذا لا ينفي التكفير بإطلاق

فأشهر القائلين بالتفريق بين الإطلاق والتعيين عند المعاصرين وهو ابن تيمية ما كان يعترض على قول السلف ( القدرية كفار ) و ( الجهمية كفار ) ويرى أن مثل هذا التكفير من باب الوعيد العام

كما يرد في الحديث ( من فعل كذا وكذا فهو في النار ) والأحوال التي تقترن ببعض الأعيان وتخرجها عن سمت القاعدة لا تعني إلغاء القاعدة ولا الوعيد المطلق

وعلى هذا حتى لو فرقنا بين معيني الأشاعرة فإنه يجوز أن يقال ( الأشاعرة كفار ) كما قيل ( الجهمية كفار ) ويكون معناه قولهم كفري وقد ثبت لك الإجماع على هذا

وقد وقع يوسف الغفيص في شرحه على حديث الافتراق بهذا المزلق فاعترف بأن قول الأشاعرة كفري ثم أطلق عدم تكفيرهم وهذا هذيان

فمن كان قوله كفرياً فإنه يكفر حتى على أصل من يفرق بين الإطلاق والتعيين إذا قامت عليه الحجة أو تمكن وأعرض فكيف تطلق عدم التكفير وتقول ( لا نكفرهم ) وأنت تنكر التكفير بحجة التفريق بين الإطلاق والتعيين ثم تطلق عدم التكفير والواجب الاعتراض عليه بنفس الاعتراض بل هو أقوى هنا لأنه يخالف طريقة السلف

الخطأ الثالث عشر : نسبة عدم التكفير لمن يفرق بين الإطلاق والتعيين ، ثم تنزيل بعضهم قاعدة من لم يكفر الكافر فهو كافرعلى من يفرق بين الإطلاق والتعيين

وهذا باب خلط فيه الغلاة والجفاة على حد سواء وحصل في ذلك فتن عظيمة وتجرأ لهذا غلاة المرجئة في نفي التكفير عن عتاة الكفرة ، وتجرأ أيضاً الغلاة على تكفير أعيان الموحدين في الأعصار المتأخرة للخلط في هذه المسألة

والذي يقال هنا :  والله وبالله وتالله كلهم متعجلون وما فهموا الأمر على وجهه

فأولاً لا يقال فيمن يفرق بين الإطلاق والتعيين لا يكفر فتجد المقدسي وعامة المعاصرين يقولون ( ابن تيمية لا يكفر الفئة الفلانية ) ثم تكتشف أن الشيخ وغيره يفرقون بين الإطلاق والتعيين ولا ينكرون التكفير المطلق

والحق الذي لا مرية فيه أنه لا يجوز شرعاً أن تقول ( فلان لا يكفر ) وهو إنما يفرق بين إطلاق وتعيين

وبرهان ذلك أن ابن أبي عاصم في السنة فرق بين من يقول القرآن مخلوق جهلاً ومن يقوله بعلم ولم ينسب أحد له عدم التكفير

وأن ابن تيمية يرى أن أحمد يفرق بين الإطلاق والتعيين في الجهمية ومع ذلك لم يقل ( أحمد لا يكفر الجهمية )

وأن أبا حاتم وأبا زرعة فرقا بين الواقفي الجاهل والواقفي غير الجاهل وهذا في حقيقته تفريق بين إطلاق وتعيين ولم ينسب أحد إليهم عدم التكفير

وَقَالَ الْمَجْدُ أَيْضًا: الصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَفَّرْنَا فِيهَا الدَّاعِيَةَ، فَإِنَّا نُفَسِّقُ الْمُقَلِّدَ فِيهَا، كَمَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِأَنَّ أَلْفَاظًا بِهِ مَخْلُوقَةٌ، أَوْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، أَوْ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى مَخْلُوقَةٌ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ أَنْ يَسُبَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَدَيُّنًا، أَوْ يَقُولَ: إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَ عَالِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ، يَدْعُو إلَيْهِ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ: فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ، نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَرِيحًا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ: وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ بِنَفْيِ خَلْقِ الْمَعَاصِي، عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَلَهُ فِي الْخَوَارِجِ كَلَامٌ يَقْتَضِي فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَيْنِ، نَقَلَ حَرْبٌ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ صَاحِبِ بِدْعَةٍ.

وهذا تفريق بين الإطلاق والتعيين ولم يقل أحد في المجد ( أنه لا يكفر الجهمية )

وإن كان كلامه باطلاً

قال عبد الله بن أحمد في السنة 223 - سَمِعْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَسُئِلَ عَنِ الْوَاقِفَةِ فَقَالَ أَبِي: «مَنْ كَانَ يُخَاصِمُ وَيُعْرَفُ بِالْكَلَامِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْكَلَامِ يُجَانَبْ حَتَّى يَرْجِعَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ يَسْأَلْ»

224 - سُئِلَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَنَا أَسْمَعُ - عَنِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالْوَاقِفَةِ، فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْهُمْ جَاهِلًا لَيْسَ بِعَالِمٍ فَلْيَسْأَلْ وَلْيَتَعَلَّمْ»
225 - سَمِعْتُ أَبِيَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرَّةً أُخْرَى وَسُئِلَ عَنِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالْوَاقِفَةِ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُحْسِنُ الْكَلَامَ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى هُمْ شَرٌّ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ»

فلم يجهم إلا صنفاً منهم وهم الغالب وهذا لا ينافي التكفير المطلق كما قدمنا ولم يقل أحد أن أحمد ( لا يكفر الواقفة أو لا يكفر اللفظية )

ثم جاء فريق كعماد فراج ونظرائه وبنوا على مقدمتين الأولى كاذبة والثانية باغية تكفير من يفرق بين الإطلاق والتعيين

فأما الأولى فهي تسمية من يفرق بين الإطلاق والتعيين غير مكفر كذب لأنه يكفر صنفاً منهم وسواءً كان التفريق بين المطلق والمعين مبني على أصل سليم أو أصل يناقش

الثانية : تنزيل قاعدة من لم يكفر الكافر على من يفرق بين الإطلاق والتعيين

ولو صح هذا لنزلنا الإجماع الذي نقله حرب الكرماني على تكفير من لم يكفر الواقفة واللفظية على أبي حاتم وأبي زرعة وأحمد !

وما علمت أحداً كفر الحنابلة الذين قالوا بالتفريق بين الداعية وغيره في أصحاب البدع المكفرة بل ابن قدامة ينقل رواية عن أحمد في جواز تزويج الرافضي وهذا غلط والظاهر أنها تحمل على رافضي يسب سباً لا يصل إلى دين الصحابة أو تكفيرهم

وقولهم من لم يكفر الكافر فهو كافر يعني من لم يعد قولهم مكفراً أصلاً

فإذا الواقفي يفرق فيه جاهل وغيره فكيف بمن يقف بالتكفير

والذي لا يكفر الكافر أصناف

صنف لا يكفر الكافر الأصلي كاليهود والنصارى فهذا ليس بمسلم باتفاق كما ابن تيمية

وصنف لا يكفر الكفرة من المنتسبين للملة كالنصيرية والدروز والاسماعيلية والاتحادية وغلاة الرافضة

وهؤلاء جميعاً نص ابن تيمية على كفر من لا يكفرهم

وهؤلاء لا تشملهم قاعدة التفريق بين الإطلاق والتعيين

ومثلهم أصحاب مسيلمةومنكري الزكاة  وألحق ابن تيمية بهم التتر ومثلهم البهائية والقاديانية وقد نزل عليهم الألباني قاعدة التفريق بين الإطلاق والتعيين ويلزمه أن ينزل هذا على أهل الردة الذين قاتلهم الصحابة !

قال الشيخ كما في المجموع الفتاوى (2/ 132) :" وَيَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ أَوْ ذَبَّ عَنْهُمْ أَوْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ أَوْ عَظَّمَ كُتُبَهُمْ أَوْ عُرِفَ بِمُسَاعَدَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ أَوْ كَرِهَ الْكَلَامَ فِيهِمْ أَوْ أَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ أَوْ مَنْ قَالَ إنَّهُ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ الَّتِي لَا يَقُولُهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقٌ؛ بَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ وَلَمْ يُعَاوِنْ عَلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ"

فتأمل قوله ( أَوْ أَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ) وتأمل آخر الكلام

وقد جاء في مجموع الفتاوى (35/162) :" رَدًّا عَلَى نُبَذٍ لِطَوَائِفَ مِنْ " الدُّرُوزِ "
كُفْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ؛ بَلْ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ"

فهذا قوله في الدروز فكيف بأصحاب وحدة الوجود، ثم يا ليت شعري لماذا يأخذون من كلام ابن تيمية ويروقهم ويتركون حكمه بكفر من شك في كفر الرافضة المضللين لعامة الصحابة

وقد نقل في بيان التلبيس على جهة الإقرار ما يلي :" قال أبو عبد الله البخاري نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم"

ونقله أيضاً في شرح الأصبهانية


قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب(في الدرر السنية 8/118) لما ذكر المرتدين وفرقهم فمنهم من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الأوثان ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة ظنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة ومع هذا أجمع العلماء أنهم مرتدون ولو جهلوا ذلك ومن شك في ردتهم فهو كافر.


وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/ 519) :" وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْخَمْسَ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ. وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ سَائِغَةٌ فَلِهَذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ وَهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَى مَنْعِهَا وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ"


فكيف بمن أقر بنبوة نبي جديد وتبعه على كل تشريعاته فهذا إن كان جاهلاً فهو كجهال اليهود والنصارى


ولم ينقل التكفير من الصحابة فقط بل الشهادة بالنار أيضاً


قال الخلال في السنة 475- وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ , يَقُولُ : حُجَّتُنَا فِي الشَّهَادَةُ لِلْعَشَرَةِ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ : قَرَأَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ , عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ , عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : لَمَّا صَالَحَ أَبُو بَكْرٍ أَهْلَ الرِّدَّةِ قَالَ : صَالَحَهُمْ عَلَى حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ . قَالَ : قَالُوا : قَدْ عَرَفْنَا الْحَرْبَ الْمُجْلِيَةَ , فَمَا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ ؟ قَالَ : أَنْ تَشْهَدُوا أَنَّ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَأَنَّ قَتْلاَكُمْ فِي النَّارِ , فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.


فإن قيل : بعض القاديانية لا يراه نبياً بل يراه مصلحاً مجدداً


فيقال : تسمية مدعي النبوة مجدداً كفر مستقل ، وهؤلاء ندرة ومن تسمى باسم لحقه تبعاته فهؤلاء نصارى بني تغلب ما تشبثوا من النصرانية بشيء إلا بشرب الخمر فاعتبرهم الصحابة كفاراً وألحقهم جمهورهم بالنصارى في جميع الأحكام واستدل ابن عباس على ذلك بقوله تعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) فجعل اختيارهم لاسم النصرانية ولاءً ملحقاً في الأحكام


وقد قال السلف ( الجهمية كفار ) وقالوا ( القدرية كفار ) وهؤلاء أحسن حالاً من القاديانية فكيف يقال لا يجوز أن يقال ( القاديانية كفار )


فإن قيل : ما فائدة تكفير هؤلاء ولا يوجد حاكم يطبق عليهم حد الردة أو يجاهدهم


فالجواب : أن تكفير الكافر الذي قام الدليل على كفره واجب .

 ثم إنه تترتب على تكفير الكافر أحكام كثيرة من عدم جواز ابتدائه بالتحية ومناكحته والصلاة خلفه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وغيرها من الأحكام التي لو تعطل التكفير لتعطلت هذه الأحكام العظيمة ، وهذا عين الظلم إذ يسوى بين المسلم والكافر إذ لا يحكم على الكافر بالكفر فيستوي هو والمسلم

وصنف لا يكفر الكافر بل يعتبر قوله بدعة في بعض البدع التي اشتبهت على بعض الناس كبدعة اللفظية

فأبو ثور قال ( مبتدعة ) ومثله قال ( أبو هارون الفروي ) وأحمد رآهم جهمية ولم يعجبه قول أبي ثور ومع ذلك لم يكفره

وقد صح عن ابن أبي شيبة أنه قال في الجهمية المخلوقية ( مبتدعة ) ومثله ابن علية واكتفوا بهذا

فمثل هذا قد يعذر لخفاء كفرهم عليه وقد كان أحمد في أول أمره خفي عليه كفر الجهمية

ومثل هذا قد تخرج عليه رواية أحمد في عدم تكفير من لم يكفر الجهمية وقوله ( من يجرؤ على هذا إذا كان يقول غير مخلوق )

ولعل كلام عبد الوهاب الوراق وغيره من أصحابه يحمل على من لا يكفر الجهمية ولا يصرح بخلاف معتقدهم

أو يحمل على ظهور كفر الجهمية للناس جلياً

ومنهم من يطلق التكفير ولكنه يفرق بين الإطلاق والتعيين ويجعل الجاهل لا شيء عليه في مثل الجهمية المخلوقية وهو مذهب ابن أبي عاصم في السنة ومذهبه شاذ

ومنهم من يطلق التكفير ولكنه يفرق بين المطلق والمعين ويجعل الأصل الابتداع في مثل الجهمية وأصحاب البدع التي دونها

وهذا مذهب ابن تيمية وإليه يميل ابن القيم في النونية وعليه تقريرات متأخري الحنابلة غير أن متأخري الحنابلة يفرقون بين الإطلاق والتعيين بضابط الدعوة وأما ابن تيمية وتلميذه فيفرقان بضابط قيام الحجة أو التمكن منها مع الإعراض

