مدونة أبي جعفر عبد الله بن فهد الخليفي: دفع اعتراض البحيري على حديث في صحيح مسلم ...

دفع اعتراض البحيري على حديث في صحيح مسلم ...



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :

قال مسلم في صحيحه 9 - (1403) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً، فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ، وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ»،

أقول : رأيت اعتراضاً بارداً للزنديق إسلام البحيري على هذا الحديث

واعتراضه يكمن في عدة نقاط

الأولى : كيف تشبه هذه المرأة بالشيطان وهي لم تفعل شيئاً خطأ والمفترض أن يكون لباسها شرعياً

ومثل هذا الكلام يقوله مسكين لا يفهم أساليب العربية

فيقال هذا الذي تنكره له نظير في القرآن فتسميتها شيطان كتسميتها فتنة التي في القرآن

قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

والأولاد لا ذنب وسموا هنا فتنة

وقال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

وقال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)

فجعلن من ضمن متاع الدنيا الزائل المفتن المقابل للآخرة وخيرها العظيم

والتشبيه في لغة لا يقتضي المطابقة من كل وجه

فالعرب تقول ( فلان أسد ) وليس معناه أن له ذيلاً

وتقول ( فلانة قمر ) وليس معناه أنها لا يصلها أحد

وإنما يراد التشبيه من وجه دون وجه وهذا هو المراد هنا وهو أن المرأة ولو بدون قصد قد تجلب للرجل الفتنة التي يحبها الشيطان وتفعل فيه فعل الشيطان من الإغواء

وهذه طريقة في كلام العرب كلما رأوا أمراً صاداً عن الآخرة قالوا هذا شيطان ، وقد أطلق عمر هذا على البرذون لما أشغله

ومن ذلك قول النبي في عائشة ومن معها ( إنكن صواحب يوسف ) وعائشة ما طلبت الفاحشة حاشاها كصواحب يوسف ولا آذت نبياً وإنما قالت قولاً وهي تريد خلافه حين اعتذرت لأبيها عن الصلاة في الناس بأنه رجل أسيف وحقيقة الأمر أنها لا تريد أن يرتبط في أذهان الناس فقدان النبي بصلاة الصديق بهم فيمقتوا الصديق فهذا تشبيه من وجه

ثم إن قوله أن المرأة تكون محتجبة فكيف يكون بها فتنة

فيحتمل أن يكون هذا الخبر قبل نزول الحجاب ، ويحتمل أن المرأة يكون عليها ثياب ليست بالصفيقة تكشف أو تصف بعض جسدها عند اشتداد الريح وهذا أمر كان يقع آنذاك خصوصاً عند قلة ذات اليد التي كانت فاشية في الصحابة

الثاني : قوله كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك أصحابه وهو يعطيهم درساً ( كذا يقول ) ويترك هذا لأنه رأى امرأة وذهب لزوجته

وهذا أسخف من اعتراضه الأول

فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم درساً عملياً وهذا تقدير الله عز وجل أن يكون الدرس مرتبط بحادثة مرأية حتى يرسخ في الأذهان ففعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو أملك الناس لأربه تعليم لأصحابه خصوصاً الشباب منهم

وهذا الحديث من أعجب الأحاديث للعلماء وفيه فائدة عظيمة أن الشهوة المحرمة يقضى عليها بنظيرها من الحلال وأن ديننا ليس دين رهبانية بل دين يراعي أحوال الناس وما يحتاجون إليه

قال ابن القيم في الجواب الكافي :" وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً، فَأَتَى زَيْنَبَ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، وَقَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ فَوَائِدَ:
مِنْهَا: الْإِرْشَادُ إِلَى التَّسَلِّي عَنِ الْمَطْلُوبِ بِجِنْسِهِ، كَمَا يَقُومُ الطَّعَامُ مَكَانَ الطَّعَامِ، وَالثَّوْبُ مَقَامَ الثَّوْبِ.
وَمِنْهَا: الْأَمْرُ بِمُدَاوَاةِ الْإِعْجَابِ بِالْمَرْأَةِ الْمُوَرِّثِ لِشَهْوَتِهَا بِأَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ، وَهُوَ قَضَاءُ وَطَرِهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَذَلِكَ يَنْقُضُ شَهْوَتَهُ لَهَا، وَهَذَا كَمَا أَرْشَدَ الْمُتَحَابِّينَ إِلَى النِّكَاحِ، كَمَا فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَرْفُوعًا: «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابِّينَ مِثْلُ النِّكَاحِ» .
فَنِكَاحُ الْمَعْشُوقَةِ هُوَ دَوَاءُ الْعِشْقِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ دَوَاءً شَرْعًا، وَقَدْ تَدَاوَى بِهِ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَرْتَكِبْ نَبِيُّ اللَّهِ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَضَمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ بِحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَلَا يَلِيقُ بِنَا الْمَزِيدُ عَلَى هَذَا"

وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأعجبته فليس هذا مما يغض من مقام النبوة إذ أن ذلك ليس ناشئاً عن إدامة نظر محرم وإنما نظرة عابرة وقع منها في النفس ما وقع وهذا أمر يحصل لآحاد الصالحين ، بل إن العفة مع وجود الشهوة أعظم أجراً من العفة مع ضعفها أو عدمها

ولعل هذه الحكمة من قوله تعالى ( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه )

ففيه الإشارة إلى أن هذه المرأة ما كانت قبيحة بل هي ممن يرغب فيه ، وأن يوسف كان يحمل الشهوة بين جنبيه ، حتى يعظم في نفسك تعففه مع كل دواعي الزنا

وقد اتفق المسلمون واليهود والنصارى إلا من شذ من أهل البدع  على أن نبي الله داود كانت له خطيئة تاب منها ، غير أن اليهود والنصارى نسبوه للزنا فعليهم لعنة الله وأما المسلمون فقال سعيد بن جبير ( كان خطيئته النظر ) يعني فحسب وتاب منها وأناب حتى ذكر في بعض الآثار أنه اعتزل أزواجه كلهن بعد عتاب الله له ، وحال نبينا أكمل فما أدام نظراً وإنما كانت نظرة عارضة ثم قام إلى زوجه مرشداً أصحابه أن يفعلوا مثل ما فعل ومرشداً أمته كلها لذلك ولو طبق الناس هذا الحديث لارتحنا من كثير من الشر  

ولا يختلف الناس في أن داود قد عوتب في القرآن على خطيئة وخر راكعاً وأناب ، غير أن بعض المتأخرين قد أحدث قولاً لا يعلم عند السلف وعامة الخلف في أن داود إنما كانت خطيئته أن سمع لأحد الخصمين دون الآخر 

وهذا القول على غرابته وسخفه وعدم مناسبته للسياق القرآني فيه نسبة أمر لداود هو أعظم مما فروا منه فالجور في الحكم أعظم مما ذكره السلف في الآثار المعتمدة 

وأما اعتراض الزنديق على الحديث من الناحية الإسنادية فليس هو من أهل هذا الشأن

وقد أطال الكلام في أبي الزبير وليس هو ممن يفهم هذا ولا يدركه وأبو الزبير حديثه عن جابر أقل أحواله صحيفة معتمدة ، ولذا احتج به مالك في الموطأ وتابعه مسلم في الصحيح وصحح الترمذي أحاديثه في الجامع 

وروى سفيان الثوري إمام أهل الكوفة وابن عيينة إمام أهل مكة فمسلم في تخريجه لأبي الزبير متابع للجماهير من المحدثين  

وقال ابن هانىء: قلت له (يعني لأبي عبد الله _ يعني أحمد _ ) : فأبو الزبير (هو حجة في الحديث) ؟ قال: نعم هو حجة. «سؤالاته» (2348) .
• وقال المروذي: سألت أبا عبد الله، عن أبي الزبير، فقال: قد روى عنه قوم واحتملوه: روى عنه أيوب وغير واحد، إلا أن شعبة لم يحدث عنه، قلت: هو لين الحديث؟ فكأنه لينه، قلت: أبو الزبير أحب إليك، أو أبو نضرة؟ قال: أبو نضرة أحب إلي. «سؤالاته» (67) .
• وقال المروذي: قلت له (يعني لأبي عبد الله) : يحتج بحديث أبي الزبير؟ فقال: أبو الزبير يروى عنه، ويحتج به. «سؤالاته» (181) .

وحتى لو كانت محل خلاف بين المحدثين فهذا الحديث لا نكارة في متنه كما شرحت لك وإنما هذا تهويل كنسي تلقاه عن المستشرقين والنصارى

وليعلم أن النسائي قد أشار إلى إعلال هذا الحديث

فقد ذكر له رواية مرسلة في الكبرى وحذف الحديث من الصغرى فكأنه يشير لإعلاله

وللحديث شاهد مرسل ولكن فيه مخالفة في تعيين أم المؤمنين التي أتاها النبي ومثل هذا لا يدفع أن للخبر أصلاً

قال ابن أبي شيبة في المصنف 17202 - حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى أُمَّ سَلَمَةَ فَوَاقَعَهَا وَقَالَ: «إِذَا رَأَى امْرَأَةً تُعْجِبُهُ، فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، فَإِنَّ مَعَهُنَّ مِثْلَ الَّذِي مَعَهُنَّ»

وهذا خبر كوفي المخرج وخبر مسلم مكي المخرج والخبر أصلاً في الفضائل فهو محل احتمال ابتداءً 
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

. .

جميع الحقوق محفوظة للكاتب | تركيب وتطوير عبد الله بن سليمان التميمي