وابن القيم في النونية أشد من شيخه بكثير حتى أنه نفى عذر الأشعرية الذين يكفرون أهل السنة

وهذا الضرب حصل عنده اشتباه في فهم روايات أحمد فجعله هو ومن لا يكفر مطلقاً شيء واحد ظلم ونسبة عدم التكفير له مطلقاً ظلم

وابن تيمية في الدرء حين ذكر نفي العلو قال أنه يخالف المعلوم من الدين بالاضطرار ، وهذه إشارة إلى تكفير المعين وفي التسعينية كفر أعيان الأشعرية الذين أمامه فقال لهم ( يا كفار يا مرتدين يا مبدلين )

وقال لهم ( ولو قلت بقولكم لكفرت ) وفرق بين الجهمية الحلولية وهم الذين يقولون ( الله في كل مكان ) ويستدلون ببعض النصوص والاتحادية الذين يقولون الله وخلقه شيء واحد اتحد

وهذا الضرب خير من كل من مضى

وبقي ضرب محدث وهو الضرب المعاصر الذي ينفي التكفير المطلق بحجة التفريق بين الإطلاق والتعيين وينكر إطلاقات أطلقها السلف ، بل وينكرون أن بدعة الأشاعرة مكفرة ، بل ويحكمون على من يبدع الجهمية نفاة العلو بأنه مبتدع ( وهذا قول الفوزان فيمن يبدع ابن حجر والنووي ) ، بل يتحاذق كثير منهم ويقول ( لا أعلم أحداً كفر الأشاعرة ) وقد نقل تكفيرهم عن أكثر من ألف نفس وصريح كلام متأخري أصحاب المذهب تكفير دعاتهم فالمجد يصرح بتكفير الداعية ممن يقول الإيمان تصديق وهذا قول الأشعرية ويصرح بتكفير دعاة الواقفة والأشعرية شر منهم

وأما عباد القبور فأمرهم غاية في الظهور خصوصاً الذين يذبحون لغير الله وينذرون فهؤلاء يفعلون أمراً ينكره عامة علماء القبورية فضلاً عن غيرهم فهذا الضرب ملحق بالاسماعيلية والنصيرية والإمامية بعد ظهور معتقداتهم جلياً بعد قيام دولتهم

وقد حقق مدحت آل فراج في رسالته في العذر أن ابن تيمية أحياناً ينفي الكفر ويقصد نفي الكفر الذي يعذب عليه المرء

وقد لخص بحثه الأخ حمود الكثيري

قال حمود :" الجواب عن استدلالهم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
يستدل المعترضون بكلام لابن تيمية رحمه الله هذا نصه:
"نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم مما يخالفه ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام"[الرد على البكري2/731]

أقول:
قال العلامة عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله:
"ومراد شيخ الْإِسلام ابن تيمية بهذا الاستدراك(أي قوله ولكن لغلبة...)، أنَّ الحجة إنَّما تقوم على المُكَلَّفين، ويترتَّب حكمها بعد بلوغ ما جاءت به الرسل من الهدى ودين الحق، وزبدة الرسالة ومقصودها الذي هو توحيد الله وإسلام الوجوه  له وإنابة القلوب إليه. قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
 وقد مثَّل العلماء هذا الصنف بمن نشأ ببادية، أو ولد في بلاد الكفار، ولم تبلغه الحجة الرسالية"[مصباح الظلام3/499]
فمعنى كلام الشيخ أن الحجة الرسالية لم تقم على هؤلاء، لذلك ضرب أمثلة بمن نشأ ببادية بعيدة أو ولد في بلاد الكفار وهذان الصنفان لا ينازع فيهما أحد، فكيف يُستدل والحال هذه بكلام ابن تيمية رحمه الله على إعذار من يصلي الجمع ويقرأ القرآن وربما كان عنده قليل من العلم الشرعي ؟! فهذا جمع لمن فرق الله بينهما ومساواة للمختلفات.
ثم إنه يقال: أن قول ابن تيمية "لم يمكن تكفيرهم" أي الكفر المعذب عليه؛فقد قال رحمه الله:
"إن حال الكافر: لا تخلو من أن يتصور الرسالة أو لا؛ فإن لم يتصورها فهو في غفلة عنها وعدم إيمان بها. كما قال: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} وقال: {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} لكن الغفلة المحضة لا تكون إلا لمن لم تبلغه الرسالة والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة"
[مجموع الفتاوى2/78]
قلت:فتأمل قوله والكفر المعذب عليه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، أي أن هناك كفر لا يُعذب عليه وهو كفر أهل الفترة ومن كان في حكمهم لأنهم يُمتحنون يوم القيامة.
وهذا الجواب محتمل خاصة،أن لابن تيمية رحمه الله نصوص في نفس المسألة ونفس ظروف الجهل المذكورة كفر الملابس فيها للشرك؛فقال رحمه الله:
"فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع الشمس ووقت غروبها كان أحق بالنهي والذم والعقاب، ولهذا يكون هذا كافرًا كذلك من دعا غير الله وحج إلى غير الله هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم. كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم وعندهم أصنام لهم صغار من لبد وغيره وهم يتقربون إليها ويعظمونها ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا ولا يعلمون أن ذلك محرم، فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك، فهذا ضال وعمله الذي أشرك فيه باطل، لكن لا يستحق العقوبة حتى تقوم عليه الحجة، قال تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون}"[الرد على الأخنائي ص205-206]
قلت:
فتأمل قوله" ولهذا يكون هذا كافرًا كذلك من دعا غير الله وحج إلى غير الله هو أيضًا مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم"
فسماه كافراً مشركاً وأن ما فعله لا يعلم أنه شرك
وأما قوله"لكن لا يستحق العقوبة" أي في الآخرة لأنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، فيكون حكمه حكم أهل الفترة.
وقال رحمه الله:
"والذين يؤمنون بالرسول، إذا تبين لأحدهم حقيقة ما جاء به الرسول، وتبين أنه مشرك، فإنه يتوب إلى الله، ويجدد إسلامه، فيسلم إسلامًا يتوب فيه من هذا الشرك"[قاعدة عظيمة ص70]
قلت:
فتأمل قوله"إذا تبين لأحدهم حقيقة ما جاء به الرسولr "
فهم كانوا جهلة بحقيقة ما جاء به الرسولr ، وجهلة بأنهم كانوا مشركين
فإنهم كما قال رحمه الله:يتوبون إلى الله ويجددون إسلامهم فيسلمون إسلاماً يتوبون فيه من هذا الشرك"
ولابن تيمية رحمه كلام أكثر في هذه المسألة نقله شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مفيد المستفيد ونقله ابن حفيده إسحاق في تكفير المعين وكذا غيرهم من أئمة الدعوة السلفية في نجد فلينظر في موضعه، وفيما تقدم الكفاية إن شاء الله لطالب الحق، وأما طالب الجدل فإنه لا يقتنع مهما حصل إلا أن يشاء الله

ثم إن الضرب الأخير من المعاصرين متفاوت وكثير منهم يكفر عباد القبور ويصف من لا يكفرهم بالإرجاء ثم هو يسنن الجهمية أو على الأقل يرفض تكفيرهم بإطلاق _ أعني الجهمية الأشعرية _ وإرجاء من ينكر تكفير الجهمية الأشعرية بإطلاق بل ويجعل تكفيرهم من البدع والمنكرات أعظم من إرجاء من لا يكفر تارك أعمال الجوارح بالكلية

وكثير ممن يعذر عباد القبور مطلقاً ويعذر الجهمية مطلقاً لا يفرق بين المعرض المتمكن والجاهل العاجز

ولا يفرق بين الحكم الدنيوي والحكم الأخروي

ويجعل الأصل في عابد الأوثان أنه مسلم له جميع أحكام الإسلام ، وشرهم طريقة من يجعل التكفير خاصاً للعلماء وسيأتي الكلام عليه

الخطأ الرابع عشر : الخلط بين المعرض والجاهل العاجز

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/44) :
" وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد ان يقول هذا يوم القيامة
فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب انه على هدى كما قال تعالى (ويحسبون انهم مهتدون )
 قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم
ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى
 فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر
والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا إلا بعد إقامة الحجة عليه
كما قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقال تعالى( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )وقال تعالى في اهل النار (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) وقال تعالى (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو ان الله هداني لكنت من المتقين او تقول حين ترى العذاب لو ان لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) وهذا كثير في القرآن "

كلام ابن القيم هذا يحل إشكالاً عظيماً ، وهو الفرق بين المعذور بالجهل والمعرض

فالمعرض جاهلٌ أيضاً ولكن سبب جهله إعراضه عن الحق وعدم طلبه له ، مع تمكنه منه ، وهذا مثل المشرك الذي يعيد في بلاد التوحيد ، ولا يطلب التوحيد ولا يسعى إليه ، مع ما يرى من مخالفة أهل التوحيد له ، فهذا غير معذور كما نص عليه ابن القيم

وأما المعذور بالجهل فهو العاجز أن الوصول إلى الحجة ( كما عرفه ابن القيم ) ، وعادة يمثل الفقهاء لهذا بمن نشأ في بادية بعيدة ، أو كان حديث عهد بالإسلام

وقد غلط خلقٌ كثيرون فأدخلوا القسم الأول على الثاني ، ومنهم من أدخل الثاني على الأول ، وما قاله ابن القيم هو الغاية في التحقيق

علماً بأن الكلام هنا على الحكم الأخروي وأما في الدنيا فكل من عبد غير الله يسمى مشركاً ولا يسمى مسلماً ودليل ذاك أن أهل الفترة لا يسمون مسلمين بإجماع في أدلة أخرى ليس هذا محل بسطها

وهذا في باب التكفير الذي هو الغاية في الوعورة والخطورة ، وكذلك هو الأمر في باب التبديع

وعلى هذا المعنى يحمل الحديث رواه أبو داود 3573 - حدثنا محمد بن حسان السمتي ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن ابن بريدة عن أبيه
: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال " القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار "

فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على أن القاضي الذي لا يعلم بالحق ويحكم به أنه في النار ، فلم يعذره بجهله فهذا محمول على المعرض عن طلب الدليل

وقال البخاري في صحيحه 7352 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ

فهذا محمول على الحاكم الذي اجتهد فوقع منه الخطأ على غير وجه العمد ، مع تحري الحق وتمام الأهلية فهذا يعذر في خطئه ، بل يؤجر عليه

قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي ص10 :
" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة
فهذا الذي يجهل وأن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر
فهذا جعل له أجرا مع خطأه لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوغ له الكلام
فان هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وفي رواية بغير علم وفي حديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار "


وقال ابن القيم في طريق الهجرتين ص609 :

" نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه والقسمان واقعان في الوجود فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله .
وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة الثاني معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه فالأول يقول يا رب لو أعلم لك دينا خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق"

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (16/166) :" وَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِوُجُودِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّدَبُّرِ لَا بِنَفْسِ الِاسْتِمَاعِ . فَفِي الْكُفَّارِ مَنْ تَجَنَّبَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَ غَيْرَهُ"

فهؤلاء جهال ولكنهم غير معذورين لأنهم معرضون

وقال شيخ في الرد على المنطقيين ص99 :"ولهذا لم يكن إعراض الكفار عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة"

فهؤلاء معرضون كفار ليسوا معذورين ، ومثلهم من يعيش في بلاد التوحيد وهو مقيم على الشرك ويركن إلى شركه ويعرض عن دعوة الموحدين

قال ابن اللحام في القواعد والفوائد الأصولية ص58 :" جاهل الحكم إنما يعذر إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم، أما اذا قصر أو فرط فلا يعذر جزماً "

وقال السيوطي في الأشباه والنظائر ص200 :" كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك"

والسيوطي وابن النحام ليسا على اعتقاد أهل السنة ولكن ذكرتهما لبيان أن هذه المسألة متقررة حتى عند غير أهل السنة

و قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (20/280) :" فَإِنَّ الْعُذْرَ الْحَاصِلَ بِالِاعْتِقَادِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَقَاءَهُ بَلْ الْمَطْلُوبُ زَوَالُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْلَا هَذَا لَمَا وَجَبَ بَيَانُ الْعِلْمِ وَلَكَانَ تَرْكُ النَّاسِ عَلَى جَهْلِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ وَلَكَانَ تَرْكُ دَلَائِلِ الْمَسَائِلِ الْمُشْتَبِهَةِ خَيْرًا مِنْ بَيَانِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ وَالْوَعِيدِ سَبَبٌ لِثَبَاتِ الْمُجْتَنِبِ عَلَى اجْتِنَابِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْتَشَرَ الْعَمَلُ بِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ لَا يَكُونُ عُذْرًا إلَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَتِهِ وَإِلَّا فَمَتَى أَمْكَنَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فَقَصَّرَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا"

وقال الشنقيطي في أضواء البيان (7/423) :" أما القادر على التعلم المفرط فيه .
والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي . فهذا الذي ليس بمعذور "

ومثل هذا التفريق مفيد في المسائل الخفية وليعلم أن المسائل ظهوراً وخفاء تنقسم إلى أقسام

منها الظاهر في كل زمان ومكان وهو أصل الدين كإفراد الله بالعبادة وتخصيصه بالذبح والنذر والدعاء وغيرها ، ومنها علو الله على خلقه وذلك أن هذه المسائل فطرية ثم إنها أساس الرسالات

ومنها الظاهر في زمان دون زمان ومكان دون مكان كفرائض الإسلام غير الشهادتين فقد ورد في خبر حذيفة أنهم في آخر الزمان لا يعرفون ما صلاة ولا صيام على زكاة ومع ذلك تنجيهم لا إله إلا الله

وهذا خاص بمثل ذلك الزمن ، وقد صح عن بعض السلف إنكار أمور ثابتة كالمسح على الخفين أو التوقف في ذلك وورد عن شريح كلمته المعروفة في صفة العجب

فمثل هذا لا يعذر به أحد الآن بعد انتشار السنن وتدوين الكتب وانتشار هذا القول جداً عن أهل السنة

وفي هذا يقول أحمد في أمر تفضيل علي على عثمان ( هذا الآن شديد ) يعني بعد ظهور الأدلة وانتشارها

وفرق بين مخالف يسير على الأصل السليم فمثلاً من أنكر المسح على الخفين من السلف سار على أصل وهو الأخ بما في ظاهر القرآن حتى ترد السنة فلما لم تصح عنده السنة احتاط للعبادة

وبين من يسير على قاعدة بدعية كالأزارقة لما أنكروا الرجم لأنهم ينكرون الأحاديث التي لا يصدقها القرآن

فلا يصلح اليوم أن يأتي شخص عقلاني ينكر أموراً بعقله ثم يقاس على من أنكر بعض الأحاديث بشبهة إسنادية

فهذا الإمام مالك حين أمر ألا يحدث بحديث ( خلق الله آدم على صورته ) إنما قال هذا بعد سؤاله عن الإسناد وكونه روي عنده من طريق ابن عجلان وابن عجلان ليس عمدة عنده

فلا يقاس عليه الجهمي الذي ينكر الحديث لأنه يراه تشبيها

وعامة المسائل الخفية قابلة أن تصير جلية بتجلية أهل العلم لها

ولما كان يزيد الفقير وطلق بن حبيب مع كونهما خارجيين سليمي الأصول تجاه السنة كانا ينكران الشفاعة فلما حدثهما جابر بحديث الشفاعة رجعا عن قولهما

وكذا عبيد الله بن زياد كان ينكر الحوض فلما حدثه الصحابة بالحديث قال به

فلا يقاس على هؤلاء المعتزلة الذين تأتيهم الأحاديث ويدفعونها ويفترضون التعارض بينها وبين القرآن أو بينها وبين أصولهم

ولهذا أبى أحمد قياس مالك على أبي حنيفة فيما خالف فيه السنة على أبي حنيفة لأن أبا حنيفة أصوله فاسدة

قال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (2/315) :" ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإنكان ذلك في المسائل العملية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم، بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه: هو أحق بان يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه، تحقيقاً لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286)"

وتأمل هذه القيود

1_ المجتهد في طلب العلم

2_ مقصوده متابعة الرسول لا العقل ولا الأسلاف

3_ بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه

فلا يؤتى إلى زمن انتشر فيه العلم بشيء معين ثم يقال ( فلان اجتهد كفلان الذي سبقه وعذره الناس لأنه كان في مكان وزمان شح فيهما العلم أو قويت في الشبهات وكان ذاهلاً عن هذه المسألة مشتغلاً بغيرها مما هو أعظم مع ما عرف به من نصرة الحق والجهاد في ذلك )

فلا يجوز لأحد اليوم أن ينكر ربا الفضل ويحتج بابن عباس أو تلاميذه

ولا أن يقول بحل النبيذ ويحتج بابن أبي ليلى ونظرائه

ولا أن ينكر القراءة خلف الإمام مطلقاً ويحتج بأصحاب ابن مسعود

ولا أن ينكر زيارة القبور ويحتج بالنخعي والشعبي

ولا أن ينكر الإحداد ويحتج بالحسن البصري

ولا أن ينكر خلافة علي ويحتج بمن قاتله

ولا أن يحل المرأة لزوجها الذي طلقها ثلاثاً بمجرد عقدها على آخر وتطليقها قبل أن يدخل بها ويحتج بابن المسيب

ولا أن ينكر المسح على الخفين ويحتج بأبي هريرة وعكرمة

ولا غيرها من المقالات الضعيفة التي وقعت لأفاضل لأسباب بسطها ابن تيمية في رفع الملام ولا يجوز لأحد أن يقلدهم فيها 

ومن يطلق أن كل من وقع في بدعة فهو مبتدع يلزمه تبديع هؤلاء أو القول بأن هذه الأمور ليست بدعاً وكيف لا تكون بدعاً وقد خالفت النصوص ومنها ما خالف إجماع الصحابة 

غير أن بعض الغلاة التزم عدم عد تفضيل علي على عثمان بدعة لكي لا يقول أن هناك من وقع في بدعة ولم يبدع ! 

وقوله هذا بحد ذاته بدعة 

 قال ابن تيمية في الاستقامة ص386 :
فهذا ونحوه هو الذي أشار إليه الأئمة كالشافعي في قوله خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن فيكون ذو النون هو أحد الذين حضروا التغبير الذي أنكره الأئمة وشيوخ السلف ويكون هو أحد المتأولين في ذلك وقوله فيه كقول شيوخ الكوفة وعلمائها في النبيذ الذين استحلوه مثل سفيان الثوري وشريك ابن عبد الله وأبي حنيفة ومسعر بن كدام ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم من أهل العلم وكقول علماء مكة وشيوخها فيما استحلوه من المتعة والصرف كقول عطاء بن أبي رباح وابن جريج وغيرهما وكقول طائفة من شيوخ المدينة وعلمائها فيما استحلوه من الحشوش وكقول طائفة من شيوخ الشاميين وعلمائها فيما كانوا استحلوه من القتال في الفتنة لعلي بن أبي طالب وأصحابه وكقول طوائف من أتباع الذين قاتلوا مع علي من أهل الحجاز والعراق وغيرهم في الفتنة إلى أمثال ذلك مما تنازعت فيه الأمة وكان في كل شق طائفة من أهل العلم والدين
فليس لأحد أن يحتج لأحد الطريقين بمجرد قول أصحابه وإن كانوا من أعظم الناس علما ودينا لان المنازعين لهم هم أهل العلم والدين
وقد قال الله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر سورة النساء 59 فالرد عند التنازع إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله.اهـ
وقال أيضاً في الاستقامة ص282 :
ومن احتج بفعل مثل عبد الله في الدين في مثل هذا لزمه أن يحتج بفعل معاوية في قتاله لعلى وبفعل ابن الزبير في قتاله في الفرقة وأمثال ذلك مما لايصلح لأهل العلم والدين أن يدخلوه في أدلة الدين والشرع لا سيما النساك والزهاد وأهل الحقائق لا يصلح لهم أن يتركوا سبيل المشهورين بالنسك والزهد بين الصحابة ويتبعوا سبيل غيرهم
وما أحسن ما قال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.اهـ

وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/37) :" قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله ، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده ، لكن  لا يجوز اتباعه في ذلك كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه ، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا ، وقد قال سبحانه { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }"


وما قام عند شريح في صفة العجب من توهم أنه لا بد من جهل قبله وعدم بلوغه الأحاديث في الباب والقراءة التي تخالف قوله ، لا ينطبق على صفة الضحك مثلاً ولا الرحمة ولا صفة العلو حتى يجعل هذا كذاك

ومن هذا الباب ما صح عن بعض اعيان الصحابة من إنكار بعض القراءات الثابتة





الخطأ الخامس عشر : عدم تسمية من مات على الكفر كافراً بحجة أنك لا تدري هل أسلم قبل موته أم لا وإن كان ظاهر حاله البقاء على ما كان عليه

وهذا قال به صالح الفوزان وبلغني عن دبيان الدبيان

الخطأ السادس عشر : القول بعدم جواز الحكم على الكافر المعين بالنار بعد موته ولو كان طاغوتاً يدعو إلى عبادة نفسه أو من دعاة الكفر الأقحاح كقساوسة النصارى

الخطأ السابع عشر : التشنيع على من وصف رجلاً وقع في الكفر الأكبر بأنه ( كافر ) ولو كان هذا الكافر مداوماً على هذا الكفر ويعيش بين المسلمين بحجة العوز إلى توفر الشروط وانتفاء الموانع .

 فلو سب الله عز وجل أو أهان المصحف أو لعن الصحابة وقذف أم المؤمنين فإن الورع عند أصحاب هذا القول ألا يقطع بكفره وعدد منهم يصرح بأن المصرح بكفر الواقع في هذا بعينه مخاطر مجازف وربما نعته بعضهم بالغلو أو التقدم بين يدي العلماء


والقاعدة عند أهل السنة عند ظهور القواعد المشكلة أو المجملة أن يرجع ذلك إلى هدي السلف الصالح فإن وافق هديهم وإلا رد على قائله كائناً من كان


قال الله تعالى : { فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }


وقال أبو داود في سننه 4609 : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ حَدَّثَنِى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِىُّ وَحُجْرُ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ :

أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ }  فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ.

 فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ.

 فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟

فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ .


قال الدارمي في مسنده  140 : أخبرنا مخلد بن خالد بن مالك انا النضر بن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين قال :

 كانوا يرون انه على الطريق ما كان على الأثر.

والأدلة في ذلك كثيرة ، والمقصود هنا التذكرة


أما المسألة الأولى فلم يكن السلف يمتنعون من تسمية من مات على الكفر كافراً بهذا التعليل المذكور بل الثابت العكس


قال الخلال في السنة 1708 : أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ، قَالَ: ثنا أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّهُمْ مَرُّوا بِطَرَسُوسَ بِقَبْرِ رَجُلٍ، فَقَالَ أَهْلُ طَرَسُوسَ: الْكَافِرُ، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.

 فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نَعَمْ، فَلَا رَحِمَهُ اللَّهُ، هَذَا الَّذِي أَسَّسَ هَذَا، وَجَاءَ بِهَذَا.


وهذا المذكور هو المأمون العباسي فإن قبره كان بطرسوس وهو الذي بدأ المحنة ، فسماه كافراً بعينه مع أنه كان على التجهم ويظهر الإسلام .

فلم يقل الإمام أحمد ( وما يدريهم أنه كافر لعله تاب )!

بل أقرهم على تكفيره ودعا عليه بألا يرحمه الله


وهذا الإسناد صحيح إلى الإمام أحمد


وأحمد لم يلتق بالمأمون في المحنة ، فإن المأمون قد هلك وأحمد في الطريق وفي عدد من الروايات أن الإمام أحمد قد دعا عليه


وأما المسألة الثانية وهي الشهادة على الكافر المعين بالنار


قال الخلال في السنة 481 : وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ:

 قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَةَ امْرَأَةُ فُلَانٍ، وَأَنَا لَمْ أَشْهَدِ النِّكَاحَ؟

 قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُسْتَفِيضًا فَاشْهَدْ بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ دَارَ بَخْتَانَ هِيَ لِبَخْتَانَ وَلَمْ يُشْهِدْنِي؟

 قَالَ: هَذَا أَمْرٌ قَدِ اسْتَفَاضَ , اشْهَدْ بِهَا لَهُ.

 قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَظُنُّ أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَذَا كَمَنْ يَقُولُ: إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا أَشْهَدُ إِنَّهَا بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 أَمَّا طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ يَقُولُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: تَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ» وَمَا رَضِيَ , يَعْنِي أَبَا بَكْرِ حَتَّى شَهِدُوا .

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَهَذَا أَثْبَتُ وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الشَّهَادَةِ .


وقال أيضاً 482 : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ، وَزَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ  حَدَّثَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ:  قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ، أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ , لَا دِيَةَ لَهُمْ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ  فَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ، وَنَحْنُ نَشْهَدُ لَهُمْ


فهذا الصديق وهذا الفاروق يشهدان لقتلا الردة بالنار بأعيانهم ويحتج الإمام أحمد بذلك


وقال شارح الطحاوية في شرحه (2/ 745) :

 وَكُفْرُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالُهُ فَوْقَ كُفْرِ الْقَائِلِينَ: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}  .

 وَلَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالَهُ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ، اتِّحَادِيَّةٌ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.

فسماه زنديقاً وشهد له بالنار خلافاً لمن يمنع في ذلك في مذهب غريب لا أعلمه عن أحد من السلف


فإنني لا أعرف عن أحد من السلف ذكر أمامه كافر أصلي ، أو كافر مرتد قد هلك فقال ( لا تقل كافر فإنك لا تدري مات على الكفر أم لا ؟)

أو قال ( لا تشهد عليه بالنار )

 وعلى قياس هذا المذهب يقال : ( لا تصل ولا تترحم على من مات مظهراً للإسلام إلا على جهة الاستثناء فإنك لا تدري لعله كفر قبل موته ) !


ومما يذكر في هذا الباب استئناساً في هذا الباب وإلزاماً للمخالف الذي يصححه


ما روى معمر في جامعه 286 : عن الزهري ، قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، إن أبي كان يكفل الأيتام ، ويصل الأرحام ، ويفعل كذا ، فأين مدخله ؟ قال : هلك أبوك في الجاهلية ؟  قال : نعم ، قال : فمدخله النار .

 قال : فغضب الأعرابي ، وقال : فأين مدخل أبيك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :

 حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار .

 فقال الأعرابي : لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا ، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار


فذكر التبشير بالنار لكل مشرك وهذا الخبر الصواب فيه الإرسال ومن الناس من يصححه فذكرته إلزاماً

وقد كتب مدحت آل فراج بحثاً جيداً في شرحه على مفيد المستفيد في هذه المسألة 

وكتب سعيد دعاس بحثاً جيداً في هذه المسألة  قدم له الحجوري ومحمد الريمي وقد قرأتها بعد تسويدي للمقال وفي رسالته فوائد جمة لولا ما شانها به من التعظيم الزائد عن الحد لبعض أهل البدع


وأما المسألة الثالثة :

 فقال اللالكائي في السنة 415 : أخبرنا علي بن محمد بن أحمد بن بكران ، أنبا الحسن بن محمد بن عثمان قال : ثنا يعقوب بن سفيان قال : سمعت أبا هاشم زياد بن أيوب قال :

 قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله رجل قال القرآن مخلوق ، فقلت له : يا كافر ، ترى علي فيه إثما ؟

قال : كان عبد الرحمن بن مهدي يقول : لو كان لي منهم قرابة ثم مات ما ورثته .

فقال له خراساني بالفارسية : الذي يقول القرآن مخلوق أقول إنه كافر ؟ قال : نعم .


فهذا أحمد لا يثرب على من يقول لمن يقول بخلق القرآن ( يا كافر) ، وينقل ذلك اللالكائي ولا يعقب بشيء ، فما بالك بمن يسب الله عز وجل ؟


وفي سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص52 :

" فَقَالَ لي أَحدهمَا فِي بعض الْأَيَّام فِي كَلَام دَار وَسَأَلته عَن علم الله فَقَالَ علم الله مَخْلُوق

 قلت يَا كَافِر , كفرت .

فَقَالَ لي الرَّسُول الَّذِي كَانَ يحضر مَعَهم من قبل إِسْحَاق هَذَا رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ.

 قَالَ فَقلت إِن هَذَا قد كفر وَكَانَ صَاحبه الَّذِي يَجِيء مَعَه خَارج فَلَمَّا دخل قلت إِن هَذَا زعم أَن علم الله مَخْلُوق فَنظر إِلَيْهِ كالمنكر عَلَيْهِ قَالَ ثمَّ انْصَرف .

قَالَ أبي واسماء الله فِي الْقرَان وَالْقرَان من علم الله فَمن زعم أَن الْقرَان مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر وَمن زعم أَن أَسمَاء الله مخلوقة فقد كفر"


فكفره أحمد رأساً لقوله ( علم الله مخلوق ) فكيف بمن يسب الله تعالى أو يداوم على لعن الصحابة وقذف أمهات المؤمنين ؟


وقال البربهاري في شرح السنة :" 32 : والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة والمرجوم والزاني والزانية والذي يقتل نفسه وغيره من أهل القبلة والسكران وغيرهم الصلاة عليهم سنة

ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز و جل أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله وإذا فعل شيئا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام فإذا لم يفعل شيئا من ذلك فهو مؤمن ومسلم بالإسم لا بالحقيقة"


فقوله ( وجب عليك أن تخرجه من الإسلام ) ظاهره أن من لم يفعل فهو آثم والحكم هنا على المعين ولا شك


ولم أجد أثراً عن السلف يكفر فيه أحد رجلاً قال بخلق القرآن بعينه أو سب الله فيثرب عليه علماء أهل السنة


ومن وجد شيئاً من هذا فليخبرني .


وقال أبو داود في مسائله عن أحمد 1697 : قُلْتُ لِأَحْمَدَ : مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَهُوَ كَافِرٌ؟ قَالَ: أَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ ".


والكلام هنا على المعين


فإن قال قائل : زعمت أن الإمام أحمد كفر المأمون وأنه لا يثرب على من يكفر من يقول بخلق القرآن ، أفلا يعارض هذا عدم تكفيره للمعتصم الذي قال بخلق القرآن وامتحن الناس على ذلك وأثر الإمام أحمد في المعتصم هو عمدة معروف عند عامة المتأخرين والمعاصرين وعليه عول شيخ الإسلام في عدد من أبحاثه


فأقول : الآثار السابقة دلالتها واضحة على المراد ، وهي مضروبة من قبيل القياس الأولوي ، فإن أبيت إلا المباحثة في هذه المسألة

فاسمع ما يلي :

مثال المعتصم محل إشكال كبير على أصول أحمد بل على أصول من يشترط إقامة الحجة في كل تكفير أيضاً


فإن قيل : كيف ذاك ؟


قلت : بيان ذلك من وجوه


الأول : أن المعتصم قد ثبت أن الإمام أحمد ناظر الجهمية أمامه ثلاثة أيام متوالية .

 وكان يقطعهم ويفند شبهاتهم بالحجج البينة كما في سيرة الإمام أحمد لابنه صالح .

 وهذا من أبلغ ما يكون في إقامة الحجة ، بل إن المعتصم ما اشتد في تعذيب أحمد إلا بعد تلك المناظرات وعذبه بطريقة وحشية حيث جعل الحرس يقفون في صف على الإمام أحمد كل منهم يجلده جلدتين بكل ما أوتي من قوة والمعتصم يستحثهم على الشد في الضرب .

 ويدعو على من يشعر أنه يتهاون في الأمر وينتهره ومع ذلك كله عفا الإمام أحمد عنه


فلو فرضنا أنه عامي لا يفهم وفي حيرة من أمره فالتوقف هو سبيل العامي الجاهل لا الجزم بخلق القرآن بعد كل تلك البينات التي أقامها الإمام أحمد .

 فإن فرضنا أن له شبهة في قوله بخلق القرآن أفيجوز له امتحان الناس وضربهم بهذه الوحشية مع ظهور حجة أحمد على القوم المنازعين له


هذا أول وجوه الإشكال


الوجه الثاني : أنه ثبت تكفير الإمام أحمد للمأمون مع أنه لم يلتق به بل إنه دعا وفي بعض الروايات وصفه ب( الفاجر ) ، والمعتصم التقاه أحمد وبين له الأدلة

فهو من هذا الوجه أولى بالتكفير من المأمون


فإن قيل : الفرق أن المأمون عنده سبب في العلم والمعتصم عامي


قيل : هذا له حظ من النظر غير أن كثيراً من الناس اليوم لا يلتزمونه فيحكمون على الواقع في الكفر الأكبر مع غزارة علمه بأنه مريد للحق ! ، وربما أطلقوا عليه من ألقاب الثناء ما يضن به على بعض أئمة أهل السنة

قال الأصبهاني في الحجة :" وَقَالَ أَحْمَد بْن منيع: " من زعم أَنه مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن وقف فِيهِ فَإِن كَانَ مِمَّن لَا يعقل مثل البقالين وَالنِّسَاء وَالصبيان سكت عَنهُ وَعلم، وَإِن كَانَ مِمَّن يفهم فَأَجره فِي وَادي الْجَهْمِية، وَمن قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي "


والمعتصم قد علم والله المستعان ، وقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن خراش في السير هذا المعنى وأنه رافضي مع علمه فهو محكوم عليه بالزندقة


وهذا من البديهيات ولكن الناس اليوم ينازعون حتى في البديهيات فيحسنون الظن بمن خالف الشرع ويسيئون الظن بدلالة النص على المقصود

والله المستعان


وهذا الوجه في ترجيح المعتصم على المأمون يقابله وجه أقوى منه أو في درجته من القوة وهو مناظرة أحمد للجهمية أمام المعتصم وإفحامه لهم فيبقى الإشكال


الوجه الثالث : أنه قد ثبت عن الإمام أحمد تكفير عدة من الجهمية أو من نسب إلى مقالة اللفظية ومنهم من هو أحسن حالاً من المعتصم


في سيرة الإمام أحمد لابنه صالح ص52 :" فَقَالَ لي أَحدهمَا فِي بعض الْأَيَّام فِي كَلَام دَار وَسَأَلته عَن علم الله فَقَالَ علم الله مَخْلُوق قلت يَا كَافِر كفرت فَقَالَ لي الرَّسُول الَّذِي كَانَ يحضر مَعَهم من قبل إِسْحَاق هَذَا رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ فَقلت إِن هَذَا قد كفر وَكَانَ صَاحبه الَّذِي يَجِيء مَعَه خَارج فَلَمَّا دخل قلت إِن هَذَا زعم أَن علم الله مَخْلُوق فَنظر إِلَيْهِ كالمنكر عَلَيْهِ قَالَ ثمَّ انْصَرف قَالَ أبي واسماء الله فِي الْقرَان وَالْقرَان من علم الله فَمن زعم أَن الْقرَان مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر وَمن زعم أَن أَسمَاء الله مخلوقة فقد كفر"


فكفره بمجرد قوله ( علم الله مخلوق )


جاء في بحر الدم :" قال المروذي: قلت لابي عبد الله: إن الكرابيسي يقول: من لم يقل: لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال: بل هو كافر، وقال: مات بشر المريسي وخلفه حسين الكرابيسي، وقال لي: هذا قد تجهم وأظهر الجهمية، ينبغي أن يحذر عنه وعن كل من ابتعد.

وقال في رواية أبي الحارث وقد سئل عن قول الكرابيسي: إنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: هذا قول جهم.

وقال إسحاق بن إبراهيم: سمعته يقول: أخزى الله الكرابيسي، لا يجالس ولا يكلم، ولا تكتب كتبه، ولا تجالس من يجالسه.

وقال في رواية شاهين بن السميدع.

الحسين الكرابيسي عندنا كافر"

فكفره بمجرد قوله ( من لم يقل: لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر)


قال أبو داود في مسائله عن أحمد : قُلْتُ لِأَحْمَدَ أَيَّامَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمَعَ الْجَهْمِيَّةَ، قُلْتُ لَهُ الْجُمُعَةُ ؟ قَالَ: أَنَا أُعِيدُ، وَمَتَى مَا صَلَّيْتَ خَلْفَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَأَعِدْ.

 قُلْتُ: وَبِعَرَفَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ .


فأفتاه بإعادة الصلاة خلف كل من يقول القرآن مخلوق ، فدل على أنهم عنده كفار بأعيانهم ، أو على الأقل يعاملون معاملة الكفار وهذا يتوافق مع الفتيا السابقة التي نقلتها من كتاب السنة للالكائي


وأفتى أحمد أيضاً بإعادة الصلاة خلف من يقول باللفظ كما في مسائل ابنه صالح


وقال أبو داود في مسائله لأحمد 1712 :

 كَتَبْتُ رُقْعَةً، وَأَرْسَلْتُ بِهِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُتَوَارٍ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ جَوَابَهُ مَكْتُوبًا فِيهِ: قُلْتُ: رَجُلٌ يَقُولُ: التِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَالْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، مَا تَرَى فِي مُجَانَبَتِهِ؟ وَهَلْ يُسَمَّى مُبْتَدِعًا؟ وَعَلَى مَا يَكُونُ عَقْدُ الْقَلْبِ فِي التِّلَاوَةِ وَالْأَلْفَاظِ؟ وَكَيْفَ الْجَوَابُ فِيهِ؟

قَالَ: هَذَا يُجَانَبُ، وَهُوَ فَوقُ الْمُبْتَدِعِ، وَمَا أَرَاهُ إِلَّا جَهْمِيًّا، وَهَذَا كَلَامُ الْجَهْمِيَّةِ، الْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، يُرِيدُ حَدِيثَهَا  : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}

فَقَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَاحْذَرُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ. وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ


والذي فوق المبتدع كافر أو في حكمه


بل صح عن أحمد عدم تجويزه للصلاة عليهم بل تجهيمه لمن صلى على ابن أبي دؤاد


قال الخلال في السنة 1762: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ , قَالَ : قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَجُلٌ صَلَّى عَلَى ابْنِ أَبِي دَاوُدَ , فَقَالَ : هَذَا مُعْتَقِدٌ , هُوَ جَهْمِيٌّ.


بل قال لا تشهد عند قاض جهمي


وليس هذا خاصاً بأحمد


فقد قال حرب في مسائله حدثنا محمد بن مصفى، عن يزيد بن هارون قال: لقد أخبرت من كلام المريسى بشيء وجعت وجعة في صلبي بعد ثلاث.

وسأله رجل من أهل بغداد فقال: يا أبا خالد سمعت بشر المريسي يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل. فقال يزيد: إن كنت صادقًا إن بشر المريسي كافر بالله العظيم.

 وقال: لقد حرضت ببغداد على قتل بشر المريسي بجهدي.


فكفره دون أن يجلس معه ويقيم عليه الحجة كما فعل أحمد مع الكرابيسي لظهور مخالفة مقالتهم لما جاءت به الرسل بما لا يخفى على مثلهم


بل ظاهر كلام ابن مهدي والبخاري تكفير الجهمية بأعيانهم كما تكفر اليهود والنصارى


قال البخاري في خلق أفعال العباد :"مَا أُبَالِي صَلَّيْتُ خَلْفَ الْجَهْمِيِّ الرَّافِضِيِّ أَمْ صَلَّيْتُ خَلْفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُعَادُونَ، وَلَا يُنَاكَحُونَ، وَلَا يَشْهَدُونَ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ» وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: هُمَا مِلَّتَانِ: «الْجَهْمِيَّةُ، وَالرَّافِضيَّةُ"


ظاهر كلامه تكفيرهم بأعيانهم دون إقامة حجة كما يكفر اليهود والنصارى دون إقامة حجة


وقد زعم بعض أهل العلم أن الإمام أحمد يكفر الجهمية المحضة ولا يكفر اللفظية والواقفة إلا بعد إقامة الحجة


وهذا القائل يلزمه القول بأن الجهمية المحضة كفار بأعيانهم عند الإمام أحمد ، والظاهر من نصوص أحمد التسوية بين جميع هؤلاء إلا العامي الذي لا يفهم الذي يقول بالوقف جهلاً

قال الخلال في السنة 1780: أَخْبَرَنِي مَنْصُورُ بْنُ الْوَلِيدِ , أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَدَّثَهُمْ , قَالَ : قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ لِيَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ : جَاءَنِي الْيَوْمَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ , فَقُلْتُ لَهُمْ : مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ , وَالْوَاقِفَةُ , وَاللَّفْظِيَّةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ , قَالَهَا ثَلاَثًا . قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْتُ هَارُونَ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ : مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ , وَالْوَاقِفَةُ , وَاللَّفْظِيَّةُ جَهْمِيَّةٌ , فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ , وَقَالَ : عَافَاهُ اللَّهُ , وَجَزَاهُ خَيْرًا.


وقد نقل حرب الاتفاق على أن اللفظية والواقفة والمحضة شيء واحد في التكفير


قال حرب في عقيدته التي ادعى عليها الاتفاق  :" والقرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أكفر من الأول وأخبث قولًا، ومن زعم إن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي خبيث مبتدع.

ومن لم يكفرها ولا القوم ولا الجهمية كلهم فهو مثلهم"


وهذا يتوافق مع المنقول سابقاً عن أحمد ومع تكفير أحمد للكرابيسي ، وقد حكم عبد الوهاب الوراق كما في الإبانة لابن بطة على يعقوب بن شيبة بأنه زنديق ، وهذا يتوافق مع قول أحمد في الواقفة زنادقة عتق


ومما يؤكد هذا المعنى ما قال الذهبي في تاريخ الإسلام (5/1024) :" فقال المَرُّوذيّ في كتاب القَصَص: عزم حَسن بن البزّاز، وأبو نصر بن عبد المجيد، وغيرهما على أن يجيئوا بكتاب المدلّسين الّذي وضعه الكرابيسيّ يطعن فيه على الأعمش، وسليمان التَّيْميّ. فمضيتُ إليه في سنة أربعٍ وثلاثينِ، فقلت: إنّ كتابك يريدُ قومٌ أن يعرضوه على أبي عبد الله، فأظْهِر أنّك قد ندِمتَ عليه، فقال: إنّ أبا عبد الله رجلٌ صالح، مثله يوفَّق لإصابة الحقّ. قد رضيتُ أن يُعرض عليه. لقد سألني أبو ثور أنْ أمحوَهُ، فأبيت، فجيء بالكتاب إلى أبي عبد الله، وهو لا يعلم لمن هو، فعلَّموا على مُسْتَبْشَعات من الكتاب، وموضعٍ فيه وضْع على الأعمش، وفيه: إنْ زعمتم أنّ الحَسَن بن صالح كان يرى السّيف فهذا ابن الزُّبَير قد خَرَج، فقال أبو عبد الله: هذا أراد نُصْرة الحَسَن بن صالح، فوضع عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد جمع للرّوافض أحاديثَ في هذا الكتاب، فقال أبو نصْر: إنّ فتياننا يختلفون إلى صاحب هذا الكتاب، فقال: حذروا عنه، ثم انكشف أمره، فبلغ الكرابيسيّ، فبلغني أنه قال: سمعت حسينا الصائغ يقول: قال الكرابيسيّ: لأقولنَّ مقالة حتّى يقول أحمد بن حنبل بخلافها فيكفر، فقال: لفْظي بالقرآن مخلوق، فقلت لأبي عبد الله: إنّ الكرابيسيّ قال: لفْظي بالقرآن مخلوق.

 وقال أيضًا: أقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق من كلّ الجهات، إلا أنّ لفظي بالقرآن مخلوق. ومن لم يقل إنّ لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتَلَه الله، وأيُّ شيءٍ قالت الْجَهْميّة إلا هذا؟ قالوا كلام الله، ثمّ قالوا: مخلوق. وما ينفعه وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأوّل حين قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ثمّ قال أحمد: ما كان الله لَيدَعَه وهو يقصد إلى التّابعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلَّم فيهم. ماتَ بشر المَرِيسيّ، وخَلفَه حسين الكرابيسي، ثم قال: أيش خبر أبي ثَوْر؟ وافقَه على هذا؟ قلت: قد هجره، قال: قد أحسن، قلت: إنّي سألت أبا ثَوْر عمن قال: لفْظي بالقرآن مخلوق، فقال: مبتدع، فغضبَ أبو عبد الله وقال: أيْش مبتدِع؟! هذا كلام جَهْمٍ بعينه. ليس يُفْلح أصحاب الكلام"


فغضب أحمد على أبي ثور لقوله في اللفظية ( مبتدعة ) يؤكد أنه يكفرهم كالجهمية الأولى


والإمام أحمد يفرح بمن يقول ( اللفظية والواقفة والجهمية ) شيء واحد واليوم يغضبون ممن يقول ( الأشاعرة والجهمية شيء واحد ) ومقالة الأشعرية في إنكار العلو أخبث من القول بخلق القرآن وأعظم مناقضة لما جاءت به الرسل على أنهم يقولون بخلق القرآن أيضاً

فاعجب ممن يطلق عدم تكفير الأشعرية بعد هذا كله مع أن مقالتهم أخبث من مقالة اللفظية والواقفة باتفاق عقلاء بني آدم ولا شك أنهم أولى من الواقفة واللفظية بكل كلمة ذم قيلت فيهم


وقال الخطيب في تاريخ بغداد (7/377) : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى بشر بن أَحْمَد الإسفراييني قَالَ لكم أَبُو سُلَيْمَان داود بن الْحُسَيْن البيهقي: بلغني أن الحلواني الْحَسَن بن عَلِيّ قَالَ: إني لا أكفر من وقف فِي القرآن، فتركوا علمه  .

قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سألت  سَلَمَة بن شبيب عَنْ علم الحلواني، قَالَ: يرمى في الحش. ثم قَالَ أَبُو سَلَمَة: من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر.


وهذا إسناد صحيح ، وهذه مقالتهم فيمن أطلق عدم تكفير الواقف في القرآن فما عساهم يقولون فيمن يطلق عدم تكفير منكر العلو والله المستعان


وظاهر كلام ابن بطة تكفير من يقول بقول الأشاعرة في القرآن بعينه


قال ابن بطة في الإبانة (6/31) :" فمن أنكر أن الله كلم موسى كلاما بصوت تسمعه الأذنان وتعيه القلوب ، لا واسطة بينهما ، ولا ترجمان ولا رسول ، فقد كفر بالله العظيم وجحد بالقرآن ، وعلى إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن تاب ورجع عن مقالته ، وإلا ضرب عنقه ، فإن لم يقتله الإمام وصح عند المسلمين أن هذه مقالته ففرض على المسلمين هجرانه وقطيعته ، فلا يكلمونه ، ولا يعاملونه ، ولا يعودونه إذا مرض ، ولا يشهدونه إذا مات ، ولا يصلى خلفه ، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة ، ولا تقبل شهادته ، ولا يزوج ، وإن مات لم ترثه عصبته من المسلمين إلا أن يتوب"


فصرح بكفره وانطباق أحكام الكفار عليه وإن لم يستتب أو يناظر فتأمل هذا


وعوداً على مسألتنا


وقال الخلال في السنة 2109: سمعت أبا بكر المروذي يقول : أتيت أبا عبد الله ليلة في جوف الليل فقال لي : يا أبا بكر ، بلغني أن نعيماً كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق، فإن كان قاله فلا غفر الله له في قبره .


فهل يتسق هذا مع الاستغفار للمعتصم ؟


وأين نعيم من المعتصم ؟ على أن نعيماً لا يصح عنه ذلك


الوجه الرابع : أن الورع والأسلم في حال من أشكل حاله التوقف فيه .

 وهناك من يزعم أن الإمام أحمد كان يجزم بإسلام المعتصم فكيف يجزم أحمد بذلك مع كل نصوصه في تكفير من يقول بخلق القرآن ومناظرته للجهمية أمامه .

فلو قيل أن الإمام توقف فيه لكان أهون من دعوى أنه جزم بإسلامه وترحم عليه مع علمه بقوله بقول مكفر


فإن قلت : فما وجه حل الإشكال والروايات التي ظاهرها حكم الإمام أحمد بإسلام المعتصم أو على الأقل عدم تكفيره له موجودة بين أيدينا


فيقال : قد ادعى بعض الناس أن في الأمر روايتين عن أحمد وقد أنكر ذلك شيخ الإسلام ، وحل الإشكال والله أعلم أن الإمام أحمد قد صح عنده ما يدل على رجوع المعتصم


ولعل هذه الرواية توضح شيئاً من الأمر


قال أبو نعيم في الحلية (9/214) : وَنَرْوِي فِيهَا أَيْضًا مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ بِالْوَرَّاقِ، قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ: كُنْتُ أَتَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ السُّلْطَانِ .

فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ قَاعِدٌ فِي مَجْلِسٍ إِذَا أَنَا بِالنَّاسِ قَدْ أَغْلَقُوا أَبْوَابَ دَكَاكِينِهِمْ وَأَخَذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَى النَّاسَ قَدِ اسْتَعَدُّوا لِلْفِتْنَةِ؟

 فَقَالُوا: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُحْمَلُ لِيُمْتَحَنَ فِي الْقُرْآنِ، فَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَأَتَيْتُ حَاجِبَ الْخَلِيفَةِ وَكَانَ لِي صَادِقًا.

 فَقُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَنِي حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يُنَاظِرُ أَحْمَدُ الْخَلِيفَةَ، فَقَالَ: أَتَطِيبُ نَفْسُكَ بِذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ فَجَمَعَ جَمَاعَةً وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيَّ وَتَبَرَّأَ مِنْ إِثْمِي، ثُمَّ قَالَ لِي: امْضِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الدُّخُولِ بَعَثْتُ إِلَيْكَ.

 فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أُدْخِلَ فِيهِ أَحْمَدُ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَتَانِي رَسُولُهُ، فَقَالَ: الْبَسْ ثِيَابَكَ وَاسْتَعِدَّ لِلدُّخُولِ، فَلَبِسْتُ قِبَاءً فَوْقَهُ قَفْطَانٌ وَتَمَنْطَقْتُ بِمِنْطَقَةٍ وَتَقَلَّدْتُ سَيْفًا وَأَتَيْتُ الْحَاجِبَ فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي إِلَى الْفَوْجِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَلِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

 وَإِذَا أَنا بِابْنِ الزَّيَّاتِ، وَإِذَا بِكُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعٍ بِالْجَوْهَرِ قَدْ غُشِيَ أَعْلَاهُ بِالدِّيبَاجِ، فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ فَقَعَدَ عَلَيْهِ.

 ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَتَكَلَّمُ بِجَارِحَتَيْنِ؟ عَلَيَّ بِهِ فَأُدْخِلَ أَحْمَدُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ هَرَوِيٌّ وَطَيْلَسَانٌ أَزْرَقُ وَقَدْ وَضَعَ يَدًا عَلَى يَدٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ.

 فَقَالَ: أَنْتَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ فَقَالَ: أَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ.

 فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟

 قَالَ أَحْمَدُ: مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَثَلَاثِمِائَةِ كَلِمَةٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ كَلِمَةً فَكَانَ الْكَلَامُ مِنَ اللَّهِ وَالِاسْتِمَاعُ مِنْ مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ أَنْتَ الَّذِي تُكَلِّمُنِي أَمْ غَيْرُكَ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا مُوسَى أَنَا أُكَلِّمُكَ، لَا رَسُولٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ .

 قَالَ: كَذَبْتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ أَحْمَدُ: فَإِنْ يَكُ هَذَا كَذِبًا مِنِّي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}  فَإِنْ يَكُنِ الْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا فَقَدِ ادَّعَى حَرَكَةً لَا يُطِيقُ فِعْلَهَا.

 فَالْتَفَتَ إِلَى أَحْمَدَ وَابْنِ الزَّيَّاتِ فَقَالَ: نَاظِرُوهُ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتُلْهُ وَدَمُهُ فِي أَعْنَاقِنَا، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَهُ فَلَطَمَ حُرَّ وَجْهِهِ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَتَفَرَّقَ وُجُوهُ قُوَّادِ خُرَاسَانَ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَبْنَاءِ قُوَّادِ خُرَاسَانَ.

 فَخَافَ الْخَلِيفَةُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَدَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ يرَشُّ عَلَى وَجْهِهِ.

 فَلَمَّا أَفَاقَ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى عَمِّهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ فَقَالَ: يَا عَمِّ لَعَلَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي يُصَبُّ عَلَى وَجْهِي غَضِبَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ.

 فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكُمْ مَا تَرَوْنَ مَا يَهْجُمُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا رَفَعْتُ عَنْهُ السَّوْطَ حَتَّى يَقُولَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.

 ثُمَّ دَعَا بِجَلَّادٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو الدَّنِّ فَقَالَ: فِي كَمْ تَقْتُلُهُ قَالَ: فِي خَمْسَةٍ أَوْ عَشَرَةٍ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرِينَ، فَقَالَ: اقْتُلْهُ فَكُلَّمَا أَسْرَعْتَ كَانَ أَخْفَى لِلْأَمْرِ.

 ثُمَّ قَالَ: جَرِّدُوهُ، قَالَ: فَنُزِعَتْ ثِيَابُهُ، وَوَقَفَ بَيْنَ الْعَقَابِينَ وَتَقَدَّمَ أَبُو الدَّنِّ - قَطَعَ اللَّهُ يَدَهُ - فَضَرَبَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ سَوْطًا فَأَقْبَلَ الدَّمُ مِنْ أَكْتَافِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ أَحْمَدُ ضَعِيفَ الْجِسْمِ.

 فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ إِنْسَانٌ ضَعِيفُ الْجِسْمِ.

 فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتَ قَوْلِي: وَقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رَفَعْتُ السَّوْطَ عَنْهُ حَتَّى يَقُولَ كَمَا أَقُولُ.

 فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُشْرَى إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَابَ عَنْ مَقَالَتِهِ وَهُوُ يَقُولُ لَا إِلَهَ  إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ أَحْمَدُ: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَأَنَا أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

 فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ قَالَ كَمَا تَقُولُ.

 فَقَالَ: خَلِّ سَبِيلَهُ. وَارْتَفَعَتْ بِالْبَابِ، فَقَالَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذِهِ الضَّجَّةُ. فَخَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَأَخْرِجْ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ , فَأُخْرِجَ وَقَدْ وَضَعَ طَيْلَسَانَهُ وَقَمِيصَهُ عَلَى يَدِهِ وَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَافَى الْبَابَ.

 فَقَالَ النَّاسُ: مَا قُلْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى نَقُولَ، قَالَ: وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ اكْتُبُوا يَا أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ وَاشْهَدُوا يَا مَعْشَرَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.

 قَالَ: أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، وَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالسَّوْطُ قَدْ أَخَذَ كَتِفَيْهِ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ فِيهِ خَيْطٌ فَانْقَطَعَ الْخَيْطُ وَنَزَلَ السَّرَاوِيلُ فَلَحَظْتُهُ وَقَدْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَعَادَ السَّرَاوِيلُ كَمَا كَانَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ إِنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْخَيْطُ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِلَهِي وَسَيِّدِي وَاقَفْتَنِي هَذَا الْمَوْقِفَ فَلَا تَهْتِكَنِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، فَعَادَ السَّرَاوِيلُ كَمَا كَانَ .


فهذا أحمد بن الفرج احتال على الأمير والإمام أحمد معاً وأوهم أحمد أن المعتصم قد قال بقول أحمد فلعل هذا هو سر المسألة


وذلك بين في قوله ( يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُشْرَى إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَابَ عَنْ مَقَالَتِهِ وَهُوُ يَقُولُ لَا إِلَهَ  إِلَّا اللَّهُ )


والإمام أحمد حلل المعتصم ومن ضربه سوى ابن أبي دؤاد وأضرابه وذلك لأنه يكفرهم


والعجيب أن موقف الإمام أحمد من المعتصم مع كونه شذوذ من بين مواقف الإمام أحمد من الجهمية جعله أقوام هو الأصل وتركوا بقية الآثار !

ومع ذلك يتهمون غيرهم بأنهم يتشبثون بأفراد الآثار !


وهم معترفون بأن المعتصم حالةخاصة من العامية والبلادة ، فهل يقاس عليه من صار قاضياً أو مفتيا أو عالماً معروفاً بالحديث ؟

هؤلاء أقرب إلى ابن أبي دؤاد والمريسي والكرابيسي والمأمون من المعتصم


وهذه منهجية غريبة في التعامل مع النصوص و الآثار


فيأخذ بعضهم بعذر الصحابة لعثمان بن مظعون بالجهل في استحلاله للخمر .

 ويهملون ما صح من إنزال العقوبة فيمن نكح امرأة أبيه دون إقامة حجة لكونه خالف معلوماً من الدين بالضرورة .

 ويهمل تسمية الصحابة لأهل الردة مرتدين بأعيانهم بل وشهادتهم عليهم بالنار دون تكلف إقامة الحجة على كل واحدٍ منهم لوضوح الأمر الذي خالفوا فيه

قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (3/583) :" وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ قَدْ سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ مُرْتَدِّينَ مَعَ كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ، وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ مِمَّنْ صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُعَادُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، عَلَى أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ. فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِ شَرَائِعِهِ"


بل إن عمر بن الخطاب قال ( دعني أضرب هذا المنافق ) في ذي الخويصرة وأقره النبي صلى الله عليه وسلم خلافاً لحاله مع حاطب ، وكلمة ذي الخويصرة يقول أقبح منها الكثير من المنتسبين للإسلام من سب الله ورسوله ، ويتورع أدعياء الورع عن تكفيرهم وعن تكفير من يداوم على قذف أمهات المؤمنين بين ظهراني المسلمين


وكذلك عوف بن مالك قال للمستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ( منافقين ) بمجرد قولهم لتلك الكلمة


ومثل ذلك احتجاج بعضهم بموقف الناس ابن خزيمة في حديث الصورة وإهمالهم لموقف أحمد من أبي ثور بل وقياسهم المسائل الأوضح والأبين كعلو الله عز وجل على هذه المسألة !

وإهمالهم لموقف أحمد من يعقوب بن شيبة وابن المديني وضربائهم


ومثل ذلك نقلهم للكلمة المعروفة لشيخ الإسلام في عدم تكفير الجهمية الأشعرية في عصره عند مناظرته لهم وإهمالهم لما ذكره هو نفسه من تكفيره لمناظريه في مصر من الجهمية الأشعرية بأعيانهم كما في مقدمة التسعينية


وقوله في بيان تلبيس الجهمية (3/53) :" وهو الذي اتخذ أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم الأمر في عبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"


فكفر الرازي بعينه لتصنيفه كتاباً في تعليم السحر


بل العجيب أن كثيرين يجعلون موقف الإمام أحمد من المعتصم في التكفير قاعدة في التبديع ويقيسون التكفير على التبديع فلا يبدعون حتى من وقع في بدعة مكفرة وثبت بلوغ الحجة إليه ! .

 ولو قسنا التكفير على التبديع للزم تبديع من لا يبدعونه فهناك كافر أصلي لا يشترط في تكفيره إقامة حجة كاليهودي والنصراني والبوذي .

 فينبغي أن يكون هناك مبتدع أصلي لا يشترط لتبديعه إقامة الحجة

 وكما  أن هناك كافر يخالف المعلوم من الدين بالضرورة فلا ينفعه انتسابه للإسلام كالنصيري والاسماعيلي فينبغي أن يكون في المبتدعة من هو كذلك


فمن هم ؟!


وكما أنك لا تحكم على من كفر كل من يعبد غير الله وإن كان جاهلاً بأنه من الغلاة أو الخوارج لقول من جماعة من أهل العلم عندك بذلك فكذلك لا تحكم على من بدع كل من وقع في البدع الظاهرة وإن كان جاهلاً  بأنه من الغلاة لأن الباب عندك واحد


والواقع في مذهب هؤلاء أنهم يجعلون التبديع أشد من التكفير .

 بل لو خرجنا بمذهب إرجائي وقلنا لا يبدع إلا من وقع في بدعة مكفرة وبلغته الحجة من الكتاب والسنة لبدعنا أقواماً ممن يتورع هؤلاء عن تبديعهم


فإنكار العلو أشد من القول بخلق القرآن وأظهر وأدلة إثباته بينة في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة والفطرة السليمة ولا ينازع في ذلك حتى اليهود والنصارى


قال ابن حجر في شرح البخاري (13/407) :" وَأخرج بن أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لِلَّهِ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّهَا وَمَنْ خَالَفَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَلَا الرُّؤْيَةِ وَالْفِكْرِ فَنُثْبِتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَنَنْفِي عَنْهُ التَّشْبِيهَ كَمَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ لَيْسَ كمثله شَيْء"


وهذا الأثر كثير ممن يذكره يخالفه فيقول أن الجهمية الخالصة الذين ينكرون الأسماء والصفات يكفرون بأعيانهم وخارجون عن الاثنتين وسبعين فرقة ، وهم يدخلون في عموم نص الشافعي والواقع أنه لا تعارض فإن كثيراً من أسماء الله وكثيراً من صفاته ، ثابتة في القرآن , وما توارد من السنة على ألسنة العامة والخاصة مما بلغ لعموم الأمة فيستوي في معرفتها عامة الناس

وهي بينة جداً في الدلالة على المقصود


وليعلم أن كل من تقدم تكفيرهم بأسمائهم لم يكونوا ينكرون كل الأسماء والصفات


ونظير هذا استدلال بعض الناس بقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) على أن من عبد غير الله لا يسمى مشركاً ، وهو نفسه يكفر الكفار الأصليين وإن لم تقم عليهم الحجة مع إقراره بدخولهم في عموم الآية !


والآية أصلاً في الحكم الأخروي ولا تلازم عنده بين وصف المرء بالكفر في الدنيا وبين تعذيبه في الآخرة ، فاستدلاله بهذه الآية لا يفي بالمقصود على أصله


وكذلك الاستدلال بحديث (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) على أن الواقع في الشرك الأكبر من عبادة لغير الله من ذبح ونذر لا يسمى مشركاً .

 والدليل نفسه يرد عليه ففيه ذكر اليهودي والنصراني والناس لا يختلفون أن اليهودي والنصراني يسمى كافراً قبل بلوغ الحجة وبعدها ، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه يهودياً أو نصرانياً قبل بلوغ الحجة


وهذه المسألة بسطها يطول وتحرير المقال فيها يعسر في مثل هذا المقام والمراد بيان وجود استدلالات خارجة عن محل النزاع في عدد من مسائل النزاع الشهيرة بين أهل الوقت


قال ابن القيم في زاد المعاد (3/372) وهو يعدد فوائد قصة حاطب :" وَفِيهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَسَبَ الْمُسْلِمَ إِلَى النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ مُتَأَوِّلًا وَغَضَبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ لَا لِهَوَاهُ وَحَظِّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ، بَلْ لَا يَأْثَمُ بِهِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، فَإِنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ وَيُبَدِّعُونَ لِمُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ وَنِحَلِهِمْ، وَهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ كَفَّرُوهُ وَبَدَّعُوهُ"


ذكرت هذا ليعلم من ينسب من يكفر الواقع في الكفر الأكبر أو يبدع الواقع في الضلالات الكبرى إلى الغلو والتسرع ، ليعلم هذا أنه على غير السبيل ، وبئس ما صنع إذ تورع عن صاحب الضلالة ثم آذى السني الموحد فأقام عذر من خالف البينات والهدى ، وقدح في السائر على طريق السلف


وكلام ابن القيم هذا في الذي تأول وأخطأ ، فكيف بمن أصاب وسار على خطى الأخيار ، والورع أيضاً يكون في تكفير الكافر فإنك إن تركت تكفيره أوشك أن يناكح المسلمين ويدفن في مقابرهم وينشر كفره بينهم ، وقد قال السلف في المرجئة الذين قالوا في الفاسق مؤمن كامل الإيمان ( تركوا الدين أرق من ثوب سابري ) فما عساهم يقولون فيمن لا يكفر الكافر بل يشنع على من كفره أو يثرب عليه


قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (1/45) :" وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ الْوَزِيرُ الْحَنْبَلِيُّ: لَا يَحِلُّ وَاَللَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِمَنْ تَرفض وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ الشَّرْعَ فِي حَالٍ"

الخطأ الثامن عشر : القول بأن الإمام أحمد لم يكفر المأمون

وهذا تقدم نقضه فيما مضى غير أن المعاصرين يرددونه وكأنه أمر مقطوع به بشكل عجيب وما خالف في هذا إلا ابن باز

الخطأ التاسع عشر : القول بأن مسألة العلو مسألة خفية في الأعصار المتأخرة


قال ناصر الفهد في الفتاوى الحايرية ص19 :" فنصوص العلو كانت ظاهرة في وقت السلف لهذا كفروا من نفاها وتأولها ، ثم خفيت بعد انتشار الشبه بين المسلمين في القرون المفضلة ، لذا تجد من تأولها من المنتسبين إلى العلم في الغالب معظماً للنصوص لا يكذبها ولا يردها "

أقول : هذا الكلام فيه نظر شديد وبعض تناقض وبيان ذلك من وجوه

أولها : أن نصوص صفة العلو ليست أخباراً آحادية تظهر لبعض الناس وتحفى على بعضهم بل هي آيات في القرآن كثيرة لا تخفى على مسلم ، مع دليل الفطرة والعقل مع ما تواتر عن السلف بإثباتها وكل من له حظ من العلم يدرك هذا

قال ابن القيم في النونية

يا قومنا والله إن لقولنا ... ألفا تدل عليه بل ألفان
عقلا ونقلا مع صريح الفطرة الأ ... ولى وذوق حلاوة القرآن
كل يدل بأنه سبحانه ... فوق السماء مباين الأكوان
أترون أنا تاركون ذا كله ... لجعاجع التعطيل والهذيان

فهذه الألفان كيف تخفى على منتسب للعلم

ثانيها : أن ابن تيمية الذي يتكيء عليه ناصر الفهد صرح بأن مسألة العلو من المعلوم من الدين بالضرورة وهذا لا يكون خفياً بحال

قال شيخ الإسلام في درء التعارض (7/27) :" ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم بل يكون ذلك الامتناع مانعا له من حصول العلم بذلك كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره لا سيما إذا قام عنده اعتقاد أن الرسول لا يقول مثل ذلك فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري
 ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمدا رسول الله وأنه صادق ويقولون إنه لم يرسل إليهم بل إلى الأميين لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة التي تبين أنه كان يقول إن الله أرسله إلى أهل الكتاب بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية مع أن هذا من أعظم الأمور تواترا لإعراضهم "

وقد صرح في بيان التلبيس أن السلف ذموا الجهمية بأكثر مما ذموا به الرافضة ومعلوم أن الرافضة يخالفون المعلوم من الدين بالضرورة

وقال أيضاً في الدرء (3/234) :" وكتب أهل الآثار مملوءة بالنقل عن السلف والأئمة لما يوافق قول أهل الإثبات ولم ينقل عن أحد منهم حرف واحد صحيح يوافق قول النفاة فإذا كان سلف الأئمة وأئمتها وأفضل قرونها متفقين على قول أهل الإثبات فكيف يقال : ليس هذا إلا قول الكرامية والحنبلية ؟
 ومن المعلوم أن ظهور قول أهل الإثبات قبل زمن أحمد بن حنبل كان أعظم من ظهوره في هذا الزمان فكيف يضاف ذلك إلى أتباعه
 وأيضا فعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وأبو الحسن بن مهدي الطبري وعامة قدماء الأشعرية يقولون : إن الله بذاته فوق العرش ويردون على النفاة غاية الرد وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع"

فلو فرضنا أنهم جهلوا أدلة الكتاب والسنة والفطرة والعقل وإجماع السلف أفيجهلون ما قال أئمتهم في إثبات العلو

بل إن البغوي والخطابي اللذين هما عمدة من شرح الأحاديث بعدهما من الشافعية على طريقتهم في المذهب ومن تأمل شروح من جاء بعدهما وجد أنه يغرف غرفاً منهما وكتابيهما كالشيء الواحد ، كلاهما نقل الإجماع على إثبات السلف للعلو ونقل هذا الإجماع عن الخطابي ابن الصلاح في طبقات الشافعية

بل إن القرطبي وتفسيره من مشاهير التفاسير اعترف بأن السلف مجمعون على إثبات الجهة ( يريد العلو ) 

ثالثها : أن ناصراً الفهد لا يعذر في مسألة عبادة غير الله ويحكم على الواقع بها بأنه مشرك وإن لم تقم عليه الحجة

وقد صرح ابن القيم أن المعطل شر من المشرك

فصل: في بيان أن المعطل شر من المشرك
لكن أخو التعطيل شر من أخي الـ ... إشراك بالمعقول والبرهان
إن المعطل جاحد للذات أو ... لكمالها هذان تعطيلان
متضمنان القدح في نفس الألو ... هة كم بذاك القدح من نقصان
والشرك فهو توسل مقصوده الز ... فى من الرب العظيم الشان
بعبادة المخلوق من حجر ومن ... بشر ومن قبر ومن أوثان
فالشرك تعظيم بجهلٍ من قيا ... س الرب بالأمراء والسلطان
ظنوا بأن الباب لا يغشى بدو ... ن توسط الشفعاء والأعوان
ودهاهم ذاك القياس المستبيـ ... ن فساده ببداهة الإنسان
الفرق بين الله والسلطان من ... كل الوجوه لمن له أذنان
إن الملوك لعاجزون وما لهم ... علمٌ باحوال الرعايا دانِ
كلا ولا هم قادرون على الذي ... يحتاجه الإنسان كل زمان
كلا وما تلك الإرادة فيهم ... لقضا حوائج كل ما إنسان
كلا ولا وسعوا الخليقة رحمةً ... من كل وجهٍ هم أولوا النقصان
فلذلك احتاجوا إلى تلك الوسا ... ئط حاجةً منهم مدى الأزمان
أما الذي هو عالم للغيب مقـ ... تدر على ما شاء ذو إحسان
وتخافه الشفعاء ليس يريد منـ ... هم حاجة جل العظيم الشان
بل كا حاجات لهم فإليه لا ... لسواه من ملك ولا إنسان
وله الشفاعة كلها وهو الذي ... في ذاك يأذن للشفيع الداني
لمن ارتضى ممن يوحده ولم ... يشرك به شيئاً كما قد جاء في القرآن
سبقت شفاعته إليه فهو مشـ ... فوع إليه وشافع ذو شان

إلى آخر أبياته ومعناها أن المعطل شر من وجه من المشرك
وذلك ان المعطل منتقص مشبه لله بالعدم أو بالأخرس إذا نفى الكلام بيد أن المشرك معظم بجهل
فإنه يشبه الله عز وجل بملوك الدنيا الذين لا يدخل عليهم إلا بواسطة ، والتشبيه بالملك خيرٌ من التشبيه بالعدم

قال الآجري في الشريعة 175 : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي قال : حدثنا الفضل بن زياد قال : سألت أبا عبد الله عن عباس النرسي ، فقلت : كان صاحب سنة ؟
 فقال : رحمه الله قلت : بلغني عنه أنه قال : ما قولي : القرآن غير مخلوق ، إلا كقولي : لا إله إلا الله ، فضحك أبو عبد الله ، وسر بذلك .
 قلت : يا أبا عبد الله ، أليس هو كما قال ؟ قال : بلى

وهذا إسناد صحيح ، وتأمل قوله ( القرآن غير مخلوق ، إلا كقولي : لا إله إلا الله)

فمن عذر المعطل ولم يعذر المشرك فقد تناقض

رابعها : أن الإمام المجدد صرح بأننا لو فرضنا أن هناك معطلاً يعذر فلن يعذر الذي ينقل قولين قول السلف وقول الخلف ويختار قول الخلف ويصرح بأن منهجهم أعلم وأحكم وعامة من يعذرهم ناصر وأضرابه هذه حالهم


وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما استدلوا عليه بكلام ابن تيمية في إقامة الحجة كما في رسائله الشخصية ص177 :" وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة. فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله:{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ }

 وقوله:{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 1. وإذا كان كلام الشيخ ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات أو مسألة القرآن أو مسألة الاستواء أو غير ذلك مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه ويسبون من خالفه. فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين: مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه؛ فكلام الشيخ في هذا النوع يقول: إن السلف كفّروا النوع، وأما المعين: فإن عرف الحق وخالف كفر بعينه، وإلا لم يكفّروا"

خامسها : أن السلف كفروا المؤولة وما اعتبروا تأويلهم عذراً بل إن رأس المؤولة بشر المريسي وقد كفره السلف ومنه يأخذ الأشاعرة تأويلاتهم

قال ابن تيمية في الحموية :" وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب «التأويلات» وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه «تأسيس التقديس» ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبّائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني، وأبي الحسين البصري، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي حامد الغزالي وغيرهم، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضًا ولهم كلام حسن في أشياء. فإنما بيَّنت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتابًا سماه: «رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد» حكى فيه من التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم رد عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم"

والمريسي كان يتقي رد الأحاديث ومع ذلك كفره السلف

قال الخلال في السنة 1734- أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ الْبَزَّارِ , يَقُولُ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْمِرِّيسِيِّ , فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ , أُذَاكِرُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ , فَكُلَّمَا ذَكَرُوا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَدْتُهُ . قَالَ : يَقُولُونَ : أَنْتَ كَافِرٌ . قَالَ : صَدَقُوا . إِذَا ذَكَرُوا الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَرَدَدْتَهُ , يَقُولُونَ : أَنْتَ كَافِرٌ . قَالَ : فَكَيْفَ أَصْنَعُ . قَالَ : إِذَا ذَكَرُوا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ : صَدَقْتَ , ثُمَّ اضْرِبْهُ بِعِلَّةٍ , فَقُلْ : لَهُ عِلَّةٌ.

ومعطلة النصوص لا يجوز وصفهم بتعظيم الأخبار

على أن ما ذكره من عدم ردهم للأخبار غير صحيح فهذا البيهقي وهو من أحسنهم طريقة وكان يثبت العلو بالجملة نص على أن أخبار الآحاد التي لا أصل لها في القرآن لا تقبل في الصفات وهذا رد واضح للأخبار الصحيحة وذلك في كتابه الأسماء والصفات

وكثير من المتأخرين يصرحون بتقديم العقل على النقل وهذا الرازي من أكثرهم جهراً بهذا يعده السيوطي إماماً مجدداً

وهذا ابن العربي ينكر على الجويني الاحتجاج بالنصوص في باب الصفات ويقول أن هذا ليس باباً للنقل وذلك في كتابه قانون التأويل

كما صرح كثيرون منهم كالجويني وعلي ملا قاري بأن أخبار الآحاد لا يحتج بها في العقيدة 

سادسها : أن المرء كلما كان أكثر علماً كلما كان أبعد عن العذر فلو فرضنا أننا سنعذر عوام الجهمية فكيف بمن اشتغل بالحديث بل ترى بعضهم إذا خرج الخبر صار يذكر خلق أفعال العباد للبخاري وكتاب الدارمي والسنة لعبد الله وذم الكلام للهروي وهذا موجود في تخاريج المشتغلين بالحديث منهم

قال الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (1/424) :" وَقَالَ أَحْمَد بْن منيع: " من زعم أَنه مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن وقف فِيهِ فَإِن كَانَ مِمَّن لَا يعقل مثل البقالين وَالنِّسَاء وَالصبيان سكت عَنهُ وَعلم، وَإِن كَانَ مِمَّن يفهم فَأَجره فِي وَادي الْجَهْمِية، وَمن قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي "

أقول : ابن منيع هنا يتكلم عن المعين بدليل ذكره ما يقترن بأوصاف الأعيان من الفهم وعدمه

وتأمل كيف أنه فرق بين اللفظي فحكم بجهميته مطلقاً والواقفي الذي يقف في القرآن فجعله إن كان يفهم ( يعني ليس عامياً ) جهمياً ولم يشترط لهذا شرطاً زائداً على ما ذكر

وهذا نص الإمام أحمد

قال الخلال في السنة 1788- وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : مَنْ كَانَ فِي أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلاَمِ , فَأَمْسَكَ عَنْ أَنْ يَقُولَ : الْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ , فَهُوَ جَهْمِيٌّ.

يعني هو جهمي وإن كانت أصوله سلفية كما يقولون اليوم !

فهذا حكم الواقفي الذي لا يجزم بنفي الصفة فكيف بمن نفاها لا شك أنه جهمي قولاً واحداً من باب أولى والجهمية كفار عند السلف
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (2/685)  :" وقال ابن عدى سمعت عبدان يقول قلت لابن خراش: حديث ما تركنا صدقة ؟ قال: باطل، اتهم مالك بن اوس بالكذب 2، ثم قال عبدان: وقد روى مراسيل وصلها، ومواقيف رفعها.
قلت جهلة الرافضة لم يدروا الحديث ولا السيرة ولا كيف ثم، فاما انت ايها الحافظ البارع الذى شربت بولك ان صدقت في الترحال فما عذرك
عند الله ؟ مع خبرتك بالامور، فانت زنديق معاند للجق فلا رضى الله عنك.
مات ابن خراش إلى غير رحمة الله سنة ثلاث وثمانين ومائتين"

وهذا الذي قاله الذهبي ينطبق من باب أولى على مسألة علو الله عز وجل على خلقه

وكثير ممن يريد ناصر الفهد أن يعذرهم واقعون في عبادة القبور

قال سليمان بن سحمان في كشف الشبهتين :" وإذا كان أعداء الله الجهمية، وعباد القبور قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، منذ أعصار متطاولة، لا ينكر هذا إلا مكابر، فكيف يزعم هؤلاء الجهلة أنه لا يقال لأحدهم: يا كافر، ويا مشرك، ويا فاسق، ويا متعور، ويا جهمي، ويا مبتدع وقد قام به الوصف الذي صار به كافراً، أو مشركاً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً وقد بلغته الحجة، وقامت عليه، مع أن الذي صدر من القبورية الجهمية هؤلاء لم يكن من المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على الإنسان فَيُتَوقَّف في حال أحدهم، لكن قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن من جحد علوا الله على خلقه، وأنكر صفاته ونعوت جلاله أنه كافر معطل لا يشك في ذلك مسلم، فكيف يظن بالإخوان أنهم يقولون للمسلم يا سني: يا جهمي، وليس كذلك، أو يا كافر أو يا مبتدع.
وقد قال الإمام مالك لما سأله رجل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، وأمر به فأخرج عن مجلسه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وهو في السجن لما طلب منه أعداؤه أن يوافقهم على أمر كتبوه في ورقة، وقالوا: المطلوب منه أن يعتقد هذا، فأبى عليهم، فأعادوا عليه الجواب، فأبى وأغلظ لهم في الجواب قال: فرفعت صوتي وقلت: يا زنادقة يا كفار يا مرتدين أو كلاماً نحو هذا ذكره في التسعينية"

سابعها : أن عامة هؤلاء يكفرون أهل السنة أو يضللون وقد صرح ابن القيم أنهم لا يعذرون بهذا الاعتداء

قال ابن القيم في الكافية الشافية

 هبكم عذرتم بالجهالة إنكم ... لن تعذروا بالظلم والطغيان
والطعن في قول الرسول ودينه ... وشهادة بالزور والبهتان
وكذلك استحلال قتل مخالفيـ ... ـكم قتل ذي الإشراك والعدوان
إن الخوارج ما أحلوا قتلهم ... إلا لما ارتكبوا من العصيان
وسمعتم قول الرسول وحكمه ... فيهم وذلك واضح التبيان

فهنا عدة أحوال العذر منفي عنها بكل حال

الأولى : أن يضيف إلى التعطيل عبادة غير الله وهذا يقر به ناصر الفهد

الثانية : أن ينقل مذهب السلف ثم ينحرف عنه وهذا نص على عدم عذره الشيخ محمد بن عبد الوهاب

الثالثة : أن يكفر أهل السنة أو يضللهم أو يفتي بحل دمهم كما أفتوا بحل دم ابن تيمية لإثباته العلو وهذه نص عليها ابن القيم

الرابعة : أن يرد الأخبار وإلى هذا يشير كلام ناصر الفهد

ولن تأتيني بجهمي من المعظمين اليوم إلا وأدخلته لك تحت واحدة من هذه أو أكثر إلا ما ندر وقليل ما هم بل أين هم فإذا أضفنا إلى هذا وضوح المسألة وسعة العلم المزعومة انغلق باب العذر تماماً

وإذا كان الذي نشر الكفر في الأمة واقترن به أحد الأمور السابقة ليس من أئمة الضلال فلا أدري من هو إمام الضلال

وإذا كانوا لا يدخلون في قول السلف ( من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ) فلا أدري من يدخل

وإذا كانوا لا يدخلون في قول ابن أبي زيد القيرواني ( ولا يعذر من أداه اجتهاده إلى بدعة )

فلا أدري من يدخل ؟

وإذا كانوا لا يستحقون البغض في الله فلا أدري من يستحق 

الخطأ العشرون : إنكار وجود أهل الفترة بحجة أن الميثاق كاف ويشملهم

وهذا يوميء إليه كلام عبد الرحمن الحجي وإن كان له تناقض في ذلك

والحق أن الميثاق حجة ولا شك غير أن أمر أهل الفترة تفضل من الله عز وجل وتخصيص لا يعارض العمومات

وقد رأيت لبعض المتعصبين لهذا القول جزء يضعف فيه كل أحاديث أهل الفترة المرفوعة والموقوفة ويقلد ابن عبد البر في ذلك وفي جزئه أعاجيب في علم الحديث وأصول الفقه

ولما ذكرت لبعضهم أثر أبي هريرة فأوله لي على من كان من أهل الفترة وكان موحداً

فقلت له : من كان من أهل الفترة وكان موحداً فإنه ينجو في الآخرة لا يحتاج إلى اختبار

ومن الناس من أطلق أن كل من سمي مشركاً فهو من أهل النار بعينه على أي حال كانت ، وبعضهم يعلل بأن التوحيد معلوم بالفطرة ، وبهذا يلغي تماماً دلالة أخبار أهل الفترة وقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )

والواقع أن المسألة تحتاج إلى مزيد إيضاح وتبيين

فيقال : لا شك أن من المشركين من يجزم له بالنار إذا مات على ذلك لخبر ( إذا مررت بقبر مشرك فبشره بالنار ) _ والراجح فيه الإرسال_ ، ولقول الصديق ( تشهدون بأن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار )

قال ابن القيم في زاد المعاد (3/594) :" وَدَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا فَهُوَ فِي النّارِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبِعْثَةِ لِأَنّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ غَيّرُوا الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا الشّرْكَ وَارْتَكَبُوهُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ حُجّةٌ مِنْ اللّهِ بِهِ وَقُبْحُهُ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِالنّارِ لَمْ يَزَلْ مَعْلُومًا مِنْ دِينِ الرّسُلِ كُلّهِمْ مِنْ أَوّلِهِمْ إلَى آخِرِهِمْ وَأَخْبَارُ عُقُوبَاتِ اللّهِ لِأَهْلِهِ مُتَدَاوَلَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَلِلّهِ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كُلّ وَقْتٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا مَا فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رُبُوبِيّتِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِتَوْحِيدِ إلَهِيّتِهِ وَأَنّهُ يَسْتَحِيلُ فِي كُلّ فِطْرَةٍ وَعَقْلٍ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إلَهٌ آخَرُ وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذّبُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ وَحْدَهَا فَلَمْ تَزَلْ دَعْوَةُ الرّسُلِ إلَى التّوْحِيدِ فِي الْأَرْضِ مَعْلُومَةً لِأَهْلِهَا فَالْمُشْرِكُ يَسْتَحِقّ الْعَذَابَ بِمُخَالَفَتِهِ دَعْوَةَ الرّسُلِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ"

وبعد هذا ينسب من لا يخاف الله له خلاف ذلك

وقد بين ابن القيم أن المشرك يستحق العقوبة في الآخرة بأحد أمرين

قيام الحجة

الإعراض بعد التمكن من العلم

ذكر ذلك في طريق الهجرتين وهذه خلاصة تقريراته شيخه ابن تيمية ، وقد قسم العاجزين عن العلم إلى قسمين قسم متشوف للحق وقسم مخلد للأرض وجعل الثاني ملحقاً بمن قامت عليه الحجة أو أعرض

فإن قيل : أيفهم من هذا الكلام أن هناك من يسمى مشركاً في الدنيا ويكون ناجياً في الآخرة

فيقال : قد قال بهذا طوائف من أهل العلم في فئة معينة من المشركين وهاك أدلتهم

قال عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار قال فيقولون كيف ولم يأتنا رسول قال وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قال ثم قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا

وهذا إسناد صحيح وله حكم الرفع ورواه أئمة وما استنكروا متنه ، وكذلك أطفال المشركين قال النبي ( فأبواه يهودانه ) فهو يهودي كافر ومع ذلك له حكمه الأخروي المختلف ومع هذا أثر وقفات مهمة

الأولى : أن من الناس من غلا وجعل كل المشركين حكمهم حكم هؤلاء أو توقف في حكمهم وتخصيص هذه الأصناف بالذكر يدل على عدم دخول غيرها ، فغيرهم من المشركين هم من تشملهم نصوص التبشير والشهادة بالنار

ومن أدخل غير هؤلاء فيهم فقد خالف دلالة النص والقياس الصحيح

الثانية : أنه فرق بين أهل الفترة والجنون والأصم والأبكم فدل على أنهم أصناف متغايرة فيكون أهل الفترة أقوام عقلاء ليسوا مجانين ولا صم ولا بكم ، ومع ذلك كانوا على الشرك ( ولو كانوا على التوحيد ما اختبروا وما ثم إلا موحد أو مشرك ) غير أنهم ما عرفوا غيره ولا يلحق بهؤلاء البتة من كان بعد النبوة وبلغته الدعوة أو تمكن منها وأعرض

الثالثة : في هذه الآية تفسير أبي هريرة لآية ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وفي هذا الدلالة على أن هذه الآية لا تنفي تسمية عابد غير الله مشركاً فإن هذه الأصناف مشركون باتفاق إذا كانوا على الشرك ، ومن رد هذا الأثر عن أبي هريرة أو عارض بنصوص أخرى فهو على طريقة أهل البدع والأهواء من المعتزلة وأضرابهم ولا شك عندي أنه مبتدع وإن رغمت أنوف

ولا تنفي هذه الآية كون المشركين مذمومين قبل الرسالة غير أن رب العالمين تفضل فلا يعذب إلا بعد إقامة الحجة وقيامهم يكون بالبلوغ ومن أعرض بعد التمكن فهو كمن قامت عليه

فإن قيل : ما الدليل على أن أهل الفترة يسمون كفاراً ؟

قيل للمعترض هذا إجماع والإسلام حقيقة من اتصف بها كان مسلماً ومن لم يكن كذلك فهو كافر معاند أو كافر جاهل كما قال ابن القيم في طريق الهجرتين

والقول بأن الكافر من الأوصاف التي لا تطلق إلا على من علم كفره باطناً أو من هو مشهود عليه بالنار فهذه فلسفة باردة

قال ابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/120) :" والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر"

وابن القيم ذكر أنهم ربما قيل ليسوا كفاراً ولا مسلمين في أحكام أهل الذمة وأراد بذلك الحكم الأخروي بدليل أنه أقر بأنهم في الدنيا حكمهم حكم الكفار ، وقد في الوجه الثاني أنهم كفار

والعجيب أن بعض من يقول أن التوحيد معلوم بالفطرة لذلك لا يقاس على غيره من المكفرات فالواقع فيه مشهود عليه بالنار في كل حال ، يتناقض فيحتج بخبر الصديق ( تشهدون بأن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ) مع أن خبر الصديق في أناس ارتدوا بادعاء نبي مع النبي صلى الله عليه وسلم وارتدوا بجحد الزكاة أو الامتناع عنها

وساب الرسول وساب الله مشهود عليه بالكفر وإن مات على ذلك شهد عليه بالنار

فالخلاصة أن من بلغته الدعوة أو أعرض عنها بعد البلوغ ومات على كفره فإنه لا يمتنع من الشهادة عليه بالنار وما منع من ذلك أحد من السلف

قال ابن القيم في طريق الهجرتين :" الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لنا نصب له أُولئك أنفسهم من السعى فى إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب.
وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث فى الإسلام"

فتأمل قوله (أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة) فأهل البدع فقط من توقفوا في الحكم على المشركين الذين بلغتهم الدعوة أنهم من أهل النار

وتأمل أن كلام ابن القيم على الجهلة والمقلدين فكيف بالسادة والطواغيت ودعاة الكفر ؟

ثم إن أهل البدع هؤلاء لم يمتنعوا من تسميتهم ( كفاراً ) و ( مشركين ) وإنما نازعوا في الحكم الأخروي

وأما اليوم فينازعون حتى في التسمية الدنيوية

وقال ابن القيم في طريق الهجرتين :" فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عنادا أو جهلا وتقليدا لأهل العناد فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار وأن الأتباع مع متبوعهم وأنهم يتحاجون في النار وأن الأتباع يقولون ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقال تعالى وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون نا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا في العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئا
وأصرح من هذا قوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا وصح عن النبي أنه قال من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه لا ينقص من أوزارهم شيئا وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم
 نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه والقسمان واقعان في الوجود فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة الثاني معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه فالأول يقول يا رب لو أعلم لك دينا خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزا وجهلا والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض فتأمل هذا الموضع والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل فهبذا مقطوع به في جملة الخلق وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم "

فتأمل تكفيره لأطفال المشركين ومجانينهم

قال ابن تيمية في درء التعارض (4/295) :" وأبو هريرة نفسه الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قد ثبت عنه ما رواه غير واحد منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره من حديث عبد الرازق : أنبأ معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا : أن ادخلوا النار فيقولون : كيف ولم يأتنا رسل ؟ قال : وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم رسولا فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ثم قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
 وروي هذا الأثر عن أبي هريرة : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر ومن رواية القاسم عن الحسين عن أبي سفيان عن معمر وقال فيه : ( والشيوخ الذين جاء الاسلام وقد خرفوا ) فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا "

أقول : فمن بلغته فلا يمتحن

ثم قال ابن تيمية بعد كلام له وهو يتكلم عن أطفال المشركين :" وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ومن قطع لهم بالجنةكلهم جاءت نصوص تدفع قوله ثم إذ قيل : هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يذنب انفتح باب الخوض في الأمر والنهي والوعد والوعيد والقدر والشرع والمحبة والحكمة والرحمة فلهذا كان أحمد يقول : هو أصل كل خصومه
 فأما جواب النبي صلى الله عليه و سلم الذي أجاب به أحمد آخرا وهو قوله [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فإنه فصل الخطاب في هذا الباب وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة والله تعالى أعلم"

وخلاصة الباب ما قال ابن القيم في طريق الهجرتين

:" بهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول
 أحدها أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال

تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء وقال تعالى فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وقال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة وهو المذنب الذي يعترف بذنبه وقال تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين والظالم من عرف ماجاء به الرسول أو تمكن من معرفته بوجه وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم
 الأصل الثاني أن العذاب يستحق بسببين أحدهما الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها الثاني العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها فالأول كفر إعراض والثاني كفر عناد وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل"

وهنا تنبيه هام بعد هذا كله وهو أن طبقة العاجزين عن العلم لا يكاد يتفق تعامل أهل التوحيد معهم ، وإنما التعامل دائماً مع الطبقة المشركة النارية ، ونحن في الدنيا مأمورون بمعاملتهم جميعاً على أنهم أهل إشراك

وأكتفي بهذا القدر وقد تبين لك في هذه الحلقة جرأة كثير من المعاصرين وخلطهم خلطاً بين إفراط وتفريط فمنهم من أدخل غلاة الجهمية في مسمى أهل السنة بل رفض حتى تبديعهم ومنهم من جعل من يفرق بين الإطلاق والتعيين ممن قضى في حرب الجهمية في حكم الجهمية سواء بسواء ويا ليت شعري إذا كانوا لم يفهموا كلام ابن تيمية في الصفات والقدر والنبوات في مسائل أوضح من هذه بكثير أفتراهم سيفهمون كلامه في مثل هذه الأبواب الدقيقة

والمشكلة في الجرأة العجيبة عند الطرفين وكلهم سمته ضيق الاطلاع والبحث الموجه ذي المقدمة المحسومة قبل البحث نفسه والاجتزاء  وإنا لله وإنا إليه راجعون

وكثير ممن يحكم على مخالفه بالإرجاء أو حتى الكفر في مسائل تحكيم القوانين هو واقع في الإرجاء في الموقف من الجهمية الغلاة

تنبيه : كان وقع في مواطن من كتابي ( الوجوه في إثبات الإجماع على أن بدعة الأشاعرة مكفرة ) مواطن فيها تفريق بين إطلاق وتعيين وقد حذفت بعضها وذهلت عن الآخر مع إثباتي موطناً صريحاً أصرح فيه بأن الأشاعرة خالفوا في مسائل جلية ولا عذر في الجليات

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي